الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 - الشعر الجاهلى شعر غنائى
من المعروف أنه يوجد عند الغربيين منذ اليونان أنواع مختلفة من الشعر، يردها نقادهم إلى أربعة أضرب، شعر قصصى وتعليمى وغنائى وتمثيلى، ويمتاز الضرب الأول بأن قصائده طويلة، فالقصيدة منه تمتد إلى آلاف الأبيات، وتتوالى فيها حلقات من الأحداث تنعقد حول بطل كبير، وقد يوجد بجانبه أبطال، ولكن أدوارهم ثانوية. وهى فى حقيقتها قصة إلا أنها كتبت شعرا، فالتسلسل القصصى فيها دقيق والانتقال بين أجزائها منطقى محكم، وهى قصة تفسح للخيال مجالا واسعا، ولذلك كانت تكثر فيها الأساطير والأمور الخارقة، وكانت الآلهة تظهر فيها عند اليونان بدون انقطاع. وخير ما يمثلها عندهم الإلياذة لهوميروس وقد نقلها إلى العربية منذ فاتحة هذا القرن سليمان البستانى، ولكثير من الأمم القديمة والحديثة قصائد قصصية تشبهها، فللرومان الإنيادة لفرجيل، وللهنود الرامايانا والمهابهاراتا وللفرس الشهنامة للفردوسى وللألمان أنشودة الظلام وللفرنسيين أنشودة رولان.
والشاعر فى هذا الضرب القصصى لا يتحدث عن عواطفة وأهوائه، فهو شاعر موضوعى ينكر نفسه، ويتحدث فى قصته عن بطل معتمدا على خياله، ومستمدّا فى أثناء ذلك من تاريخ قومه، وكل ما له أنه يخلق القصة ويرتب لها الأشخاص والأشياء، ويجمع لها المعلومات، ويكوّن من ذلك قصيدته، وعادة ينظمها من وزن واحد لا يخرج عنه. ولم تعرف الجاهلية هذا الضرب من الشعر القصصى، وهى كذلك لم تعرف الضرب الثانى من الشعر التعليمى الذى ينظم فيه الشاعر طائفة من المعارف على نحو ما نعرف عند هزيود الشاعر اليونانى وقصيدته «الأعمال والأيام» التى يصور فيها فصول السنة والحياة الريفية، وعند هو راس الشاعر الرومانى فى قصيدته «فن الشعر» التى نظمها فى قواعد الشعر ونقده، وكما هو معروف عن أبان بن عبد الحميد شاعر البرامكة فى قصيدته التى نظم فيها أحكام الصوم والزكاة. وكذلك لم يعرف الجاهليون الشعر التمثيلى الذى يعتمد على مسرح وعلى حركة وعمل معقد وحوار طويل بين الأشخاص، تتخلله مشاهد ومناظر مختلفة.
فهذه الضروب الثلاثة من الشعر لم يعرفها الجاهليون، فشعرهم منظومات قصيرة قلما تجاوزت مائة بيت، وهو شعر ذاتى يمثل صاحبه وأهواءه، على حين الضروب السابقة جميعا موضوعية، فالشاعر فيها لا يتحدث عن مشاعره وأحاسيسه إنما يتحدث عن أشياء خارجة عنه، سواء حين يقص أو حين يعلّم أو حين يمثّل، فهو فى كل ذلك يغفل نفسه ولا يقف عندها، إنما يقف عند جانب قصصى تاريخى يحكيه أو علمى تهذيبى يرويه أو تمثيلى مسرحى يؤديه، متجردا عن شخصه وما يتصل بذاته وأهوائه وعواطفه.
ولكن إذا كان الشعر الجاهلى يختلف عن ضروب الشعر الغربية القصصية والتعليمية والتمثيلية، فإنه يقترب من الضرب الرابع الغنائى، لأنه يجول مثله فى مشاعر الشاعر وعواطفه، ويصوره فرحا أو حزينا. وقد وجد من قديم عند اليونان، إذ عرفوا المدح والهجاء والغزل ووصف الطبيعة والرثاء، وكان يصحب عندهم بآلة موسيقية يعزف عليها تسمى (لير (Lyre ومن ثم سموه (Lyric) أى غنائى.
وإذن فنحن لا نبعد حين نزعم أن الشعر الجاهلى جميعه غنائى، إذ يماثل الشعر الغنائى الغربى من حيث إنه ذاتى يصور نفسية الفرد وما يختلجه من عواطف وأحاسيس، سواء حين يتحمس الشاعر ويفخر أو حين يمدح ويهجو أو حين يتغزل أو يرثى أو حين يعتذر ويعاتب، أو حين يصف أى شئ مما ينبثّ حوله فى جزيرته.
وليس هذا فحسب، فهو يماثل الأصول اليونانية للشعر الغنائى الغربى من حيث إنه كان يغنى غناء، ويظهر أن الشعراء أنفسهم كانوا يغنون فيه، فهم يروون أن المهلهل غنىّ فى قصيدته:
طفلة ما ابنة المحلّل بيضا
…
ء لعوب لذيذة فى العناق (1)
ومعنى ذلك أن الشعر الجاهلى ارتبط بالغناء عند أقدم شعرائه. ومن حين إلى حين نجد أبا الفرج الأصبهانى يشير إلى أن شاعرا جاهليّا تغنى ببعض شعره من مثل السّليك بن السّلكة (2) وعلقمة بن عبدة الفحل والأعشى، وكان يوقّع
(1) انظر الأغانى (طبعة دار الكتب) 5/ 51 وما فى البيت زائدة، وطفلة: رخصة ناعمة.
(2)
أغانى (طبعة الساسى) 18/ 134.
شعره على الآلة الموسيقية المعروفة باسم الصّنج، ولعله من أجل ذلك سمى صنّاجة العرب (1). ويقول أبو النجم فى وصف قينة (2):
تغنّى فإن اليوم يوم من الصّبا
…
ببعض الذى غنّى امرؤ القيس أو عمرو
وهو يقصد بعمرو، عمرو بن قميئة. ويقول حسان بن ثابت (3):
تغنّ بالشعر إمّا كنت قائله
…
إن الغناء لهذا الشعر مضمار
فالغناء كان أساس تعلم الشعر عندهم، ولعلهم من أجل ذلك عبروا عن إلقائه بالإنشاد، ومنه الحداء الذى كانوا يحدون به فى أسفارهم وراء إبلهم، وكان غناء شعبيّا عامّا.
ويقترن هذا الغناء عندهم بذكر أدوات موسيقية مختلفة كالمزهر والدف وكانا من جلد وكالصّنج ولعله هو نفسه الآلة الفارسية المعروفة باسم الجنك، وكالبربط وهو آلة موسيقية وترية شاعت فى بلاد الإغريق، ويقص علينا علقمة بن عبدة أنه وفد على بلاط الغساسنة فاستمع عندهم إلى قيان بيزنطيات يضر بن على البرابط (4) وكانوا كذلك فى الحيرة يستمعون إلى القيان وهن يضربن على الآلات الموسيقية الفارسية. وأدخلوا كثيرا من هؤلاء القيان إلى جزيرتهم من مثل خليدة وهريرة فى اليمامة (5) والأخيرة هى صاحبة الأعشى التى ذكرها فى معلقته. ويروى الرواة أنه كان بمكة قينتان لعبد الله بن جدعان جلبهما من بلاد الفرس وكانتا تغنيان الناس (6) وفى أخبار غزوة بدر أنه لما نصح أبو سفيان قريشا أن تعود قبل أن يوقع الرسول عليه السلام بها قال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نرد بدرا فنقيم عليه ثلاثا وننحر الجزر ونطعم الطعام ونسقى الخمور وتعزف علينا القيان وتسمع بنا العرب (7). وفى السيرة النبوية أن الرسول أمر يوم فتح مكة بقتل رجل يسمى ابن خطل كان مسلما ثم ارتد وهرب إلى مكة، وكان له قينتان تغنيانه بهجاء الرسول، فأمر بقتلهما، فقتلت
(1) أغانى (طبعة دار الكتب) 9/ 109 وانظر ترجمته فى الشعر والشعراء 1/ 214.
(2)
الشعر والشعراء 1/ 20
(3)
العمدة لابن رشيق (طبعة امين هندية) 2/ 241.
(4)
أغانى (ساسى) 16/ 14.
(5)
أغانى (طبعة دار الكتب) 9/ 113.
(6)
أغانى (طبعة دار الكتب) 8/ 327.
(7)
أغانى (طبعة دار الكتب) 4/ 182.
إحداهما، وفرّت الأخرى (1). ومر بنا أن أهل يثرب حين وفد عليهما النابغة أمروا إحدى القيان أن تغنى بشعر له فيه إقواء، حتى يقف على ما فيه من عيب (2).
ويكثر ذكر هؤلاء القيان فى شعر الشعراء كما يكثر ذكر ما كنّ يضر بن عليه من آلات الطرب، كقول علقمة فى ميميته (3):
قد أشهد الشّرب فيهم مزهر رنم
…
والقوم تصرعهم صهباء خرطوم
ويقول الأعشى فى معلقته:
ومستجيب تخال الصّنج يسمعه
…
إذا ترجّع فيه القينة الفضل (4)
ولطرفة فى معلقته وصف طويل لإحدى هؤلاء القيان. ولعل فى ذلك كله ما يدل على أن الغناء فى الجاهلية تأثر بعناصر أجنبية كثيرة.
وكان نساؤهم يؤلفن ما يشبه الجوقات ويتغنين فى حفلاتهم لاعبات على المزاهر (5)، وفى الطبرى أن النبى صلى الله عليه وسلم سمع ذات يوم عزفا بالدفوف والمزامير، فسأل عنه، فعرف أنه عرس (6)، وأكبر الظن أنهن كن يقرنّ هذا العزف بأناشيد كأناشيد الزفاف المعروفة عند اليونان والرومان. وكن يؤلفن فى الحروب جوقة كبيرة تحمّس وتثير، ففى الطبرى والأغانى أن هندا بنت عتبة ونسوة من قريش كن يضربن على الدفوف فى غزوة أحد وكانت هند تغنى فى تضاعيف هذا العزف بمقطوعات على شاكلة قولها (7):
إن تقبلوا نعانق
…
ونفرش النّمارق (8)
أو تدبروا نفارق
…
فراق غير وامق (9)
(1) السيرة النبوية لابن هشام (طبعة الحلبى) 4/ 53.
(2)
أغانى (طبعة دار الكتب) 11/ 10.
(3)
المفضليات ص 402 والشرب: جمع شارب، رنم: مترنم، والصهباء: الخمر، والخرطوم أول ما ينزل منها صافيا.
(4)
المستجيب: العود، واستماع الصنج له كناية عن اتساق أنغامهما. الفضل: اللابسة ثوبا واحدا.
(5)
العمدة 1/ 37.
(6)
الطبرى (طبعة أوربا) 1/ 1126.
(7)
أغانى (طبعة الساسى) 14/ 16 وتاريخ الطبرى 1/ 1400.
(8)
النمارق: جمع نمرقة وهى الطنفسة والوسادة الصغيرة.
(9)
وامق: محب.
وبجانب هذا الغناء العام كان عندهم غناء دينى يرتلونه فى أعيادهم الدينية، على نحو ما مر بنا من تلبياتهم، فكانوا يرددون مثل «أشرق ثبير كيما نغير» . وكانوا فى أثناء تقديم ذبائحهم وصبّ دمائها على الأنصاب المقدسة عندهم يتغنون غناء لعله هو أصل غناء النّصب الذى شاع بينهم فى الجاهلية. وربما كان فى اسم الداجنة والمدجنة، وهى القينة تغنى فى الدّجن وحين ظهور الغيم فى صفحة السماء (1) ما يدل على أنهم كانوا إذا عزّهم المطر وغلبهم الجدب توجهوا بالغناء إلى آلهة الغيث والخصب.
ومعنى كل ما قدمنا أن الشعر فى الجاهلية كان يصحب بالغناء والموسيقى، فهو شعر غنائى تام، ويظهر أن الغناء لم يكن ساذجا حينذاك، فقد عرفوا منه ضروبا مختلفة، يقول إسحق الموصلى:«غناء العرب قديما على ثلاثة أوجه: النّصب والسّناد والهزج، فأما النصب فغناء الركبان والقينات وهو الذى يستعمل فى المراثى، وكله يخرج من أصل الطويل فى العروض، وأما السناد فالثقيل ذو الترجيع الكثير النغمات والنبرات، وأما الهزج فالخفيف الذى يرقص عليه ويمشى بالدفّ والمزمار فيطرب ويستخف الحليم. هذا كان غناء العرب قديما، حتى جاء الله بالإسلام وفتحت العراق وجلب الغناء الرقيق من فارس والروم وتغنوا الغناء المجزّأ المؤلف بالفارسية والرومية وغنّوا جميعا بالعيدان والطنابير والمعازف والمزامير» (2).
ولعل فى اقتران النصب بالمراثى ما يدل على ما قلناه من أنه كان غناء دينيّا، فهم يتغنون به فى الموت، أما السناد فلعله الغناء الذى كان يقترن ببعض الآلات الموسيقية، وأما الهزج فغناء خفيف كان يقترن بالرقص والدف والمزامير، وهو غناء حفلاتهم، ولعلهم كانوا يؤثرون فيه الوزن الذى يساعد على الحركة المعروف باسمه بين أوزان الشعر وهو وزن الهزج، كما كانوا يستخدمون فيه الرّمل والرجز ليطابق الشعر ما يريدون من رقص وسرعة فى الحركة.
وعلى هذا النحو نظم شعراء الجاهلية شعرهم فى جو غنائى مشبه لنفس الجو الذى نظم فيه اليونان شعرهم الغنائى فقد كان الشاعر يغنى شعره، وقد يوقّع هذا الغناء على
(1) انظر مادة دجن فى لسان العرب وغيره من معاجم اللغة. وراجع المفضليات ص 130.
(2)
العمدة لابن رشيق (طبعة أمين هندية) 2/ 241.
بعض الآلات الموسيقية. وقد يقوم له بالغناء فى شعره قيان وجوقات مختلفة ترقص وتعزف فى أثنائه. ويظهر أن الشعر أخذ فى أواخر هذا العصر يستقل عن الغناء والموسيقى، فكان بعض الشعراء لا يغنيه، وإنما ينشده إنشادا، والإنشاد مرتبة وسطى بين الغناء والقراءة.
ونحن إذا رجعنا إلى هذا الشعر وجدنا بقايا الغناء والموسيقى ظاهرة فيه ظهورا بينا، ولعل القافية هى أهم هذه البقايا التى احتفظ بها، فهى بقية العزف فيه ورمز ما كان يصحبه من قرع الطبول ونقر الدفوف. ومثلها التصريع فى مطالع القصائد وما كان يعمد إليه الشعراء أحيانا من تقطيع صوتى لأبياتهم كقول امرئ القيس فى معلقته يصف الفرس:
مكرّ، مفرّ، مقبل، مدبر، معا
…
كجلمود صخر حطّه السّيل من عل
ويكثر هذا التقطيع فى أشعارهم، ومن يرجع إلى معلقة لبيد التى يستهلها بقوله:
عفت الديار محلّها فمقامها
…
بمنى تأيّد غولها فرجامها
يجده على شاكلة هذا المطلع يلائم كثيرا بين الكلمتين الأخيرتين، وكأن للبيت قافيتين: داخلية، وخارجية، وكأنه يريد أن يهيئ لنفسه أو لمن يتغنى بقصيدته أن يرتفع بصوته فى كلمتين متتاليتين. ولا نشك فى أن صور الأوزان المتنوعة التى يمتاز بها الشعر الجاهلى إنما حدثت بتأثير هذا الغناء، وقد نفذوا منه إلى ضروب من التجزئة فى بعض الأوزان، كمجزوء الكامل والمديد، بل نفذوا إلى أوزان خفيفة كثيرة كالمتقارب والرمل والهزج. وبدون ريب إنما كثرت التجزئة والتعديل فى الرجز لأنه كان وزنا شعبيّا وكان كثير الدوران فى حدائهم وفى كل ما يتصل بهم من حركة وعمل كحفر الآبار والمتح منها ومبارزة الأقران واستصراخ العشائر، فكثر فيه الحذف وكثر التحريف والتعديل كثرة مفرطة، حتى زعم الخليل أنه ليس من أوزان الشعر (1)، وهو شعر غير أن التغنى به نغنيا كثيرا حداء وغير حداء أحدث فيه تغيرات شتى.
(1) انظر باب الرجز فى العمدة لابن رشيق.