الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
4 - شعره
يمتاز الأعشى بكثرة قصائده الطويلة، كما يمتاز بكثرة تصرفه فى فنون الشعر من مديح وهجاء وفخر ووصف وخمر وغزل. أما المديح فقد قالوا إنه أول من سأل بالشعر واستجدى بالقريض (1) واتخذه متجرا يطوف به البلاد (2)، وحقّا سبقه غير شاعر إلى المديح كزهير والنابغة، ولكن أحدا منهم لم يحرص على الاستعطاء وطلب النوال كما حرص الأعشى فقد طاف فى أطراف الجزيرة العربية يمدح السادة والأمراء، ذاكرا ما يفيضون عليه من الإبل والجياد والإماء وصحاف الفضة وثياب الخز والديباج، منوها فى أثناء ذلك بسؤاله لهم، غير مبق على شئ من نفسه. ومعانى المديح عنده لا تفترق عن المعانى العامة فى مدائح الجاهليين، فهو ما ينى يمدح بالكرم والشجاعة والوفاء وعون الضعفاء فى القبيلة، وكثيرا ما يعرض لجيوش ممدوحه إذا كان أميرا أو شيخا لقبيلته مصورا ما تنزله على الأعداء من التقتيل والنكال، وقد يطيل فى وصف ما تشنه من غارات على الأعداء، وفى تضاعيف ذلك يورد على ممدوحه ثناء مفرطا.
ومن أهم ما يميز مديحه بالقياس إلى الجاهليين كثرة إسرافه فيه، ولا نقصد الإسراف فى الأوصاف من حيث هى وإنما نقصد الغلوّ فيها والإفراط، بحيث يعد مقدمة لمبالغات العباسيين فى مدائحهم. وقد يكون ذلك من أثر رغبته الشديدة فى العطاء، وقد يكون من أثر الحضارات التى ألمّ بها فى طوافه، وهذا هو معنى ما نقوله من أنه يشبه العباسيين، فذوقه فى المديح يقترب من ذوقهم وما نعرفه عندهم من غلوّ دفعهم إليه ملق الخلفاء والوزراء بنفس الباعث الذى بعث الأعشى على إفراطه فى مديحه، ونقصد طلب النوال والعطاء الجزيل. واقرأ له هذه القطعة من مديحه لقيس بن معد يكرب إذ يقول:
وسعى لكندة سعى غير مواكل
…
قيس فضرّ عدوّها وبنى لها
(1) ابن سلام ص 54.
(2)
العمدة لابن رشيق (الطبعة الأولى) 1/ 49.
وأهان صالح ماله لفقيرها
…
وأسى وأصلح بينها وسعى لها (1)
فترى له ضرّا على أعدائه
…
وترى لنعمته على من نالها
أثرا من الخير المزيّن أهله
…
كالغيث صاب ببلدة فأسالها (2)
وإذا تجئ كتيبة ملمومة
…
خرساء يخشى الدّارعون نزالها (3)
كنت المقدّم غير لابس جنّة
…
بالسيف تضرب معلما أبطالها (4)
وعلمت أن النفس تلقى حتفها
…
ما كان خالقها المليك قضى لها
فإنك تحس فيه روح العصر العباسى، لا من حيث سهولة اللفظ فحسب، ولا من حيث المقابلة بين المعانى فحسب، بل من حيث ما يجرى فى ذلك من أثر رقة الذوق بتأثير الحضارة، وهى رقة دفعته إلى الغلو فى وصف شجاعة ممدوحه، فإذا هو لجرأته وبسالته يقتحم ميادين الحرب غير لابس ترس يحميه، وبيده سيفه يضرب به فى الأقران تاركا فيهم آثاره. وقد آمن بينه وبين نفسه بأن الإنسان لا بد أن سيموت، فلا داعى للخوف، فلكل امرئ أجل مضروب. لا يتأخر عنه ولا يتقدم. واقرأ له هذه القطعة فى مديحه لهوذة بن على سيد بنى حنيفة:
إلى هوذة الوهّاب أهديت مدحتى
…
أرجّى نوالا فاضلا من عطائكا
سمعت برحب الباع والجود والنّدى
…
فأدليت دلوى فاستقت برشائكا (5)
فتى يحمل الأعباء لو كان غيره
…
من الناس لم ينهض بها متماسكا
وأنت الذى عوّدتنى أن تريشنى
…
وأنت الذى آويتنى فى ظلالكا (6)
وإنك فيما نابنى بى موزع
…
بخير وإنى مولع بثنائكا (7)
(1) أسى: داوى.
(2)
صاب المطر: سقط وانصب.
(3)
ملمومة: مجتمعة. خرساء: لا يسمع لها صوت من كثرة الدروع أى ليس لها قعقعة.
(4)
الجنة: الترس.
(5)
الباع: الكرم وكذلك الندى. الرشاء: حبل الدلو.
(6)
تريشنى: تعيننى وتغنينى.
(7)
هكذا رواية البيت فى المخطوطة اليمنية وهو مضطرب فى الديوان. موزع: مولع.
وجدت عليّا بانيا فورثته
…
وطلقا وشيبان الجواد ومالكا (1)
بحور تقوت الناس فى كل لزبة
…
أبوك وأعمام هم هؤلائكا (2)
وما ذاك إلا أن كفّيك بالنّدى
…
تجودان بالإعطاء قبل سؤالكا
يقولون فى الأكفاء أكبر همّه
…
ألا ربّ منهم من يعيش بمالكا (3)
وجدت انهدام ثلمة فبنيتها
…
فأنعمت إذ ألحقتها ببنائكا (4)
وربّيت أيتاما وأنعشت صبية
…
وأدركت شأو السّبق دون عنائكا (5)
ولم يسع فى العلياء سعيك ماجد
…
ولا ذو إنى فى الحىّ مثل إنائكا (6)
فإنك تحس المبالغة فى المديح واضحة، وهو يمزجها بالتبذل فى السؤال تبذلا لم يعرف فى عصره. وكل ذلك واضح فيه رقة اللهجة وأن الأعشى من ذوق يخالف ذوق الجاهليين، وهو ذوق جاءه من طول اختلاطه بأهل الحضر.
ولا نشك فى أن هذا الذوق هو الذى جعله فى أهاجيه ينحو نحو السخرية من مهجوّه فى كثير من شعره، وكأنما يجد فيه مرارة أشد وألذع من مرارة الهجاء المقذع. واقرأ معلقته أو قصيدته السادسة فى الديوان التى وجّه بها إلى يزيد بن مسهر الشيبانى، وكان قد قتل أحد بنى قيس بن ثعلبة رجلا من قومه، فحمّسهم للثأر لقتيلهم، فتعرض له الأعشى يهدده ويهجوه مستهلا تهديده وهجاءه بقوله:
أبلغ يزيد بنى شيبان مألكة
…
أبا ثبيت أما تنفكّ تأتكل (7)
ألست منتهيا عن نحت أثلتنا
…
ولست ضائرها ما أطّت الإبل (8)
(1) واضح من الشطر الثانى أن مالكا وشيبان وطلقا أعمام هوذة.
(2)
لزبة: شدة وأزمة.
(3)
يريد بالشطر الأول أن ممدوحه يتهم بأنه يظلم أكفاءه.
(4)
الثلمة: فرجة المهدوم أو ما فيه من شقوق.
(5)
هكذا رواية البيت فى المخطوطة اليمنية وبه بعض الاضطراب فى الديوان.
(6)
إنى: مقصور إناء.
(7)
مألكة: رسالة. تأتكل: تسعى بالشر أو تغضب وتغلى حتى لكأنك تأكل نفسك.
(8)
الأثلة: شجرة. ونحت أثلته: تنقصه وعابه. أطت: أنت. ويريد بقوله ما أطت الإبل التأبيد.
كناطح صخرة يوما ليوهنها
…
فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل (1)
وواضح أنه يوبّخه ساخرا منه مزدريا له، إذ يقول: يا أبا ثبيت أما تنفك تسعى بالشر والفساد وتقع فى أعراضنا بالذم والقدح؟ ألست منتهيا عن ذمنا وتنقصنا؟ وإنك مهما أتيت من قوارع الطعن لن تضر أصلنا الشامخ مدى الدهر، وما مثلك إلا كمثل وعل ينطح صخرة ليضعفها، فاستعصت عليه ولم يضرها ولم يوهنها إنما ضر قرنه وأوهنه. وارجع إلى قصيدتيه اللتين يهجو بهما علقمة بن علاثة، فستجده يعمد إلى هذا اللون من السخرية المرة بعلقمة، إذ يقول له فى أولاهما موازنا بينه وبين خصمه ومنافره عامر بن الطفيل:
علقم ما أنت إلى عامر
…
الناقض الأوتار والواتر (2)
يا عجب الدّهر متى سوّيا
…
كم ضاحك من ذا وكم ساخر
ولست بالأكثر منهم حصى
…
وإنما العزّة للكاثر (3)
علقم لا تسفه ولا تجعلن
…
عرضك للوارد والصادر
ولست فى السّلم بذى نائل
…
ولست فى الهيجاء بالجاسر (4)
وهذا من أشدّ الهجاء وأمضّه، ولو أنه شتم وأفحش لعدّ سفيها، أما أن يهجو على هذا النحو من التعريض فإنه يجعل الظنون تتسع كما يجعل النفوس تتعلق بمعنى كلامه وتكثر من تأويله. وهو يشير فى الأبيات إلى حكم هرم بن قطبة حين تنافر إليه علقمة وعامر، فسوّى بينهما فى عبارته المأثورة:«إنكما كركبتى البعير الأدرم (الفحل) تقعان على الأرض معا» والأعشى يرد هذا الحكم وينقضه قائلا: أين الثّرى من الثّريّا. وقد مضى فى القصيدة الثانية يذمه، ولم يكن من أبياتها بيت أشد إيلاما لعلقمة من قوله:
تبيتون فى المشتى ملاء بطونكم
…
وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا (5)
(1) الوعل: من الماعز الجبلى.
(2)
الأوتار: جمع وتر وهو الثأر. وناقضها: الآخذ بثأره. الواتر: الذى يترك ثأره فى الأعداء فلا يستطيعون نقضه.
(3)
الحصى هنا: العدد.
(4)
النائل: العطاء. الجاسر: الجرئ.
(5)
المشتى: زمن الشتاء. غرثى: جائعة. خمائص: ضامرات البطون.
حتى لقد زعم الرواة أنه بكى حين سمعه. وواضح أنه لم يجعله بخيلا فحسب، بل جعله هو وعشيرته يملأون بطونهم ويتخمون فى ليالى الشتاء الباردة على حين يشتد كلب الجوع والمسغبة على جاراتهم. واختار النساء لينزع من قلوبهم كل عطف ورحمة، فهم ليسوا بخلاء فحسب، بل إن قاوبهم لأشد قسوة من الحجارة.
واستمع إليه يسخر من كسرى قبل وقعة ذى قار:
واقعد عليك التاج معتصبا به
…
لا تطلبنّ سوامنا فتعبّدا (1)
وفى كلمة «اقعد» من الهجاء ما يفوق كل إقذاع، إذ يستخف به وبجيوشه التى يعدها لقتالهم وقتال شيبان، وكأنه يلوّح له أنه إن هاجمهم منى بهزيمة تطيح بتاجه.
ولعلنا الآن نفهم ما كان يقال عن الأعشى من أنه «إذا مدح رفع وإذا هجا وضع» ، فهو إذا مدح غالى فى مدحه حتى رفع ممدوحه على جميع الناس، وإذا هجا أوجع لا بالشتم والهجاء المقذع وإنما بالتهكم والسخرية والاستهزاء.
والأعشى كثير الفخر فى شعره بقبيلته وعشيرته، وهو يجمع لهما ضروب المفاخر والمناقب التى كانوا يعتزون بها فى الجاهلية من الجود فى الجدب والشجاعة فى الحرب والرعى فى المكان المخوف وإغاثة المستصرخ. وكثيرا ما يضمن هجاءه لمن يختلف معهم من قبيلته الكبرى بكر وقبيلته الصغرى قيس بن ثعلبة فخرا مدويا، كقوله فى معلقته التى أشرنا إليها آنفا متوعدا يزيد بن مسهر الشيبانى ومفتخرا بشجاعة قبيلته وما أثخنت فى القبائل من جراح:
سائل بنى أسد عنّا فقد علموا
…
أن سوف يأتيك من أنبائنا شكل (2)
واسأل قشيرا وعبد الله كلّهم
…
واسأل ربيعة عنا كيف نفتعل (3)
إنا نقاتلهم حتى نقتّلهم
…
عند اللقاء وهم جاروا وهم جهلوا
لئن منيت بنا عن غبّ معركة
…
لم تلفنا من دماء القوم ننتفل (4)
(1) السوام: الإبل الراعية ويقصد بها الأعشى ديار العرب. تعبد: تصبح كالعبد، يريد أنه يهزم ويقهر.
(2)
شكل: أزواج مختلفة يريد خبرا من بعد خبر.
(3)
نفتعل هنا: نفعل العظائم.
(4)
غب: عقب، يقصد أنهم لا يتعبون من لقاء الأعداء، فإن لقيهم بعد معركة فسيجدهم على أتم استعداد للقاء. ننتفل: ننتفى، ويروى ننتقل.
قد نخضب العير من مكنون فائله
…
وقد يشيط على أرماحنا البطل (1)
نحن الفوارس يوم العين ضاحية
…
جنبى فطيمة لا ميل ولا عزل (2)
قالوا الركوب فقلنا تلك عادتنا
…
أو تنزلون فإنا معشر نزل (3)
وقد ذهب بعض القدماء إلى أن البيت الأخير أشجع بيت لما صور فيه الأعشى قومه بأنهم يحسنون الطعان فرسانا كما يحسنون الضراب راجلين منوها بأن تلك سجية لهم درج عليها شيوخهم وشبابهم.
ونراه يكثر من وصف الصحراء وناقته، وهذا طبيعى لكثرة رحلاته وأسفاره، وهو فى هذا الموضوع يجرى على عادة الجاهليين، فيصور الأودية وما يجرى فيها من ظلام أو سموم أو مياه أمطار كما يصور طرقها الوعثة ورمالها ومناهلها ووحشتها وعزيف الجن ليلا بها، يقول فى معلقته:
وبلدة مثل ظهر التّرس موحشة
…
للجنّ بالليل فى حافاتها زجل (4)
لا يتنمّى لها بالقيظ يركبها
…
إلا الذين لهم فيما أتوا مهل (5)
جاوزتها بطليح جسرة سرح
…
فى مرفقيها إذا استعرضتها فتل (6)
وواضح أنه فى هذه الأبيات يفخر بتحمله لمشقات السفر فى مثل هذه الأرض الوعرة الصلبة الموحشة التى لا يسمع فيها صوت سوى صوت الجن والتى لا يركبها فى حمارّة القيظ واشتعال الرمال إلا من تعود الصبر واحتمال المكاره، ويقول إنه يقطع مثل هذه الأرض بناقة نضو أسفار ضامرة موثّقة الخلق صلبة قوية. وهو
(1) العير: حمار الوحش استعاره الفارس لأن العير يتقدم الأتن: الفائل: القناة الدموية كالشريان. يشيط: يهلك.
(2)
يوم العين: يوم كان بين بنى قيس بن ثعلبة وشيبان بجنب موضع فى البحرين يسمى فطيمة. ميل: جمع أميل وهو الجبان. عزل: جمع أعزل: من لا سلاح له.
(3)
يريد بالنزول التضارب بالسيوف.
(4)
البلدة: القطعة من الأرض. وشبهها بالترس لبيان أنها غليظة وصعبة على من ينفذ فيها. موحشة: كثيرة الوحش. زجل: صوت. حافاتها: نواحيها.
(5)
يتنمى: يرتفع. القيظ: شدة الصيف. مهل: أناة وصبر.
(6)
طليح: مهزولة لكثرة أسفارها. جسرة: ضخمة. سرح: سريعة. فتل: قوة وصلابة.
لا يطيل فى وصف أعضاء الناقة صنيع طرفة، بل يقتضب الحديث عنها غالبا، ويكثر حين يلم ببيان سرعتها أن يشبهها بحمار وحش أو ثور أو نعامة، ويطيل فى وصف ما يلم به منها على عادة الجاهليين. واقرأ هذه القطعة:
وفلاة كأنها ظهر ترس
…
ليس إلا الرجيع فيها علاق (1)
قد تجاوزتها وتحتى مروح
…
عنتريس نعّابة معناق (2)
عرمس ترجم الإكام بأخفا
…
ف صلاب منها الحصى أفلاق (3)
وكأن القتود والعجلة الوفراء
…
لمّا تواهق السّوّاق (4)
فوق مستبقل أضرّ به الصّي
…
ف وزرّ الفحول والتّنهاق (5)
أو فريد طاو تضيّف أرطا
…
ة عليه من الغصون رواق (6)
أخرجته شهباء مسبلة الود
…
ق رجوس قدّامها فرّاق (7)
وتعادى عنه النهار
…
تواريه عراض الرّمال والدّرداق (8)
وتلته غضف طوارد كالنّحل
…
مغاريث همّهن اللّحاق (9)
وهو يصور فيها فلاة مقفرة، لا تجد فيها الإبل ما تأكله سوى الاجترار، ويقول إنه تجاوزها بناقة نشيطة قوية مسرعة سرعة شديدة، كانت ترجم المرتفعات بأخفافها الصلبة، فتشق ما فيها من حصى شقّا، وسرعان ما يشبهها
(1) الرجيع: ما تجتره من طعامها. العلاق: ما تطعمه الإبل من الشجر.
(2)
مروح: نشيطة. عنتريس: صلبة. نعابة: تمد عنقها فى سيرها. معناق: من العنق وهو سير واسع للإبل.
(3)
عرمس: صلبة. الإكام: المرتفعات.
(4)
القتود: الرحل بأدواته. العجلة: المزادة، وهى قربة الماء. الوفراء: كثيرة المياه. السواق: طويل الساق. تواهق: مد عنقه فى السير. وتلك رواية المخطوطة اليمنية، والبيت فى الديوان مضطرب.
(5)
مستبقل: حمار وحش يأكل البقل، زر: طرد وعض.
(6)
فريد: منفرد، ويقصد ثور الوحش. طاو: جائع. الأرطاة: من أشجار البادية. رواق البيت: شقته التى دون شقته العليا. وتلك رواية المخطوطة اليمنية.
(7)
شهباء: سحابة بيضاء يصدعها سواد. مسبلة: مرسلة. الودق: المطر. رجوس: مرعدة. فراق: جمع فارق وهى السحابة المنفردة.
(8)
تعادى: تباعد. الدرداق: دك متلبد من الرمال.
(9)
الغضف: كلاب الصيد مسترخية الآذان. مغاريث: جائعة.
فى سرعتها بحمار وحش، يقاسى من لظى الصيف وعضّ أمثاله وتنهاقها عليه، فهو يسرع لا يلوى. ولا يمضى طويلا مع هذا الحمار، بل يتركه إلى ثور وحش يشبه به ناقته، ويصوره طاويا فى ليلة من ليالى الشتاء القاسية، وقد بات مستظلا بأغصان أرطاة، والمطر يسقط من حوله والفزع يأخذه من كل جانب، ولم تلبث نفسه أن راودته على الخروج من كناسه، فخرج يتوارى فى عراض الرمال وكثبانها، ولم تلبث كلاب الصيد أن رأته فأسرعت تحاول اللحاق به، وأسرع يحاول فوتها. والأعشى يشبه ناقته به وهى تترامى فوق الرمال مسرعة كأنما شئ يطلبها.
وتتكرر مثل هذه الصورة لا عند الأعشى وحده، بل عند جميع شعراء الجاهلية، إذ يشبهون الناقة بوحش الفلاة، وخاصة حين يناضل كلاب الصيد، وإن كنا نلاحظ أن الأعشى لا يطيل فى تصوير ذلك إطالة النابغة أو لبيد أو غيرهما من الجاهليين، وربما جاءه ذلك من ذوقه المتحضر، فكان يوجز فى وصف الصحراء والناقة والحيوانات الوحشية، على حين كان يتسع فى الحديث عن الخمر والغزل.
وحقا نجد عند الجاهليين تعرضا كثيرا للخمر، ولكنهم عادة يسوقونها مع الحديث عن فتوتهم وكرمهم وبذلهم، على نحو ما نرى فى معلقة طرفة، أما عند الأعشى فإننا نجدها فى فاتحة كثير من قصائده تالية لبعض غزله، ونحس كأنها لذته من الدنيا، فهو يطيل الحديث عنها وعن تأثيرها فى نفوس شاربيها، وكأنه يقدسها تقديسا، فهى وثنه وصنمه، ولذلك لم يكد يسمع من قريش-كما أسلفنا-أن الرسول صلى الله عليه وسلم يحرمها حتى كفّ عن لقائه وانصرف لساعته.
وهو يجيد وصفها إجادة لفتت القدماء إليه، فقالوا إنه أشعر الجاهليين إذا طرب (1)، يقصدون إذا شرب الخمر ووصفها، وهو وصف يفيض بالحيوية، إذ يجسم فيه بيئتها ومجالسها وما ينثر فيها من الورود والرياحين وما يقوم فيها من السقاة والمغنين والإماء الخليعات اللاتى يلبسن الشفوف الرقيقة وما يضرب عليه العازفون من آلات طرب كالصّنج والعود، واستمع إليه يقول فى معلقته:
(1) أغانى 9/ 108.
وقد غدوت إلى الحانوت يتبعنى
…
شاو مشلّ شلول شلشل شول (1)
فى فتية كسيوف الهند قد علموا
…
أن ليس يدفع عن ذى الحلية الحيل
نازعتهم قضب الرّيحان متّكئا
…
وقهوة مزّة راووقها خضل (2)
لا يستفيقون منها وهى راهنة
…
إلا بهات وإن علّوا وإن نهلوا (3)
يسعى بها ذو زجاجات له نطف
…
مقلّص أسفل السّربال معتمل (4)
ومستجيب تخال الصّنج يسمعه
…
إذا ترجّع فيه القينة الفضل (5)
والساحبات ذيول الخزّ آونة
…
والرّافلات على أعجازها العجل (6)
من كل ذلك يوم قد لهوت به
…
وفى التجارب طول اللهو والغزل
وهو يصف فى الأبيات يوما من أيام لهوه غدا فيه إلى خمار مع رفيق ناشط خفيف الحركة طيب النفس فى فتية كسيوف الهند مضاء وقوة ورونقا. ويقول إنهم تجاذبوا أغصان الريحان وخمرة مزة ما زالوا يتعاطونها، فراووقها لا يجف، وهم لا يسأمون من تعاطيها ولا يفيقون من شربها إلا ليقولوا للساقى: هات، ويكررون هذه اللفظة مهما شربوا. ويصف الساقى بأنه غلام أو شاب حدث، كان يعلق فى أذنه قرطا ويلبس قميصا قصيرا، وقد طبع على العمل بجد ونشاط. ويضيف إلى ذلك وصف عود كانت ألحانه تتسق مع صنج كانت تعزف عليه وتغنى قينة فى ثوب واحد رقيق، ومن ورائها نساء ترفل فى ثياب الخز والحرير، وقد علت أعجازهن كأنها قرب ممتلئة، فهى تهتز وترتجّ. ويختم أبياته بأنه تمتّع بكل ذلك
(1) غدوت: ذهبت. شاو: يشوى اللحم. ومعنى مشل شلول شلشل شول أنه خفيف الحركة. نشيط.
(2)
قضب: جمع قضيب وهو الغصن، القهوة: الخمر. الراووقى: الوعاء الذى تروق فيه الخمر. خضل: ندى، كنى بذلك عن اتصال شربهم.
(3)
علوا: من العلل وهو الشرب بعد الشرب تباعا، نهلوا: من النهل، وهو أول الشرب. إلا بهات: إلا بمقدار قولهم هات.
(4)
ذو زجاجات: يريد الساق. نطف: جمع نطفة وهى القرط به لؤلؤة صافية. مقلص أسفل السربال: قصير القميص. معتمل: مطبوع على العمل والنشاط.
(5)
المستجيب: العود ذو الأوتار لأنه يجيب صاحبه كما يجيب الصنج وهو الآخر من آلات الطرب. وجعل الصنج يسمعه كناية بذلك عن اتساق ألحانهما. القينة: الأمة المغنية. الفضل: اللابسة ثوبا واحدا.
(6)
العجل: جمع عجلة بكسر العين وسكون الجيم وهى قربة الماء.
ولها به، وجرّبه مرارا وتكرارا
والأعشى لا يصف مجالس الخمر فحسب، بل يصف وصفا دقيقا أوانيها وألوانها وما تفعله بعقول شاربيها وما تحدث فى قلوبهم من نشوة، مما يدل على أنه كان مشغوفا بها مفتونا، بل سكّيرا مغرقا فى السكر. وهو فى ذلك يقترب من ذوق جماعة المجّان فى العصر العباسى أمثال أبى نواس، وفى الوقت نفسه يفترق من ذوق معاصريه الذين لم يكونوا يسرفون على أنفسهم إسرافه فى اللهو والمجون. ولا نشك فى أن هذا جاءه من أثر الحضارات التى ألمّ بها فى الحيرة وغير الحيرة، بحيث تحول مدمنا لها، يلزم حوانيتها، فإن ولّى وجهه نحو منازل قومه حمل منها ما يكفيه هو ورفاقه هناك، فينهلون ويعلّون ولا يفيقون، وهو فى أثناء ذلك ينشدهم ما ينظمه فيها، وهم يصفقون استحسانا. ولم يكن يحسن وصفها فحسب، بل كان يضفى عليه حيوية بما يمزجه به من قصص على شاكلة قوله:
أتانى يؤامرنى فى الشّمو
…
ل ليلا فقلت له: غادها (1)
أرحنا نباكر جدّ الصّبو
…
ح قبل النفوس وحسّادها (2)
فقمنا ولما يصح ديكنا
…
إلى جونة عند حدّادها (3)
تنخّلها من بكار القطاف
…
أزيرق آمن إكسادها (4)
فقلت له: هذه هاتها
…
بأدماء فى حبل مقتادها (5)
فقال: تزيدوننى تسعة
…
وما ذاك عدلا لأندادها (6)
فقلت لمنصفنا: أعطه
…
فلما رأى حضر شهّادها (7)
أضاء مظلّته بالسّرا
…
ج والليل غامر جدّادها (8)
(1) يؤامرنى: يشاورنى. الشمول: الخمر. غادها: انطلق بنا إليها.
(2)
جد: نشاط. الصبوح: خمرة الصباح.
(3)
جونة: جرة وخابية. حدادها: خمارها.
(4)
تنخلها: تخيرها. بكار القطاف: أول ما يقطف. أزيرق: أزرق العينين. آمن من إكسادها: لمن كسادها لا يخلف.
(5)
أدماء: ناقة بيضاء. مقتادها: غلامها الذى يرعاها.
(6)
أندادها: أمثالها.
(7)
منصف: خادم. حضر: حضور. شهادها هنا: الدراهم.
(8)
مظلته: حانوته أو خباؤه. الحداد: الأهداب والأستار.
دراهمنا كلّها جيّد
…
فلا تحبسنّا بتنقادها (1)
فقام فصبّ لنا قهوة
…
تسكّننا بعد إرعادها (2)
كميتا تكشّف عن حمرة
…
إذا صرّحت بعد إزبادها (3)
كحوصلة الرّأل فى جريها
…
إذا جليت بعد إقعادها (4)
وجال علينا بإبريقه
…
مخضّب كفّ بفرصادها (5)
فباتت ركاب بأكوارها
…
لدينا وخيل بألبادها (6)
ورحنا تنعّمنا نشوة
…
تجور بنا بعد إقصادها (7)
ولا تختلف هذه الأبيات المنتزعة من القصيدة الثامنة فى الديوان عن خمريات أبى نواس وأضرابه فى شئ، لولا ذكره للأكوار والألباد فى نهايتها، ولو حذفنا بيتهما لأصبحنا إزاء خمرية عباسية تعتمد على القصص والإطراف به. وهو فى أولها يذكر أن فتى طرقه قبل أن يسفر الصباح يدعوه أن يذهبا معا لتناول الخمر. وذهبا فى هزيع الليل الأخير-قبل أن تصيح الديكة وقبل أن يسبقهما أى كاشح حسود-إلى حانوت خمار أعجمى، كنى عنه بزرقة العين، وهو خمار حاذق لصنعته، استخلص خمره من بكار القطاف، فهى خمر معتقة ومثلها لا يكسد ولا يبور.
وطلبا إليه أن يسقيهما بناقة قاداها إليه، وهى واقفة ببابه مزمومة بحبل غلامها، فلم تكفه وطلب فوقها تسعة دراهم، مشيدا بخمره وأن هذا الثمن ليس كفؤا لها.
ويقول الأعشى إنه قال لصاحبه: اعطه ما يريد. ويضيئ الخمار خباءه أو حانوته، ويعدّ الدراهم ويتبينها خشية زيفها، حتى إذا اطمأن لها ولهم قام، فناولهم خمرا تمشت فى أجسادهم، فسكنوا إليها، وهى خمر حمراء فاقعة كأنها الفرصاد
(1) تنقادها: نقدها وعدها حتى يتبين زائفها من صحيحها.
(2)
تسكننا: نسكن إليها.
(3)
كميتا: حمراء. صرحت: ذهب زبدها.
(4)
الرأل: فرخ النعام. شبه الخمر بحوصلته فى الحمرة. جليت: أخرجت، مأخوذ من جلوة العروس. القاعدة، إذا قعدت عن الطلب. وانظر الحيوان 4/ 14.
(5)
الفرصاد: التوت الأحمر.
(6)
الأكوار: الرحّال. الألباد: جمع لبد وهو قطعة الصوف توضع تحت السرج.
(7)
إقصاد: قصد واعتدال.
أو التوت الأحمر، وما يزال صاحبها يسقيهم، وهم بها مشغوفون، حتى انبثقت أضواء الصباح، فنهضوا بركابهم وخيلهم، تستخفهم النشوة استخفافا خرجوا به عن أطوارهم وما تعودوه فى صحوهم من قصد واعتدال.
وأنت تراه قد وصف الخمر ودنّها ولونها وخمّارها وحانوتها وتعرّض لصياح الديكة فى السحر ومساومة صاحبها فى ثمنها وأثرها فى النفس وما تصيب به شاربها من انتشاء يتمشى فى المفاصل. وهذه المعانى جميعها تدور فيها وفى أفلاكها خمريات العباسيين. واستمع إليه يقول:
وأدكن عاتق جحل سبحل
…
صبحت براحه شربا كراما (1)
من اللاتى حملن على الرّوايا
…
كريح المسك تستلّ الزّكاما (2)
مشعشعة كأنّ على قراها
…
إذا ما صرّحت قطعا سهاما (3)
تخيّرها أخو عانات شهرا
…
ورجّى أولها عاما فعاما (4)
يؤمّل أن تكون له ثراء
…
فأغلق دونها وغلا سواما (5)
فأعطينا الوفاء بها وكنّا
…
نهين لمثلها فينا السّواما (6)
كأنّ شعاع قرن الشمس فيها
…
إذا ما فتّ عن فيها الختاما (7)
وواضح أنه يتحدث عن دن من دنان الخمر أسود عتيق، صبح به رفاقه، ويقول إنه من نادر الدنان التى تجتلب من البلاد البعيدة والتى تنفذ رائحة خمرها بطيبها إلى الأنف، فتستلّ منه الزكام. ويصف هذه الخمر فيقول إنها مروّقة صافية كأنها بياض الحرّ أو سرابه اللامع، وقد انتقاها صاحبها فى «عانات» وظل
(1) أدكن: هو الدن لأنه يطلى بالقطران. عاتق: قديم. الجحل: السقاء الكبير أو القربة الكبيرة. سبحل: ضخم. الشرب: جماعة الشاربين. صبحت: ناولت، وهو خمر الصباح.
(2)
الروايا: جمع راوية وهو البعير.
(3)
مشعشعة: مروقة. قراها: ظهرها. صرحت: صفت. السهام: وهج الصيف وما يكون معه من البياض.
(4)
عانات: بلد بالشام. أولها: ما تؤول إليه من ثمن غال.
(5)
السوام: بكسر السين المساومة فى البيع والمغالاة.
(6)
السوام: بفتح السين الإبل الراعية.
(7)
قرن الشمس: أول ما يبدو منها فى الصباح. الختام: السداد.
يعلق عليها الآمال عاما بعد عام، مغاليا فى ثمنها، حتى اشتريناها منه. ويصورها وهى تسقط من دنّها بشعاع الشمس الوهاج، وهى من الصور التى أكثر العباسيون من تداولها، كما أكثروا من الحديث عن رائحتها ووصف دنانها، ومن قوله فى كأس من كئوسها:
وكأس كعين الديك باكرت حدّها
…
بفتيان صدق والنواقيس تضرب (1)
سلاف كأنّ الزعفران وعندما
…
يصفّق فى ناجودها ثم تقطب (2)
وهو يشبهها بعين الديك فى صفائها، ويقول إنه باكرها أو باكر سورتها برفاق مخلصين، يشربونها معه فى الأديرة على قرع النواقيس، ويحدثنا عن رائحتها وأثرها فى نفسه، حتى ليتصورها زعفرانا أحمر خلط بصبغ العندم، وقد سطعت منه رائحة زكية. وعلى هذا النحو ما يزال يصف الخمر وصف مفتون بها، معلنا إنه لا يستطيع عنها انصرافا، فهى كل لذته ومتاعه، يقول:
وكأس شربت على لذّة
…
وأخرى تداويت منها بها
لكى يعلم الناس أنى امرؤ
…
أتيت المعيشة من بابها
وما ينى يتحدث عن مجالسها وما ينثر فيها من ورود وما يكون فيها من قيان وآلات طرب، بنفس الصورة التى تلقانا عند أصحاب الخمر والمجون فى العصر العباسى. ونحن إنما سقنا ما وثّقناه من أشعاره، ومن يرجع إلى ديوانه وما رفضناه من قصائده يستطيع أن يلاحظ عبث الرواة بشعره، فقد أجروا على لسانه خمرية تزخر بالألفاظ الفارسية، وكأنه فارسى أبا وأمّا ممن أتقنوا الشعر العربى فى العصر العباسى وأتقنوا فن الخمرية بنوع خاص، وهى تفترق قصيدته رقم 55 من قصائد أبى نواس وأضرابه فى شئ؟ إنها تكتظ بأسماء الرياحين والأزهار وآلات الطرب الفارسية، ولا يبخل عليه واضعها بذكره لنيل مصر فى تضاعيفها وإجرائه على لسان الأعشى بعض ما كان يجرى على لسان أبى نواس ونظرائه من أن صاحبها مجوسى يصلى عليها
(1) باكر: شربها فى الصباح الباكر. حدها: سورتها وحدتها.
(2)
السلاف: أجود الخمر. العندم: شجر عروقه حمراء يصبغ به. يصفق. يروق. ناجودها: جرتها. تقطب. تمزج.
ويزمزم. فماذا بقى لمجان الفرس فى العصر العباسى. وقل ذلك نفسه فى قصيدته رقم 36 وقد رفضناها لما فيها من حديث عن هلاك الملوك الأولين، وهى ترفض أيضا لما فيها من صور خمرية تنبو على ذوق الجاهليين، إذ يوصف زقّها الأسود وقد طلى بالقار وطرح على الثرى بحبشى نام وانبطح، كما يوصف السكارى وقد تمددوا على الأرض وخذلتهم أرجلهم من غير كسح فلا يستطيعون حراكا بالحبال الممدودة لصيد بعض الطير.
وإذا تركنا خمره إلى غزله لا حظنا أنه لا يقف طويلا عند الأطلال صنيع غيره من الجاهليين، بل يأخذ فى وصف صاحبته ووصف عواطفه نحوها. وقد يعمد إلى نفس الصورة القصصية المبثوثة فى معلقة امرئ القيس، فيتحدث عن مغامراته ووصوله إلى محبوباته من المتزوجات على شاكلة قوله:
فظللت أرعاها وظلّ يحوطها
…
حتى دنوت إذا الظلام دنا لها
فرميت غفلة عينه عن شاته
…
فأصبت حبّة قلبه وطحالها (1)
حفظ النهار وبات عنها غافلا
…
فخلت لصاحب لذّة وخلا لها
فهو يخالس الزوج ويخاتله، حتى يظفر ببغيته. وطبيعى أن يكون غزله ماديّا صريحا لما رأينا من لهوه وخمره، غير أننا نلاحظ عنده رقة فى الغزل وشدة فى الوله والتعلق بالمحبوبة، حتى إن روحه لتكاد تسقط من بين جنبيه جزعا وصبابة، وخاصة حين الوداع. واستمع إليه يقول فى فاتحة معلقته:
ودّع هريرة إن الرّكب مرتحل
…
وهل تطيق وداعا أيها الرّجل
فهو يأمر قلبه أن يودعها قبل الرحيل، وسرعان ما يرجع إلى نفسه ينكر ما ظنه فيها من الصبر على الوداع. وهى صبابة لا نعرفها عند الجاهليين، إنما نعرفها عند الأعشى صاحب الذوق الرقيق الذى أثرت فيه الحضارة، وحولته دقيق الحس دقة شديدة فإذا هو يتذلل فى حبه ويخضع، وامض معه فى المعلقة فستجده يشبب بصاحبته منحرفا عن طريقة الجاهليين فى بكاء آثار الديار والأطلال، فهى موضوع حبه وغزله، ولا داعى لأن يذهب بعيدا مع الذكريات، وإذن
(1) الشاة هنا: كناية عن المرأة.
فليأخذ فى وصفها مفتنّا فى ذلك افتنانا، فتارة يصف بشرتها وشعرها وعوارضها وتارة يصف مشيتها الوانية وحليها، وتارة يصف تعلق الناس بطلعتها الفاتنة وما تغرق فيه من ترف ونعيم وعطور. ولا يلبث أن يورد علينا هذا البيت الغريب:
علّقتها عرضا وعلّقت رجلا
…
غيرى وعلّق أخرى غيرها الرّجل
وهو يصور فيه شقاءه بحبها، فهو يحبها، وهى تعرض عنه، وتحب رجلا آخر، والرجل يعرض عنها ويحب فتاة أو امرأة ثانية. وسرعان ما يعود، فيتذكر كيف كانت تشفق عليه وعلى نفسها حين زارها ذات مرة، فقال:
قالت هريرة لما جئت زائرها
…
ويلى عليك وويلى منك يا رجل
فقد بالغ فى وصف ارتياعها وخوفها على نفسها وعليه، حتى إنها لتتفجع وتتوجع إشفاقا وضعفا. ولعل فى هذا كله ما يوضح غزل الأعشى وأنه يمتاز من ناحية بأنه حسى مادى ومن ناحية أخرى برقته المفرطة وتصويره لعواطف المحبين وأحاسيسهم التى يبوحون بها ولا يستطيعون كظمها ولا كتمها، بل يندفعون فى تصويرها معبرين عن ولههم وعشقهم.
والحق أن الأعشى فى شعره جميعه يعد تمهيدا للشعر الحضرى الذى ظهر من بعده، سواء فى غزله وخمره أو فى هجائه ومديحه، فهو فى هذه الموضوعات جميعا يفصح عن ذوق متحضر، سواء فى خطاب الأمراء والأشراف والخضوع لهم أو فى خطاب النساء والتذلل لهن أو فى اللعب بمهجويّه والاستهزاء بهم والاستخفاف، أو فى وصف الخمر ومجالسها ودنانها وكئوسها.
ولعلنا بعد ذلك لا نعجب إذا رأيناه يشبه العباسيين فى مبالغاتهم، فقد كان يسرف على نفسه مثلهم فى تصور ممدوحيه، فإذا هو يقول فى هوذة بن على الحنفى:
فتى لو يبارى الشمس ألقت قناعها
…
أو القمر السّارى لألقى المقالدا (1)
فهو لو يبارى الشمس لألقت قناعها خجلا ولو بارى القمر لذلّ له وانقاد صغارا. وهى مبالغة مفرطة، ومثلها قوله متغزلا:
(1) ألقى المقالد: ذل وانقاد، وفى رواية ينادى بدلا من يبارى بمعنى يجالس.
لو أسندت ميتا إلى نحرها
…
عاش ولم ينقل إلى قابر
حتى يقول الناس مما رأوا
…
يا عجبا للميّت الناشر (1)
فلو ضمت ميتا إلى نحرها لدبت فيه الحياة من جديد، وعجب الناس لما يرون من هذا الميت المبعوث. ويبالغ الأعشى أو قل يزيد مبالغته إفراطا، فيقول إن هذا الميت حين يبعث إلى دنياه يخلد فيها ولا ينقل إلى مقبرة من المقابر.
ولا يلاحظ عنده إطرافه بمثل هذه المبالغات فحسب، بل يلاحظ أيضا تعمقه فى صنع الأخيلة والصور، فإذا هو يقع منها على مبتكرات كثيرة، نلاحظها لا فى موضوعه الجديد فحسب، ونقصد الخمر، وإنما فى أقدم الموضوعات وأكثرها دخولا فى البداوة، ونقصد وصف الناقة، إذ يقول فى بعض شعره إنها تجترع الآكام اجتراعا، لما تطوى منها، يقول:
إذا ما الآثمات ونين حطّت
…
على العلاّت تجترع الإكاما (2)
ويقول مصورا سرعة ناقته فى الهاجرة:
بجلالة سرح كأنّ بدفّها
…
هرّا إذا انتعل المطىّ ظلالها (3)
فهى تجرى مذعورة كأن هرّا يخدشها، وليس ذلك الذى يلفتنا عنده، إنما يلفتنا أنه عبر عن تقلص الظلال فى الهاجرة بأنه لم يبق لناقته إلا ظل أخفافها، وهى تنتعله فى خطاها. وتكثر عنده الصور المخترعة فى الخمر، وهى مبثوثة فما أنشدناه من شعره.
ومن أهم ما يلاحظ عنده سهولة لفظه بالقياس إلى معاصريه وسابقيه من قبيلته أمثال طرفة، وما نشك فى أن هذا يرجع إلى أنه تأثر بالحضارة، فرقّت معانيه، ورقت ألفاظه رقة لم تعرف لشاعر جاهلى، وليس لفظه وحده الذى رقّ، بل إن نفسه رقّت هى الأخرى ولانت، فإذا هو يأتى بخمرياته وغزلياته السابقة. وحقّا تأثر النابغة مثله بالحضارة، ولكنا نحس عنده أنه يبقى على كثير من بداوته، ولذلك
(1) الناشر: المنشور أو المبعوث.
(2)
الآثمات هنا: الوانيات. العلات: الحالات المختلفة. حطت هنا: أسرعت. الإكام: المرتفعات.
(3)
جلالة: ناقة ضخمة. سرح: سهلة. الدف: الجانب.
لم يرقّ غزله ولا خاض فى الخمر، أما الأعشى فأقبل على اللهو والطرب والعكوف على الخمر والاستماع إلى القيان، فكان طبيعيّا أن يسهل الشعر عنده بأكثر مما يسهل عند النابغة، وأن تظهر فيه رقة الحضارة ونعومتها.
ولا يظهر تأثير الحضارة فى سهولة ألفاظه فحسب، بل يظهر أيضا فى خفة أوزانه وجمال موسيقاها، وكأنما أثر فيه كثرة استماعه للمغنيات والغناء، فإذا هو يحيل شعره ألحانا وأنغاما خالصة. وهو كثير التنويع فى أوزانه يستخدم منها التام والمجزوء، ويحسن هذا الاستخدام إلى أقصى الحدود، إذ كان يقتدر على الإتيان بالألفاظ العذبة والكلمات الرشيقة والقوافى المتمكنة.
على أنه ينبغى أن نلاحظ شيئين، هما كثرة ما نحل عليه، وقد أدّى ذلك إلى دخول ألفاظ فارسية فى بعض قصائده، حمل عليه من أجلها المرزبانى فى كتاب الموشح. والذى لا شك فيه أن هذا من صنع المنتحلين، ولا يصح أن نحمل على الأعشى بسببه بل ننحى عنه هذا الشعر على نحو ما نحينا عنه القصيدة رقم 55. أما الشئ الثانى فهو أن الأسلوب عند الأعشى ينفك قليلا عن صورة الأسلوب الجاهلى، ولذلك مظهر واضح هو أننا نفتقد عنده الأبيات المفردة التى تدور فى الحكم والأمثال، وكأنما لم تكن لديه مقدرة زهير والنابغة فى التركيز وحشد المعانى فى الألفاظ القليلة. وربما كان هذا هو سبب كثرة التضمين فى أشعاره كقوله فى مطلع قصيدته الأولى فى ديوانه:
ما بكاء الكبير بالأطلال
…
وسؤالى فهل تردّ سؤالى
دمنة قفرة تعاورها الصّي
…
ف بريحين من صبا وشمال (1)
فقد جاء بفاعل تردّ فى أول البيت الثانى. ومن ذلك قوله فى قصيدته التى يفخر فيها بتغلّب شيبان على الفرس فى يوم ذى قار:
ولله عينا من رأى من عصابة
…
أشدّ على أيدى السّعاة من التى (2)
(1) الدمنة: آثار الدار. الصبا: ريح جنوبية لينة. تعاورها: تتداولها.
(2)
السعاة: الذين يسعون فى الحرب ويهيجونها.
أتتنا من البطحاء يبرق بيضها
…
وقد رفعت راياتها فاستقلّت (1)
وهو يوازن فى البيتين بين بنى شيبان وجيوش الفرس، فيقول ألا سلمت عينا من رأى عصابة بنى شيبان وإنها لأشد على من يثيرون الحروب من تلك التى أتتنا من البطحاء تبرق خوذاتها وتخفق راياتها. وواضح أنه فصل بين الصلة والموصول فى البيتين، وكأنه لم يعترف بأن للبيت الأول نهاية يقف عندها. وهذا التضمين فى شعره أكثر من أن نمثل له، فليرجع إليه من أراد. والمهم أنه يدل على انفكاك التعبير عنده، فهو لا يتمه فى البيت، بل يتمه فى بيت ثان أو أبيات. ولعل ذلك هو سبب كثرة صيغة التفضيل التى اشتهر بها فى شعره، وذلك أنه حين يبتغى تفضيل شئ على شئ يجعل المفضل عليه مبتدأ منفيّا بها، ثم يسترسل فى وصفه، حتى إذا استوفى ما أراد من هذا الوصف جاء بخبر المبتدأ، على شاكلة قوله فى المعلقة يصف صاحبته وما ينتشر من طيبها:
ما روضة من رياض الحزن معشبة
…
خضراء جاد عليها مسبل هطل (2)
يضاحك الشمس منها كوكب شرق
…
مؤزّر بعميم النّبت مكتهل (3)
يوما بأطيب منها نشر رائحة
…
ولا بأحسن منها إذ دنا الأصل (4)
فقد بدأ بالمبتدأ وهو الروضة، ووصفها فى بيتين مادحا جمالها وما تمدها به الأمطار وكيف تضاحك الشمس أزهارها ونباتاتها، ثم قال إن هذه الروضة على حسنها وشذاها العطر ليست أطيب من صاحبته شذى ولا أبهى نظما
وواضح من كل ما قدمنا أن الأعشى يعدّ حلقة مهمة من حلقات الشعر الجاهلى، وهى حلقة تضيف جديدا واضحا إلى هذا الشعر سواء فى موضوعاته أو فى معانيه أو فى أحاسيسه أو فى سهولة ألفاظه أو فى خفة أوزانه وجمال أنغامه وألحانه.
(1) البطحاء: موضع بقرب ذى قار. البيض: الخوذ. استقلت: ارتفعت وعلت.
(2)
الحزن: ما غلظ من الأرض وارتفع. وعندهم رياض الحزن أجود وأنضر من رياض المنخفضات. مسبل هطل: كثير الأمطار.
(3)
كوكب: أراد به ما طال من النبات. شرق: ريان من الماء. وأراد بالمضاحكة تفتح الأزهار. مؤزر: لابس إزارا. عميم النبت: ما اجتمع منه وتكاثر. مكتهل: تام.
(4)
الأصل: جمع أصيل وهو الوقت قبل الغروب.