المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌4 - قضية الانتحال - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ١

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدّمة

- ‌تمهيد

- ‌1 - كلمة أدب

- ‌2 - تاريخ الأدب

- ‌3 - تقسيمات تاريخ الأدب العربى وعصوره

- ‌الفصل الأولالجزيرة العربية وتاريخها القديم

- ‌1 - صفة الجزيرة العربية

- ‌2 - الساميون

- ‌3 - العرب الجنوبيون

- ‌4 - العرب الشماليون

- ‌5 - النقوش ونشأة الكتابة العربية

- ‌الفصل الثانىالعصر الجاهلى

- ‌1 - تحديد العصر

- ‌2 - الإمارات العربية فى الشمال (الغساسنة-المناذرة-كندة)

- ‌3 - مكة وغيرها من مدن الحجاز

- ‌4 - القبائل البدوية

- ‌5 - حروب وأيام مستمرة

- ‌الفصل الثالثالحياة الجاهلية

- ‌1 - الأحوال الاجتماعية

- ‌2 - المعيشة

- ‌3 - المعارف

- ‌4 - الدين

- ‌5 - اليهودية والنصرانية

- ‌الفصل الرابعاللغة العربية

- ‌1 - عناصر سامية مغرقة فى القدم

- ‌2 - لهجات عربية قديمة

- ‌3 - نشوء الفصحى

- ‌4 - لهجات جاهلية

- ‌5 - سيادة اللهجة القرشية

- ‌الفصل الخامسرواية الشعر الجاهلى وتدوينه

- ‌1 - رواية العرب للشعر الجاهلى

- ‌2 - رواة محترفون

- ‌3 - التدوين

- ‌4 - قضية الانتحال

- ‌5 - أهم مصادر الشعر الجاهلى

- ‌الفصل السادسخصائص الشعر الجاهلى

- ‌1 - نشأة الشعر الجاهلى وتفاوته فى القبائل

- ‌2 - الشعر الجاهلى شعر غنائى

- ‌3 - الموضوعات

- ‌4 - الخصائص المعنوية

- ‌5 - الخصائص اللفظية

- ‌الفصل السابعامرؤ القيس

- ‌1 - قبيلته وأسرته

- ‌2 - حياته

- ‌3 - ديوانه

- ‌4 - شعره

- ‌الفصل الثامنالنابغة الذبيانى

- ‌1 - قبيلته

- ‌2 - حياته

- ‌3 - ديوانه

- ‌4 - شعره

- ‌الفصل التاسعزهير بن أبى سلمى

- ‌1 - قبيلته

- ‌2 - حياته

- ‌3 - ديوانه

- ‌4 - شعره

- ‌الفصل العاشرالأعشى

- ‌1 - قبيلته

- ‌2 - حياته

- ‌3 - ديوانه

- ‌4 - شعره

- ‌الفصل الحادى عشرطوائف من الشعراء

- ‌1 - الفرسان

- ‌2 - الصعاليك

- ‌3 - شعراء آخرون

- ‌الفصل الثانى عشرالنثر الجاهلى

- ‌1 - صور النثر الجاهلى

- ‌2 - الأمثال

- ‌3 - الخطابة

- ‌4 - سجع الكهان

- ‌خاتمة

- ‌1 - خلاصة

- ‌2 - تعليق

الفصل: ‌4 - قضية الانتحال

والأخبار تراثا كبيرا، ومعروف أنه يقع فى واحد وعشرين مجلدا ضخما وأن للجاهليين فيه حظّا موفورا. وهو يسوق هذه المادة الجاهلية الشعرية التاريخية مقترنة بأسناد، تصور مصدرها، محتاطا إزاء رواته أشد الحيطة، فمن عرف بكذبه نبّه عليه، وحتى من عرف بصدقه كان يراجع روايته على روايات معاصريه ودواوين الشعراء، مبالغة فى الدقة والتحرى. والكتاب مؤلف حقا فى القرن الرابع الهجرى. ولكنه يستمد من رواة القرنين الثانى والثالث الهجريين كما يتضح من أسانيده، فهم الذين جمعوا هذا التراث الجاهلى الضخم، وأتاحوا لمن جاءوا بعدهم أن يؤلفوا مؤلفاتهم الكبرى، سواء أكانت مجموعات شعرية أو أمالى أو أخبارا وتراجم. بل لقد بدأ منذ القرن الثالث تأليف هذه الكتب الجامعة مثل حماسة أبى تمام والبيان والتبيين للجاحظ والكامل للمبرد وعيون الأخبار لابن قتيبة وكتابه الشعر والشعراء.

وربما كان السكرى أهم راو ظهر فى النصف الثانى من القرن الثالث، فقد رويت عنه دواوين كثيرة، وهو يجمع فى روايته بين الروايتين الكوفية والبصرية إذ أخذ عن ابن حبيب وابن السكيت الكوفيين كما أخذ عن الرياشى وأبى حاتم السجستانى البصريين. ونمضى فى القرن الرابع الهجرى، فيتكاثر التأليف والتدوين على نحو ما هو معروف عن ابن دريد وابن الأنبارى والقالى والمرزبانى، وعملهم كما ذكرنا مشتق من عمل رواة القرن الثالث، ونراهم يهتمون-مثل أبى الفرج الأصبهانى فى أغانيه-بالسند، فهم لا يكتفون غالبا بالراوى القريب الذى سمعوا منه، بل يسلسلون الرواة حتى نصل إلى أبى عمرو بن العلاء أو إلى المفضل الضبى مثلا. وبذلك قدموا لنا-صنيع سابقيهم-مادة الشعر الجاهلى بكل ما تحمل من أسباب ضعف أو ثقة، وكان كثير منهم لا يزال يرحل إلى البادية صنيع الرواة المتقدمين.

‌4 - قضية الانتحال

واضح مما قدمنا أن الشعر الجاهلى دخل فيه انتحال كثير، وقد أشار إلى ذلك القدماء مرارا وتكرارا، وحاولوا جاهدين أن ينفوا عنه الزيف وما وضعه الوضّاع

ص: 163

متخذين إلى ذلك مقاييس كثيرة، وبلغ من حرصهم فى هذا الباب أن أهمل ثقاتهم كل ما روى عن المتهمين أمثال حماد وخلف، وكان الأصمعى خاصة لهم بالمرصاد، كما كان المفضل الضبى من قبله، وتتابع الرواة الأثبات بعدهما يحققون ويمحصون فى التراث. ومن أهمهم فى هذا الجانب ابن سلام، فقد دوّن فى كتابه «طبقات فحول الشعراء» كثيرا من ملاحظات أهل العلم والدراية فى رواية الشعر القديم من أساتذة المدرسة البصرية التى ينتسب إليها، وأضاف إلى ذلك كثيرا من ملاحظاته الشخصية.

وهذا الكتاب فى الحقيقة هو أول كتاب أثار فى إسهاب مشكلة الانتحال فى الشعر الجاهلى، وقد ردها إلى عاملين: عامل القبائل التى كانت تتزيد فى شعرها لتتزيد فى مناقبها، وعامل الرواة الوضاعين، يقول:«لما راجعت العرب رواية الشعر وذكر أيامها ومآثرها استقل بعض العشائر شعر شعرائهم وما ذهب من ذكر وقائعهم، وكان قوم قلت وقائعهم وأشعارهم وأرادوا أن يلحقوا بمن له الوقائع والأشعار، فقالوا على ألسن شعرائهم، ثم كانت الرواة بعد فزادوا فى الأشعار (1)» .

فالقبائل كانت تتزيد فى أشعارها وتروى على ألسنة الشعراء ما لم يقولوه، وقد أشار ابن سلام مرارا إلى مازادته قريش فى أشعار الشعراء، فهى تضيف إلى شعرائها منحولات عليهم، وقد أضافت كثيرا إلى شعر حسان (2)«ويذكر أن من أبناء الشعراء وأحفادهم من كان يقوم بذلك، مثل داود بن متمم بن نويرة، فقد استنشده أبو عبيدة شعر أبيه متمم، ولاحظ أنه لما نفد شعر أبيه جعل يزيد فى الأشعار ويضعها، وإذا كلام دون كلام متمم، وإذا هو يحتذى على كلامه، فيذكر المواضع التى ذكرها متمم والوقائع التى شهدها، فلما توالى ذلك علم أبو عبيدة ومن كانوا معه أنه يفتعله (3)»

ولعل فى هذا ما يدل على أن الرواة من مثل أبى عبيدة كانوا يراجعون ما ترويه القبائل، وكانوا يرفضون منه ما يتبين لهم زيفه، إما بالرجوع إلى أصول صحيحة أو إلى أذواقهم وما يحسنون من نقد الشعر ومعرفتهم بالشاعر ونظمه، ويسوق لنا

(1) ابن سلام ص 39 وما بعدها.

(2)

ابن سلام ص م 179، 204 وما بعدها.

(3)

نفس المصدر ص 40

ص: 164

ابن سلام شكا فى قصيدة أبى طالب التى روتها قريش فى أشعارها والتى يمدح بها الرسول صلى الله عليه وسلم (1)، ومعنى ذلك أنهم نظروا فى شعر قريش فقبلوا منه ورفضوا (2). فهم يفحصون ويحققون فى شعر المدينة كما فحصوا وحققوا فى شعر قريش وغيرها من القبائل.

ويقدم لنا ابن سلام طائفتين من الرواة كانتا ترويان منتحلا كثيرا وتنسبانه إلى الجاهليين، طائفة كانت تحسن نظم الشعر وصوغه وتضيف ما تنظمه وتصوغه إلى الجاهليين، ومثّل لها بحماد، ورأينا، فيما مر بنا، أشباها له فى جنّاد وخلف الأحمر، وطائفة لم تكن تحسن النظم ولا الاحتذاء على أمثلة الشعر الجاهلى، ولكنها كانت تحمل كل غثاء منه وكل زيف، وهم رواة الأخبار والسير والقصص، من مثل ابن إسحق راوى السيرة النبوية إذ كانت تصنع له الأشعار ويدخلها فى سيرته دون تحرز أو تحفظ، منطقا بالشعر العربى من لم ينطقوه من قوم عاد وثمود والعماليق وطسم وجديس.

ورفض ابن سلام والأصمعى وأضرابهما رواية الطائفتين جميعا، فلم يقبلوا شيئا مما يرويه أشباه حماد إلا أن يأتيهم من مصادر وثيقة، وكذلك لم يقبلوا شيئا مما يرويه ابن إسحق لا عن الأمم البائدة فحسب، بل عن عرب الجاهلية أنفسهم، إلا أن يجدوه عند رواة أثبات. يقول ابن سلام وقد ذكر أبا سفيان بن الحارث أحد شعراء قريش الذين كانوا يناقضون حسان بن ثابت وشعراء المدينة: إن شعره فى الجاهلية «سقط ولم يصل إلينا منه إلا القليل» ثم علق على ذلك بقوله: «ولسنا نعد ما يروى ابن إسحق له ولا لغيره شعرا، ولأن لا يكون لهم شعر أحسن من أن يكون ذاك لهم (3)» . فهم كانوا يرفضون جملة ما يرويه ابن إسحق وأشباهه من مثل عبيد بن شريّة وينحونه عن طريقهم، يقول ابن سلام:«وليس يشكل على أهل العلم زيادة الرواة ولا ما وضعوا ولا ما وضع المولدون (4)» مما حمله رواة القصص والأخبار من شعر غث «لا خير فيه ولا حجة فى عربيته ولا أدب يستفاد ولا معنى

(1) ابن سلام ص 204.

(2)

ابن سلام ص 205.

(3)

ابن سلام ص 206.

(4)

ابن سلام ص 40.

ص: 165

يستخرج ولا مثل يضرب ولا مديح رائع ولا هجاء مقذع ولا فخر معجب ولا نسيب مستطرف (1)».

ففى الشعر الجاهلى منتحل لا سبيل إلى قبوله، وفيه موثوق به، وهو على درجات منه ما أجمع عليه الرواة (2) ومنه ما رواه ثقات لا شك فى ثقتهم وأمانتهم، من مثل المفضل والأصمعى وأبى عمرو بن العلاء. وقد يغلب المنتحل الموثوق به، ولكن ذلك لا يخرج بنا إلى إبطال الشعر الجاهلى عامة، وإنما يدفعنا إلى بحثه وتمحيصه مهتدين بما يقدم لنا الرواة الأثبات من أضواء تكشف الطريق.

وقد لفتت هذه القضية، قضية انتحال الشعر الجاهلى، أنظار الباحثين المحدثين من المستشرقين والعرب، وبدأ النظر فيها نولدكه (3) سنة 1864 وتلاه آلورد حين نشر دواوين الشعراء الستة الجاهليين: امرئ القيس والنابغة وزهير وطرفة وعلقمة وعنترة فتشكك فى صحة الشعر الجاهلى عامة، منتهيا إلى أن عددا قليلا من قصائد هؤلاء الشعراء يمكن التسليم بصحته، مع ملاحظة أن شكا لا يزال يلازم هذه القصائد الصحيحة فى ترتيب أبياتها وألفاظ كل منها. وتابع كثير من المستشرقين آلوارد فى موقفه الحذر من قبول كل ما يروى للجاهليين، أمثال موير وباسيه وبروكلمان، وكان مرجليوث أكبر من أثاروا هذه القضية فى كتاباته إذ كتب فيها مقالا مفصلا نشره فى مجلة الجمعية الملكية الآسيوية بعدد يولية سنة 1925 جعل عنوانه كما مرّ بنا (أصول الشعر العربى. (The Origins of Arabic Poetry: ونراه (4) يستهله بموقف القرآن الكريم من الشعر متحدثا عن بدء ظهوره ونشأته وآراء القدماء فى ذلك، ثم ينتقل إلى الحديث عن حفظه، وينفى أن تكون الرواية الشفوية هى التى حفظته، وقد بينا آنفا بأدلة لا تدفع كيف أن سلسلة روايته لم تنقطع حتى عصر التدوين ولكن مرجليوث يذهب هذا المذهب، ليقول إنه لم تكن هناك وسيلة لحفظه سوى الكتابة، ثم يعود فينفى كتابته فى الجاهلية ليؤكد أنه نظم فى مرحلة زمنية تالية للقرآن الكريم! . ويقف بإزاء الرواة المتهمين أمثال حماد وجنّاد وخلف الأحمر وما كان يطعن به بعض الرواة فى بعض، ليزعم أن الوضع فى هذا الشعر كان

(1) ابن سلام ص 5.

(2)

ابن سلام ص 6.

(3)

انظر فى مناقشة المستشرقين لقضية الانتحال، تاريخ الأدب العربى لبلاشير 1/ 176 وما بعدها.

(4)

لخص ناصر الدين الأسد هذه المقالة فى كتابه مصادر الشعر الجاهلى تلخيصا دقيقا ص 353 وما بعدها.

ص: 166

مستمرا. ويقول إنه لا يمثل الجاهليين الوثنيين ولا من تنصروا منهم، فأصحابه مسلمون لا يعرفون التثليث المسيحى ولا الآلهة المتعددة، إنما يعرفون التوحيد والقصص القرآنى وما فى الإسلام من مثل الحساب ويوم القيامة وبعض صفات الله. وفى كتاب الأصنام لابن الكلبى من الشعر الجاهلى ما ينقض زعمه نقضا، أما الشعر المصبوغ بصبغة إسلامية بحتة فنسلم بأنه موضوع، ووضعه ينحصر فيه، ولا يبطل ما وراءه من أشعار جاهلية. وينتقل مرجليوث من ذلك إلى اللغة فيلاحظ أنها لغة ذات وحدة ظاهرة، وهى نفس لغة القرآن الكريم التى أشاعها فى العرب، ويقول ولو أن هذا الشعر صحيح لمثّل لنا لهجات القبائل المتعددة فى الجاهلية كما مثل لنا الاختلافات بين لغة القبائل الشمالية العدنانية واللغة الحميرية فى الجنوب. وأسلفنا فى غير هذا الموضع أن لغة القرآن الفصحى كانت سائدة فى الجاهلية وأن الشعراء منذ فاتحة هذا العصر كانوا ينظمون بها وأنها كانت لهجة قريش، وسادت بأسباب دينية واقتصادية وسياسية. فكان الشعراء ينظمون فيها متخلين عن لهجاتهم المحلية على نحو ما يصنع شعراء العرب فى عصرنا على اختلاف لهجات بلدانهم وأقاليمهم.

أما أن الشعر الجاهلى لا يمثل اللغة الحميرية فهذا طبيعى لأنها ليست لغته، وقديما قال أبو عمرو بن العلاء: ما لسان حمير وأقاصى اليمن بلساننا ولا عربيتهم بعربيتنا (1) وقد أخذت الفصحى كما قدمنا تقتحم الأبواب على هذه اللغة فى الجاهلية نفسها، بحيث نستطيع أن نقول إن تعريب الجنوبيين بدأ منذ عهود مبكرة. وآخر أدلة مرجليوث على مزاعمه أن النقوش المكتشفة للممالك الجاهلية المتحضرة وخاصة اليمنية لا تدل على وجود أى نشاط شعرى فيها، فكيف أتيح لبدو غير متحضرين أن ينظموا هذا الشعر بينما لم ينظمه من تحضروا من أهل هذه الممالك. ودحض بروينلش هذا الدليل لأن نظم الشعر لا يرتبط بالحضارة ولا بالثقافة والظروف الاجتماعية، وهناك فطريون أو بدائيون لهم شعر كثير مثل الإسكيمو (2).

والحق أن مرجليوث جانبه الصواب فى دعواه، ولذلك هبّ كثير من المستشرقين يردون عليه، مثل بروينلش ولايل، واحتج عليه الأخير فى مقدمته للمفضليات بأن من وضعوا هذا الشعر-على فرض التسليم بذلك-كانوا يحاكون نماذج سابقة

(1) ابن سلام ص 11.

(2)

بلاشير ص 180.

ص: 167

وتقاليد أدبية موروثة قلدوها وحاكوها. ونفس هذه المحاكاة تدل على وجود أصل كانوا يحاكونه، إذ لا يمكن أن يحاكوا شيئا لم يبق منه ما يتيح لهم هذه المحاكاة، وإذن فلابد أن يكون هناك شعر جاهلى عرفه الإسلاميون وحاكوه، وحقا دخله انتحال أمثال حماد وخلف، ولكن وراء انتحالهم شعر صحيح، ينبغى أن نهتدى فى معرفته بالرواية الوثيقة وصفاته الشخصية والأسلوبية المميزة. ونراه يعود إلى هذا الموضوع فى مقدمته لديوان عبيد بن الأبرص، فيؤكد أن رواية هذا الشعر استمرت حية نشطة من الجاهلية إلى أن دوّن نهائيا فى العصر العباسى، وقد يكون أصاب قصائده بعض التغيير ولكن من يرجع إلى المعلقات مثلا يجد لكل منها شخصيتها الواضحة التى تنفرد بها والتى تثبت أنها لصاحبها، وأعاد ما قاله فى المقدمة الأولى من أن تقاليد شعر القرن الأول الهجرى تلزم بوجود الشعر الجاهلى الذى يشترك معها فى نفس التقاليد، وأيضا فإن فيه من الألفاظ الغريبة ما لم يكن يستخدم فى عصر هؤلاء الرواة ممن دونوه مما يدل دلالة قاطعة على أنه صحيح فى جوهره.

ولا يزال المستشرقون إلى اليوم يختلفون فى قبول هذا الشعر بحذر والشك فيه شكا معتدلا أو معطرفا، وممن أدلى بدلوه منهم فى هذا الموضوع بلاشير فى الجزء الأول من كتابه:

تاريخ الأدب العربى، إذ تحدث طويلا مبينا بل مجسما الشبهات، وبينما يحاول الاعتدال أحيانا إذا به يهجم هجوما عنيفا (1) ومن ألوان هجومه قوله:«نحن نجد فى النصوص المذكورة أن الشعراء أيا كان عصرهم أو قبائلهم يستعملون لغة موحدة منزهة بصورة عامة عن كل أثر لهجى، خاضعة لقواعد تركيبية، هى بصورة مجملة قواعد نحاة البصرة، ولا شك فى أن القصائد الجاهلية جرّدت بتأثير الرواة الكبار عن كثير من الظواهر اللهجية، كما أن التثبيت الكتابى بدوره أتم توحيد اللغة وحتى الأسلوب (2)» ويقول: «كل شئ يدعونا إلى الاعتقاد بأن كبار الرواة ومعهم علماء العراق قد أجروا فى الشعر القديم إصلاحات ذات صبغة جمالية (3)» ثم يقول: «والمدهش هو تعدد الروايات واتساعها داخل كل بيت، ولا ريب فى أنها ناشئة عن ضعف الذاكرة فى أثناء الرواية الشفوية وأن عددا قليلا منها ناشئ عن عدم اكتمال طريقة الكتابة أو عن استبدالات فى المترادفات.

(1) بلاشير ص 183 وما بعدها.

(2)

بلاشير ص 188.

(3)

بلاشير ص 189.

ص: 168

وما من شئ يجيز لنا التأكيد بأن هذه الفروق الجزئية ليست قديمة ولا تصعد إلى ظهور الأثر نفسه (1)» وينتهى من ذلك إلى أن «دراسة النصوص الشعرية (يقصد الصحيحة) تقودنا إلى وضع مبدأ يقضى بعدم امتلاكنا أى أثر شفوى فى شكله الأصيل. . ونحن نعلم لكى تتم المأساة أن المقلدات قد امتزجت بالأصول القديمة التى يختلف تحريفها قلة أو كثرة دون أن نتمكن فى كثير من الأحيان من كشف هذه الانتحالات (2)» .

وواضح أن بلاشير يزعم أن الأصول الصحيحة للشعر الجاهلى اختلطت بالنماذج والقصائد الموضوعة اختلاطا يتعذر معه أن تميّز، وهو زعم مبالغ فيه، لأن هذه الأصول كما قدمنا وصلتنا عن رواة ثقات، وأجمع أهل العلم والرواية الصحيحة على توثيقها، بحيث لا يرقى إليها الشك. وهو يزعم أيضا أن الرواة ونحاة البصرة عدّلوا فى هذه الأصول بما يتمشى مع القواعد النحوية البصرية من جهة والقواعد الجمالية الأسلوبية من جهة ثانية، ويتخذ دليله على ذلك خلو القصائد الجاهلية من ظواهر اللهجات القبلية، وقدمنا أن هذه الظواهر كانت فعلا تكاد تكون منعدمة فى الجاهلية نفسها لأن الشعراء فى القبائل المختلفة اصطلحوا على أن ينظموا شعرهم بلهجة قريش، واتخذوها لغة لشعرهم، ومن أجل ذلك لم يسقط من لهجاتهم فى أشعارهم إلا أشياء قليلة جدا، سجلها هؤلاء النحاة البصريون، وإلا ففيم هذه الشواذ النحوية التى تمتلئ بها كتبهم. ولم يكن رواة البصرة ونحاتها وحدهم الذين يروون هذا الشعر، بل كان يرويه معهم رواة الكوفة ونحاتها، وكانوا مولعين بإثبات الشواذ واعتبارها أصولا يقاس عليها. أما أن هؤلاء الرواة جميعا أدخلوا فى الشعر الجاهلى إصلاحات ذات صبغة جمالية، تقوم على متانة اللفظ وجزالته، فهى دعوى تستلزم ضربا من الدور، إذ كانوا يرجعون فى هذه الإصلاحات إلى المقاييس الجمالية المبثوثة فى هذا الشعر الجاهلى والتى تقوم على الرصانة والجزالة، ثم يصلحونه على أساسها، وبذلك يجعلهم بلاشير يدورون، وهو دور باطل، تنقضه طبيعة الأشياء. والحق أن ثقاتهم نقلوا إلينا هذا الشعر بكل صفاته الجمالية وما داخله من عيوب تركيبية أو شواذ نحوية أو لغوية. على أننا نسلم بما يقوله بلاشير

(1) بلاشير ص 189.

(2)

بلاشير ص 192.

ص: 169

من أن القصائد أصابها بعض التغيير أثناء سفرها الطويل من الجاهلية إلى عصر التدوين، فقد يستبدل الراوى كلمة بأخرى ترادفها، وقد يغيب عن ذاكرته بعض الأبيات، وقد يخالف فى ترتيب أبيات القصيدة فيقدم فيها أو يؤخر. غير أن ذلك لا يخل بصحة ما حمله ورواه العلماء الثقات الذين نصّوا على المنتحل المصنوع على نحو ما يصور لنا ذلك كتاب طبقات فحول الشعراء لابن سلام.

وإذا تركنا المستشرقين إلى العرب المحدثين والمعاصرين وجدنا مصطفى صادق الرافعى يعرض هذه القضية قضية الانتحال فى الشعر الجاهلى عرضا مفصلا فى كتابه «تاريخ آداب العرب» الذى نشره فى سنة 1911 ولكنه لا يتجاوز فى عرضه-غالبا-سرد ما لاحظه القدماء (1)، ونحن نحمد له استقصاءه لملاحظاتهم كما نحمد له ما وقف عنده من شعر الشواهد للمذاهب النحوية والكلامية، فقد لاحظ ما دخل هذا الشعر من بعض الوضع، وهو وضع سجله القدماء أنفسهم ولم يفتهم التنبيه عليه.

وخلف مصطفى الرافعى طه حسين فدرس القضية دراسة مستفيضة فى كتابه «الشعر الجاهلى» الذى أحدث به رجة عنيفة أثارت كثيرين من المحافظين والباحثين فتصدوا للرد عليه. ولم يلبث أن ألف مصنفه «فى الأدب الجاهلى» الذى نشره فى سنة 1927 وفيه بسط القول فى القضية بسطا أكثر سعة وتفصيلا، إذ زودها ببراهين جديدة، وقد خصص لها فى مصنفه أربعة كتب، هى الكتاب الثانى والثالث والرابع والخامس، ونراه يعنى فى الكتاب الثانى ببيان الأسباب التى تحمل على الشك فى الشعر الجاهلى، ويقدم بين يديها نتيجة بحثه فيقول:«إن الكثرة المطلقة مما نسميه أدبا جاهليا ليست من الجاهلية فى شئ، وإنما هى منتحلة بعد ظهور الإسلام، فهى إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم أكثر مما تمثل حياة الجاهليين، وأكاد لا أشك فى أن ما بقى من الأدب الجاهلى الصحيح قليل جدا، لا يمثل شيئا ولا يدل على شئ، ولا ينبغى الاعتماد عليه فى استخراج الصورة الأدبية الصحيحة لهذا العصر الجاهلى (2)» .

(1) انظر الطبعة الثانية من هذا الكتاب ص 277 وما بعدها.

(2)

فى الأدب الجاهلى (الطبعة الأولى) ص 64.

ص: 170

وواضح أنه يبقى فى الشعر الجاهلى على بقية صحيحة، وإن كانت فى رأيه قليلة، ولا تعطينا الصورة الأدبية الوثيقة لهذا الشعر. وقد مضى يبسط الأسباب التى تدفع الباحث إلى الشك فيه واتهامه، وردها إلى أنه لا يصور حياة الجاهليين الدينية والعقلية والسياسية والاقتصادية، كما أنه لا يصور لغتهم وما كان فيها من اختلاف اللهجات، وتباينها بلهجاتها من اللغة الحميرية. أما من حيث حياتهم فيقول إنه عرضها على القرآن الكريم، فوجده يمثلها من جميع جوانبها المذكورة تمثيلا قويا، فهو يجادل اليهود والنصارى والصابئة والمجوس ويهاجمهم كما يهاجم الوثنيين والوثنية، ويطلعنا فى تضاعيف ذلك على جملة معتقداتهم، بينما نجد الشعر-كما يقول-بريئا أو كالبرئ من الشعور الدينى القوى والعاطفة المتسلطة على النفس. وقياس الشعر الجاهلى فى هذا الجانب على القرآن الكريم مردود أو منقوض، لأن القرآن كتاب دينى يريد أن يجمع العرب على الإسلام، فطبيعى أن يعرض لدياناتهم ويناقشها، ويبين ما فيها من ضلال، بخلاف الشعر، فإن شاعرا لم يدع لدين جديد، ومع ذلك فإن فى كتاب الأصنام لابن الكلبى ذخيرة كبيرة من الشعر تصور حياتهم الوثنية تصويرا دقيقا.

وينتقل إلى حياتهم العقلية فيلاحظ أنها غير واضحة فى الشعر المنسوب إليهم، وكأنه يطلب إليهم حياة عقلية راقية أو معقدة، وكانوا فى جمهورهم بدوا لم يتحولوا إلى طور فكرى منظم، وقد عرضنا فى غير هذا الموضع لذلك الطور وما يمثله من أشعارهم. ومعنى ذلك أن حياتهم العقلية الفطرية ماثلة فى شعرهم. ويخرج من ذلك إلى أن حياتهم السياسية لا تتضح فى أشعارهم، مع أنهم كانوا على اتصال بمن حولهم من الأمم، مما يوضحه القرآن الكريم فى سورة الروم، إذ يعرض علينا العرب شيعتين: شيعة تنتصر للروم وشيعة تنتصر للفرس. وهذا فى الواقع لا يصدق على العرب جميعا، إنما يصدق على قريش وقوافلها التجارية التى كانت تنزل فى بلاد الدولتين. ومع ذلك فقد كان شعراء نجد والحجاز يتصلون بالغساسنة من أتباع الروم والمناذرة من أتباع الفرس ويمدحونهم ويهجونهم. ولما نشبت الحروب بين قبيلة بكر والفرس قبيل الإسلام هدّدهم شعراء هذه القبيلة وتوعدوهم طويلا على نحو ما هو معروف عن الأعشى مثلا.

ويتحدث عن حياتهم الاقتصادية وأننا لا نظفر بشئ ذى غناء فى شعرهم

ص: 171

يمثل لنا هذه الحياة، بينما يمثل لنا الذكر الحكيم العرب طائفتين: طائفة الأغنياء المستأثرين بالثروة وطائفة الفقراء المعدمين، وليس فى الشعر ما يصور ذلك كما يقول، إنما فيه أن العرب جميعا أجواد كرام، على حين يلح القرآن الكريم فى ذم البخل والبخلاء. وهذا القياس أيضا لا يستقيم، لسبب بسيط، وهو أن شعر الصعاليك طافح بما يصور النضال بين الأغنياء والفقراء (1)، وأيضا فإن شعراءهم إذا كانوا قد أكثروا فى مدحهم وفخرهم من ذكر الكرم فإنهم أكثروا فى هجائهم من ذكر البخل وشح النفس. ولا بد أن نلاحظ أن كثيرا من القرآن نزل فى قريش التاجرة التى بلغ كثير منها مبلغا عظيما فى الثراء والتى كان يشيع فيها الرّبا أضعافا مضاعفة.

ووقف طه حسين طويلا إزاء لغة الشعر الجاهلى ولاحظ أنه لا يصور اللغتين الشائعتين فى الجزيرة: لغة الحميريين الجنوبية ولغة العدنانيين الشمالية، بل هو يضيف إلى الجنوبيين أشعارا بلغة الشماليين. وحقا إن ما يضاف إلى من كانوا فى أقصى الجنوب وداخل اليمن منتحل، أما من كانوا منهم يجاورون الشماليين فقد تعربوا فى الجاهلية مثل مذجح وبلحارث بن كعب. على أنه يطرد القياس فينشكك فى شعراء القبائل اليمنية التى هاجرت من مواطنها الأصلية فى الجنوب إلى الشمال مثل كندة وشاعرها امرئ القيس. ومما لا شك فيه أن هذه القبائل هاجرت إلى الشمال قبل العصر الجاهلى وتعرّبت، فهى ليست يمنية ولا جنوبية من الوجهة اللغوية، وإنما هى شمالية. وقد وقف عند لهجات الشماليين فى الجاهلية، تلك التى تمثلها قراءات القرآن الكريم، ولاحظ أن الشعر الجاهلى لا يمثلها، واتخذ من ذلك مطعنا فى صحته، ومر بنا فى غير هذا الموضع أن لهجة قريش عمت فى الجزيرة منذ أوائل القرن السادس الميلادى واتخذها الشعراء لغة أدبية لهم، ينظمون فيها أشعارهم مرتفعين غالبا عن لهجات قبائلهم المحلية، فلا محل للتساؤل عن هذه اللهجات فى شعر الجاهليين، ولا موضع لاتخاذ ذلك دليلا على أنه منتحل موضوع. ونراه يتشكك فى شعر الشواهد التعليمية على ألفاظ القرآن والحديث والمذاهب الكلامية، غير أن هذه الشواهد أبيات فردية، واتهامها ينبغى أن ينحصر

(1) الشعراء الصعاليك فى العصر الجاهلى ليوسف خليف (طبع دار المعارف) ص 132 وما بعدها وص 227 وما بعدها.

ص: 172

فيها وأن لا يتعداها إلى الشعر الجاهلى عامة.

ويخرج طه حسين فى مصنفه من هذا الكتاب الثانى إلى الكتاب الثالث، فيتحدث عن أسباب نحل الشعر ويبسطها بسطا معتمدا على ملاحظات القدماء، ونراه يردها إلى السياسة والدين والقصص والشعوبية والرواة، أما السياسة وأراد بها العصبية القبلية فرآها تلعب دورا واضحا فى شعر قريش والأنصار، إذ أضافت قريش إلى نفسها أشعارا كثيرة، وقد استكثرت بنوع خاص من الشعر الذى يهجى به الأنصار. وواضح أن هذا لم يكن غائبا عن ابن سلام، فقد نص عليه وحذّر منه كما أسلفنا، كما حذر من أشعار وضعتها قريش على لسان حسان. على أن الأشعار جميعها التى وقف طه حسين عندها ليست جاهلية، وإنما هى إسلامية.

وينتقل إلى الدين فيبين دوره فى هذا النحل متشككا فى الأشعار التى يقال إنها نظمت فى الجاهلية إرهاصا ببعثة الرسول، مما رواه ابن إسحق واحتفظ به ابن هشام فى سيرته، ومثله ما يضاف إلى الجن والأمم القديمة البائدة. ومرّ بنا رفض ابن سلام لهذه الأشعار وما يماثلها. وتشكك فيما أضيف إلى شعراء اليهود والنصارى من أشعار، وكذلك ما أضيف إلى عدى بن زيد العبادى، ولم يكن القدماء فى غفلة عن ذلك (1). ونراه يتحدث عن القصص والقصاص وأثرهم فى وضع الشعر، ومرّ بنا تنبيه ابن سلام على ذلك عند ابن إسحق وأضرابه. ويعرض للشعوبية وما يمكن أن تكون قد نحلت الجاهليين من أشعار لتثبت على لسانهم مثالبهم التى تدعيها، كما تثبت ثناءهم على الأعاجم. وقد تشكك فى هذا الشعر الكثير الذى يضيفه الجاحظ إلى الجاهليين فى مصفه الحيوان، ليدل على اتساع معرفتهم فى هذا العلم: علم الحيوان، عصبية لهم، والحق أن هذا لم يكن من أهداف الجاحظ، فهو نفسه ينفى عنهم العلم الدقيق بالحيوان، إذ يقول إن معارفهم فيه معارف أولية، وإنه إنما دار فى أشعارهم لأنه كان مبثوثا تحت أعينهم وأبصارهم فى ديارهم (2). ويختم هذا الكتاب بالوقوف عند الوضاعين من الرواة أمثال حماد وخلف، ومرّ بنا كيف أن القدماء كانوا لهم بالمرصاد. ومعنى ذلك كله أنه فى هذا الكتاب إنما يردّد ما نص عليه العلماء السابقون من قضايا، يريد أن يتسع بها

(1) انظر ابن سلام ص 117.

(2)

الحيوان 6/ 29 وما بعدها.

ص: 173

لنقض الشعر الجاهلى جميعه، وهى إنما تنقض جوانب منه، وينبغى أن نقف عندها، وأن لا نذهب مذهب التعميم، فإن القدماء إنما ذكروا هذا كله ليدلوا على ما أحاطوا به رواية الشعر الجاهلى من سياج قوى، حتى نميز الصحيح من الزائف والوثيق من المنحول.

ويمضى طه حسين فى مصنفه إلى الكتاب الرابع، وهو دراسة تطبيقية لبيان الانتحال فى شعر طائفة من شعراء اليمن وربيعة ويبدأ فى دراسته بامرئ القيس ويتشكك فى شعره، لأنه يمنى وشعره قرشى اللغة، ثم هو شعر مضطرب ركيك.

ومر بنا أنه كان يمنى الجنس، ولكنه كان قرشى اللغة، أما أن شعره ركيك والوضع فيه كثير، فقد كان يغنيه عن هذا الظن ما يروى عن الأصمعى من أنه قال:

«كل شئ فى أيدينا من شعر امرئ القيس فهو عن حماد الراوية إلا نتفا سمعتها من الأعراب وأبى عمرو بن العلاء (1)» . ونراه ينتقل إلى علقمة الفحل فيشك فى شعره، وقد كان ابن سلام لا يثبت له سوى ثلاث قصائد (2). وشك فى شعر عبيد بن الأبرص، وأسلفنا أن ابن سلام لم يكن يعرف له سوى معلقته (أقفر من أهله ملحوب) وكان يقول إن شعره مضطرب ذاهب. ومضى على هذا النحو يشك فى شعر عمرو ابن قميئة ومهلهل وعمرو بن كلثوم والحارث بن حلزة وطرفة والمتلمس والأعشى معتمدا على الأحكام الذاتية، ولو أنه استقصى آراء الرواة الثقات لأعانه ذلك كثيرا فى تحقيق أشعارهم جميعا.

وننتقل مع طه حسين فى مصنفه إلى الكتاب الخامس، وهو خاص بشعراء مضر، فنراه لا يستبعد أن يكون هناك شعراء مضريون وشعر مضرى، غير أنه لا يلبث أن يستدرك قائلا:«لكننا لا نشك أيضا فى أن هذا الشعر قد ذهب وضاعت كثرته، ولم يبق لنا منه إلا شئ قليل جدا لا يكاد يمثل شيئا، وهذا المقدار القليل الذى بقى لنا من شعر مضر قد اضطرب وكثر فيه الخلط والتكلف والنحل، حتى أصبح من العسير جدا إن لم يكن من المستحيل تخليصه وتصفيته (3)» .

ويضيف إلى ذلك أن من الخطأ أن نكتفى فى الحكم على الشعر المضرى بالسند ومن يحمله من الرواة، أو بالغرابة والسهولة، ذاهبا إلى أن الباحث فى هذا الشعر

(1) مراتب النحويين ص 72.

(2)

ابن سلام ص 116

(3)

فى الأدب الجاهلى ص 270.

ص: 174

ينبغى أن يحكّم فيه مقياسا مركبا من خصائص فنية يشترك فيها طائفة من الشعراء بحيث يكوّنون مدرسة كمدرسة أوس بن حجر التى تتألف منه ومن زهير وابنه كعب والحطيئة، فإن لهذه المدرسة من الخصائص الفنية المشتركة ما يؤكد صحة شعرها وسلامته من الوضع والانتحال. وكأنه بذلك يهدم شكوكه الواسعة فى الشعر الجاهلى، فقد رجع أخيرا يسلم بصحة بعض جوانبه ودواوينه. على أننا لا نسلم له بطرد هذا المقياس فى تلك المدرسة نفسها، فقد لاحظ القدماء أن شعر أوس بن حجر اختلط بشعر ابنه شريح (1)، واختلف الرواة فى بعض ما نسب إليه من شعر هل هو له أو لعبيد ابن الأبرص الأسدى (2)، وسنرى فى درسنا لزهير أن من الخطأ أن نقبل رواية الكوفيين لديوانه، فقد حملت زيادات كثيرة، شك القدماء فى أطراف منها، ونفس الرواية البصرية سنرفض قطعا وأشعارا منها، رغم أنها جاءتنا عن الأصمعى بل سنرى الأصمعى نفسه يشك فى ثلاث قصائد مثبتة فى روايته.

والحق أن الشعر الجاهلى فيه موضوع كثير، غير أن ذلك لم يكن غائبا عن القدماء، فقد عرضوه على نقد شديد، تناولوا به رواته من جهة وصيغه وألفاظه من جهة ثانية، أو بعبارة أخرى عرضوه على نقد داخلى وخارجى دقيق. ومعنى ذلك أنهم أحاطوه بسياج محكم من التحرى والتثبت، فكان ينبغى أن لا يبالغ المحدثون من أمثال مرجليوث وطه حسين فى الشك فيه مبالغة تنتهى إلى رفضه، إنما نشك حقا فيما يشك فيه القدماء ونرفضه، أما ما وثقوه ورواه أثباتهم من مثل أبى عمرو بن العلاء والمفضل الضبى والأصمعى وأبى زيد فحرى أن نقبله ما داموا قد أجمعوا على صحته. ومع ذلك ينبغى أن نخضعه للامتحان وأن نرفض بعض ما رووه على أسس علمية منهجية لا لمجرد الظن، كأن يروى لشاعر شعر لا يتصل بظروفه التاريخية، أو تجرى فيه أسماء مواضع بعيدة عن موطن قبيلته، أو يضاف إليه شعر إسلامى النزعة، ونحو ذلك مما يجعلنا نلمس الوضع لمسا.

(1) الحيوان 6/ 279

(2)

ابن سلام ص 76 - 77.

ص: 175