الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثانى عشر
النثر الجاهلى
1 - صور النثر الجاهلى
حين نتحدث عن النثر الجاهلى ننحّى النثر العادىّ الذى يتخاطب به الناس فى شئون حياتهم اليومية، فإن هذا الضرب من النثر لا يعدّ شئ منه أدبا إلا ما قد يجرى فيه من أمثال، إنما الذى يعدّ أدبا حقّا هو النثر الذى يقصد به صاحبه إلى التأثير فى نفوس السامعين والذى يحتفل فيه من أجل ذلك بالصياغة وجمال الأداء، وهو أنواع، منه ما يكون قصصا وما يكون خطابة وما يكون رسائل أدبية محبّرة.
ويسمّى بعض الباحثين النوع الأخير باسم النثر الفنى.
وليس بين أيدينا وثائق جاهلية صحيحة تدل على أن الجاهليين عرفوا الرسائل الأدبية وتداولوها، وليس معنى ذلك أنهم لم يعرفوا الكتابة، فقد عرفوها، غير أن صعوبة وسائلها جعلتهم لا يستخدمونها فى الأغراض الأدبية الشعرية والنثرية، ومن ثم استخدموها فقط فى الأغراض السياسية والتجارية (1). ولا ينقض ذلك ما جاء فى السيرة النبوية من أن سويد بن الصامت قدم مكة حاجّا أو معتمرا. . فتصدّى له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع به، فدعاه إلى الله وإلى الإسلام، فقال له سويد: فلعل الذى معك مثل الذى معى، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما الذى معك؟ قال: مجلّة لقمان، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اعرضها علىّ، فعرضها عليه؛ فقال له: إن هذا لكلام حسن. والذى معى أفضل من هذا: قرآن أنزله الله علىّ: هو هدى ونور، فتلا عليه رسول الله القرآن، ودعاه إلى الإسلام فلم يبعد منه، وقال: إن هذا القول حسن (2). .»
(1) انظر الفن ومذاهبه فى النثر العربى (الطبعة الثالثة بدار المعارف) ص 19
(2)
السيرة النبوية لابن هشام (طبعة الحلبى) 2/ 68.
وهذا الخبر إنما يفيد أنه كان عندهم صحيفة بها بعض أمثال وحكم مما كانوا ينسبونه إلى لقمان، ووجود مثل هذه الصحيفة لا يدل على أنهم استخدموا الكتابة فى التعبير عن وجدانهم نثرا وشعرا، فقد كانت محدودة الانتشار بينهم، ومن التعسف أن نزعم ذلك لمجرد الظن، بينما تنقصنا أو تعوزنا النصوص الحسية. وإذا كنا نفتقد الأدلة المادية على وجود رسائل أدبية فى العصر الجاهلى فمن المحقق أنه وجدت عندهم ألوان مختلفة من القصص والأمثال والخطابة وسجع الكهان. ومن المؤكد أنهم كانوا يشغفون بالقصص شغفا شديدا. وساعدتهم على ذلك أوقات فراغهم الواسعة فى الصحراء، فكانوا حين يرخى الليل سدوله يجتمعون للسمر، وما يبدأ أحدهم فى مضرب من مضارب خيامهم بقوله: كان وكان، حتى يرهف الجميع أسماعهم إليه، وقد يشترك بعضهم معه فى الحديث، وشباب الحى وشيوخه ونساؤه وفتياته المخدرات وراء الأخبية كل هؤلاء يتابعون الحديث فى شوق ولهفة.
ومن غير شك كان يفيض القصّاص على قصصه من خياله وفنه، حتى يبهر سامعيه، وحتى يملك عليهم قلوبهم فيحولهم من الشفقة إلى محبة الانتقام ومن الضحك إلى الجدّ، وعيونهم تلمع فى وجوههم السمر وقلوبهم تخفق من آن إلى آن. وليس بين أيدينا شئ من أصول هذا القصص الذى كان يدور بينهم، غير أن اللغويين والرواة فى العصر العباسى دونوا لنا ما انتهى إليهم منه. وطبيعى أن تتغير وتتحرّف أصوله فى أثناء هذه الرحلة الطويلة التى قطعتها من العصر الجاهلى إلى القرن الثانى الهجرى، وإن كان من الحق أنها لا تزال تحتفظ بكثير من سمات القصص القديم ولا تزال تنبض بروحه وحيويته.
ويمكننا بواسطة ما دوّنه العباسيون أن نعرف ألوان هذا القصص الذى كانوا يتناقلونه بينهم، وربما كان أكثر هذه الألوان شيوعا على ألسنتهم أيامهم وحروبهم وما سجّله أبطالهم فيها من انتصارات مروّعة وما منيت به بعض قبائلهم من هزائم منكرة.
وقد ظلوا يقصّون هذه الأيام والحروب إلى أن تناولها منهم لغويّو القرن الثانى للهجرة ورواته، فدونوها تدوينا منظما على نحو ما هو معروف عن أبى عبيدة فى شرحه لنقائض جرير والفرزدق، وتوالى من بعده التأليف فيها والعناية بها على نحو ما تقدم فى غير هذا الموضع.
وكانوا يقصون كثيرا عن ملوكهم من المناذرة والغساسنة ومن سبقوهم أو عاصروهم مثل ملوك الدولة الحميرية ومثل الزبّاء، مما نجده مبثوثا فى تاريخ الطبرى وفى السيرة النبوية لابن هشام، وسقط من ذلك كثير إلى أبى الفرج فى أغانيه. ومن المحقق أن كثيرا من هذا القصص يخالف التاريخ الحقيقى لهؤلاء الملوك، على نحو ما هو معروف عن قصة الزباء، فإنها لا تتفق فى شئ ووثائق التاريخ الرومانى الصحيحة (1) حتى اسمها وهو زنوبيا Zcnobia حرّف إلى الزباء، وربما جاء هذا التحريف من أن أباها كان يدعى زباى، فنسبوها إليه وقالوا بنت زباى، ومع مر الزمن حذفوا كلمة بنت، وأبدلوا الياء المتطرفة بعد الألف حسب قواعدهم الصرفية همزة، وأدخلوا على الاسم أداة التعريف فأصبح الزباء.
وعلى نحو ما كانوا بقصّون عن ملوكهم وأبطالهم كانوا يقصّون عن ملوك الأمم من حولهم وشجعانهم، يدل على ذلك ما جاء فى السيرة النبوية من أن النّضر بن الحارث كان من شياطين قريش وممن كان يؤذى رسول الله صلى الله عليه وسلم وينصب له العداوة، وكان قد قدم الحيرة وتعلم أحاديث ملوك الفرس وأحاديث رستم وإسفنديار، فكان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا، فذكّر فيه بالله، وحذّر قومه ما أصاب من قبلهم من الأمم من نقمة الله خلفه فى مجلسه إذا قام، ثم قال: أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثا منه. فهلم إلى، فأنا أحدثكم أحسن من حديثه، ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورستم وإسفنديار (2)».
ومما لا ريب فيه أنهم كانوا يقصون كثيرا عن كهّانهم وشعرائهم وسادتهم، وهو قصص استمدت منه كتب التاريخ وللشعر والأدب معينا لا ينضب من الأخبار، وارجع إلى تراجم صاحب الأغانى فستراها تحفل بمادة غنية من القصص، وقد بثوا فيها غير قليل من قصص الهوى. كقصة المرقّش الأكبر وصاحبته أسماء بنت عوف، وما كان من عشقه لها وهو غلام ومحاولته خطبتها من أبيها. واعتذار الأب له بحداثة سنه وأنه لم يعرف بعد بشجاعة. وما كان من انطلاق المرقّش إلى بعض الملوك ومديحه له وبقائه عنده زمنا، وفى هذه الأثناء أصاب عوفا زمان شديد،
(1) تاريخ العرب قبل الإسلام لجواد على 3/ 99 وما بعدها.
(2)
السيرة النبوية (طبعة الحلبى) 1/ 21
فأتاه رجل من مراد، فأرغبه فى المال، فزوجه ابنته على مائة من الإبل، ورحل بها إلى أهله. وقال إخوة المرقّش لا تخبروه بخبرها حين يرجع، بل قولوا له إنها ماتت، وذبحوا لذلك كبشا، أكلوا لحمه ودفنوا عظامه. فلما قدم المرقش قالوا له إنها ماتت. ولم يلبث أن عرف الحقيقة بعد أن ظل مدة يعود قبر الكبش ويزوره.
وخرج المرقش يطلب أسماء، وبعد مغامرات يتعرف على راعى زوجها، ويتوسل إليه أن يحدثها عنه، فيقول له: إنى لا أستطيع أن أدنو منها، ولكن تأتينى جاريتها كل ليلة، فأحلب لها عنزا، فتأتيها بلبنها. فقال له مرقش: خذ خاتمى هذا، فإذا حلبت فألقه فى اللبن، فإنها ستعرفه، وإنك مضيب بذلك خيرا لم يصبه راع قط إن أنت فعلت ذلك. فأخذ الراعى الخاتم. ولما راحت الجارية بالقدح وحلب لها العنز طرح الخاتم فيه، فانطلقت الجارية به وتركته بين يدى أسماء.
فلما سكنت الرّغوة أخذته فشربته، وكذلك كانت تصنع. فقرع الخاتم ثنيّتها، فأخذته واستضاءت بالنار، فعرفته، فقالت للجارية: ما هذا الخاتم؟ قالت:
مالى به علم. فأرسلتها إلى مولاها وهو بنجران، فأقبل فزعا، فقال لها: لم دعوتنى؟ قالت له: ادع عبدك راعى غنمك، فدعاه، فقالت: سله أين وجد هذا الخاتم، قال: وجدته مع رجل فى كهف خبّان، فقال لى: اطرحه فى اللبن الذى تشربه أسماء، فإنك مصيب به خيرا، وما أخبرنى من هو، ولقد تركته بآخر رمق. فقال لها زوجها: وما هذا الخاتم؟ قالت: خاتم مرقّش، فأعجل الساعة فى طلبه. فركب فرسه وحملها على فرس آخر وسارا حتى طرقاه من ليلتهما، فاحتملاه إلى أهلهما، فمات عند أسماء وقال قبل أن يموت:
سرى ليلا خيال من سليمى
…
فأرّقنى وأصحابى هجود
فبتّ أدير أمرى كلّ حال
…
وأذكر أهلها وهم بعيد
سكنّ ببلدة وسكنت أخرى
…
وقطّعت المواثق والعهود
فما بالى أفى ويخان عهدى
…
وما بالى أصاد ولا أصيد
ثم مات فدفن فى أرض مراد (1).
(1) أغانى (طبعة دار الكتب) 6/ 129 وما بعدها.
ولم نسق هذه القصة مؤمنين بأنها نفس قصة المرقش التى دارت فى الجاهلية بلغتها وبجميع تفاصيلها، ولكنا سقناها لندل بطوابعها على صورة أمثالها فى الجاهلية، وما كان يتيح القصّاص لمثلها من عناصر التشويق، تارة بما يضيف إلى القصة من خياله، وتارة بما يضيف إليها من أشعار، وقد يضيف إليها أمثالا، على نحو ما نعرف فى قصة الزبّاء، وهى تتضمن عند الضبى اثنى عشر مثلا (1).
وإذا صح ما ذهب إليه بروكلمان من أن تعرف أحد العاشقين على الآخر عن طريق الخاتم شائع فى كثير من الحكايات عند أمم غير العرب (2) كان معنى ذلك أن قصص الجاهليين حتى فى الحب تسربت إليه عناصر من حكايات العشق المماثلة عند الأمم الأجنبية. ويدخل فى هذا الجانب بعض خرافاتهم عن الحيوانات التى يلتقون فيها بخرافات الأجانب (3)، كخرافة الحية والفأس، وقد رواها الضبى على هذه الشاكلة (4):
«زعموا أن أخوين كانا فيما مضى فى إبل لهما، فأجدبت بلادهما، وكان قريبا منهما واد فيه حية، قد حمته من كل أحد، فقال أحدهما للآخر: يا فلان لو أنى أتيت هذا الوادى المكلئ، فرعيت فيه إبلى وأصلحتها، فقال له أخوه:
إنى أخاف عليك الحية، ألا ترى أن أحدا لم يهبط ذاك الوادى إلا أهلكته، قال:
فو الله لأهبطنّ. فهبط ذلك الوادى، فرعا إبله به زمانا، ثم إن الحية لدغته، فقتلته. فقال أخوه: ما فى الحياة بعد أخى خير، ولأطلبن الحية فأقتلها أو لأتبعنّ أخى. فهبط ذلك الوادى، فطلب الحية ليقتلها، فقالت: ألست ترى أنى قتلت أخاك، فهل لك فى الصلح، فأدعك بهذا الوادى، فتكون به، وأعطيك ما بقيت دينارا فى كل يوم. قال: أفاعلة أنت؟ قالت: نعم، قال: فإنى أفعل. فحلف لها وأعطاها المواثيق، لا يضيرها. وجعلت تعطيه كل يوم دينارا، فكثر ماله ونمت إبله، حتى كان من أحسن الناس حالا. ثم إنه ذكر أخاه، فقال: كيف ينفعنى العيش، وأنا أنظر إلى قاتل أخى فلان؟ . فعمد إلى فأس، فأحدّها، ثم قعد لها، فمرت به، فتبعها، فضربها فأخطأها، ودخلت الجحر، فرمى الفأس بالجبل فوقع فوق جحرها، فأثر فيه. فلما رأت ما فعل قطعت عنه
(1) أمثال العرب للمفضل الضبى (الطبعة الأولى بالقاهرة) ص 81 وما بعدها.
(2)
انظر تاريخ الأدب العربى لبروكلمان 1/ 102.
(3)
وانظر كتاب الأمثال فى النثر العربى القديم لعبد المجيد عابدين ص 42.
(4)
أمثال العرب للضبى ص 106.
الدينار الذى كانت تعطيه. ولما رأى ذلك تخوّف شرها وندم، فقال لها: هل لك فى أن نتواثق (نتعاهد) ونعود إلى ما كنا عليه، فقالت: كيف أعاهدك؟ وهذا أثر فأسك وأنت فاجر، لا تبالى العهد. فكان حديث الحية والفأس مثلا مشهورا من أمثال العرب، قال نابغة بنى ذبيان (من قصيدة يعاتب بها بنى مرة):
وإنى لألقى من ذوى الضّغن منهم
…
بلا عثرة، والنفس لا بدّ عاثره
كما لقيت ذات الصّفا من حليفها
…
وما انفكّت الأمثال فى الناس سائره
وينشد الضبى بقية القطعة التى يتحدث فيها النابغة عن قصة الحية مع هذا الراعى الذى اختان عهده. ونحن نشك فى الأبيات كما نشك فى أن القصة حافظت على الأصل الجاهلى، وإن كنا فى الوقت نفسه نظن ظنّا أنها تعطينا جانبا من روح القصص الجاهلى، وأنه كان يلتقى فى بعض جوانبه بقصص الحيوان المعروف عند الهنود، والذى تسرب منهم إلى الأمم الأخرى على نحو ما نعرف فى قصص إيسوب اليونانى، وبين قصصه الزارع والحية (1)، وكأنما تسرب هذا النوع من الهند إلى العرب واليونان جميعا.
ومما لا شك فيه أن عرب الجاهلية قصوا كثيرا عن الجن والعفاريت والشياطين، وقد زعموا أنها تتحول فى أى صورة شاءت إلا الغول فإنها دائما تبدو فى صورة امرأة عدا رجليها، فلابد أن تكونا رجلى حمار. وكثيرا ما تتراءى الجن فى صورة الثيران والكلاب والنعام والنسور. وكانوا يزعمون أن أهم منازلها أرض وبار وصحراء الدهناء ويبسرين. ومن غير شك دخل كثير من قصصهم عنها فى كتب الأساطير والعجائب التى ألفت فى العصر العباسى.
ونحن لم نسق ذلك لنؤكد أنه بقيت لنا من القصص الجاهلى بقية صالحة للدراسة، فإن شيئا من هذا القصص الذى يضاف إلى الجاهليين لم يصلنا مدونا مكتوبا، ولذلك كنا نتهمه جملة، وإن كنا بعد هذا الاتهام نعود فنزعم أنه يصور لنا مادة قصصهم وروحه وطبيعته وكثيرا من ملامحه، ولكن لا بصورة دقيقة، وإنما بصورة عامة.
(1) انظر الأمثال فى النثر العربى القديم ص 43.