الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
4 - الدين
(1)
كانت كثرة العرب فى الجاهلية وثنية تؤمن بقوى إلهية كثيرة تنبثّ فى الكواكب ومظاهر الطبيعة، وفى أسماء قبائلهم ما يدل على أنهم كانوا قريبى عهد بالطوطمية (Totemism) إذ تلتف جماعة حول الطوطم تتخذه حاميها والمدافع عنها من مثل كلب وثور وثعلبة. وقد آمنوا بقوى خفية كثيرة فى بعض النباتات والجمادات والطير والحيوان، وليس بصحيح ما يزعمه رينان من أنهم كانوا موحدين (2)، فقد كانوا يشركون مع الله آلهة أخرى كما جاء فى القرآن الكريم، وكانوا يتعبدون لأصنام وأوثان كثيرة اتخذوها رمزا لآلهتهم. ويفيض كتاب الأصنام لابن الكلبى فى بيان هذا الجانب. ويظهر أن عبادة النجوم والكواكب دخلت عندهم من قديم وقد جاءتهم من الصابئة وبقايا الكلدانيين، كما جاءتهم من لدن عرب الجنوب الذين كانوا يرجعون بآلهتهم إلى ثالوث مقدس، كما مر بنا، هو القمر أو ودّ، والشمس أو اللات والزهرة أو العزّى. ونراهم يقدسون النار، ويظهر ذلك فى إيقادهم لها عند أحلافهم واستمطارهم السماء وتقديم القرابين إليها (3) ويقال إن المجوسية كانت متفشية فى تميم وعمان والبحرين وبعض القبائل العربية (4)، والمجوس كما نعرف ثنوية يؤمنون بإلهين يدبران العالم هما النور والظلمة أو الخير والشر.
وكانت عبادة الأصنام منتشرة بنينهم انتشارا واسعا، وقد صوروها أو نحتوها رمزا لآلهتهم، وقد يرون فى بعض الأحجار والأشجار والآبار ما يرمز إليها، ففى أخبارهم أن العزّى كانت لغطفان، وهى شجرة بوادى نخلة شرقى مكة، وقد قطعها خالد بن الوليد، وهو يقول:
(1) انظر فى ديانات الجاهلين الجزءين الخامس والسادس من تاريخ العرب قبل الإسلام لجواد على وكتاب روبرتزسميث Lectures Relegins of the: وبقايا الوثنية العربية لولوزن chem Reste Arabias -: : والأساطير العربية قبل الإسلام لمحمد عبد المعيد خان وتاريخ العرب القديم ترجمة فؤاد حسنين على.
(2)
راجع جواد على 5/ 20 وما بعدها و 5/ 53 وما بعدها حيث يذكر رأى رينان وآراء غيره من المستشرقين
(3)
انظر الحيوان 4/ 461 وما بعدها.
(4)
جواد على 6/ 284 وما بعدها.
يا عزّ كفرانك لا سبحانك
…
إنى رأيت الله قد أهانك (1)
ويشير القرآن الكريم إلى بعض آلهتهم ورموزها من أصنامهم وأوثانهم، فيقول جل وعز:{أَفَرَأَيْتُمُ اللاّتَ وَالْعُزّى وَمَناةَ الثّالِثَةَ الْأُخْرى»} ويقول سبحانه وتعالى:
{وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً»} . وكانت عبادة اللات أو الشمس شائعة بين العرب الجنوبيين وفى الحجاز، وكان معبدها فى الطائف، ويقال إنه كان صخرة مربعة بيضاء بنت عليه ثقيف بيتا وكانت قريش وجميع العرب يعظمونه (2). ويتردد فى أسمائهم وهب اللات وعبد شمس، وعبد العزى ومثلها مثل اللات فى تعظيم قريش والعرب لها وتقديسها. وكانت مناة صخرة منصوبة على ساحل البحر بين المدينة ومكة، وربما كان فى اسمها ما يدل على أنها ترمز إلى إله الموت، فهى إلهة القضاء والقدر، وكانت معظمة عند هذيل وخزاعة والعرب جميعا وخاصة الأوس والخزرج إذ «كانوا يحجون إلى مكة، وبقفون مع الناس المواقف كلها، ولا يحلقون رءوسهم، فإذا نفروا أتوا مناة وحلقوا رءوسهم عندها، لا يرون لحجهم تماما إلا بذلك (3)» . وودّ كما قدمنا من الآلهة الجنوبية. وهو يؤلف مع اللات والعزى ثالوث الأب والأم والابن، وكان صنمه بدومة الجندل، وظل منصوبا هناك إلى أن جاء الله بالإسلام (4). وكان سواع صنم هذيل وكنانة، وهو حجر كانوا يعبدونه هم وعشائر كثيرة من مضر (5). وربما كان فى اسمه ما يدل على أنه إله الشر والهلاك. ويغوث هو صنم مذحج وعشائر من مراد وهوازن (6). وكان يعوق صنم همدان وخولان وما والاهما من قبائل (7). وفى اسمه واسم يغوث ما يشير إلى أرواح حافظة، فمعنى يغوث يعين، ومعنى يعوق يحفظ
(1) الأصنام لابن الكلبى ص 17 وما بعدها ومادة العزى فى معجم البلدان.
(2)
الأصنام ص 16 والمحبر لابن حبيب ص 315 ومعجم البلدان فى اللات.
(3)
الأصنام ص 14 وأخبار مكة للأزرقى (طبعة المطبعة الماجدية) 1/ 73 ومعجم البلدان فى مناة والمحبر ص 316.
(4)
الأصنام ص 55 وما بعدها والمحبر ص 316 ومعجم البلدان فى «ود» .
(5)
الأصنام ص 57 ومجمع البيان فى تفسير القرآن الطبرسى 10/ 364 ومادة رهاط حيث أقاموه فى معجم ما استعجم للبكرى ومعجم البلدان لياقوت.
(6)
الأصنام ص 10، 57 والمحبر ص 317 والطبرسى 10/ 364 ومعجم البلدان فى يغوث.
(7)
الأصنام ص 10، 57 والطبرسى 10/ 364 ويعوق فى معجم البلدان.
ويمنع. وكان نسر معبود حمير (1)، وانتشرت عبادته فى الشمال، ويشير اسمه فى وضوح إلى الطائر المعروف باسمه، وفى الطبرسى:«كان ودّ على صورة رجل وسواع على صورة امرأة ويغوث على صورة أسد ويعوق على صورة فرس ونسر على صورة نسر من الطير (2)» .
ووراء هذه الأصنام التى ذكرها القرآن الكريم أصنام كثيرة كانت تتعبد لها قريش والقبائل العربية فى الجاهلية، ويقال إنه كان فى الكعبة عند فتح الرسول صلى الله عليه وسلم لمكة ثلاثمائة وستون صنما (3)، وكان أعظمها عند القرشيين هبل:«وكان من عقيق أحمر على صورة إنسان مكسور اليد اليمنى، وجعلتها له قريش من ذهب: وكان فى جوف الكعبة قدامه سبعة قداح، مكتوب فى أحدها: «صريح» والآخر: «ملصق» . فإذا شكوا فى مولود أهدوا إليه هدية، ثم ضربوا بالقداح (السهام) فإن خرج (صريح) ألحقوه بأبيه، وإن خرج (ملصق) دفعوه. وقدح على الميت، وقدح على الزواج. . وإذا اختصموا فى أمر أو أرادوا سفرا أو عملا أتوه فاستقسموا بالقداح عنده، فما خرج عملوا به وانتهوا إليه. .
وعنده ضرب عبد المطلب بالقداح على ابنه عبد الله (4)». وباسمه كان ينادى أبو سفيان فى معركة أحد ويصيح: اعل هبل.
ومن أصنام قريش المشهورة إساف ونائلة، ويقال إنهما كانا شخصين أتيا أعمالا سيئة فمسخا حجرين، وعبدهما الناس، وكان أحدهما ملاصقا للكعبة، وثانيهما فى موضع زمزم، ويقال إن إسافا كان بإزاء الحجر الأسود وكانت نائلة بإزاء الركن اليمانى (5). ومن أصنامهم مناف وبه سمى عبد مناف.
ومن الأصنام المشهورة رضا وتيم وشمس لتميم وذو الخلصة وهو صنم خشعم وبجيلة وأزد السراة، ويقال إنه كان مروة بيضاء منقوشة عليها كهيئة التاج، وكان موضعه بتبالة وله بيت يحجون إليه (6). وذو الشّرى وكان له معبد ضخم فى
(1) الأصنام ص 57 والطبرس 10/ 364 ومادة نسر فى معجم البلدان واللسان وتاج العروس.
(2)
الطبرسى 10/ 364.
(3)
انظر الجزء الثانى من ابن الأثير فى ذكر فتح مكة.
(4)
الأصنام ص 28 والطبرسى 10/ 364
(5)
الأصنام ص 29 والمحبر ص 318 والطبرسى 10/ 364
(6)
الأصنام 34، 47 والأزرقى 1/ 256 والمحبر ص 317.
سلع (بطرا)(1) ويظهر أن عبادته قديمة، وهو يقابل الإله ديونيسيوس عند اليونان إله الخصب والخمر.
وكانوا يتخذون عند هياكل هذه الأصنام والأوثان أنصابا من حجارة يصبون عليها دماء الذبائح التى يتقربون بها إلى آلهتهم، وكانوا يقدسون هذه الأنصاب ويعدونها مقرّا لبعض الأرواح. وفى القرآن الكريم:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ»} . والأزلام هى القداح كما مر بنا.
وفرق بين الصنم والوثن، فالصنم يكون غالبا تمثالا، أما الوثن فيكون غالبا حجرا، وقد يسمى الصنم بالوثن، يقول ابن الكلبى: «واستهترت العرب فى عبادة الأصنام، فمنهم من اتخذ بيتا ومنهم من اتخذ صنما ومن لم يقدر عليه ولا على بناء بيت نصب حجرا أمام الحرم وأمام غيره مما استحسن ثم طاف به كطوافه بالبيت. .
فكان الرجل إذا سافر فنزل منزلا أخذ أربعة أحجار، فنظر إلى أحسنها، فاتخذه ربّا وجعل ثلاثة أثافىّ لقدره. وإذا ارتحل تركه، فإذا نزل منزلا آخر فعل مثل ذلك. وكانوا ينحرون ويذبحون عند كلها ويتقربون إليها (2)».
وهذه البيوت التى اتخذوها لأصنامهم كان منها كعبات كبيرة يحجون إليها ككعبة ذى الخلصة وهى الكعبة اليمانية وكعبة الطائف وهى بيت صنمهم اللات، وأشهر كعباتهم كعبة مكة حارسة الوثنية فى الجاهلية، وهى التى وصلتنا عنها تفاصيل كثيرة توضح ما كانوا يتخذون فى حجّهم إليها من شعائر، وكانوا يطوفون بها أسبوعا ويسعون بين الصفا والمروة، ويظن أنه كان على كل منهما صنم، ويقال إنه كان على الصفا إساف وعلى المروة نائلة، وكانوا يقفون بعرفة ويفيضون منها إلى المزدلفة ثم منى. وكانت إفاضتهم فى عرفة عند غروب الشمس، أما فى المزدلفة فعند شروقها، وكان يتولى الإجازة فى الأولى بعض التميميين. وفى الكعبة الحجر الأسود وكانوا يتبركون به ويتمسحون بأركان الكعبة جميعها. ويقال إن طوافهم بأصنامهم كان سبعة أشواط وكانوا يختلفون فى طوافهم، فمنهم من يطوف عريانا وهم الحلة (3)، ومنهم من يطوف فى ثيابه وهم الحمس (4) من قريش وكنانة وخزاعة
(1) الأصنام ص 37 وتاج العروس. واللسان فى مادة الشرى.
(2)
الأصنام ص 33.
(3)
المحبر ص 180 وما بعدها.
(4)
المحبر ص 179 والأزرقى 1/ 114.
ويصور لنا الأزرقى طواف العريان بقوله: «يبدأ بإساف فيستلمه (يعتنقه) ثم يستلم الركن الأسود، ثم يأخذ عن يمينه ويطوف ويجعل الكعبة عن يمينه، فإذا ختم طوافه سبعا استلم الركن (حيث الحجر أو الحطيم) ثم استلم نائلة، فيختم بها طوافه، ثم يخرج فيجد ثيابه كما تركها لم تمس فيأخذها، فيلبسها، ولا يعود إلى الطواف بعد ذلك عريانا (1)» . وقد أبطل الإسلام العرى فى الطواف، كما أبطل كثيرا من تقاليد الحمس (2).
وكان من تقاليدهم رمى الجمرات فى منى وتقديم العتائر أو الضحايا وذبحها عند الأنصاب وكذلك تقديم الهدايا من الزروع والغلات، وفى القرآن الكريم:{وَجَعَلُوا لِلّهِ مِمّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً، فَقالُوا هذا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ»} . وتدل الآية الكريمة على أنهم كانوا يجعلون لله نصيبا، ثم يعودون فيجعلونه لآلهتهم الصغرى أو لأصنامهم. وذكر القرآن الكريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وأولاها الناقة أو الشاة يحرّمون لبنها والانتفاع بها، والثانية ما يسيّب (يترك) نذرا للآلهة فلا يمنع من ماء ولا كلأ، والثالثة ناقة أو شاة تحمل سبعة أبطن، فإذا كان السابع ذكرا ذبح وأكل منه الرجال والنساء، وإن كان أنثى استحيوه، وإن ولدت توأما: ذكرا وأنثى قالوا وصلت أخاها وحرّموا ذبحه على أنفسهم. أما الحام فالبعير ينتج عشرة أبطن من صلبه، ويقولون: قد حمى ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا مرعى.
ويظهر أنه كانت عندهم طقوس كثيرة فى نذورهم وقرابينهم، وقد هدمها الإسلام هدما، وأيضا كانت هناك شعائر وطقوس كثيرة فى الحج نفسه لعل أهمها التلبية، يقول ابن حبيب: «وكانوا يلبون إلا أن بعضهم كان يشرك فى تلبيته، وكان نسك قريش لإساف، تقول: لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك. وكان لكل قبيلة بعد تلبية، فكانت تلبية من نسك للعزى: لبيك اللهم لبيك، لبيك وسعديك ما أحبّنا إليك. وكانت تلبية من نسك للات: لبيك اللهم لبيك، لبيك، كفى ببيتنا بنيّة، ليس بمهجور ولا بلية، لكنه من تربة زكية، أربابه من صالحى البرية. . . وكانت تلبية من نسك لودّ:
(1) الأزرقى 1/ 114.
(2)
الأزرقى 1/ 116 وما بعدها.
لبيك اللهم لبيك، لبيك معذرة إليك. وكانت تلبية من نسك لذى الخلصة:
لبيك اللهم لبيك، لبيك بما هو أحب إليك. . . (1)».
وجعلوا للحج أربعة أشهر معلومات، سموها الأشهر الحرم، وهى رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وكان الحج إلى مكة فى ثالثها، وفى اسمه ما يدل على أن الحج المعظم للكعبة القرشية كان فيه. وكانت هذه الأشهر حراما عندهم فلا يستباح دم، ولا تنشب حروب، إلا ما كان من حرب الفجار، وعدّت انتهاكا عظيما لحرمات البيت. وكأنما كانت هذه الأشهر هدنة لهم، ومعينا لبعدائهم عن الأماكن المقدسة فى الوصول إليها دون أن تمسّ نذورهم، وكانوا فيها يتجرون ويمترون ويقيمون أسواقهم كسوق عكاظ.
وكانت هناك جماعات تقوم على سدانة بيوتهم المقدسة، ويسمونها الحجابة، وكانت فى مكة لبنى عبد الدار، وبجانب هؤلاء السّدنة كهان كانوا يدّعون معرفة الغيب وأنه سخّر لهم طائف من الجن يسترق لهم السمع فيعرفون ما كتب للناس فى ألواح الغد. وممن عرف بذلك سطيح الذئبى وشق بن مصعب الأنمارى وعوف بن ربيعة الأسدى وسلمة الخزاعى وسواد بن قارب الدوسى وعزّى سلمة (2). ونجد بجانب الكهنة كاهنات مثل الشعثاء والكاهنة السعدية والزرقاء بنت زهير وكاهنة ذى الخلصة (3). وفى أخبار الإسلام الأولى ما يدل على أنه كان يلحق ببيوت الأصنام بغايا، وكانوا سببا فى ثورة بحضرموت قضى عليها أمية بن أبى المهاجر لعهد أبى بكر الصديق (4).
ولعل فى كل ما قدمنا ما يدل على أنهم كانوا يؤمنون إيمانا واسعا بالأرواح وأنها تحل فى كل ما حولهم من مظاهر الطبيعة، وكان منها أرواح خيرة، هى الملائكة وأرواح شريرة هى الشياطين. وفى القرآن الكريم:{وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ»} . فكانوا
(1) المحبر ص 311.
(2)
السيرة النبوية (طبع الحلبى) 1/ 15 والكامل لابن الأثير (طبع ليدن) 1/ 301 وأغانى (طبعة دار الكتب) 9/ 84 وطبعة الساسى 15/ 70 والسيرة الحلبية (طبع بولاق) 1/ 5.
(3)
انظر مجمع الأمثال للميدانى 1/ 91، 1/ 223، 2/ 54.
(4)
المحبر ص 184.
يزعمون أنها بنات الله، وكانوا يعدونها-كأصنامهم-من شفعائهم عند الله وشركائه، وحكى القرآن اعتقادهم فى ذلك إذ يقول جل وعز:{أَلا لِلّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ»} . وفى القرآن سورة للجن وكانوا يخافونها ويتعبدونها ويجعلون بينها وبين الله نسبا، يقول جل وعز:{وَجَعَلُوا لِلّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ، وَخَلَقَهُمْ، وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمّا يَصِفُونَ»} وفى أساطيرهم أو قل فى معتقداتهم أن الجن هى التى تصد الثيران عن الماء حتى تمسك البقر عن الشرب فتهلك.
يقول الجاحظ: وكانوا إذا أوردوا البقر فلم تشرب إما لكدر الماء أو لقلة العطش ضربوا الثور ليقتحم الماء، لأن البقر تتبعه (1)، فكانوا إذا امتنعت ظنوا ذلك من عمل الجن وإيحائهم. ولهم فيها كثير من الأساطير، عرض لها الجاحظ فى الجزء السادس من حيوانه، فتحدث عن مواطنها فى رأيهم وأنها تركب النعام والظباء والحشرات وأنها تتصور فى صور كثيرة، وتتوالد مع الناس، وقد تستهويهم وتقتلهم أو تخبلهم، ويسمع ليلا عزيفهم وهتافهم، ومنهم من يألف الكهان ويخدمهم وهو الرّئىّ، ومنهم من صورته على نصف صورة الإنسان ويسمى شقّا، ولكل شاعر شيطانه الذى ينفث فيه الشعر. ومنهم السعلاة والغول، وهى من سباعهم، ويزعم تأبط شرا فى شعر يضاف إليه أنه لقيها فى ليلة مظلمة وهو يسعى فى فلاة، فنازلها وما زال بها حتى قتلها وهو لا يعرفها، يقول (2) -إن صح أنه قائله-:
فلم أنفكّ متكئا عليها
…
لأنظر مصبحا ماذا أتانى
إذا عينان فى رأس قبيح
…
كرأس الهرّ مشقوق اللسان
وساقا مخدج وشواة كلب
…
وثوب من عباء أو شنان (3)
وهؤلاء الوثنيون كانوا ينكرون الرسل وأن هناك إلها واحدا قال جل وعز:
(1) انظر الحيوان 1/ 18 وما بعدها
(2)
الأغانى 18/ 212.
(3)
مخدج: ناقص الخلق، الشواة: الأطراف، الشنان: جلد القربة البالى.
{هذا لَشَيْءٌ يُرادُ، ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَاّ اِخْتِلاقٌ)} . وكانوا لا يؤمنون ببعث ولا نشور يقول جلّ ذكره: {(وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ)} وقال: {(وَقالُوا ما هِيَ إِلاّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَاّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاّ يَظُنُّونَ)} وقال: {(وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ)} .
ولا نصل إلى أواخر العصر الجاهلى حتى نجد استعدادا لفكرة الإله الواحد، وخاصة عند طائفة كانت تدعى باسم الحنفاء، وكانت تشك فى الدين الوثنى القائم وتلتمس دينا جديدا يهديها فى الحياة. يقول ابن إسحق:
وأكبر الظن أن كلمة حنيف معناها المائل عن دين آبائه كما يدل على ذلك اشتقاقها، ولم يكن هؤلاء الحنفاء فى مكة وحدها، فقد كانوا منتشرين فى القبائل، إذ تعدّ كتب الأدب والتاريخ منهم قس بن ساعدة الإيادى وأبا ذرّ الغفارى وصرمة
(1) السيرة النبوية 1/ 237.