المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌2 - رواة محترفون - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ١

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدّمة

- ‌تمهيد

- ‌1 - كلمة أدب

- ‌2 - تاريخ الأدب

- ‌3 - تقسيمات تاريخ الأدب العربى وعصوره

- ‌الفصل الأولالجزيرة العربية وتاريخها القديم

- ‌1 - صفة الجزيرة العربية

- ‌2 - الساميون

- ‌3 - العرب الجنوبيون

- ‌4 - العرب الشماليون

- ‌5 - النقوش ونشأة الكتابة العربية

- ‌الفصل الثانىالعصر الجاهلى

- ‌1 - تحديد العصر

- ‌2 - الإمارات العربية فى الشمال (الغساسنة-المناذرة-كندة)

- ‌3 - مكة وغيرها من مدن الحجاز

- ‌4 - القبائل البدوية

- ‌5 - حروب وأيام مستمرة

- ‌الفصل الثالثالحياة الجاهلية

- ‌1 - الأحوال الاجتماعية

- ‌2 - المعيشة

- ‌3 - المعارف

- ‌4 - الدين

- ‌5 - اليهودية والنصرانية

- ‌الفصل الرابعاللغة العربية

- ‌1 - عناصر سامية مغرقة فى القدم

- ‌2 - لهجات عربية قديمة

- ‌3 - نشوء الفصحى

- ‌4 - لهجات جاهلية

- ‌5 - سيادة اللهجة القرشية

- ‌الفصل الخامسرواية الشعر الجاهلى وتدوينه

- ‌1 - رواية العرب للشعر الجاهلى

- ‌2 - رواة محترفون

- ‌3 - التدوين

- ‌4 - قضية الانتحال

- ‌5 - أهم مصادر الشعر الجاهلى

- ‌الفصل السادسخصائص الشعر الجاهلى

- ‌1 - نشأة الشعر الجاهلى وتفاوته فى القبائل

- ‌2 - الشعر الجاهلى شعر غنائى

- ‌3 - الموضوعات

- ‌4 - الخصائص المعنوية

- ‌5 - الخصائص اللفظية

- ‌الفصل السابعامرؤ القيس

- ‌1 - قبيلته وأسرته

- ‌2 - حياته

- ‌3 - ديوانه

- ‌4 - شعره

- ‌الفصل الثامنالنابغة الذبيانى

- ‌1 - قبيلته

- ‌2 - حياته

- ‌3 - ديوانه

- ‌4 - شعره

- ‌الفصل التاسعزهير بن أبى سلمى

- ‌1 - قبيلته

- ‌2 - حياته

- ‌3 - ديوانه

- ‌4 - شعره

- ‌الفصل العاشرالأعشى

- ‌1 - قبيلته

- ‌2 - حياته

- ‌3 - ديوانه

- ‌4 - شعره

- ‌الفصل الحادى عشرطوائف من الشعراء

- ‌1 - الفرسان

- ‌2 - الصعاليك

- ‌3 - شعراء آخرون

- ‌الفصل الثانى عشرالنثر الجاهلى

- ‌1 - صور النثر الجاهلى

- ‌2 - الأمثال

- ‌3 - الخطابة

- ‌4 - سجع الكهان

- ‌خاتمة

- ‌1 - خلاصة

- ‌2 - تعليق

الفصل: ‌2 - رواة محترفون

ولعل فى كل ما قدمنا ما يدل أوضح الدلالة على أن رواة لا يحصيهم العد حملوا الشعر الجاهلى إلى عصور التدوين، فقد حافظت القبائل عليه كما حافظ كثير من الأفراد وخاصة الشعراء والرواة، وبذلك أسلموه للأجيال التالية، وإن كان قد شابه شئ من الانتحال والوضع على نحو ما سنعرض لذلك فى غير هذا الموضع، ومن غير شك سقط منه كثير فى أثناء اجتيازه هذا الطريق الزمنى الطويل، يقول ابن سلام:«لما كثر الإسلام وجاءت الفتوح واطمأنت العرب بالأمصار راجعوا رواية الشعر، فلم يؤولوا إلى ديوان مدون ولا كتاب مكتوب، وألفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل، فحفظوا أقل ذلك وذهب عليهم منه كثير (1)» .

‌2 - رواة محترفون

ونحن لا نصل إلى نهاية العصر الإسلامى ومطلع العصر العباسى حتى تنشأ طبقة من الرواة المحترفين الذين يتخذون رواية الشعر الجاهلى عملا أساسيا لهم، وتختلط فى هذه الطبقة أسماء عرب وموال، وأسماء قرّاء للقرآن الكريم وغير قراء، وهم جميعا حضريون، عاشوا غالبا فى البصرة والكوفة. ولم يكونوا يقفون عند رواية الشعر القديم مجردة، بل كانوا يضيفون إليها كثيرا من الأخبار عن الجاهلية وأيامها، وكانوا يتخذون لأنفسهم حلقات فى المسجد الجامع يحاضرون فيها الطلاب وفى أثناء ذلك يشرحون لهم بعض الألفاظ الغريبة، أو يفسرون لهم ظروف النص التاريخية.

وأهم هؤلاء الرواة أبو عمرو بن العلاء وحماد الراوية وخلف الأحمر ومحمد ابن السائب الكلبى والمفضل الضبى، وقد استقوا روايتهم من القبائل والأعراب البدو. وكان بعضهم يرحل إلى نجد أحيانا ليستقى الأشعار والأخبار الجاهلية من ينابيعها الصحيحة، وكان بين البدو أنفسهم من هاجر إلى الكوفة والبصرة حيث هؤلاء الرواة العلماء ليمدهم بما يريدون. وقد أظهروا فى عملهم مهارة منقطعة النظير، إذ تحولوا يجمعون المادة الجاهلية جميعها. وكان من أهم الأسباب فى ذلك تفسير

(1) ابن سلام ص 22.

ص: 148

ألفاظ القرآن الكريم، فقد جرت عادة المفسرين منذ ابن عباس على الاستشهاد بالشعر الجاهلى فى شرح ألفاظ الذكر الحكيم، وأيضا فقد انبرت جماعات تحاول وضع قواعد العربية وجمع ألفاظها، واعتمدت فى ذلك اعتمادا شديدا على الشعر الجاهلى فهو مادة اللغة ومادة قواعدها وقوانينها التى ينبغى أن تتبع. على أن هاتين الغايتين سرعان ما انفصلتا عن عمل الرواة، وأصبحوا يقصدون لجمع هذا الشعر فى ذاته ومن أجل نفسه، وقد حملته إليهم الموجة الحادة من روايته فى أثناء العصر الإسلامى، ومن المهم أن نعرف أنهم قلما يذكرون من حملوا عنهم هذا الشعر، فهم يغفلون أسانيدهم إلا قليلا (1).

ولا نكاد نمضى فى العصر العباسى حتى يكوّن هؤلاء الرواة مدرستين متقابلتين:

مدرسة فى الكوفة ومدرسة فى البصرة، وعرف الأولون بأنهم لا يتشددون فى روايتهم تشدد الأخيرين، ومن ثم تضخمت رواياتهم ودخلها موضوع ومنتحل كثير، ولعل من الطريف أن نعرف أن الكوفة عرفت فى الحديث النبوى بالوضع والانتحال أيضا حتى كان مالك بن أنس يسميها دار الضرب يريد أنها تضرب الأحاديث وتصنعها كما تضرب الدراهم والدنانير وتصنع. يقول أبو الطيب اللغوى:«والشعر بالكوفة أكثر وأجمع منه بالبصرة، ولكن أكثره مصنوع ومنسوب إلى من لم يقله وذلك بين فى دواوينهم (2)» . وندد بهم البصريون كثيرا، وبادلهم الكوفيون نفس التنديد، فكان كل منهما يشكّك فى الآخر (3)، ولكن إذا صفينا هذه التشكيكات والتنديدات اتضح لنا أن رواية البصرة فى جملتها أوثق من رواية الكوفة. وليس معنى ذلك أن رواة الكوفة فى الجملة كانوا متهمين بخلاف رواة البصرة، فبين الطرفين جميعا متهمون، وموثّقون أحاطوا روايتهم بسياج من الأمانة والدقة والتحرى.

وربما كان السبب الحقيقى فى تقدم البصرة على الكوفة فى الرواية أن رأس رواتها وهو أبو عمرو بن العلاء كان أمينا، بينما كان رأس رواة الكوفة حمادا، وكان متهما كثير الوضع، لا يوثق بما يرويه. وكان أبو عمرو من مؤسسى المدرسة النحوية فى البصرة، وأحد القراء السبعة الذين أخذت عنهم تلاوة الذكر الحكيم، ولد سنة 70 للهجرة، وتوفى سنة 154 وقيل سنة 159 «وكان أعلم الناس بالغريب

(1) انظر مصادر الشعر الجاهلى ص 255 وما بعدها.

(2)

مراتب النحويين ص 74.

(3)

مصادر الشعر الجاهلى ص 434 وما بعدها

ص: 149

والعربية وبالقرآن والشعر وبأيام العرب وأيام الناس وكانت كتبه التى كتبها عن العرب الفصحاء قد ملأت بيتا له إلى قريب من السقف. . ثم إنه تقرّأ أى تنسك فأحرقها (1)» وهو إحراق لا يغير من الأمر شيئا فإن ما رواه حمله عنه تلاميذه البصريون، وكان إمامهم وقدوتهم. ويحكى عنه أنه قال: «ما زدت فى شعر العرب إلا بيتا واحدا، يعنى ما يروى للأعشى من قوله:

وأنكرتنى وما كان الذى نكرت

من الحوادث إلا الشّيب والصّلعا (2)»

وحاول بعض الباحثين التشكيك فى روايته لهذا الاعتراف (3)، وهو اعتراف يوتق روايته ويزيدها قوة، وفى سيرته ما يدل دلالة قاطعة بأنه كان ثقة؛ فقد كان تقيا صالحا، وكان أحد الأعلام الذين أخذت عنهم تلاوة القرآن الكريم. أما حماد رأس رواة الكوفة فكان من الموالى، ولد سنة 95 للهجرة، وتوفى سنة 156 وقيل بل سنة 164 ويقال إنه:«كان فى أول أمره يتشطر ويصحب الصعاليك واللصوص، فنقب ليلة على رجل، فأخذ ماله، وكان فيه جزء من شعر الأنصار، فقرأه حماد، فاستحلاه وتحفظه، ثم طلب الأدب والشعر وأيام الناس ولغات العرب بعد ذلك وترك ما كان عليه، فبلغ فى العلم ما بلغ (4)» وربما كان مما يصور هذا العلم ومداه ما يروى عن مروان بن أبى حفصة من قوله: «دخلت أنا وطريح بن إسماعيل الثقفى والحسين بن مطير الأسدى فى جماعة من الشعراء على الوليد ابن يزيد (125 - 126 هـ) وهو فى فرش قد غاب فيها، وإذا رجل عنده كلما أنشد شاعر شعرا وقف الوليد بن يزيد على بيت بيت من شعره وقال: هذا أخذه من موضع كذا وكذا، وهذا المعنى نقله من موضع كذا وكذا من شعر فلان، حتى أتى على أكثر الشعراء، فقلت: من هذا؟ فقالوا حماد الراوية (5)» ويروى عن الهيثم بن عدى أنه كان يقول: «ما رأيت رجلا أعلم بكلام العرب من حماد (6)» وهذه المعرفة الواسعة بكلام العرب وأشعارها وأخبارها وأنسابها وأيامها جعلتهم يطلقون

(1) انظر البيان والتبيين 1/ 321.

(2)

الأغانى (طبعة دار الكتب) 3/ 143

(3)

انظر مقالة مرجليوث of Arabic Foetry The Origins فى صحيفة الجمعية الآسيوية الملكية عدد يولية سنة 1925 ص 429 وتاريخ الأدب العربى لبلاشير 1/ 111.

(4)

الأغانى 6/ 87.

(5)

الأغانى 6/ 71.

(6)

انظر ترجمته فى معجم الأدباء لياقوت 10/ 265.

ص: 150

اسم الراوية علما عليه، ويروى أن الوليد بن يزيد سأله بم استحققت هذا اللقب فقيل لك الراوية؟ فقال:«بأنى أروى لكل شاعر تعرفه يا أمير المؤمنين أو سمعت به، ثم أروى لأكثر منهم ممن تعرف أنك لم تعرفه ولم تسمع به، ثم لا أنشد شعرا قديما ولا محدثا إلا ميزت القديم منه من المحدث، فقال الوليد: إن هذا العلم وأبيك كثير، فكم مقدار ما تحفظ من الشعر؟ قال كثيرا، ولكنى أنشدك على كل حرف من حروف المعجم مئة قصيدة كبيرة سوى المقطعات من شعر الجاهلية دون شعر الإسلام، قال: سأمتحنك فى هذا، وأمره بالإنشاد، فأنشد الوليد حتى ضجر، ثم وكّل به من استحلفه أن يصدقه عنه، ويستوفى عليه، فأنشده ألفين وتسعمائة قصيدة للجاهليين، وأخبر الوليد بذلك، فأمر له بمئة ألف درهم (1)» وقد يكون فى هذا الخبر ضرب من المبالغة، غير أنه يصور مدى ما استقر فى أذهان معاصريه عن معرفته وروايته للشعر الجاهلى.

ومن سوء حظ الكوفة أن كان هذا الراوية البارع فاسد المروءة فاسقا ماجنا زنديقا (2)، وكان شاعرا يحسن صوغ الشعر وحوكه (3) فكان ينظم على لسان الجاهليين ما لم ينطقوا به، وكثر منه ذلك حتى عرف به واشتهر، يقول الأصمعى: جالسته فلم أجد عنده ثلاثمائة حرف ولم أرض روايته، ويقال إنه مدح بلال بن أبى بردة المتوفى بعد سنة 126 بقصيدة، وكان ذو الرمة حاضرا، فقال له: إنها ليست لك، وسرعان ما اعترف بأنها جاهلية (4) ويقال إنه قدم عليه مرة، فقال له: ما أطرفتنى شيئا؟ فعاد إليه فأنشده القصيدة التى فى شعر الحطيئة بمديح أبى موسى الأشعرى (جد بلال) فقال بلال: ويحك يمدح الحطيئة أبا موسى ولا أعلم به وأنا أروى شعر الحطيئة! ولكن دعها تذهب فى الناس (5)، وقصته فى مجلس أمير المؤمنين المهدى مع المفضل الضبى مشهورة، فقد زاد ثلاثة أبيات فى مطلع قصيدة زهير:(دع ذا وعد القول فى هرم) فأنكرها المفضل ولما سأله عنها المهدى بكل يمين محرجة

(1) الأغانى 6/ 71 ومعجم الأدباء 10/ 259

(2)

الحيوان 4/ 447 والأغانى 6/ 74 وأمالى المرتضى 1/ 131 ولسان الميزان 2/ 353 3/ 173.

(3)

المزهر 2/ 406 حيث يذكر أن الأصمعى روى شيئا من شعره وانظر الأغانى 5/ 209 حيث يروى له أبياتا محكمة الصنعة.

(4)

الأغانى 6/ 88.

(5)

طبقات فحول الشعراء ص 40 - 41 وحاول ناصر الدين الأسد أن يصحح نسبة القصيدة للحطيئة لرواية المدائنى ورواة ديوان الحطيئة لها، ولكن ذلك لا يكفى لصحة نسبها.

ص: 151

اعترف بأنه أضافها من عنده، فأمر المهدى أن ينادى فى الناس بإبطال روايته لكذبه وبصحة رواية المفضل مواطنه (1). وحاول بعض الباحثين التشكيك فى القصة (2)، لأن المهدى ولى سنة 158 بعد وفاة حماد، ولكن هناك من تأخروا بوفاته إلى سنة 164 كما قدمنا، وربما أخطأ الرواة فى تعيين الزمن والمكان، إذ ذكروا أن القصة حدثت فى قصر عيساباذ الذى بناه المهدى فى سنة 164 بينما أرخوا لها بسنة 158. وحتى على فرض بطلان هذه القصة فإن هذا البطلان لا يدفع التهمة عن حماد، كما لا يدفعها ما يذكره بعض هؤلاء الباحثين من أن اتهامه الواسع قد يرجع إلى المنافسة بين البصرة والكوفة، فسيرته كانت سيرة شخص سيئ السيرة خلقيا ودينيا، وما كان ابن سلام البصرى ليقول فيه: «كان أول من جمع أشعار العرب وساق أحاديثها حماد الراوية، وكان غير موثوق به: كان ينحل شعر الرجل غيره، وينحله غير شعره ويزيد فى الأشعار (3)» بعامل المنافسة العصبية. ونفس البصريين الذين اتهموه وثقوا رواية مواطنه ومعاصره المفضّل الضبى. فليست المسألة مسألة منافسة بين بلدين، وإنما هى حقيقة واقعة ونفس الرواة الأثبات من بلدته كانوا يشركون البصريين فى نفس التهمة، فابن الأعرابى الكوفى يروى عن المفضل أنه قال:«قد سلّط على الشعر من حماد الراوية ما أفسده، فلا يصلح أبدا، فقيل له وكيف ذلك؟ أيخطئ فى روايته أم يلحن؟ قال: ليته كان كذلك، فإن أهل العلم يردون من أخطأ إلى الصواب، لا، ولكنه رجل عالم لغات العرب وأشعارها ومذاهب الشعراء ومعانيهم، فلا يزال يقول الشعر يشبه به مذهب رجل ويدخله فى شعره ويحمل ذلك عنه فى الآفاق فتختلط أشعار القدماء لا يتميز الصحيح منها إلا عند عالم ناقد وأين ذلك (4)؟ » .

فالتهمة لم تكن بصرية خالصة، بل كانت بصرية كوفية، وربما بالغ بعض البصريين فقال عنه إنه كان يلحن ويكسر الشعر ويصحف ويكذب (5)، ولكن

(1) الأغانى 6/ 89 وما بعدها.

(2)

انظر مقدمة لايل المفضليات ص 18 ما بعدها ومقالة برينلش فى مجلة O .L .Z . عدد 1926 ص 829 وما بعدها ومصادر الشعر الجاهلى ص 442.

(3)

ابن سلام ص 40.

(4)

الأغانى 6/ 89 ومعجم الأدباء 10/ 265

(5)

الأغانى 6/ 89 وانظر 8/ 283.

ص: 152

بعد تجريد التهمة من مبالغاتها تظل عالقة به. ولذلك ينبغى أن لا نقبل شيئا مما يروى دون أن يأتينا عن الرواة الثقات، وكذلك ينبغى أن نتشكك فيما يرويه تلاميذه مثل ابن كناسة المتوفى سنة 207 وخلف الأحمر راوية البصرة المشهور إذ كان قد أكثر الأخذ عنه (1)، ويروى أنه كان يعطى حمادا المنحول فيقبله منه ويرويه (2).

ومن رواة الكوفة الذين عاصروا حمادا واشتهروا بالوضع برزخ العروضى وكان من أكذب الناس فى الرواية (3) ومثله جنّاد وكان يخلط فى الأشعار ويصحف ويلحن (4). وإذا كانت الكوفة أصيبت بمثل هؤلاء الرواة الوضاعين الذين ينحدرون من أصول غير عربية فقد كان من ورائهم رواة ثقات على رأسهم المفضل بن محمد ابن يعلى الضبى المتوفى حوالى سنة 170 للهجرة وكان عالما علما دقيقا بأشعار الجاهلية وأخبارها وأيامها وأنساب العرب وأصولها، ويجمع الرواة كوفيين وبصريين على توثيقه، وقد خلف مجموعة كبيرة من أشعار الجاهليين هى الملقبة بلقب المفضليات، وهى أروع ما بأيدينا من نصوص الشعر الجاهلى ووثائقه التى لا يرقى إليها الشك.

وإذا ولينا وجوهنا نحو البصرة فى الحقبة التى تلت أبا عمرو بن العلاء وجدنا بها خلفا الأحمر الذى تسدّد إليه سهام الاتهام، ولم يكن يقل عن حماد فى معرفته بأشعار العرب وأخبارها، بل لعله يتقدمه، إذ كان شاعرا مبرّزا، وكان بصيرا بالشعر، وأصل أبويه من فرغانة فهو من الموالى، ولد سنة 115 للهجرة وتوفى حوالى سنة 180 وفيه يقول ابن سلام:«اجتمع أصحابنا أنه كان أفرس الناس ببيت شعر وأصدقهم لسانا، وكنا لا نبالى إذا أخذنا عنه خبرا أو أنشدنا شعرا ألا نسمعه من صاحبه (5)» غير أن شهادة ابن سلام له لا تعفيه من التهمة الشديدة التى سلّطت على روايته، وقد شهد هو نفسه بها إذ زعم كما قدمنا أنه كان يعطى حمادا المنحول من الشعر ويزيفه عليه فيرويه، ويقال إنه هو الذى وضع اللامية المنسوبة إلى الشّنفرى (6):

(1) مراتب النحويين 47، 72.

(2)

الأغانى 6/ 92.

(3)

إنباه الرواة 1/ 367 والفهرست (طبعة دار) ص 107.

(4)

انظر ترجمته فى معجم الأدباء لياقوت وراجع الفهرست ص 135.

(5)

ابن سلام ص 21.

(6)

الأمالى 1/ 156.

ص: 153

أقيموا بنى أمّى صدور مطيّكم

فإنى إلى قوم سواكم لأميل

كما وضع اللامية الأخرى المنسوبة إلى تأبّط شرّا أو إلى ابن أخته (1):

إن بالشّعب الذى دون سلع

لقتيلا دمه ما يطلّ

وتصدّى له الأصمعى مرارا يتهمه بالوضع والنحل، فقال إنه «وضع على شعراء عبد القيس شعرا موضوعا كثيرا، وعلى غيرهم، عبثا بهم، فأخذ ذلك عنه أهل البصرة وأهل الكوفة (2)» وعرض مرة لرواة الكوفة يصفهم بأنهم يقبلون كل ما يرد عليهم، فقال:«رواة غير منقّحين، أنشدونى أربعين قصيدة لأبى دؤاد الإيادى قالها خلف الأحمر، وهم قوم تعجبهم كثرة الرواية، إليها يرجعون وبها يفتخرون (3)» .

ويظهر أن البصريين كانوا يتحامون روايته، بينما كان يحملها الكوفيون رواة حماد وأضرابه، يقول المبرد فيه موضحا ذلك:«لم ير أحد قط أعلم بالشعر والشعراء منه، وكان به يضرب المثل فى عمل الشعر، وكان يعمل على ألسنة الناس، فيشبّه كل شعر يقوله بشعر الذى يضعه عليه. ثم نسك فكان يختم القرآن فى كل يوم وليلة، وبذل له بعض الملوك ما لا عظيما خطيرا على أن يتكلم فى بيت شعر شكوا فيه، فأبى ذلك وقال: قد مضى لى فى هذا ما لا أحتاج إلى أن أزيد فيه. وعليه قرأ أهل الكوفة أشعارهم، وكانوا يقصدونه لما مات حماد الراوية لأنه كان قد أكثر الأخذ عنه، وبلغ مبلغا لم يقاربه حماد. فلما تقرّأ ونسك خرج إلى أهل الكوفة فعرّفهم الأشعار التى قد أدخلها فى أشعار الناس، فقالوا له: أنت كنت عندنا فى ذلك الوقت أوثق منك الساعة، فبقى ذلك فى دواوينهم إلى اليوم (4)» .

وواضح من ذلك أن الكوفة هى التى حملت رواية خلف بالإضافة إلى رواية حماد، أما البصرة فقد حمل بعض الرواة روايته، ولكن الكثرة وعلى رأسها الأصمعى رفضتها. والأصمعى يقوم فى البصرة مقام المفضل الضبى فى الكوفة، وقد أشاد معاصروه ومن تلاهم بسعة علمه بالجاهلية

(1) انظر العقد الفريد 6/ 157 والحيوان 1/ 182 وانظر مصادر الشعر الجاهلى ص 458 وما بعدها.

(2)

مراتب النحويين ص 47.

(3)

الموشح المرزبانى ص 251 وما بعدها

(4)

مراتب النحويين ص 47.

ص: 154

وأشعارها وأخبارها، ووثقوه وعدّلوه، وإن كان ذلك لم يمنع بعض منافسيه من النّيل منه، ولكنه نيل مردود، فقد كان فى الذروة من الثقة والأمانة، وهو عربى صليبة، ولد حوالى سنة 122 للهجرة وتوفى سنة 215 وقيل سنة 216، أو 217، وفيه يقول ابن جنّى:«وهذا الأصمعى هو صنّاجة الرواة والنقلة، وإليه محط الأعباء والثقلة. . . كانت مشيخة القراء وأماثلهم تحضره وهو حدث لأخذ قراءة نافع عنه، ومعلوم كم قدر ما حذف من اللغة فلم يثبته، لأنه لم يقو عنده إذ لم يسمعه، وإما إسفاف من لا علم له وقول من لا مسكة به إن الأصمعى كان يزيد فى كلام العرب ويفعل كذا ويقول كذا فكلام معفوّ عنه غير معبوء به (1)» ويقول أبو الطيب اللغوى: «فأما ما يحكيه العوام وسقّاط الناس من نوادر الأعراب ويقولون: هذا مما افتعله الأصمعى. . وأنى يكون الأصمعى كما زعموا وهو لا يفتى إلا فيما أجمع عليه العلماء ويقف عما ينفردون به عنه، ولا يجوّز إلا أفصح اللغات ويلجّ فى دفع ما سواه (2)» . وله مجموعة مشهورة من الشعر القديم هى الأصمعيات وهى كالمفضليات ثقة ودقة، ورويت عنه دواوين كثيرة أشهرها الدواوين الستة: دواوين امرئ القيس والنابغة وزهير وطرفة وعنترة وعلقمة بن عبدة الفحل.

وكان يعاصره عالمان كبيران هما أبو زيد وأبو عبيدة، وكان أبو زيد يعنى بجمع اللهجات واللغات الشاذة وتوفى وقد قارب المائة، سنة 214 أو 215، وهو عربى أنصارى خزرجى، أما أبو عبيدة معمر بن المثنى فولد حوالى سنة 110 وتوفى حوالى سنة 211 وهو من الموالى وكانت فيه نزعة شعوبية صارخة، ولكن الرواة وثقوه (3) وينبغى أن لا نتبعهم فى توثيقه وأن نقدم عليه الأصمعى وأبا زيد، وكان يهتم بالأنساب والأيام، وشرح نقائض جرير والفرزدق شرحه المشهور.

وكان بجانب هؤلاء الذين تحدثنا عنهم رواة يختلفون ثقة وتجريحا مثل الهيثم ابن عدى المتوفى سنة 206 وكان يهتم بالأخبار التاريخية وتشوب التهمة روايته، وأكثر منه تهمة فى هذا الباب محمد بن السائب الكلبى المتوفى سنة 146 للهجرة وابنه هشام المتوفى سنة 204 وهما من كبار الوضاعين ويروى عن هشام أنه كان يقول، «كنت

(1) الخصائص 3/ 311.

(2)

مراتب النحويين ص 49.

(3)

إنباه الرواة 3/ 280.

ص: 155

أستخرج أخبار العرب وأنسابهم وأنساب آل نصر بن ربيعة «المناذرة» ومبالغ أعمار من ولى منهم لآل كسرى وتاريخ نسبهم من كتبهم بالحيرة (1)». ويعظم فى سلك هؤلاء المؤرخين الواقدى والمدائنى.

وخلف بعد من قدّمنا تلاميذهم من رواة القرن الثالث، وعلى رأسهم أبو عمرو الشيبانى المتوفى سنة 213 وابن الأعرابى المتوفى سنة 231 هـ الكوفيان وكان وراءهما كثير من الرواة فى بلدتهم مثل محمد بن حبيب وابن السكيت المتوفى حوالى سنة 244 وثعلب المتوفى سنة 291. وانتهت الرواية فى البصرة إلى أبى سعيد الحسن بن الحسين السكرى المتوفى سنة 275 وإليه يرجع الفضل فى جمع كثير من الدواوين الجاهلية، وهو يجمع بين الروايتين البصرية والكوفية.

ويتضح من كل ما أسلفنا أن رواية الشعر الجاهلى أحيطت بكثير من التحقيق والتمحيص، وأنه إن كان هناك رواة متهمون، فقد كان لهم العلماء الأثبات بالمرصاد أمثال المفضل الكوفى والأصمعى البصرى، وما مثل الشعر الجاهلى فى ذلك إلا مثل الحديث النبوى، فقد دخله هو الآخر وضع كثير، ولكن العلماء استطاعوا تمييز صحيحه من زائفه. وقدموا لنا كتب الصحيح الستة المشهورة، وكذلك الشأن فى الشعر فقد دخله فساد كثير، ولكن أصحابه الأثبات استطاعوا-فى مهارة بالغة- أن يميزوا صحيحه من زائفه، غير تاركين منفذا فى ذلك سواء فى سند الرواة أو فى المتن نفسه، بل إن ابن سلام ليقدمهم على علماء الحديث فى هذا الباب، يقول:

«حدثنى يحيى بن سعد القطّان قال: رواة الشعر أعقل من رواة الحديث، لأن رواة الحديث يروون مصنوعا كثيرا، ورواة الشعر ساعة ينشدون المصنوع ينتقدونه ويقولون هذا مصنوع (2)» .

فينبغى أن لا نتخذ من كثرة الاتهامات فى بيئة الرواية اللغوية مزلقا إلى الطعن فى الشعر الجاهلى عامة، إنما نطعن على ما طعن الرواة الثقات فيه حقا، ونضيف إليه ما يهدينا بحثنا الحديث إلى تزييفه. أما بعد ذلك فتبقى عامة ما رواه أثباتهم كالمفضل والأصمعى صحيحة، وكانا يتحريان تحريا شديدا.

(1) تاريخ الطبرى (طبعة ليدن) القسم الأول ص 770.

(2)

ذيل الأمالى ص 105.

ص: 156

فلنهمل إذن من الشعر الجاهلى ما جاءنا منه عن أمثال حماد وخلف الأحمر وكذلك ما جاءنا منه عن طريق أصحاب الأخبار المتزيدين أمتثال عبيد بن شريّة ومحمد بن السائب الكلبى وابنه هشام وما وضعه القصاص عن العرب البائدة، وأيضا ينبغى أن نهمل ما اختلف فيه الرواة، أما ما اتفقوا عليه أو جاءنا عن أثباتهم فينبغى أن نقبله. وكانوا يأخذون بهذا القياس، يقول ابن سلام:«وليس لأحد- إذا أجمع أهل العلم والرواية الصحيحة على إبطال شئ منه (من الشعر) -أن يقبل من صحيفة ولا يروى عن صحفى (1)» ويقول: «قد اختلفت العلماء فى بعض الشعر كما اختلفت فى بعض الأشياء، أما ما اتفقوا عليه فليس لأحد أن يخرج منه (2)» . واحتفظ ابن سلام فى طبقاته بمادة وفيرة من نقد البصرة للرواية والرواة، فهو تارة يعد للشاعر القصائد الصحيحة النسبة إليه، وتارة يقف عند بيت أو أبيات بعينها تنسب لشاعر من الشعراء الجاهليين وينص على أنها منتحلة، فمن الضرب الأول قوله عن طرفة وعبيد بن الأبرص:«ومما يدل على ذهاب الشعر وسقوطه قلة ما بقى بأيدى الرواة المصححين لطرفة وعبيد بن الأبرص اللذين صحّ لهما قصائد بقدر عشر. . ونرى أن غيرهما قد سقط من كلامه كلام كثير، غير أن الذى نالهما من ذلك أكثر، وكانا (من) أقدم الفحول فلعل ذلك لذاك، فلما قل كلامهما حمل عليهما حمل كثير (3)» ثم عاد فوسع الشك فى شعر عبيد فقال فيه: «قديم الذكر عظيم الشهرة، وشعره مضطرب ذاهب، لا أعرف له إلا قوله:

أقفر من أهله ملحوب

فالقطبيّات فالذّنوب

ولا أدرى ما بعد ذلك (4)». . ومن الضرب الثانى إنكاره أن يكون النابغة هو الذى قال:

فألقيت الأمانة لم تخنها

كذلك كان نوح لا يخون

وقد عقب على إنكاره بأن أهل العلم أجمعوا على أن النابغة لم يقل هذا (5)،

(1) طبقات فحول الشعراء ص 6.

(2)

نفس المصدر والصفحة.

(3)

ابن سلام ص 23.

(4)

ابن سلام ص 116.

(5)

ابن سلام ص 49 وما بعدها.

ص: 157