المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌4 - لهجات جاهلية - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ١

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدّمة

- ‌تمهيد

- ‌1 - كلمة أدب

- ‌2 - تاريخ الأدب

- ‌3 - تقسيمات تاريخ الأدب العربى وعصوره

- ‌الفصل الأولالجزيرة العربية وتاريخها القديم

- ‌1 - صفة الجزيرة العربية

- ‌2 - الساميون

- ‌3 - العرب الجنوبيون

- ‌4 - العرب الشماليون

- ‌5 - النقوش ونشأة الكتابة العربية

- ‌الفصل الثانىالعصر الجاهلى

- ‌1 - تحديد العصر

- ‌2 - الإمارات العربية فى الشمال (الغساسنة-المناذرة-كندة)

- ‌3 - مكة وغيرها من مدن الحجاز

- ‌4 - القبائل البدوية

- ‌5 - حروب وأيام مستمرة

- ‌الفصل الثالثالحياة الجاهلية

- ‌1 - الأحوال الاجتماعية

- ‌2 - المعيشة

- ‌3 - المعارف

- ‌4 - الدين

- ‌5 - اليهودية والنصرانية

- ‌الفصل الرابعاللغة العربية

- ‌1 - عناصر سامية مغرقة فى القدم

- ‌2 - لهجات عربية قديمة

- ‌3 - نشوء الفصحى

- ‌4 - لهجات جاهلية

- ‌5 - سيادة اللهجة القرشية

- ‌الفصل الخامسرواية الشعر الجاهلى وتدوينه

- ‌1 - رواية العرب للشعر الجاهلى

- ‌2 - رواة محترفون

- ‌3 - التدوين

- ‌4 - قضية الانتحال

- ‌5 - أهم مصادر الشعر الجاهلى

- ‌الفصل السادسخصائص الشعر الجاهلى

- ‌1 - نشأة الشعر الجاهلى وتفاوته فى القبائل

- ‌2 - الشعر الجاهلى شعر غنائى

- ‌3 - الموضوعات

- ‌4 - الخصائص المعنوية

- ‌5 - الخصائص اللفظية

- ‌الفصل السابعامرؤ القيس

- ‌1 - قبيلته وأسرته

- ‌2 - حياته

- ‌3 - ديوانه

- ‌4 - شعره

- ‌الفصل الثامنالنابغة الذبيانى

- ‌1 - قبيلته

- ‌2 - حياته

- ‌3 - ديوانه

- ‌4 - شعره

- ‌الفصل التاسعزهير بن أبى سلمى

- ‌1 - قبيلته

- ‌2 - حياته

- ‌3 - ديوانه

- ‌4 - شعره

- ‌الفصل العاشرالأعشى

- ‌1 - قبيلته

- ‌2 - حياته

- ‌3 - ديوانه

- ‌4 - شعره

- ‌الفصل الحادى عشرطوائف من الشعراء

- ‌1 - الفرسان

- ‌2 - الصعاليك

- ‌3 - شعراء آخرون

- ‌الفصل الثانى عشرالنثر الجاهلى

- ‌1 - صور النثر الجاهلى

- ‌2 - الأمثال

- ‌3 - الخطابة

- ‌4 - سجع الكهان

- ‌خاتمة

- ‌1 - خلاصة

- ‌2 - تعليق

الفصل: ‌4 - لهجات جاهلية

العربية شبها تامّا، من مثل:«كن لهو خلفتن وقسد» أى كان له خليفة وقاسد، وكلمة قاسد معناها قائد فى اللغة الجنوبية.

فنحن لا نصل إلى العصر الجاهلى الذى نتحدث عنه حتى نجد الفصحى قد تكاملت وتكامل معها خطها، وأخذت تغزو العربية الجنوبية، وتنتصر عليها انتصارات تختلف قربا وبعدا، فهى فى الجهات القريبة منها تكتسحها اكتساحا، وهى فى الجهات البعيدة تؤثر تأثيرا يختلف قوة وضعفا. على أنه ينبغى أن نعترف بأن اليمينيين كانوا فى نقوشهم يحافظون على لغتهم القديمة المرتبطة بدينهم وآلهتهم، اما فى حياتهم اليومية وخاصة فى أطرافهم الشمالية فإنهم كانوا يتحدثون بعربيتنا الفصحى.

‌4 - لهجات جاهلية

(1)

على الرغم من شيوع لغة أدبية عامة فى العصر الجاهلى كانت هناك لهجات كثيرة تميزت بها بعض القبائل، وظلت آثارها واضحة على ألسنتها إلى القرن الثانى للهجرة، فسجّلها اللغويون، غير أنهم لم يعنوا غالبا بنسبة هذه اللهجات إلى أصحابها فقد كانت تهمهم الصحة اللغوية من حيث هى، وكأنهم يريدون التنبيه على ما يخالف اللغة الأدبية العامة التى نزل بلسانها القرآن الكريم. ونحن لا ننكر أنهم نصوا أحيانا على القبيلة التى تنطق اللهجة الشاذة، ولكنهم لم يعمّموا ذلك فيما حملوه إلينا بحيث أصبحنا أمام ركام واسع من لهجات لا نستطيع تعيين القبيلة أو القبائل التى كانت تنطق بها إلا فى الندرة والحين بعد الحين، فمن ذلك الكشكشة والكسكسة، وهما تخصان ضمير المخاطبة، إذ كان بعض تميم وأسد، وقيل أيضا بعض بنى ربيعة يلحقون بكاف المخاطبة شينا فى الوقف، وفى الوصل أحيانا، فيقولون: رأيتكش وعليكش وبكش وكانت بعض قبائل ربيعة تلحق السين بدل

(1) انظر فى هذه اللهجات كتاب المزهر للسيوطى فى مواضع متفرقة وكتاب الصاحبى فى فقه اللغة لأحمد بن فارس ومعالم البيان مجلة كلية الآداب بجامعة القاهرة، المجلد العاشر، العدد الأول وكتاب Ancient West-Arabian لرابين.

ص: 121

الشين فتقول رأيتكس وعليكس وبكس، وكان منهم من يحذف الكاف ويضع مكانها الشين أو السين.

ومن ذلك العنعنة، وهى فى تميم وبعض قيس وأسد، إذ يجعلون الهمزة عينا فى بعض الكلمات، فيلفظون استعدى بدلا من استأدى، ويلفظون أعدى بدلا من آدى، ويقال إن بعض بنى طيئ كان يقول دأنى عوضا عن دعنى. وكان هناك من يلفظ لعلى لأن، بإبدال اللام أيضا نونا، وقالوا بدلا من أن وأنّ عن وعنّ.

وتقرب من العنعنة الفحفحة، وكانت فى هذيل إذ تبدل الحاء عينا، ويقال إن بنى ثقيف كانوا يصنعون صنيع الهذليين فى ذلك فيقولون فى حتى عتى. وهذه اللهجات جميعا كانت تشيع فى بعض القبائل الشمالية المضرية، ومثلها التضجع وهو الإمالة، إذ كانت تميم وقيس وأسد تميل إلى إمالة الألف، وكان الحجازيون ينطقونها بتفخيم فلا يميلون. ويظهر أن ذلك لم يكن عامّا فى القبيلة الواحدة، فقد كان بعض الأفراد يميل وبعضهم لا يميل، يقول سيبويه: «اعلم أنه ليس كل من أمال الألفات وافق غيره من العرب ممن يميل، ولكنه قد يخالف كل واحد من الفريقين صاحبه فينصب بعض ما يميل صاحبه، ويميل بعض ما ينصب صاحبه.

وكذلك من كان النصب فى لغته لا يوافق غيره ممن ينصب، ولكن أمره وأمر صاحبه كأمر الأولين فى الكسر (الإمالة) فإذا رأيت عربيّا كذلك فلا ترينه خلّط فى لغته ولكن هذا من أمرهم». ونستطيع أن نمد ملاحظة سيبويه إلى اللهجات الشاذة التى حكيناها، فمن الممكن أن يكون بعض أفراد القبيلة قد تبع اللغة الأدبية العامة، بل من الممكن أن تكون بعض العشائر فى قبيلة بعينها قد هجرت لهجة قبيلتها، ولعل هذا هو سبب اختلاط نسبة هذه اللهجات عند اللغويين إذ نرى بينهم اختلافا فى الكشكشة مثلا هل كانت فى تميم أو كانت فى بكر أو كانت فى قيس أو كانت فيهم جميعا، وأغلب الظن أن مرجع هذا الاختلاف إلى ما لا حظه سيبويه فى الإمالة من أن عشيرة أو أفرادا فى قبيلة تميل قد لا تميل، وبالمثل يمكن أن يكون ذلك نفسه حدث فى اللهجات الشاذة التى رويت عن بعض القبائل المضرية.

وقد نسب اللغويون إلى قبائل مضرية وأخرى قحطانية ما سموه الاستنطاء إذ

ص: 122

كانت قبائل هذيل وقيس والأزد والأنصار فى يثرب تبدل العين نونا فى مثل أعطى فتقول أنطى، وأغلب الظن أن هذا ليس إبدالا كما لا حظ ليتمان، وإنما هما فعلان مختلفان.

وهناك لهجات نسبها اللغويون إلى القحطانيين، من ذلك التلتلة فى فضاعة وسهم إذ يكسرون الفعل المضارع فيقولون: تعلمون وتكتبون وتنجحون كما نصنع فى عاميتنا المصرية. ومن ذلك العجعجة فى قضاعة إذ يجعلون الياء المشددة جيما، فيقولون تميمج فى تميمى، وقال ابن فارس إن إبدال ياء المتكلم جيما وجد عند بنى تميم. وقال الزمخشرى إن بنى حنظلة التميميين كانوا يبدلون الياء المشددة لصيغة النسبة جيما مشددة.

ونسب الرواة إلى قبيلة كلب اليمنية ما سموه الوهم، وهو كسر الهاء فى ضمير الغائبين وإن لم يكن قبلها ياء ولا كسرة فيقولون: منهم وعنهم وبينهم. وسمع عن قوم منهم ما سمى بالوكم إذ يكسرون الكاف فى ضمير المخاطبين إذا سبقها ياء أو كسرة، فيقولون: عليكم وبكم بكسر الكاف فيهما. واشتهرت حمير وأهل اليمن وبعض عشائر طيئ بالطمطمانية، وهى إبدال لام التعريف ميما، فيقولون فى السهم والبر والصيام: امسهم، وامبر، وامصيام، وهذا ليس إبدالا، وإنما هى لهجة يمنية، إذ كانوا يعرّفون بالألف والميم، ولعل فى ذلك ما يدل على صحة ما ذهب إليه النسابون من أن طيئ قبيلة يمنية، ولا تزال لذلك بقية فى عاميتنا المصرية إذ نقول بدلا من البارحة إمبارح وأول امبارح. ومما ينسب إلى بعض القبائل اليمنية الشّنشنة إذ يجعلون كاف الخطاب شينا مطلقا، فيقولون بدلا من لبيك اللهم لبيك لبيش اللهم لبيش، وهم فى ذلك يلتقون بأصحاب الكشكشة فى بعض وجوهها من المضريين. وينسب إلى بعض الحميريين أنهم كانوا يجعلون السين تاء فى بعض الكلمات فيقولون: النات بدل الناس. ويستشهد اللغويون على ذلك بقول علباء بن أرقم:

يا قبّح الله بنى السّعلات

عمرو بن يربوع شرار النات

ليسوا أعفّاء ولا أكيات

وواضح أنه استعمل النات بدل الناس والأكيات بدل الأكياس. على أن هذا الشاعر ليس حميريّا وإنما هو من بكر، وأكبر الظن أنه اضطر لذلك من أجل القافية ورويّها.

ص: 123

وفى كتب اللغة كثير من هذه اللهجات الشاذة التى كانت تنفرد بها بعض القبائل، وقد عقد السيوطى فى المزهر فصلا لألفاظ اختلفت فيها لغة تميم والحجازيين، ويمكن أن نمد هذا الفصل للبحث فيما كان بين القبائل الشرقية وللغربية من خلافات لغوية.

ولعل أهم ما سجله اللغويون من فروق بين التميميين والحجازيين أن الأولين كانوا يحققون الهمزة وكان الثانون يسهّلونها فمثل سأل يسأل سؤالا عند الأولين يقابل سال يسل سوالا عند الثانين، ومثل رثأت وعباءة ونبئ عند الأولين يقابل رثيت وعباية ونبى عند الثانين. ويظهر أن ذلك لم يكن يطرد فى كل الكلمات ولا على جميع الألسنة فى الجانبين المتقابلين من الجزيرة. وكان التميميون يدغمون الحرف الثانى فى الثالث فى أمر مثل ردّ، بينما كان يفك الحجازيون الإدغام فيقولون:

اردد، وهذه أيضا فيما نظن كانت مسألة حسّ، فكان بين الفريقين من يجارى الفريق الآخر. ومما اشتهر بينهما من فروق إهمال ما عند التميميين فى نحو ما زيد قائم وإعمالها عند الحجازيين فيقولون ما زيد قائما، ومن ذلك أيضا أن الحجازيين كانوا يجرون «هلمّ» مجرى أسماء الأفعال مثل صه، فيلزمونها طريقا واحدا فى مخاطبة المفرد والمفردة والاثنين والاثنتين والجماعتين، فيقولون: هلم يا رجل وهلم يا امرأة وهلم يا رجلان وهلم يا امرأتان وهلم يا رجال وهلم يا نساء، أما التميميون فكانوا يجرونها مجرى الأفعال، فيقولون: هلم وهلمى وهلما وهلموا وهلممن يا نسوة، وبلغة الحجازيين نزل القرآن الكريم فى قوله تعالى:{وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا»} .

ومن ذلك أمس عند الحجازيين فإنها تلزم البناء على الكسر، أما التميميون فكانوا يقولون أمس فى الرفع وأمس بفتح السين فى الجر والنصب. ومن ذلك هيهات فإنها تلزم فتح التاء عند الحجازيين بينما تلزم الكسر عند التميميين فيقولون هيهات، وروى فيها الإعراب بالحركات. ومن ذلك تنوين الترنم فى قوافى الشعر، فقد كان الحجازيون يطلقون القافية، ليفرقوا بين الشعر الذى يغنّى والكلام المنثور، وكان التميميون يبدلون المدّ فى القافية نونا، على نحو ما عرف عن جرير فى قصيدته:

أقلّى اللوم عادل والعتابن

وقولى إن أصبت لقد أصابن

عقد أبدل المدّ نونا فى «العتابن» و «أصابن» وهو يحذف فى لغة الحجازيين، فيصبح البيت على هذا النمط:

ص: 124

أقلى اللوم عاذل والعتابا

وقولى إن أصبت لقد أصاب

وروى اللغويون كثيرا من اختلاف الفريقين فى همس الحركات والجهر بها ومدّها، فبينما يمد الحجازيون الألف فى مثل كلاب يقصرها التميميون فيقولون كلب، وبينما يقول الأولون ناداه يقول الثانون: نده، وبذلك ننطق فى عاميتنا المصرية، ويقول الحجازيون خمس عشرة بتسكين الشين وتميم تفتحها، ومنهم من يكسرها ومن يثقلها، ويقول الحجازيون يبطش بكسر الطاء ويقول التميميون يبطش بضمها، ويقول الحجازيون مرية بكسر الميم ويقول التميميون مرية بضمها، ويقول الحجازيون الحج بكسر الخاء ويقول التميميون الحج بفتحها، ويقول الحجازيون تخذت ووخذت ويقول التميميون اتخذت، ويقول الحجازيون قلنسية بالياء ويقول التميميون قلنسوة بالواو، ويقول الحجازيون ينقد الدراهم ويقول التميميون ينتقد، ويقول الحجازيون القير ويقول التميميون القار، ويقول الحجازيون الكراهة، ويقول التميميون الكراهية، ويقول الحجازيون ليلة ضحيانة (مصحية) ويقول التميميون إضجيانة، ويقول الحجازيون منذ ويسقط التميميون النون فيقولون مذ، ويقول الحجازيون برأت من المرض بفتح الراء فى الفعل ويقول التميميون برئت بكسرها، ويقول الحجازيون أنا منك براء، ويقول التميميون برئ، ويقول الحجازيون قلوت القمح وأقلوه قلوا ويقول التميميون قليته وأقليه قلى، ويقول الحجازيون لى بك إسوة وقدوة بكسر أولهما ويضمه التميميون فيقولون أسوة وقدوة بالضم، ويقول الحجازيون: الشفع والوتر بفتح الواو فى الوتر، ويكسرها التميميون فيقولون الوتر، ويقول الحجازيون وكدت والتميميون أكدت.

ولعل خير مرجع يصور الاختلافات بين الفريقين هو قراءات القرآن الكريم، فمثلا فى قوله تعالى:{(فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ)} قرأ الجمهور نظرة بكسر الظاء وهى لغة قريش، وقرأ مجاهد والضحاك نظرة بسكون الظاء وهى لغة تميم، وقال جلّ ذكره:

{(وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ)} وقرئت رضوان بكسر الراء وهى لغة الحجازيين وقرئت بضمها وهى لغة تميم وبكر، وقال تبارك وتعالى:{(وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى)} وقرأ الجمهور كسالى بضم الكاف وهى لغة الحجازيين، وقرأها الأعرج بالكسر وهى لغة تميم وأسد، وقال:{(وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً)} وقرأ الجمهور غلظة

ص: 125

بكسر الغين وهى لغة الحجازيين، وقرأها السلمى وأبو حيوة بالضمة، وهى لغة تميم، وقال:{(إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما)} وقرأ الجمهور يستحيى بياءين، وهى لغة أهل الحجاز وقرأ ابن كثير يستحيى بياء واحدة، وهى لغة تميم، وقال:{(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ)} وقرئت الرسل بتسكين السين وهى لغة الحجازيين، وقرئت بضمها وهى لغة التميميين، وقال:{(فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اِسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ)} وقرئت الهدى بتسكين الدال وتخفيف الهاء، وهى لغة أهل الحجاز وقرئت بكسر الدال وتشديد الياء، وهى لغة تميم، وقال:

{(وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ)} وقرئت الحصاد بكسر الحاء وهى لغة الحجازيين وبفتحها وهى لغة تميم وقيس، وقال تبارك وتعالى:{(وَقَطَّعْناهُمُ اِثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً)} وقرئت عشرة بتسكين الشين وهى لغة الحجازيين وقرئت بكسرها وهى إحدى لغات تميم فيها كما قدمنا.

وهناك لهجات كثيرة نسبت إلى بعض القبائل، فقد قالوا إن بنى مازن كانوا يبدلون من الباء ميما، فيقولون: باسمك بدلا من ما اسمك، ويقولون بكة بدلا من مكة والبوباة بدلا من الموماة وهى الفلاة، ويقال إن اطبأن بدلا من اطمأن لغة فى بنى أسد. ولا نعرف بالضبط أكان ذلك يشيع فى كل الكلمات الميمية أو أن ذلك كان خاصّا ببعض الكلمات. ويقال إن بعض بنى تميم كان ينطق أثاثى بدلا من أثفى جمع أثفية، ولعل كلمة تم بمعنى فم عند إخواننا الشاميين قد تطورت عن ثم. فقلبت الفاء فيها أولا ثاء ثم أصبحت مع الزمن تاء تخفيفا. ويقال إن بنى عبد القيس فى البحرين كانوا يقولون رنز بدلا من رز وأرز، كما كانوا يقولون إنجاص فى إجاص، ويقال إن بعض بنى تميم كانوا يقولون فى أفلت أفلط بالطاء، ويقال إن قريشا كانت تقول التابوت بينما كان الأنصار فى يثرب يقولون التابوه، ويروى عن بعض الطائيين أنهم كانوا يقلبون تاء الجمع المؤنث هاء فى الوقف فيقولون البناه والأخواه فى البنات والأخوات. ويقال إن بعض ربيعة كانوا يقولون دكر فى ذكر. على نحو ما نعرف فى عاميتنا، ويقال أيضا إن بعض التميميين كانوا يبدلون السين صادا فى مثل سوق وساق، وفى عاميتنا راص بمعنى رأس. وتتبادل الضاد والظاء فى كثير من الكلمات، ففى لغة تميم فاضت نفسه، وفى لغة الحجازيين

ص: 126

والقيسيين والطائيين فاظت نفسه بالظاء. ومن هذه اللهجات أن طيئا كانت تفتح الفعل اليائى فى مثل بقى ورضى فتقول بقى ورضى. وكانوا يقولون فى مثل توصية وجارية وناصية مما ياؤه مفتوحة توصاة وجاراة وناصاة. وأثر عن هذيل أنها كانت تستخدم متى حرف جر بمعنى من، وأنها كانت مثل كنانة والحجازيين تقول نعم بكسر العين بدلا من نعم وأنها كانت تكسر الباء فى ابن فتقول ابن، وأنها كانت تقول إشاح فى مثل وشاح، ومر بنا أنها كانت تقلب الحاء عينا فى مثل حتى، فتقول عتى، وأنها كانت تقول فى مثل أعطى أنطى، وكانت تقلب الألف ياء فى مثل عصاى وهواى وفتاى فتقول عصىّ وهوى وفتىّ وكانت تنطق مثل قال وباع إذا بنيا للمجهول قول وبوع بقلب الألف واوا، وكانت لا تشبع كسرة المنقوص بل تهمسها وتخطفها كما جاء فى بعض القراءات:{(وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ)} بدون ياء.

وقد عقد أحمد بن فارس فى كتابه «الصاحبى» فصلا حاول فيه أن يضبط اختلاف لهجات العرب، فقال: «اختلاف لغات العرب من وجوه: أحدها الاختلاف فى الحركات كقولنا نستعين بفتح النون وكسرها، قال الفراء هى مفتوحة فى لغة قريش وأسد، وغيرهم يقولونها بكسر النون. ووجه آخر: الاختلاف فى الحركة والسكون مثل قولهم معكم بفتح العين وتسكينها. ووجه آخر، هو الاختلاف فى إبدال الحروف نحو أولئك وأولالك. . ومنها قولهم أن زيدا وعنّ زيدا. ومن ذلك الاختلاف فى الهمز والتليين نحو مستهزئون ومستهزون. ومنها الاختلاف فى التقديم والتأخير نحو صاعقة (فى لغة الحجازيين) وصاقعة (فى لغة التميميين).

ومنها الاختلاف فى الحذف والإثبات نحو استحييت واستحيت وصددت وأصددت.

ومنها الاختلاف فى الحرف الصحيح يبدل حرفا معتلا نحو أما زيد وأيما زيد. ومنها الاختلاف فى الإمالة والتفخيم فى مثل قضى ورمى، فبعضهم يفخم وبعضهم يميل.

ومنها الاختلاف فى الحرف الساكن يستقبله مثله، فمنهم من يكسر الأول ومنهم من يضم فيقول:{(اِشْتَرَوُا الضَّلالَةَ)} و (اشترو الضلالة). ومنها الاختلاف فى التذكير والتأنيث فإن من العرب من يقول هذه البقر وهذه النخيل. ومنهم من يقول هذا البقر وهذا النخيل. ومنها الاختلاف فى الإدغام نحو مهتدون ومهدّون. ومنها الاختلاف فى الإعراب نحو ما زيد قائما وما زيد قائم، وإن هذين وإن هذان،

ص: 127

وهذان بالألف دائما لغة لبنى الحارث بن كعب. . ومنها الاختلاف فى صورة الجمع نحو أسرى وأسارى. ومنها الاختلاف فى التحقيق والاختلاس نحو يأمركم بضم الراء وتسكينها ونحو عفى له بتسكين الفاء وكسرها. ومنها الاختلاف فى الوقف على هاء التأنيث مثل هذه أمة وهذه أمت. ومنها الاختلاف فى الزيادة نحو أنظر وأنظور» وقال ابن فارس إنه «يقع فى الكلمة الواحدة لغتان كقولهم الحصاد والحصاد بكسر الحاء وفتحها، ويقع فى الكلمة ثلاث لغات نحو الزّجاج والزّجاج والزّجاج بضم الزاى وفتحها وكسرها، ويقع فى الكلمة أربع لغات. . . ويكون فيها خمس لغات نحو الشّمال والشّمل والشّمل والشّمأل والشّيمل. ويكون فيها ست لغات نحو قسطاس بضم القاف وكسرها وبإبدال السين صادا مع ضم القاف وقستاط وقسّاط وقسّاط.

ووراء هذه الاختلافات فى نطق الكلمات كان بينهم اختلاف كثير فى التعبير عن بعض المسميات مما نشأ عنه كثرة المترادفات فى العربية مثل الذهب والعسجد والغيث والمطر والقمح والبرّ، قال الجاحظ فى البيان والتبيين:«القمح لغة شامية والحنطة لغة كوفية والبر لغة حجازية» ويقول المفسرون فى تفسير قوله تبارك وتعالى: {(وَفُومِها)} الفوم هو الحنطة. وكما يكون الترادف فى الأسماء يكون فى الأفعال مثل تقاتلوا وتعاركوا وتحاربوا وتواقعوا وتخاصموا. وكثيرا ما ينشأ الترادف من اختلافات لهجاتهم فى حذف بعض الحروف أو إبدال بعضها ببعض مثل جدث وجدف بمعنى القبر ومثل تابوت وتابوه وثابوت ومثل ادكر واذكر وساط وشاط بمعنى اختلط، ومثل لثام ولفام فى لغة ومثل سجعت الحمامة وسجحت بالحاء ومثل حظوة وحظة فى لغة.

والترادف فى العربية كثير كثرة مفرطة، وهو يردّ فى جمهوره إلى اختلاف اللهجات واختلاف القبائل فيما وضعته للمعانى الحسية والذهنية من أسماء وأفعال، فإن اللغويين جمعوا كل ما دار على ألسنة القوم، وبذلك اتسعت مادة المعجم العربى اتساعا شديدا، وهو فى حقيقته معجم عدة لهجات، نظمت فى سلك واحد هو العربية، وحقّا ميّز اللغويون فى ماحثهم الشواذ والشوارد والنوادر والمنكر والمتروك وغير الفصيح وساقوا فى ذلك شواهد احتفظ السيوطى فى المزهر بكثير منها،

ص: 128

المعجم العربى اتساعا شديدا، وهو فى حقيقته معجم عدة لهجات، نظمت فى سلك واحد هو العربية، وحقا ميّز اللغويون فى مباحثهم الشواذ والشوارد والنوادر والمنكر والمتروك وغير الفصيح وساقوا فى ذلك شواهد احتفظ السيوطى فى المزهر بكثير منها، ولكنهم حين ألفوا المعاجم حشدوها فيها جميعا. وقد ذهبوا يحصون أسماء السيف مثلا ويقولون إنها خمسون، وبالمثل أحصوا أسماء الأسد والفرس والبعير، وأمدتهم الاختلافات اللغوية بين القبائل بمدد لا ينفد أو بعبارة أدق لا يكاد ينفد فى ذلك كله. ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن لغة من اللغات لا يمكن أن تجارى العربية فى هذا الباب باب الترادف، فهو باب واسع فيها، وقد أعدها ليشيع فيها أسلوب من التكرار الصوتى والترادف الموسيقى عند الجاحظ وأضرابه.

ومما يرجع أيضا إلى اللهجات الجاهلية وتباين التعبير فيها عن المسميات وتعدده باب الأضداد، إذ نجد كلمة واحدة تستعملها قبيلة بمعنى، ثم تشيع عند قبيلة ثانية لا بمعنى مغاير له فحسب، بل بمعنى مضاد يناقضه، مثل جلل بمعنى عظيم فإننا نجد المعاجم تنص على أنها تأتى بمعنى حقير، ومن ذلك الجون يوصف به الأسود والأبيض ويدل عليهما، ومثله البسل بمعنى الحلال والحرام. وعلى شاكلة التضاد فى الأسماء قد يكون التضاد فى الأفعال فتعبر عن معنيين متناقضين مثل رجا بمعنى رغب وخاف ومثل شرى بمعناها الذى نعرفه وهو اشترى وبمعنى باع الذى يضاده. وتكثر الأضداد لنفس السبب الذى كثرت من أجله المترادفات، وهو أنها ليست من استعمال قبيلة واحدة، وقد أفرد اللغويون لها بسبب كثرتها أبحاثا وكتبا مثل كتاب الأضداد لابن الأنبارى. ونحن إنما نقصد ما يتضح فيه التضاد مما مثلنا به، فإن اللغويين وسعوا مفهوم الضد، حتى شمل ما يكون بين استعمالين من فروق ضئيلة فى المعنى مثل ناء بمعنى حمل، وبمعنى حمل بمشقة، وأيضا فإنهم أدخلوا فى الأضداد ما نشأ عن المجاز والاستعارة، كاستخدام العرب كلمة السليم للملدوغ بأفعى تفاؤلا. فهذا ونحوه لا يعد من الأضداد بمفهومها اللغوى الدقيق، إنما الذى يعد من الأضداد مثل ما ذكرناه ومثل الرهوة بمعنى الارتفاع والانحدار ومثل الصريم بمعنى الليل والصبح والصارخ بمعنى المغيث والمستغيث والزبية للمكان المرتفع ولحفرة الأسد. ومرجع ذلك كما قلنا أنهم كانوا

ص: 129

فى الجزيرة متباعدين، فقد تطلق قبيلة كلمة على مسمى، ولا تسمع بها القبيلة البعيدة، فتضعها لمسمى يضاده ويكون ذلك اتفاقا ومحض صدفة، قال أبو عبيد فى باب الأضداد من كتابه الغريب المصنف: سمعت أبا زيد بن أوس الأنصارى يقول: «السّدفة فى لغة تميم الظلمة والسدفة فى لغة قيس الضوء. . ولمقت الشئ ألمقه لمقا إذا كتبته فى لغة بنى عقيل وسائر قيس يقولون لمقته بمعنى محوته (1)» . وعن ابن دريد: «خرج رجل من بنى كلاب أو من سائر بنى عامر بن صعصعة إلى ذى جدن (من أقيال حمير) فأطلع إلى سطح، والملك عليه، فلما رآه الملك اختبره، فقال له: ثب أى اقعد، فقال: ليعلم الملك أنى سامع مطيع، ثم وثب من السطح. قال الملك: ما شأنه؟ فقالوا له: أبيت اللعن! إن الوثب فى كلام نزار الطفر (القفز) فقال الملك: ليست عربيتنا كعربيتهم (2)» . ولم يكن هذا التضاد بين لغة نزار الفصحى ولغة الجنوبيين الحميرية فحسب، بل كان أيضا فى كثير من الكلمات التى كانت تدور على ألسنة القبائل الشمالية لتباعد أوطانها.

ولا نريد أن نمضى فى تصوير الاختلافات بين لهجات القبائل فى الجاهلية، أكثر من ذلك، لسبب طبيعى وهو أننا لا نستطيع أن نستوعبها فى صحف معدودة، إنما أردنا أن نكشف عن بعض جوانبها ليتضح أنه كانت فى الجاهلية لهجات كثيرة، سجل منها اللغويون أطرافا، ومن غير شك لم يسجلوها جميعا لأنها لم تكن تعنيهم فى حد ذاتها، إنما كان يعنيهم التنبيه على ما يخالف الفصحى التى نظم بها الشعر الجاهلى ونزل بها القرآن الشريف، ومن أجل ذلك لم ينصّوا فى أكثر الأحوال على القبيلة التى كانت تنطق باللهجة الشاذة، وأيضا فإنهم مع نصهم أحيانا على القبيلة لا نستطيع أن نتبين كما قدمنا هل كل أفرادها كانوا يصطنعون تلك اللهجة أو أن ذلك كان خاصا ببعض عشائرها أو ببعض أفرادها. ولعل فى هذا كله ما يوضح صعوبة دراسة اللهجات الجاهلية، فعلى الرغم من مادتها الوفيرة التى جمعها اللغويون تظل غير واضحة ويظل المجال واسعا فيها للظن والتخمين، وخاصة حين نحاول أن نضع حدودا للهجة قبيلة بعينها كلهجة تميم أو لهجة هذيل. ونفس القدماء اضطربوا فى نسبة كثير مما نسبوه إلى القبائل، فتارة يجعلونه لتميم أو لعشيرة تميمية

(1) المزهر 1/ 389.

(2)

المزهر 1/ 396.

ص: 130