الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خاتمة
1 - خلاصة
حاولت فى الصحف السابقة أن أؤرخ للأدب العربى فى العصر الجاهلى، فتحدثت عن صفة الجزيرة العربية وتاريخها القديم، وكيف أنها كانت مهد الساميين، إذ خرجوا منها موجة فى إثر موجة، وكانت موجة العرب الجنوبيين الذين يمّموا حوض المحيط الهندى آخر موجاتهم، وكانت تفصلهم من عرب الشمال صحراوات واسعة جعلتهم يستقلون عنهم فى لغتهم وخصائصها النحوية، كما جعلتهم يستقلون عنهم فى حضارتهم. ومع ذلك فقد ظلت قائمة بين الجنوبيين والشماليين أو القحطانيين والعدنانيين صلات اقتصادية ودينية وسياسية أتاحت لهم ضروبا من التداخل والتشابك. واستطاع الشماليون أن ينفذوا فى آخر الأمر إلى صورة خطّهم العربى المعروف.
ومضيت أتحدث عن العصر الجاهلى وحدّدته بنحو قرن ونصف قبل الإسلام، أما ما قبل ذلك فهو الجاهلية الأولى، وكل ما بأيدينا من شعر قديم إنما يرجع إلى العصر الجاهلى أو الجاهلية الثانية. ونحن نفاجأ فى أول هذا العصر باكتمال الخط العربى، كما نفاجأ بهذا الشعر الناضج الذى يضاف إلى الجاهليين. وأخبارهم واضحة تمام الوضوح، فقد كانت تقوم فى الشمال إمارات الغساسنة والمناذرة وكندة، بينما كانت تتجمع قلوب العرب حول مكة، فهى بيت كعبتهم وعبادتهم الوثنية، وهى مركز تجارتهم وقوافلهم التى تربط بين حوضى المحيط الهندى والبحر المتوسط، ووراءها قبائلهم البدوية، وكانت تنتظم قسمين كبيرين من عرب الشمال العدنانيين وعرب الجنوب القحطانيين الذين هاجروا من ديارهم إلى ديار الشماليين منذ أزمان بعيدة. وكانت كل قبيلة وحدة قائمة بنفسها، وهى وحدة دعمتها وشائج متينة من العصبية. وكان لكل قبيلة سيد ومجلس يضم شيوخ عشائرها، وواجبات السيد دائما أكبر من حقوقه، ومن ورائه أفراد قبيلته متضامنين أوثق ما يكون التضامن،
وخاصة حين يطلب ثأر أو تنشب حرب. وقد تحولوا بجزيرتهم إلى ما يشبه ميدانا حربيا كبيرا، ففى كل مكان عراك وقتال وفى كل مكان دماء تسيل. ولهم حروب مشهورة سجّلها علماء اللغة والأدب فى العصر العباسى كحرب البسوس وحرب داحس والغبراء.
وانتقلت من ذلك أبحث فى حياتهم وأحوالهم الاجتماعية ولا حظت أن مجتمع القبيلة كان يتألف من ثلاث طبقات، هى أبناؤها ومواليها وعبيدها. وكان أهم شئ يشدّ من بنيان هذا المجتمع حرصهم على الشرف وما سموه المروءة، إذ كان كل منهم يحرص على البذل والشجاعة والوفاء وحماية الجار وإباء الضيم. وتخلّلت ذلك آفات، أهمها: الخمر والقمار واستباحة النساء. وقد تأخذ هذه الآفات عند بعض الشباب أمثال طرفة شكل فتوة جامحة. ومن المؤكد أنه كان للمرأة الحرة عندهم منزلة كريمة. ولم تكن معيشتهم واحدة، فقد كانت الزراعة منتشرة فى الجنوب والشرق وواحات الحجاز، وكان أهل مكة يعيشون على التجارة، على حين كان البدو يعيشون على رعى الأغنام والأنعام وصيد الحيوان. وكان بينهم سادة يملكون مئات الإبل وصعاليك لا يملكون شيئا. ومع أنهم كانوا على صلة بالحضارات المجاورة كانوا لا يزالون أقرب إلى طور البداوة، وكان علم الأنساب أهم علومهم، ولم يكن لهم وراءه إلا معارف محدودة تقوم على التجربة الناقصة كبعض معارفهم الطبية والفلكية. وكانت كثرتهم وثنية تتعبّد لآلهة وأصنام وأوثان كثيرة، وكانت الكعبة فى مكة أكبر معابدهم، وكانوا يحجون إليها فى أشهر معلومات. على أن نفرا منهم شكّوا فى أواخر هذا العصر فى دينهم الوثنى والتمسوا دين إبراهيم ويسمّون المتحنّفة والحنفاء وكأنما كانوا إرهاصا لظهور الإسلام والدعوة المحمدية. وكانت النصرانية فى أثناء ذلك تنتشر فى القبائل المحاذية للشام والعراق بينما كان كثير من اليهود ينزلون فى واحات الحجاز وفى اليمن، وتعربت كثرتهم إلا أن العرب ظلوا يزدرونهم وينفرون من دينهم.
ولما تمّ لى بيان هذه الجوانب أخذت أبحث فى اللغة العربية وعناصرها السامية القديمة، ووقفت عند أقدم لهجاتها المشتة فى النقوش، وهى الثمودية واللّحيانية والصّفوية، تلك التى كتبت نقوشها بالخط المسند الجنوبى، ثم اللهجة النبطية،
وكانت نقوشها تكتب بالخط الآرامى، ومنه نشأ تطور الخط العربى فى الحجاز.
وتختلف هذه اللهجات الأربع اختلافات كثيرة عن لغة الجاهليين، وإن كان من المؤكد أن اللهجة النبطية أقربها جميعا إليها، وقد أخذت فى الدثور منذ القرن الثالث للميلاد، بينما أخذت تحل محلها مقدمات الفصحى بحيث لا نصل إلى نهاية القرن الخامس وأوائل السادس الميلادى، حتى تتكامل تكاملا تامّا وتعم بين القبائل النجدية وفى الحيرة وبين الغساسنة، وتصبح هى اللغة العامة المتداولة بين الشعراء. وكانت هناك لهجات قبلية كثيرة ولكن الفصحى ظفرت بها جميعا فى المجال الأدبى، بحيث كان الشعراء فى كل قبيلة ينظمون بها مرتفعين عن لهجاتهم القبلية أو المحلية، وقد حار المستشرقون طويلا فى معرفة اللهجة التى سادت بين القبائل فى الشمال وأصبحت اللهجة الأدبية الشائعة على كل لسان، وأثبتّ أنها لهجة قريش، إذ تآزرت بواعث دينية واقتصادية وسياسية على أن تتم لها هذه السيادة منذ أوائل العصر الجاهلى.
وبحثت عقب ذلك فى رواية الشعر الجاهلى وتدوينه، مبينا كيف تضافرت جهود القبائل العربية ورجالاتها وشعراؤها على حمله جيلا بعد جيل، حتى تسلّمه منهم طبقة من الرواة المحترفين فى البصرة والكوفة، وكان بينهم الثقة الذى لا يرتفع شك إلى روايته مثل المفضل الضبى والأصمعى والمتهم الذى يجمع العلماء على إبطال روايته مثل حماد وخلف الأحمر. وفى تضاعيف ذلك كان الشعر الجاهلى يدوّن، بحيث لا نصل إلى أوائل القرن الثالث للهجرة حتى يتكامل تدوينه. والذى لا شك فيه أنه دخله انتحال كثير، ولم يكن القدماء غائبين عن ذلك، فقد نصّوا على كل ما شكوا فيه من رواة ومن شعر، حتى يحيطوه بسياج من التوثيق، أو بعبارة أدق حتى يحيطوا الصحيح منه. ومنذ أواسط القرن الماضى يلم المستشرقون بالمشكلة، واندفع منهم مرجليوث فى هذا القرن يزعم أن الشعر الجاهلى جميعه منحول على أهله، وهب كثير من المستشرقين يردّون عليه، وممن ذهب مذهبه فى تعميم الحكم على الشعر الجاهلى بالانتحال والوضع طه حسين، وإن لم يتسع بحكمه اتساع مرجليوث. وعلى هدى من آراء طه حسين ومرجليوث جميعا تناول القضية بلاشير فى الجزء الأول من كتابه «تاريخ الأدب العربى» . وقد ناقشت آراءه وآراء غيره من الباحثين، وانتهيت إلى أن هناك شعرا منتحلا كثيرا لا سبيل
إلى الثقة به. ولكن بجانبه شعر صحيح رواه الثقات وعلى رأسهم المفضل الضبى والأصمعى، وهو الذى نستند عليه فى دراسة الأدب الجاهلى، دراسة نخضعه فيها لبحث داخلى دقيق. ومن أجل ذلك وقفت عند مصادره لأدل على قيمتها ومدى توثقها.
ومضيت أبحث فى خصائص الشعر الجاهلى، فتحدثت عن نشأته وأنها انطمرت فى ثنايا الجاهلية الأولى، بحيث لا نجد منذ أوائل العصر الجاهلى أو الجاهلية الثانية شيئا نستبين منه طفولته، إنما نجد هذه الصورة النموذجية المعروفة للقصيدة الجاهلية، وهى صورة شاعت بين القبائل جميعا، وكان للقبائل المضرية منها بالذات الحظ الأوفر. ووقفت عند موضوعاته، ولا حظت فيها بقايا من الصلة القديمة بين شعرهم والأناشيد الدينية التى كانوا يرتلونها لآلهتهم، كما وقفت عند معانيه ولا حظت أنها حسية تغلب عليها السطحية والتقريرية والسرعة السريعة، أما ألفاظه فكاملة الصياغة حافلة بالصقل والتجويد، زاخرة بقيم موسيقية وتصويرية كثيرة.
وأفردت بعد ذلك فصولا لأربعة من الشعراء، يعدهم النقاد السابقين المجلّين فى العصر الجاهلى، وهم امرؤ القيس والنابغة وزهير والأعشى. واعتمدت فى دراسة الثلاثة الأولين على رواية الأصمعى لدواوينهم، وبدأت بامرئ القيس، فتحدثت عن حياته وكيف دخلتها الأسطورة، ثم تحدثت عن ديوانه، وبحثته بحثا داخليّا، فإذا أكثر ما يضاف إليه تشوبه الريبة بشهادة الأصمعى، واستظهرت أن تكون المعلقة وتاليتها فى ديوانه صحيحتين فى جملتهما ومثلهما القصيدتان الحادية عشرة والسابعة والعشرون لأنهما من رواية أبى عمرو بن العلاء، الثقة الصدوق.
ولا يبقى له بعد ذلك إلا مقطوعات قصيرة تعرض فيها لمن أجاروه ومن رفضوا جواره. واستطعت من خلال هذه النصوص القليلة أن أوزع شعره على دورتين فى حياته، دورة غلب عليه فيها اللهو والعبث، ودورة ثانية غلب عليه فيها الحزن والإحساس بسوء المصير. وأخيرا صوّرت خصائصه الفنية مبينا منزلته فى الشعر الحاهلى وكيف عدّ أياه غير منازع ولا مدافع.
وبحثت بعده النابغة الذبيانى، فتحدثت عن حياته، وكيف أمضاها فى بلاط
المناذرة والغساسنة سفيرا لقومه الذبيانيين، وكيف كان يحتل بين الشعراء مكانة مرموقة فى داخل الجزيرة وفى مكة وسوق عكاظ. وبحثت فى ديوانه على ضوء رواية الأصمعى، وأنكرت منها خمس قصائد على رأسها قصيدته فى المتجردة. وشعره من هذه الناحية أوثق من شعر امرئ القيس لأنه أقرب منه عهدا، ولم تدخل الأسطورة فى حياته ولا فى شعره. ووقفت عندما اشتهر به من مديح واعتذار، مبينا قدرته على الوصف ورصف الموضوعات وتنسيق المعانى وابتكار الصور والأخيلة، يهديه فى ذلك كله ذوق مهذب، هذبته الحضارة التى نعم بها فى الحيرة وعند الغساسنة، فإذا هو صاحب حسّ دقيق وشعور رقيق.
وكان يعاصره زهير بن أبى سلمى المزنى، وقد نشأ فى بنى مرة الذبيانيين بحيث عدّ فيهم، وتصادف أن كان خاله شاعرا وأن كان زوج أمه أوس بن حجر من كبار الشعراء الجاهليين، فحمل عنهما جميعا الشعر، وعاش له يتعلمه ويعلمه شعراء من بيته ومن غير بيته، بحيث أصبح أستاذا لمدرسة عرفت به.
وقد وقفت عند ديوانه وأسقطت منه ما أسقطه الأصمعى. ولا حظت أن الشعر عنده انتهى إلى صورة مثالية من التنقيح والتحبير فى قوالبه وصيغه تحبيرا لا حظه القدماء إزاء بعض مطولاته، فقالوا إنه يصنع القصيدة فى حول كامل وإن له سبع حوليّات.
وهو يضم إلى هذا التحبير عناية بعيدة بالتشبيهات والاستعارات، بحيث يعدّ حقّا شاعر التصوير فى العصر الجاهلى وكان يكثر من الحكم ومن الدعوة إلى الخير والسلام، فلا نغلو إذا قلنا إن شعره يعد صورة رفيعة للخير والحق والجمال.
وانتقلت إلى الأعشى، فتحدثت عن حياته التى كان ينفقها متنقلا فى أنحاء الجزيرة، ثم عرضت لديوانه، واضطررت لبحثه من خلال رواية يكثر فيها الانتحال، وتصادف أن كان راوية شعره مسيحيّا، فنحله كثيرا من الأفكار المسيحية، وتداول شعره القصّاص والوعّاظ المسلمون، فأضافوا إليه أشعارا كثيرة، لغرض العظة والاعتبار. كما أضاف إليه الرواة غير قصيدة، كقصيدته رقم 24 التى تحكى قصة وفاء السموأل. وجعلنا هذا كلّه نشك فى كثير من قصائده وأشعاره، وإذا بنا نرفض أكثرها، ولا نبقى له إلا على نحو عشرين قصيدة.
وقد لا حظت عليه غلوّا فى المديح وتأثرا دقيقا بالحضارة التى عاصرته فى الحيرة، حتى
ليقترب شعره من شعر العباسيين لا فى معانيه فحسب، بل أيضا فى سهولة ألفاظه وخفة أوزانه. ونفس الموضوعين الأساسيين اللذين يدور فيهما شعره لا يختلفان فى شئ عما نقرؤه للعباسيين ونقصد وصفه للخمر وغزله وتدلهه فيه وما قد يلاحظ عنده من المبالغة المسرفة وكثرة التضمين.
وخرجت من هؤلاء الشعراء المبرزين إلى دراسة طوائف من الشعراء اتفقوا فى اتجاه من اتجاهات الحياة الجاهلية، فدرست أولا الفرسان وما يصوّرون فى أشعارهم من بطولتهم ومثاليتهم الخلقية الرفيعة. ثم درست الصعاليك وما يصورونه فى أشعارهم من غاراتهم وما نحسّه عند نفر منهم من تسام وعون للفقراء والمعوزين. ثم بحثت فى شعراء اليهود مبيّنا كثرة ما نحل عليهم. ووقفت عند النصارى من الشعراء أمثال عدىّ بن زيد العبادى، ولا حظت أن شعرا كثيرا زيّف عليه.
ولا نبالغ إذا قلنا إن أكثر ما يضاف إلى أمية بن أبى الصّلت، إن لم يكن كله، موضوع منتحل. وتدور الأشعار المضافة إليه فى موضوعين أساسيين، هما نشأة الكون وما يتصل بها من خلق السموات والأرض، والموت أو الفناء وما يعقبه من العذاب والثواب.
ولما فرغت من بحث الشعر الجاهلى وشعرائه انتقلت أبحث فى النثر الجاهلى، فلاحظت أن الجاهليين لم يعرفوا الرسائل الأدبية المحبرة، ولكنهم عرفوا القصص والأمثال والخطابة وسجع الكهّان. ومن الحق أنهم لم يدوّنوا شيئا من قصصهم، غير أن ما أضافه العباسيون إليهم يصوّر غير قليل من روحه وطبيعته وعرضت لأمثالهم وما كان من ازدهار الخطابة بينهم واصطلاحهم فيها على طائفة من السّنن والتقاليد. وكان كهّانهم يحاولون التأثير البالغ فى نفوس سامعيهم بما يسوقون إليهم من أسجاع وألفاظ غريبة وأقسام وأيمان موهمة. وكل ذلك يؤكد أن الجاهليين حاولوا فى نثرهم ما حاولوه فى شعرهم من روعة الأداء، حتى يستأثروا بقلوب سامعيهم ويخلبوا عقولهم وألبابهم.