الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أكثرهم من الآراميين. ووقفت تدمر صامدة خلال المنافسة الشديدة بين روما والفرس لخطة حياد التزمتها، زادت فى قوتها ومنعتها، وأصبحت من أهم المراكز التجارية. وبلغ من علو شأنها أن استولى ملكها أذينة على سوريا كلها واعترف به الرومان إمبراطورا على المشرق، إلا أنهم عادوا فنكثوا عهودهم فى عهد زنوبيا (الزّباء) إذ حاربوها وقضوا عليها سنة 273 م ودمروا تدمر فلم تقم لها بعد ذلك قائمة. وظلت سيرة هذه الملكة وأبيها أذينة فى ذاكرة العرب إلى ما بعد الإسلام، وإن شابتها الأسطورة وبعدت عن أساسها التاريخى الصحيح.
5 - النقوش ونشأة الكتابة العربية
(1)
لا يكاد يخلو حجر فى جنوبى الجزيرة العربية وقلبها وشماليها من نقش تذكارى نقشه كتاب محترفون أو غير محترفين من الرعاة ورجال القوافل، يذكرون فيه أسماء آلهتهم متضرعين إليها أن تحميهم، وقد يذكرون ما يقدمون إليها من قرابين، وقد يكتبونها على قبورهم مسجلين أسماءهم وأسماء عشائرهم وما قام به الميت من أعمال وقد يودعونها بعض قوانينهم وشائعهم.
ولا تخلو ديار أمة سامية من هذه النقوش التى أتاحت لعلماء الساميات اكتشاف تاريخ هذه الأمم من جهة وقيام دراسة اللعات السامية وخصائصها ومعرفة تطورها ومقارنها بغيرها من أخواتها من جهة ثانية. وبذلك وقفوا وقوفا دقيقا على حقائق هذه اللغات وحضارات أهلها وثقافاتهم ودياناتهم وكل ما اتصل بهم من رقى وتطور على مر العصور والأزمان.
(1) انظر هنا كتاب أصل الخط العربى وتاريخ تطوره إلى ما قبل الإسلام لخليل يحيى نامى (بحث فى مجلة كلية الآداب المجلد الثالث، العدد الأول) وكتاب تاريخ العرب قبل الإسلام لجواد على ج 1 ص 10 وج 3 ص 423 وما بعدها، ج 7 ص 36 وما بعدها وكتاب تاريخ الأدب العربى لبلاشير (ترجمة إبراهيم الكيلانى طبع دمشق) ج 1 ص 70 وما بعدها.
وقد عرف الأكديون فى العراق بخطهم المسمارى أو الإسفينى، بينما عرف عرب الجنوب بخطهم المسند، ومنه نشأ الخط الحبشى وخطوط اللهجات العربية الشمالية القديمة وهى اللحيانية والثمودية والصفوية. واللحيانيون-كما قدمنا-قبيلة عربية شمالية، كانت تسكن فى منطقة العلا، ونراهم يستعملون «ها» أداة للتعريف بدلا من أل، وقد اختلف فى تاريخهم، فمن الباحثين من يرجعهم إلى القرون الأولى ق. م ومنهم من يتأخر بهم إلى ما بعد الميلاد، بل منهم من يتأخر بهم إلى القرن الخامس إذ ضعفوا وتلاشوا فى قبيلة هذيل. وعدّهم الهمدانى من بقايا جرهم، ولعله يشير بذلك إلى صلتهم باليمنيين ويظهر أنهم كانوا يدينون لهم بالولاء. أما الثموديون فيعود تاريخهم إلى ما قبل الميلاد بعدة قرون، وقد عاشوا إلى ما بعد الميلاد وكانت منازلهم كما مرّ بنا فى الحجر (مدائن صالح) وحولها. ويظهر أنهم أصيبوا بكارثة عظيمة، فثارت بهم بعض الزلازل أو بعض البراكين، وفى القرآن الكريم «فأخذتهم الرّجفة فأصبحوا فى دارهم جاثمين» . وقد خلّفوا كثيرا من النقوش كتبوها بالخط المسند المعينى. وهم مثل اللحيانيين والصفويين كانوا يستخدمون «ها» أداة للتعريف بدلا من أل.
وأما الكتابات الصفوية فعثر عليها فى الحرّة الواقعة بين جبل الدروز وتلول أرض الصفا. وكلمة الصفويين لا تعنى شعبا معينا أو قبيلة معينة، إنما هى اصطلاح حديث للدلالة على تلك الكتابات التى عثر عليها فى تلك الجهات. وقد عرف من دراستها أنها كتبت بالخط المعينى وأنها لهجة عربية قديمة كالثمودية واللحيانية، وكثير من نقوشها يرجع إلى القرون الأولى للميلاد، ويظهر أن من كتبوها كانوا بين التبدى والتحضر، فمنهم البدو الرعاة ومنهم الفلاحون، ولهم قرى ومزارع، وربما كان لهم تجارات.
وهذه النقوش الصفوية والثمودية واللحيانية عربية كما قدمنا برغم أنها كتبت بالخط المعينى الجنوبى، فخصائصها اللغوية قريبة من خصائص العربية التى نزل بها القرآن الكريم، وإن اختلفت عنها فى أداة التعريف وفى بعض الصفات اللغوية، إلا أنها على كل حال تصور طورا من أطوار اللغة العربية الشمالية، وقد احتوت على كثير من أسماء الرجال وأسماء الآلهة والأصنام.
وبجانب هذه النقوش نجد نقوشا أخرى بالخط النبطى، وهى تنتشر فى بطرا
حاضرة ملكهم وما حولها وفى الحجر حاضرتهم الجنوبية وبصرى بحوران فى الشام عاصمتهم الشمالية وما يتصل بهذه الجهات فى شرقى الأردن وجبل الدروز، وقد مر بنا أنهم كانوا الصلة بين العرب الجنوبيين وحوض البحر الأبيض، وبلغ من قوتهم أن كان يخشاهم اليهود وبقية أمم الشام حتى أهل روما كانوا يخشونهم، فعملوا على القضاء على دولتهم حتى تم لهم ذلك كما قدمنا سنة 106 للميلاد. ولم ينته بذلك تاريخهم، فنقوشهم تستمر إلى القرن الثالث الميلادى، ويظهر أنهم تلاشوا بعد ذلك فى العرب. وكانوا يتكلمون فى أحاديثهم اليومية العربية، إلا أنهم اختلطوا بالآراميين عن طريق التجارة وأخذوا عنهم أبجديتهم أو خطهم وكتبوا به نقوشهم، ولذلك قد يعدهم بعض الباحثين من الآراميين، ولكن من المحقق أنهم كانوا عربا يتخاطبون بالعربية.
ولما سقطت دولتهم وانتشروا فى الحجاز ونجد أخذ شيوخ العرب وأمراؤهم يتخذون خطهم فى كتابة نقوشهم وهجروا الخط اللحيانى والثمودى والصفوى.
وسرعان ما تطور هذا الخط النبطى الآرامى إلى الخط العربى الذى كتب به القرآن الكريم والمؤلفات الإسلامية. وهناك روايات عند المؤرخين المسلمين تزعم أن الخط العربى منشؤه الحيرة وأنه نقل منها إلى مكة والحجاز. غير أن هذه الروايات لا تتفق ووثائق النقوش التى كشفت فى الحجاز ودرسها علماء اللغات السامية، فقد وجدوا نقوشا حجازية وغير حجازية تصور انتقال الخط الآرامى إلى خط نبطى، ثم انتقال هذا الخط إلى الخط العربى. والمعروف أن الحيرة قبيل الإسلام كانت نصرانية وكانت تزخر بالثقافة السريانية، كما كانت تكتب بالخط السريانى قلم المسيحيين فى هذه الأنحاء. ولا يعقل أن يكونوا هم الذين تطوروا بالخط النبطى واشتقوا منه الخط العربى، لأنه لم يشع فى ديارهم ولأنه كان خط الوثنيين فى شمالى الحجاز.
وقد يكون مرجع هذا الوهم فى روايات المؤرخين الإسلاميين أن الخط الكوفى نما وازدهر فى الكوفة، فظنوا أن هذه البيئة هى التى ابتكرت الخط العربى وأنه نما وتطور فى الحيرة.
والحق أنه إنما حدث له هذا النمو والتطور فى الحجاز نفسها، فقد كانت بها حياة تجارية مزدهرة، جعلتهم يأخذون الخط المعينى أولا، ويتطورون به إلى
خطوطهم اللحيانية والثمودية والصفوية. ثم لما ظهرت مملكة النبط واستخدمت الخط لآرامى وتطورت به، وتفرق أهلها بعد سقوطها فى داخل الجزيرة وعلى طول طريق القوافل التجارية نشروا قلمهم النبطى، فهجر عرب الحجاز القلم المعينى وأخذوا يحاولون النفوذ من الخط النبطى إلى خطهم العربى الجديد متطورين به ضروبا من التطور حتى أخذ شكله النهائى.
وليست المسألة مسألة فرض واحتمال، وإنما هى مسألة نقوش حملت إلى علماء الساميات الدليل القاطع الذى لا مطعن فيه على هذه الحقيقة، فقد عثروا على نقوش فى شمالى الحجاز وعلى طول طريق القوافل إلى دمشق تثبت تطور الخط النبطى تطورا سريعا إلى الخط العربى. وأهم هذه النقوش على الترتيب نقش عثر عليه ليتمان فى قرية أم الجمال غربى حوران، ويرجع تاريخه إلى سنة 270 م وهو لفهر بن سلّى الذى كان مربيا لجذيمة ملك تنوخ، وخطه نبطى إلا أنه يمتاز بظهور روابط بين الحروف. ويليه نقش النمارة الذى اكتشفه دوسو وما كلر سنة 1901 على بعد ميل من النّمارة القائمة على أطلال معبد رومانى شرقى جبل الدروز، بالقرب من الأماكن التى عثر فيها على الكتابات الصفوية، وقد كتب شاهدا لقبر ملك من الملوك اللخميين يسمى امرأ القيس بن عمرو، وأرّخ بشهر كسلول من سنة 223 بتقويم بصرى وهو يوافق شهر كانون الأول (ديسمبر) من سنة 328 م وهذا نصه:
تى نفس مر القيس بر عمرو ملك العرب كله ذو أسر التج
وملك الأسدين ونزرو وملوكهم وهرّب مذحجو عكدى وجا
بزجى فى حبج نجران مدينة شمر وملك معدو ونزل بنيه
الشعوب ووكلهن فرسو لروم فلم يبلغ ملك مبلغه
عكدى. هلك سنة 223 يوم 7 بكسلول بلسعد ذو ولده
ويلاحظ أن الكاتب بدأه فى السطر الأول بكلمة تى الإشارية التى للمؤنث لأنها داخلة على نفس ولعلها هنا بمعنى جسد، وقد استخدم ذو بمعنى الذى، وهى لغة معروفة بين بعض القبائل مثل طيئ، كما استخدم كلمة أسر بمعنى عصب وعقد، وهو من معانيها فى المعاجم العربية. وقد حذف الألف من كلمة «التاج» ،
ولم يكونوا يثبتونها حينئذ. وليس فى هذا السطر كلمة غريبة سوى بر التى استخدمها الكاتب بمعنى ابن وهى آرامية. ونراه فى السطر الثانى يضيف واوا إلى نزرو ومذحجو وفقا لكتابة النبط التى تضيف إلى الأعلام الواو. أما عكدى فلعلها عكديا، حذفت منها الألف، وفى المعاجم العكد: القوة. ويريد بالأسدين قبيلتى أسد.
ونراه فى السطر الثالث يستخدم كلمة بزجى من فعل زجا بمعنى دفع أى باندفاع، ومعنى حبج فى المعاجم أشرف وكأنها استعملت فى النص مصدرا بمعنى مشارف أو حدود، وشمر من الملوك الحميريين. واستخدم كلمة نزل بنيه الشعوب بمعنى جعلهم على الشعوب. وفى السطر الرابع ووكلهن بإضافة نون التوكيد إلى الفعل بعد الضمير.
ومعنى العبارة ووكله الفرس والروم. وفى السطر الخامس بلسعد ذو ولده أى ليسعد الذى ولده.
وواضح أن النص يمثل طورا من أطوار اللغة العربية التى نزل بها القرآن الكريم فكلماته جميعا عربية ما عدا كلمة بر الآرامية، وقد استخدمت فيه أل أداة للتعريف. وإذا أردنا أن نكتبه ونقربه إلى لغتنا اليوم كتبناه على هذا النحو:
هذه نفس (قبر) امرئ القيس بن عمرو ملك العرب كلها الذى عقد التاج وملك قبيلتى أسد ونزارا وملوكهم وشتت مذحجا بالقوة وجاء
باندفاع (بانتصار) فى مشارف نجران مدينة شمر. وملك معدا وولى بنيه الشعوب، ووكّله الفرس والروم، فلم يبلغ ملك مبلغه
فى القوة. هلك سنة 223 يوم 7 من كسلول، ليسعد الذى ولده
ولعل فى هذا النص ما يدل على أن اللغة العربية التى سيشرفها القرآن الكريم بنزوله فيها كانت قد أخذت تبسط سلطانها إلى شمالى بلاد العرب منذ أوائل القرن الرابع الميلادى. وتوجد الروابط بين الحروف فى هذا النص وتتخذ الحروف شكلا أكثر استدارة.
ولهذا النص أهمية تاريخية بعيدة، فهو يحدثنا عن ثانى ملوك الحيرة جدود المناذرة ويذكر أنه ملك قبيلتى أسد وقبيلة نزار وملوكهم، وشتت قبيلة مذحج، وانتصر على جموع نجران. ولعل هذه أول إغارة ثابتة تاريخيّا لعرب الشمال على عرب الجنوب ومدينتهم نجران. ويحدثنا النص أيضا أنه ملك معدّا وولى بنيه على الشعوب
والقبائل الكبيرة، وقد عقد المعاهدات مع الفرس والروم، ولم يبلغ ملك مبلغه فى القوة. وليس هذا كله ما يحدثنا به النص ولا كل دلالته، فوراء ذلك دلالة أعمق، إذ يقول هذا الملك ملك العرب كلهم، وتلك-ولا ريب-أول محاولة فى إيجاد وحدة سياسية للعرب الشماليين، بعد أن دمر الرومان دولتيهم فى بطرا وتدمر. على أن إمارة الحيرة لم تلبث أن خضعت للفرس، وقد خضع الغساسنة فى الشام للبيزنطيين وأخذت البعثات المسيحية تغزو الشمال فى غربيه وشرقيه. ولعل ذلك ما جعل العرب يلتفون حول مكة، وخاصة بعد أن فقدت اليمن استقلالها واحتلها الحبشة ثم الفرس. وقد نقلوا إليها من الجنوب والشمال أصنامهم، فكانت دار كعبتهم وعبادتهم الوثنية، وأخذت تقوم بما كانت تقوم به اليمن من نقل التجارة وعروضها بين المحيط الهندى وحوض البحر المتوسط.
ونمضى بعد نقش النمارة نحو مائة وثمانين عاما، فنلتقى فى زبد الواقعة جنوبى شرق حلب بنقش وجد على باب أحد المعابد هناك أرّخ سنة 512 م وفيه نرى خصائص الكتابة العربية الجاهلية تتكامل. ومن غير شك حدثت تطورات متعددة بينه وبين نقش النمارة، أعدّت لهذه الصيغة العربية الخالصة التى نجدها فيه أو بعبارة أدق فى خطّه. وعلى شاكلته نقش حرّان اللّجا الذى عثر عليه فى الشمال الغربى لجبل الدروز جنوبى دمشق وهو مؤرخ بسنة 568 م.
ومعنى هذا كله أن الخط العربى نشأ وتطور شمالىّ الحجاز، وأنه لا يرجع فى نشأته وتطوره إلى بلاد العراق، فتلك الوثائق السابقة دليل لا يرقى إليه الشك فى أنه نشأ من الخط النبطى وتطور حتى أخذ صيغته النهائية فى أوائل القرن السادس الميلادى فى تلك البيئة الوثنية العربية الخالصة. وهو يختلف اختلافا تامّا عن الخط الكوفى ذى الزوايا الذى يرسم فى أشكال مستديرة. فالحجاز هو موطنه، وهو الذى نشره فى محيط العرب الشماليين على طول الدروب والطرق التى كانت تسلكها قوافل المكيين التجارية.