الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
5 - الخصائص اللفظية
من أهم ما يلاحظ على الشعر الجاهلى أنه كامل الصياغة، فالتراكيب تامة ولها دائما رصيد من المدلولات تعبر عنه، وهى فى الأكثر مدلولات حسية، والعبارة تستوفى أداء مدلولها، فلا قصور فيها ولا عجز. وهذا الجانب فى الشعر الحاهلى يصور رقيّا لغويّا، وهو رقى لم يحدث عفوا فقد سبقته تجارب طويلة فى غضون العصور الماضية قبل هذا العصر، وما زالت هذه التجارب تنمو وتتكامل حتى أخذت الصياغة الشعرية عندهم هذه الصورة الجاهلية التامة، فالألفاظ توضع فى مكانها والعبارات تؤدّى معانيها بدون اضطراب.
وقد يكون من الأسباب التى أعانتهم على ذلك أن الشعراء كما أسلفنا كانوا يرددون معانى بعينها، حتى لتتحول قصائدهم إلى ما يشبه طريقا مرسوما، يسيرون فيه كما تسير قوافلهم سيرا رتيبا، وكانوا هم أنفسهم يشعرون بذلك شعورا دقيقا، مما جعل زهيرا يقول بيته المأثور-إن صح أنه له-:
ما أرانا نقول إلا معارا
…
أو معادا من لفظنا مكرورا
فهو يشعر أنهم يبدئون ويعيدون فى ألفاظ ومعان واحدة، ويجرون على طراز واحد، طراز تداولته مئات الألسنة بالصقل والتهذيب، فكل شاعر ينقّح فيه ويهذب ويصفى جهده حتى يثبت براعته. ولم تكن هناك براعة فى الموضوعات وما يتصل بها من معان إلا ما يأتى نادرا، فاتجهوا إلى قوالب التعبير، وبذلك أصبح المدار على القالب لا على المدلول والمضمون، وبالغوا فى ذلك، حتى كان منهم من يخرج قصيدته فى عام كامل، يردّد نظره فى صيغها وعباراتها حتى تصبح تامة مستويه فى بنائها (1).
وربما دل ذلك على أن مطولاتهم لم تكن تصنع دفعة واحدة، بل كانت تصنع على دفعات، ولعل هذا هو سبب تكرار التصريع فى طائفة منها، ولعله أيضا السبب
(1) البيان والتبيين 2/ 9 وما بعدها.
فى تفككها واختلاف عواطفها، فقد كان الشاعر يصنعها فى أزمنة مختلفة. وأغلب الظن أنه كان إذا صنع قطعة عرضها على بعض شعراء قبيلته وبعض من يلزمه من رواته، فكانوا يروونها بصورة، وما يلبث أن يعيد فيها النظر فيبدّل فى بعض أبياتها، يبدل كلمة بكلمة، وقد يحذف بيتا. ومعنى ذلك أن صناعة المطولات أعدّت منذ العصر الجاهلى لاختلاف الرواية فيها بسبب ما كان يدخله صاحبها عليها من تعديل وتنقيح. وفى أسماء شعرائهم وألقابهم ما يدل على البراعة فى هذا التنقيح وما يطوى فيه من تجويد، فقد لقبوا امرأ القيس بن ربيعة التغلبى بالمهلهل لأنه أول من هلهل ألفاظ الشعر وأرقّها (1) ولقبوا عمرو بن سعد شاعر قيس بن ثعلبة بالمرقّش الأكبر لتحسينه شعره وتنميقه (2) ولقبوا ابن أخيه ربيعة بن سفيان بالمرقّش الأصغر، كما لقبوا طفيلا بالمحبّر لتزيينه شعره (3)، ولقبوا علقمة بالفحل لجودة أشعاره (4) ولقبوا غير شاعر بالنابغة فى شعره، ومن ألقابهم التى تدل على احتفالهم بتنقيح الشعر المثقّب والمتنخّل. وقد استطاعوا حقّا أن يبهروا العصور التالية بما وفّروه لأشعارهم من صقل وتجويد فى اللفظ والصيغة.
ونحن نعرف أن الصيغة فى الشعر صيغة موسيقية، وقد أسلفنا كيف أحكموا هذه الصيغة، فقد كان الشاعر يتقيد فى قصيدته بالنغمة الأولى، وما زالوا يصفّون فى نغم القصيدة، حتى استوى استواء كاملا، سواء من حيث اتحاد النغم أو اتحاد القوافى وحركاتها، وبرعوا فى تجزئة الأوزان حتى يودعوا شعرهم كل ما يمكن من عذوبة وحلاوة موسيقية على نحو ما نلاحظ فى غزلية المتنخل اليشكرى السابقة.
وحقّا هو فى جمهوره جزل، ولكنها جزالة تستوفى حظوظا من الجمال الفنى، ولذلك ظلت ماثلة فى شعرنا العربى عند شعرائه الممتازين إلى عصورنا الحديثة. واقرأ فى حوليّات زهير وقصائده المطولة وفى غيره من المبرزين أمثال النابغة وعلقمة الفحل والمرقشين والأعشى وطرفة والمتلمس وعنترة ودريد بن الصّمّة وسلامة بن جندل والحادرة والمثقب العبدى فستجدك أمام قصائد باهرة، قد أحكمت صياغتها وضبطت أدق ضبط، وسنعرض قطعا منها فى حديثنا عن الشعراء، لنصور براعتهم
(1) أغانى (طبعة دار الكتب) 5/ 57.
(2)
انظر المفضليات (طبعة لايل) 1/ 410، 485
(3)
المفضليات 1/ 410.
(4)
أغانى (طبعة الساسى) 21/ 112.
فى هذا الجانب وكيف حققوا لموسيقاهم مهما جزلت وتضخمت كل ما يمكن من بهاء ورونق.
وقد استعانوا منذ أقدم أشعارهم، لغرض التأثير فى سامعيهم، بطائفة من المحسنات اللفظية والمعنوية، وأكثرها دورانا فى أشعارهم التشبيه، فلم يصفوا شيئا إلا قرنوه بما يماثله ويشبهه من واقعهم الحسى، فالفرس مثلا يشبّه من الحيوان بمثل الظبى والأسد والفحل والوعل والذئب والثعلب ويشبّه من الطير بالعقاب والصقر والقطاة والباز والحمام، ويشبه بالسيف والقناة والرمح والسهم وبالأفعوان والحبل والهراوة والعسيب والجذع وتشبّه ضلوعه بالحصير وصدره بمداك العروس وغرته بخمار المرأة والشيب المخضوب ومنخره بالكير وعرفه بالقصبة الرطبة وحافره بقعب الوليد وعنقه بالرمح والصعدة وعينه بالنقرة والقارورة ولونه بسبائك الفضة وارتفاعه بالخباء. وكل هذه الأوصاف والتشبيهات مبثوثة فى المفضليات والأصمعيات، ويعرض علينا امرؤ القيس فى وصفه لفرسه بمعلقته طائفة طريفة منها. وعلى نحو ما لا حظنا آنفا كانوا يحاولون الإطراف فى التشبيه، حتى يخلبوا ألباب سامعيهم، وقد يقعون على صور نادرة كتصوير المتنخل اليشكرى لغدائر بعض النساء بأنها كالحيات، يقول (1):
يعكفن مثل أساود ال
…
تّنّوم لم تعكف لزور (2)
وكانوا يشبهون المرأة بالبدر والشمس، وألمّ سويد بن أبى كاهل بهذا التشبيه، وحاول أن يخرجه إخراجا جديدا فقال (3):
حرّة تجلو شتيتا واضحا
…
كشعاع الشمس فى الغيم سطع (4)
فجعل أسنان صاحبته المفلجة البيضاء كشعاع الشمس يبزغ من خلل الغيم.
وكانوا يشبهون الرمح بالجمر ولهبه، وألمّ عميرة بن جعل بهذا التشبيه فأضاف إليه إضافة جديدة، إذ قال (5):
(1) الأصمعيات ص 54.
(2)
يعكفن: يمشطن شعرهن، والأساود: الأفاعى، والتنوم: شجر، ولم تعكف لزور كناية عن عفتهن.
(3)
المفضليات ص 191
(4)
الشتيت: المتفرق يريد أسنانها المفلجة، واضحا: أبيض.
(5)
المفضليات ص 259، والردينى: الرمح.
جمعت ردينيّا كأنّ سنانه
…
سنا لهب لم يتّصل بدخان
وكان الجاحظ يعجب إعجابا شديدا بوصف عنترة لبعض الرياض وتصويره للذباب وحركة جناحيه حين يسقط، إذ يقول (1):
جادت عليها كلّ عين ثرّة
…
فتركن كلّ حديقة كالدّرهم (2)
فترى الذباب بها يغنّى وحده
…
هزجا كفعل الشارب المترنّم
غردا يحكّ ذراعه بذراعه
…
فعل المكبّ على الزّناد الأجذم (3)
فقد شبه قرارات الروضة وحفرها بالدراهم، وشبه صوت الذباب بصوت الشارب المترنم، وما زال يطلب صورة نادرة حتى وقع على الصورة الأخيرة إذ شبه الذباب فى حركة أجنحته الدائبة حين يسقط برجل مقطوع اليدين يقدح النار من عودين أو زندين فلا تقتدح، فيستمر فى قدحه لا يفتر.
وبجانب التشبيهات الكثيرة التى تلقانا فى شعرهم نجد الاستعارة بفرعيها من التصريحية والمكنية، وهى مبثوثة فى أقدم أشعارهم. نجدها عند امرئ القيس ومعاصريه كما نجدها عند من جاءوا بعده، ومن أمثلتها الطريفة عند امرئ القيس تصويره طول الليل وفتوره وبطئه ببعير جاثم لا يريم، إذ يقول فى معلقته مخاطبا الليل:
فقلت له لما تمطّى بصلبه
…
وأردف أعجازا وناء بكلكل (4)
وأنشد ابن المعتز فى كتابه «البديع» كثيرا من استعاراتهم مثل قول أوس بن حجر:
وإنى امرؤ أعددت للحرب بعد ما
…
رأيت لها نابا من الشرّ أعصلا (5)
وقول علقمة بن عبدة:
بل كلّ قوم وإن عزّوا وإن كرموا
…
عريفهم بأثافى الشرّ مرجوم (6)
(1) الحيوان 3/ 312 ومختار الشعر الجاهلى للسقا ص 371.
(2)
العين الثرة هنا: السحابة غزيرة المطر، وشبه الحديقة بالدرهم فى استدارته.
(3)
الأجذم: مقطوع اليدين.
(4)
الكلكل: الصدر.
(5)
الأعصل: المعوج فى صلابة.
(6)
العريف: الرئيس، والأثا فى: الحجارة التى تنصب عليها القدر، استعارها لنوائب الدهر.
وقول طفيل الغنوى فى وصف ناقته:
وجعلت كورى فوق ناجية
…
يقتات شحم سنامها الرّحل (1)
وقول الحارث بن حلّزة اليشكرى:
حتى إذا التفع الظّباء بأط
…
راف الظّلال وقلن فى الكنس (2)
وفى شعرهم كثير من هذه الاستعارات الطريفة، وسنعرض لطائفة منها ومن التشبيهات فى دراستنا لشعرائهم المبرزين، وكانوا يضيفون إلى ذلك عناية ببعض المحسنات التى شاعت فى الشعر العباسى وكثر استخدامها فيه حتى اتخذها بعض الشعراء مذهبا يطبقها على جميع أبياته أو جمهورها، ونقصد الطباق والجناس، فلهما أصول فى الجاهلية، ونحن نجدهما عند امرئ القيس فى وصفه لفرسه إذ يقول:
مكرّ مفرّ مقبل مدبر معا
…
كجلمود صخر حطّه السّيل من عل
كميت يزلّ اللّبد عن حال متنه
…
كما زلّت الصّفواء بالمتنزّل (3)
والطباق واضح فى البيت الأول ومثله الجناس فى البيت الثانى. وقد أنشد المفضل الضبى لعبد الله بن سلمة الغامدى قصيدة كثر فى آخرها الجناس كثرة مفرطة، حتى لكأننا بإزاء شاعر عباسى من شعراء البديع، يقول عبد الله (4):
ولقد أصاحب صاحبا ذا مأقة
…
بصحاب مطّلع الأذى نقريس (5)
ولقد أزاحم ذا الشّذاة بمزحم
…
صعب البداهة ذى شذا وشريس (6)
(1) الكور: الرحل، ناجية: ناقة سريعة.
(2)
التفعت الظباء بالظلال: دخلت فيها واكتنت من الحر. وقلن: أمضين القائلة وهى نصف النهار. والكنس: جمع كناس وهى حفرة تحفرها الحيوانات الوحشية فى أصل شجرة لتستتر فيها.
(3)
الكميت: الأحمر فى سواد، يزل: يسقط، يريد أنه أملس المتن. الصفواء: الصخرة الملساء، المتنزل: النازل عليها.
(4)
المفضليات ص 107.
(5)
المأقة: حدة الغضب، وصحاب: مصدر صاحب، مطلع الأذى: مالك له فى استعلاء، والنقريس: الحاذق.
(6)
ذا الشذاة: ذا الأذى. بمزحم: شديد المزاحمة. صعب البداهة: شديد المفاجأة. والشذا: الأذى، والشريس: الشراسة.
ولقد أداوى داء كلّ معبّد
…
بعنيّة غلبت على النّطّيس (1)
فقد جانس فى البيت الأول بين أصاحب وصاحبا وصحاب، وجانس فى البيت الثانى بين أزاحم وبمزحم والشذاة وشذا وأدخل حرف الشين على كلمة شريس، وجانس فى البيت الأخير بين أداوى وداء.
وتلك كلها محسنات كان الشاعر الجاهلى يعنى بها حتى يؤثر فى نفوس سامعيه ويخلب ألبابهم، وهى تصور مدى ما كان يودعه قصيدته من جهد فنى، وخاصة من حيث التصوير ودقته وبراعته، فقد كان ما يزال يجهد خياله حتى يأتى فيه بالنادر الطريف.
(1) المعبد: البعير الأجرب، أراد به الشريز. العنية: من أدوية الجرب. النطيس كالنطاسى: الطبيب الماهر.