الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 - تاريخ الأدب
واضح الآن أن تاريخ الأدب لأمة من الأمم إما أن يلتزم فيه المؤرخ المعنى العام لكلمة أدب، فيؤرخ للحياة العقلية والشعورية فى الأمة تاريخا عامّا، وإما أن يلتزم المعنى الخاص، فيؤرخ للشعراء والكتّاب تاريخا خاصّا بالأدب ونشأته وتطوره وأهم أعلامه، ولعل أهم من أرخوا لأدبنا بالمعنى الأول بروكلمان فى كتابه «تاريخ الأدب العربى» ، ونسج على منواله جرجى زيدان فى كتابه المسمى بتاريخ آداب اللغة العربية. ونراهما يعرضان لتاريخ الحياة الأدبية والعقلية عند العرب فى نشأتها وتطورها مع الترجمة للفلاسفة والعلماء من كل صنف والشعراء والكتاب من كل نوع. ومن غير شك يتقدم بروكلمان جرجى زيدان فى هذا الصدد بسبب المادة الغنية التى يحتويها كتابه، فقد أحصى إحصاء دقيقا أدباء العرب وعلماءهم وفلاسفتهم مع ذكر آثارهم المطبوعة والمخطوطة وما كتب عنهم قديما وحديثا، مبينا مناهجهم ومكانتهم فى الفن أو العلم الذى حذقوه، مع نبذة عن كل فن وعلم ومدى ما حدث له من تطور ورقى.
ومؤرخ الأدب العربى إما أن ينهج هذا النهج الواسع. وإما أن ينهج النهج الثانى الذى أشرنا إليه، فيقف بتاريخه عند الشعراء والكتاب مفصّلا الحديث فى شخصياتهم الأدبية وما أثر فيها من مؤثرات اجتماعية واقتصادية ودينية وسياسية، ومتوسعا فى بيان الاتجاهات والمذاهب الأدبية التى شاعت فى كل عصر. ومن المحقق أن المؤرخ للأدب العربى بمعناه الخاص يأخذ الفرصة كاملة كى يؤرخ لهذا الفرع المونق من فروع الأدب بالمعنى العام، وهو الفرع الذى يراعى فيه الجمال الفنى والتأثير فى ذوق القارئ والسامع وإثارة ما يمكن أن يثار فى نفسيهما من مشاعر وعواطف متباينة. فهو يؤرخ للأدب الخالص تاريخا مفصلا لا يكتفى فيه بالنبذ الموجزة عن الاتجاهات والفنون الأدبية ولا بالتراجم المجملة عن الشعراء والكتاب، على نحو ما يصنع بروكلمان فى تاريخه العام، بل يكتب فى ذلك الفصول الواسعة مطبّقا المناهج الحديثة فى دراسة الأدب الخالص ومن أنتجوه من الأدباء.
وكان من آثار سيطرة العلوم الطبيعية والتجريبية فى القرن الماضى على العقول الغربية أن نادى بعض مؤرخى الأدب هناك بوجوب تطبيق مناهجها وقواعدها على الدراسات الأدبية، وحاول نفر منهم أن يضع للأدب قوانين كقوانين الطبيعة، وتقدم سانت بيف (Sainte-Beuve) يدعو إلى العناية بشخصيات الأدباء وتعقّب حياتهم المادية والمعنوية ومؤثراتها، حتى نتبين ما ينفرد به الأديب وما يشترك فيه مع سواه من الأدباء، فإذا تبينا الطرفين أمكن أن نضع الأدباء فى فصائل وأسر على نحو ما يصنع علماء النبات إذ يرتبونه فى أنواع وفصائل نباتية مختلفة. وبالمثل يضع مؤرخو الأدب أصحابه فى طبقات وفصائل على أساس ما يقوم بين الأديب وفصيلته من تشابه، وهو تشابه تستخلص منه قوانين الأدب العلمية وما يمتاز به أصحاب كل فصيلة من خصائص وصفات. وتلاه تين (Taine) يقرر أن هناك قوانين ثلاثة يخضع لها الأدب فى كل أمة وهى الجنس والزمان والمكان، وكأنه أراد أن يحوّل تاريخ الأدب إلى ضرب من التاريخ الطبيعى، فأدباء كل أمة يخضعون لهذه القوانين الثلاثة خضوعا جبريّا ملزما، فلكل جنس خواصه، ولكل زمان أحداثه وظروفه الاقتصادية والسياسية والثقافية، ولكل مكان ميزاته الإقليمية والجغرافية، وتلك هى مؤثرات الأدب، بل قوانينه التى تطبع الأدباء بطوابعها الدقيقة. ولا حظ مؤرخو الأدب ونقاده أنه تجاهل شخصيات الأدباء وفرديتهم ومواهبهم وأصالتهم، ولو أن قوانينه صحيحة لكان كل أديب صورة مطابقة للأدباء الآخرين، ولما تميز أديب من سواه. والواقع يثبت عكس ذلك فلكل أديب شخصيته التى تجعل منه أديبا بعينه، له مقوماته.
وبجانب هذين المنهجين فى دراسة تاريخ الأدب وجد منهج ثالث عند برونتيير (Brunetiere) الذى فتن بمذهب داروين المعروف فى التطور ونشوء الكائنات العضوية وارتقائها، وكان (سبنسر) سبقه إلى نقله من العضويات إلى المعنويات، وطبقه على الأخلاق والاجتماع، فحاول هو أن يطبقه على الأدب وفنونه المختلفة، واختار لهذا التطبيق ثلاثة فنون، هى: المسرح والنقد الأدبى والشعر الغنائى، فتتبع كلا فى نشأته ونموه وتطوره وما عمل فيه من مؤثرات، وذهب إلى أن الفنون الأدبية مثل الكائنات الحية تخضع للتطور، وقد يتولد بعضها من بعض
على نحو ما تولد الشعر الغنائى الرومانسى فى القرن التاسع عشر من الوعظ الدينى الذى شاع بفرنسا فى القرن السابع عشر، فهذا الشعر لم يتطور عن شعر مماثل له، سبقه، وإنما تطور أو تولّد عن فن آخر على نحو ما يتطور أو يتولد كائن عضوى من كائن آخر.
وهذه الموجة الحادة التى اندفع خلالها هؤلاء المؤرخون فى القرن التاسع عشر يريدون أن يلحقوا تاريخ الأدب بالعلوم الطبيعية ويطبقوا عليه قواعدها لم تلبث أن هدأت فى أوائل هذا القرن العشرين بتأثير نمو العلوم الإنسانية، فإن هذه العلوم أثبتت أن عالم الإنسان يخضع لقوانين أعمق من القوانين الطبيعية وأن تاريخ الأدب ينبغى أن لا يلحق بالعلوم الطبيعية وإنما يلحق بالدراسات الإنسانية مثل التاريخ والقانون والسياسة وعلمى الاجتماع والنفس. وسرعان ما أخذ مؤرخو الأدب ونقاده يطبقون على الأدب نظريات اللاشعور الفردى وعقد الجنس ومكتوباته واللاشعور الجماعى ورواسب الحياة الإنسانية البدائية التى تتجلى فى الأساطير وما يتصل بها والعلاقات الاجتماعية والإنتاجية.
وسنحاول أن نؤرخ فى أجزاء هذا الكتاب للأدب العربى بمعناه الخاص مفيدين من هذه المناهج المختلفة فى دراسة الأدب وأعلامه وآثار فنقف عند الجنس والوسط الزمانى والمكانى الذى نشأ فيه الأدب، ولكن دون أن نبطل فكرة الشخصية الأدبية والمواهب الذاتية التى فسح لها سانت بيف فى دراساته. وكذلك لن نبطل نظرية تطور النوع الأدبى، فما من شك فى أن الأنواع الأدبية تتطور من عصر إلى عصر، وقد يتولد بعضها من بعض فيظهر نوع أدبى جديد لا سابقة له فى الظاهر، ولكن إذا تعمقنا فى الدرس وجدناه قد نشأ من نوع آخر مغاير له، على نحو ما يلاحظ ذلك من يدرس فن المقامة فى العصر العباسى، فإنها فى رأينا تولدت من فن الأرجوزة وما ابتغى به أصحابه فى العصر الأموى عند رؤبة ونظرائه من تعليم الناشئة والموالى ألفاظ اللغة العربية الغربية وتراكيبها العويصة. فاقتران هذه الغاية بالأرجوزة يلفتنا إلى نفس الغاية فى المقامة عند بديع الزمان والحريرى وما بين الفنين من صلات وروابط. ولا بد أن نستضئ فى أثناء ذلك بدراسات النفسيين والاجتماعيين وما تلقى من أضواء على الأدباء وآثارهم. وبجانب ذلك لا بد أن نقف