المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌3 - الموضوعات - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ١

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدّمة

- ‌تمهيد

- ‌1 - كلمة أدب

- ‌2 - تاريخ الأدب

- ‌3 - تقسيمات تاريخ الأدب العربى وعصوره

- ‌الفصل الأولالجزيرة العربية وتاريخها القديم

- ‌1 - صفة الجزيرة العربية

- ‌2 - الساميون

- ‌3 - العرب الجنوبيون

- ‌4 - العرب الشماليون

- ‌5 - النقوش ونشأة الكتابة العربية

- ‌الفصل الثانىالعصر الجاهلى

- ‌1 - تحديد العصر

- ‌2 - الإمارات العربية فى الشمال (الغساسنة-المناذرة-كندة)

- ‌3 - مكة وغيرها من مدن الحجاز

- ‌4 - القبائل البدوية

- ‌5 - حروب وأيام مستمرة

- ‌الفصل الثالثالحياة الجاهلية

- ‌1 - الأحوال الاجتماعية

- ‌2 - المعيشة

- ‌3 - المعارف

- ‌4 - الدين

- ‌5 - اليهودية والنصرانية

- ‌الفصل الرابعاللغة العربية

- ‌1 - عناصر سامية مغرقة فى القدم

- ‌2 - لهجات عربية قديمة

- ‌3 - نشوء الفصحى

- ‌4 - لهجات جاهلية

- ‌5 - سيادة اللهجة القرشية

- ‌الفصل الخامسرواية الشعر الجاهلى وتدوينه

- ‌1 - رواية العرب للشعر الجاهلى

- ‌2 - رواة محترفون

- ‌3 - التدوين

- ‌4 - قضية الانتحال

- ‌5 - أهم مصادر الشعر الجاهلى

- ‌الفصل السادسخصائص الشعر الجاهلى

- ‌1 - نشأة الشعر الجاهلى وتفاوته فى القبائل

- ‌2 - الشعر الجاهلى شعر غنائى

- ‌3 - الموضوعات

- ‌4 - الخصائص المعنوية

- ‌5 - الخصائص اللفظية

- ‌الفصل السابعامرؤ القيس

- ‌1 - قبيلته وأسرته

- ‌2 - حياته

- ‌3 - ديوانه

- ‌4 - شعره

- ‌الفصل الثامنالنابغة الذبيانى

- ‌1 - قبيلته

- ‌2 - حياته

- ‌3 - ديوانه

- ‌4 - شعره

- ‌الفصل التاسعزهير بن أبى سلمى

- ‌1 - قبيلته

- ‌2 - حياته

- ‌3 - ديوانه

- ‌4 - شعره

- ‌الفصل العاشرالأعشى

- ‌1 - قبيلته

- ‌2 - حياته

- ‌3 - ديوانه

- ‌4 - شعره

- ‌الفصل الحادى عشرطوائف من الشعراء

- ‌1 - الفرسان

- ‌2 - الصعاليك

- ‌3 - شعراء آخرون

- ‌الفصل الثانى عشرالنثر الجاهلى

- ‌1 - صور النثر الجاهلى

- ‌2 - الأمثال

- ‌3 - الخطابة

- ‌4 - سجع الكهان

- ‌خاتمة

- ‌1 - خلاصة

- ‌2 - تعليق

الفصل: ‌3 - الموضوعات

‌3 - الموضوعات

لعل أقدم من حاول تقسيم الشعر العربى جاهليّا وغير جاهلى إلى موضوعات ألّف فيها ديوانا هو أبو تمام المتوفى حوالى سنة 232 للهجرة، فقد نظمه فى عشرة موضوعات، هى الحماسة، والمراثى، والأدب، والنسيب، والهجاء، والأضياف ومعهم المديح، والصفات، والسير، والنعاس، والملح، ومذمة النساء. وهى موضوعات يتداخل بعضها فى بعض فالحديث عن الأضياف إما أن يدخل فى المديح أو فى الحماسة والفخر، والسير والنعاس يدخلان فى الصفات، كما تدخل مذمة النساء فى الهجاء، أما الملح فغير واضحة الدلالة. وجاء فى باب الأدب بما يدل على أنه يقصد به المعنى التهذيبى، غير أنه أنشد فيه أبياتا فى وصف الخمر، وأغفل إغفالا تامّا باب العتاب والاعتذار.

ووزّع قدامة فى كتابه نقد الشعر هذا الفن على ستة موضوعات، هى المديح والهجاء والنسيب والمراثى والوصف والتشبيه وحاول بعقله المنطقى أن يرد الشعر إلى بابين أو موضوعين هما المدح والهجاء. فالنسيب مديح وكذلك المراثى، ومضى يعين المعانى التى يدور حولها المديح، وهى فى رأيه الفضائل النفسية. ونجد نفس المحاولة فى تضييق موضوعات الشعر واضحة فى كتاب نقد النثر، فهو مديح وهجاء وحكمة ولهو، ويدخل فى المديح المراثى والافتخار والشكر واللطف فى المسألة ويدخل فى الهجاء الذم والعتاب والاستبطاء والتأنيب. كما يدخل فى الحكمة الأمثال والزهد والمواعظ، أما اللهو فيدخل فيه الغزل والطّرد وصنعة الخمر والمجون.

وجعل ابن رشيق موضوعات الشعر فى كتابه العمدة تسعة، وهى النسيب، والمديح، والافتخار، والرثاء، والاقتضاء والاستنجاز، والعتاب، والوعيد والإنذار، والهجاء، والاعتذار. ومن السهل أن يردّ موضوع الاقتضاء والاستنجاز إلى المديح، والوعيد والإنذار إلى الهجاء، وأن يضم العتاب إلى الاعتذار، وأيضا فإنه نسى موضوع الوصف. ويقول أبو هلال العسكرى: «وإنما كانت أقسام الشعر فى الجاهلية خمسة: المديح والهجاء والوصف والتشبيه والمراثى، حتى زاد النابغة فيها قسما

ص: 195

سادسا وهو الاعتذار فأحسن فيه (1)» وهو تقسيم جيد غير أنه نسى باب الحماسة، وهو أكثر موضوعات الشعر دورانا على لسانهم.

ولا نستطيع أن نرتب هذه الموضوعات فى الشعر الجاهلى ترتيبا تاريخيّا، ولا أن نعرف كيف نشأت وتطورت، فإن الأصول الأولى لهذا الشعر انطمرت كما قدمنا فى ثنايا الزمن، وإن كنا نستطيع أن نظن ظنّا أنها تطورت من أناشيد دينية كانوا يتجهون بها إلى آلهتهم؛ يستعينون بها على حياتهم فتارة يطلبون منها القضاء على خصومهم، وتارة يطلبون منها نصرتهم ونصرة أبطالهم، ومن ثم نشأ هجاء أعدائهم ومدح فرسانهم وسادتهم، كما نشأ شعر الرثاء وهو فى أصله تعويذات للميت حتى يطمئن فى قبره، وفى أثناء ذلك كانوا يمجدون قوى الطبيعة المقدسة التى تكمن فيها آلهتهم والتى تبعث فيهم الخوف، ومعنى هذا كله أن موضوعات الشعر الجاهلى تطورت من أدعية وتعويذات وابتهالات للآلهة إلى موضوعات مستقلة (2).

ويظهر أنه كانت لا تزال فى نفوسهم بقية من هذه الصلة القديمة بين الشعر ودعاء الآلهة، يدل على ذلك أكبر الدلالة ما جاء فى القرآن الكريم من كثرة الربط بين الشعر والسحر وتعاويذ الكهنة فقد كانوا يرمون الرسول فى بدء دعوته تارة بأنه شاعر وتارة ثانية بأنه كاهن وتارة ثالثة بأنه ساحر {(وَقالُوا إِنْ هذا إِلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ)} وردّ عليهم القرآن دعواهم الكاذبة مرارا فى مثل:{(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ)} ومثل: {(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ).} ويقول جلّ وعز فى سورة الشعراء: {(وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ)} وبعد ذلك: {(هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ، تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفّاكٍ أَثِيمٍ، يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ، وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ إِلَاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً وَاِنْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)} .

وواضح أن القرآن الكريم يحكى على ألسنتهم ما كانوا يؤمنون به من العلاقة بين

(1) ديوان المعانى 1/ 91.

(2)

انظر تاريخ الأدب العربى لبروكلمان (طبع دار المعارف) 1/ 44 وما بعدها.

ص: 196

الشعر والكهانة والسحر، وكانوا يزعمون أن الشياطين تنزل على الشعراء كما تنزل على الكهان. وزعموا أن الأعشى كان له شيطان ينفث فى وعيه الشعر يسمّى مسحلا وأن شاعرا كان يهاجيه يسمى عمرو بن قطن، كانت له تابعة من الجن اسمها جهنّام (1).

وظل بعض الشعراء فى الإسلام يزعم أن له تابعا من الجن، ويؤكد الأسطورة أبو النجم فيزعم أن لكل شاعر شيطانا إما أنثى وإما ذكرا، يقول (2):

إنى وكلّ شاعر من البشر

شيطانه أنثى وشيطانى ذكر

وفى أخبارهم أن الشاعر كان إذا أراد الهجاء لبس حلّة خاصة، ولعلها كحلل الكهان. وحلق رأسه وترك له ذؤابتين ودهن أحد شقى رأسه وانتعل نعلا واحدة (3) ونحن نعرف أن حلق الرأس كان من سنهم فى الحج، وكأن شاعر الهجاء كان يتخذ نفس الشعائر التى يصنعها فى حجه وأثناء دعائه لربه أو لأربابه، حتى تصيب لعنات هجائه خصومه بكل ما يمكن من ألوان الأذى وضروب النحس المستمر.

فالهجاء فى الجاهلية كان لا يزال يقرن بما كانت تقرن به لعناتهم الدينية الأولى من شعائر، ولعلهم من أجل ذلك كانوا يتطيرون منه ويتشاءمون ويحاولون التخلص من أذاه ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. ونحن نعرف أن الغزو والنهب كان دائرا بينهم، غير أن المغيرين إن أغاروا ونهبوا إبلا بينها إبل لشاعر، وتعرض لهم يتوعدهم بالهجاء اضطرّوا اضطرارا إلى ردها أو على الأقل يردون ماله هو وإبله. يروى الرواة أن الحارث بن ورقاء الأسدى أغار على عشيرة زهير، واستاق فيما استاق إبلا له وغلاما، فنظم زهير أبياتا يتوعده بالهجاء المقذع، يقول فيها (4):

ليأتينّك منى منطق قذع

باق كما دنّس القبطيّة الودك

(1) انظر المؤتلف والمختلف ص 203 ومادة جهم فى لسان العرب، والحيوان 6/ 236 والقصيدتين رقم 15، 33 فى ديوان الأعشى

(2)

الحيوان 6/ 229.

(3)

امالى المرتضى (طبعة عيسى الحلى) 1/ 191.

(4)

مختار الشعر الجاهلى للسقا ص 255 وديوان زهير (طبعة دار الكتب المصرية) ص 183. القذع: القبيح. القبطية: كل ثوب أبيض. الودك: الدسم.

ص: 197

ففزع الحارث ورد عليه ما سلبه منه (1). وواضح أن زهيرا يستخدم فى وصف هجائه المنتظر كلمة الدنس، فهو سيلحق به عن طريق هجائه الرّجس والإثم.

ويروى أن رجلا يسمى زرعة بن ثوب من بنى عبد الله بن غطفان خدع غلاما من عشيرة مزّرد بن ضرار الشاعر يسمى خالدا كان يرعى إبلا لأبويه فاشتراها منه بغنم واستاقها، ورجع الغلام إلى أبويه فأخبرهما بما فعل، فقال أبوه: هلكت والله وأهلكتنا، وركب إلى مزرّد وقصّ عليه القصة، فقال مزرّد: أنا ضامن لك أن تردّ عليك بأعيانها، وأنشأ قصيدة طويلة يتوعد فيها زرعة، ويطلب إليه أن يرد الإبل، ونراه يعوّذها بهجائه، فهى إن لم ترد ستكون نارا تأتى على الأخضر واليابس عند زرعة وقومه وسيصيبها الجرب والأمراض المستعصية، يقول (2):

فيا آل ثوب إنما ذود خالد

كنار اللّظى، لا خير فى ذود خالد (3)

بهن دروء من نحاز وغدّة

لها ذربات كالثّدىّ النواهد (4)

جربن فما يهنأن إلا بغلقة

عطين وأبوال النساء القواعد (5)

وقد تحولوا يصبّون أهاجيهم ولعناتهم على خصومهم هم وعشائرهم، فلم يسلم منها أحد من أشرافهم، يقول الجاحظ: «وإذا بلغ السيد فى السؤدد الكمال حسده من الأشراف من يظن أنه الأحق به، وفخرت به عشيرته فلا يزال سفيه من شعراء تلك القبائل قد غاظه ارتفاعه على مرتبة سيد عشيرته فهجاه، ومن طلب عيبا وجده فإن لم يجد عيبا وجد بعض ما إذا ذكره وجد من يغلط فيه ويحمله عنه.

ولذلك هجى حصن بن حذيفة، وهجى زرارة بن عدس وهجى عبد الله بن جدعان وهجى حاجب بن زرارة. وإنما ذكرت لك هؤلاء لأنهم من سؤددهم وطاعة القبيلة لهم لم يذهبوا فيمن تحت أيديهم من قومهم ومن حلفائهم وجيرانهم مذهب كليب بن ربيعة ولا مذهب حذيفة بن بدر ولا مذهب عيينة بن حصن ولا مذهب لقيط بن زرارة. . فإن هؤلاء وإن كانوا سادة فقد كانوا يظلمون (6)» وبمقدار ما

(1) أغانى 10/ 307 وما بعدها.

(2)

المفضليات ص 79.

(3)

الذود: الجماعة القليلة من الإبل.

(4)

دروء: جمع درء وهو النتوء. والنحاز: داء يصيب الإبل بالسعال. الغدة: طاعون الإبل. الذربات: جمع ذربة وهى رأس الخراج، النواهد: النواهض.

(5)

يهنأن: يطلين. الغلقة: شجر يدبغ به الجرب. عطين يريد أنه لا يدبغ بها إلا بعد العطن، القواعد: العجائز.

(6)

الحيوان 2/ 93.

ص: 198

كان فى القبيلة من شرف وأشراف كان هجاؤها عندهم، إذ كانوا لا يزالون يتعرضون لها ولأشرافها بأقبح الهجاء وأقذعه، يقول الجاحظ أيضا:

«إذ استوى القبيلان فى تقادم الميلاد، ثم كان أحد الأبوين كثير الذّرء (النسل) والفرسان والحكماء والأجواد والشعراء، وكثير السادات فى العشائر وكثير الرؤساء فى الأرحاء (القبائل الكبيرة) وكان الآخر قليل الذّرء والعدد ولم يكن فيهم خير كثير ولا شر كثير خملوا أو دخلوا فى غمار العرب وغرقوا فى معظم الناس وكانوا من المغمورين ومن المنسيين فسلموا من ضروب الهجاء. . وسلموا من أن يضرب بهم المثل فى قلة ونذالة، إذ لم يكن (منهم) شر وكان محلهم من القلوب محل من لا يغيظ الشعراء ولا يحسدهم الأكفاء. . وإذا تقادم الميلاد. . . وكان فيهم خير كثير وشر كثير ومثالب ومناقب لم يسلموا من أن يهجوا ويضرب بهم المثل. ولعل أيضا أن تنفق لهم أشعار تتصل بمحبة الرواة وأمثال تسير على ألسنة العلماء. فيصير حينئذ من لا خير فيه ولا شر أمثل حالا فى العامة ممن فيه الفضل الكثير وبعض النقص ولا سيما إذا جاوروا من يأكلهم وحالفوا من لا ينصفهم كما لقيت غنىّ أو باهلة. . فمن القبائل المتقادمة الميلاد التى فى شطرها خير كثير وفى الشطر الآخر شرف وضعة مثل قبائل غطفان وقيس عيلان ومثل فزارة ومرّة وثعلبة ومثل عبس وعبد الله بن غطفان ثم غنىّ وباهلة واليعسوب والطفاوة، فالشرف والخطر فى عبس وذبيان، والمبتلى والملقى والمحروم والمظلوم مثل باهلة وغنىّ مما لقيت من صوائب سهام الشعراء وحتى كأنهم آلة لمدارج الأقوام ينكبّ فيها كل ساع ويعثر بها كل ماش.

وربما ذكروا اليعسوب والطفاوة وهاربة البقعاء (من ذبيان) وأشجع الخنثى ببعض الذكر. . وجلّ معظم البلاء لم يقع إلا بغنى وباهلة وهم أرفع من هؤلاء وأكثر فضولا ومناقب. حتى صار من لا خير فيه ولا شر عنده أحسن حالا ممن فيه الخير الكثير وبعض الشر. . ومن هذا الضرب تميم بن مرّ وثور وعكل وتيم ومزينة، ففى عكل وتيم ومزينة من الشرف والفضل ما ليس فى ثور، وقد سلمت ثور إلا من الشئ اليسير، مما لا يرويه إلا العلماء، والتحف الهجاء على عكل وتيم. وقد شعّثوا بين مزينة شيئا. . وقد نالوا من ضبّة مع ما فى ضبة من الخصال الشريفة. . ولأمر ما بكت العرب بالدموع الغزار من وقع الهجاء. كما بكى مخارق بن شهاب وكما بكى

ص: 199

علقمة بن علائة وكما بكى عبد الله بن جدعان من بيت لخداش بن زهير» (1) وفى السيرة النبوية أن الرسول صلى الله عليه وسلم طلب إلى شعراء المدينة أن يعينوه بأهاجيهم فى قريش، ويروى أنه قال لحسان بن ثابت، وقد أخذ فى هجاء القرشيين:«لشعرك أشد عليهم من وقع النّبل» وفى ذلك ما يصور مدى أثر الهجاء فى نفوس العرب، فقد كان سلاحا لا يقل عن أسلحتهم فى القتال، ولذلك قرنه عبد قيس ابن خفاف البرجمى إلى ما يلقى به أعداءه من سيف ورمح ودرع، يقول (2):

فأصبحت أعددت للنائبا

ت عرضا بريئا وعضبا صقيلا (3)

ووقع لسان كحد السّنان

ورمحا طويل القناة عسولا (4)

وسابغة من جياد الدّرو

ع تسمع للسيف فيها صليلا

كماء الغدير زفته الدّبور

يجرّ المدجّج منها فضولا (5)

فاللسان كان ينكأ بهجائه فى الأعداء نكأ السيوف والرماح. ويخيل إلى الإنسان كأنما تراصّ شعراء القبائل بجانب فرسانها وشجعانها فى صفوف، وقد أخذ كل منهم يريش سهام هجائه ويرمى بها أعداءه من الأشراف والقبائل، وكل يحاول أن يكون سهمه أنفذ السهام وأصماها. حتى لا تقوم للشريف وقبيلته قائمة. وكانوا ينتهزون فرصة تلاقيهم فى الأسواق وخاصة سوق عكاظ، فينشدون أهاجيهم لتذيع، وليلحقوا بخصومهم كل ما يريدون من خزى وعار، وفى ذلك يقول راشد بن شهاب اليشكرى لقيس بن مسعود الشيبانى (6):

ولا توعدنّى إننى إن تلاقنى

معى مشرفىّ فى مضاربه قضم (7)

وذمّ يغشّى المرء خزيا ورهطه

لدى السّرحة العشّاء فى ظلها الأدم (8)

وهو يشير إلى سرحة أو شجرة عظيمة كانت بعكاظ، حيث تقام السوق

(1) الحيوان 1/ 357 - 363.

(2)

المفضليات ص 386.

(3)

العضب: السيف القاطع، والصقيل: المصقول الحاد.

(4)

العسول: اللبن المصمى.

(5)

زفته: حركته، الدبور: ريح غربية تقابل الصبا، المدجج: تام السلاح، ويجر منها فضولا كناية عن أنها سابغة تفضل عن أطرافه.

(6)

المفضليات ص 308.

(7)

المشرفى: السيف، وقضم: فلول من كثرة الطعن.

(8)

السرحة: الشجرة، العشاء، الخفيفة.

ص: 200

الكبيرة هناك ويضرب العرب قباب الأدم، وتجتمع العشائر من أنحاء الجزيرة ومعها شعراؤها وما يحملون فى حجورهم من حجارة الهجاء.

ودار هجاؤهم على كل ما يناقض مثلهم التى صورناها فى غير هذا الموضع، وقد قلنا إنه كانت تجمعها كلمة المروءة، وهى تعنى عندهم فضائلهم من الشجاعة والكرم وحماية الجار والوفاء والنجدة وطلب الثأر، وما هى إلا أن يدخل الشاعر فى الهجاء فإذا هو يخلّص القبيلة وأشرافها من كل هذه الفضائل وما يتصل بها فهى لا تكرم الجار ولا تحميه، وهى تفرّ فى الحروب وتقعد عن الأخذ بثأرها. ولا يكتفى الشعراء الهجاءون بذلك بل يتعرضون لمخازى القبيلة فى حروبها وأيامها التى ولت على أدبارها فيها منهزمة منكسة الأعلام، واقرأ فى المفضليات قصيدة ربيعة بن مقروم رقم 38 فستراه يذكر أمجاد قبيلته فى أيام بزاخة والنّسار وطخفة والكلاب وذات السّليم، واقرأ قصائد بشر بن أبى خازم الأسدى فى المفضليات أيضا فستجده يفصل الحديث عن حروب قومه مع بنى عامر فى يوم النسار ومعهم ومع أحلافهم من تميم فى يوم الجفار وما أنزلوا بهم من خسائر فى الرجال، وتعرض لانتصاراتهم على كثير من القبائل مثل جرم والرباب وجذام وبنى سليم وبنى كلاب وبنى أشجع ومرة بن ذبيان.

ولم يكونوا يقفون عند ذلك، بل كانوا يقذفون فى الأعراض ويطعنون فى الأنساب، متعرضين للأمهات على نحو ما نرى عند الجميح الأسدى فى هجاء بنى عامر وقد غدروا بأسدى منهم وقتلوه فقال يعيرهم بما غدروا، مفدّيا أمهم سلمى استهزاء بهم لما ألحقوا بها من العار، ثم عاد فادّعى عليها البغاء (1):

سائل معدّا من الفوارس لا

أوفوا بجيرانهم ولا غنموا

فدى لسلمى ثوباى إذ دنس ال

قوم وإذ يدسمون ما دسموا (2)

أنتم بنو المرأة التى زعم ال

نّاس عليها فى الغىّ ما زعموا

واسترسل يصمها أبشع الوصم بأبيات ثلاث لا نستطيع التمثل بها لإمعانه فى الفحش. وكثيرا ما يتعرضون لشخص فيزعمون أنه دعىّ فى قومه زنيم. وشاع بينهم هذا الضرب من الوقوع فى الأعراض، مما نجد آثاره فيما بعد عند جرير والفرزدق

(1) المفضليات ص 41.

(2)

ثوباى: أراد نفسه. يدسمون: من الدسم وهو الدنس. يقول ذلك تهكما واستهزاء بهم وبأمهم.

ص: 201

فى العصر الإسلامى، وكأنما أصبح همّ الهاجى أن يضرب عدوه الضربة القاضية، حتى لو كان شريفا معروفا بكثرة المناقب كما يلاحظ الجاحظ، بل لكأن مناقبه كانت تؤذيهم، فكانوا يلطخونه بالعار ما وجدوا إلى ذلك سبيلا، ومن ثمّ لا نعجب حين نجد شاعرا يزعم أن النعمان بن المنذر لم يولد لرشدة، فهو ليس سليل المناذرة إنما هو سليل صائغ بالحيرة، يقول فيه عبد قيس بن خفاف البرجمى (1):

لعن الله ثم ثنّى بلعن

ابن ذا الصائغ الظلوم الجهولا

يجمع الجيش ذا الألوف ويغزو

ثم لا يرزأ العدوّ فتيلا (2)

وكان النعمان كثير الوقائع فى قبائل العرب وخاصة عبد القيس فتعرض له شاعرها يزيد بن الخذّاق بهجاء كثير يتوعده وينذره ويخيفه، يقول فى بعضه (3):

نعمان إنك خائن خدع

يخفى ضميرك غير ما تبدى

وقصة هجاء المتلمس وطرفة لعمرو بن هند مشهورة

ولم يكن جمهور هجائهم يفرد بالقصائد، بل كانوا يسوقونه غالبا فى تضاعيف حماستهم وإشادتهم بأمجادهم وانتصاراتهم الحربية، ولا نبعد إذا قلنا إن الحماسة أهم موضوع استنفد قصائدهم، فقد سعرتهم الحروب، وأمدّها شعراؤهم بوقود جزل من التغنى ببطولتهم وأنهم لا يرهبون الموت، فهم يترامون عليه تحت ظلال السيوف والرماح مدافعين عن شرف قبائلهم وحماها. ويرتفع هذا الغناء بل قل هذا الصياح فى كل مكان، بحيث يخيل إلينا أنه لم يكن هناك صوت سواه، ولعل ذلك ما دفع أبا تمام إلى أن يسمى مجموعته من أشعارهم وأشعار من خلفوهم باسم الحماسة، فهى التى تستنفد أشعارهم وقصيدهم، وهى ديوانهم الذى يسطّر تاريخهم ومناقبهم ومفاخرهم، وهل هناك فخر أعلى من فخر الشجاعة والتنكيل بالأعداء. واقرأ فى المفضليات والأصمعيات فستجد هذا الفخر وما يطوى فيه من حماسة يدور على كل لسان، وستجد الشاعر فيه يتحدث دائما عما تعتز به قبيلته من الأخذ بأوتارها ومن تضيق الخناق على أعدائها، وهو يعدد أيامها مشيدا بحسبها ونسبها وصبرها فى

(1) الحيوان 4/ 379.

(2)

يرزأ: ينقص، والفتيل: الهنة فى شق النواة.

(3)

المفضليات ص 296.

ص: 202

الملمّات وكرمها فى الجدب وحمايتها للجار وإغاثتها للملهوف. وفى أثناء ذلك يصوّب سهام الهجاء إلى نحور أعدائهم، وكأنه يريد أن يقضى عليهم قضاء مبرما.

ونحس فى هذه الحماسة أثر الموجدة الشديدة والحقد البالغ على خصومهم، فهم دائما يتعرضون لهم يهددونهم ويتوعدونهم انتقاما مروّعا، وكان أشد ما يهيجهم أن يقتل منهم قتيل، فحينئذ تهيج القبيلة ويهيج شعراؤها هياجا لا حدّ له، فإذا ثأرت لنفسها وشفت غلّها وحقدها أخذ شعراؤها ينشدون أناشيد النصر من مثل قصيدة دريد بن الصّمّة التى يتغنى فيها بأنه ثأر من قتلة أخيه عبد الله، ومع ذلك لا يزال يتوعدهم، يقول (1):

ويا راكبا إما عرضت فبلّغن

أبا غالب أن قد ثأرنا بغالب (2)

قتلت بعبد الله خير لداته

ذؤاب بن أسماء بن زيد بن قارب (3)

فلليوم سمّيتم فزارة فاصبروا

لوقع القنا تنزون نزو الجنادب (4)

تكرّ عليهم رجلتى وفوارسى

وأكره فيهم صعدتى غير ناكب (5)

فإن تدبروا يأخذنكم فى ظهوركم

وإن تقبلوا يأخذنكم فى التّرائب (6)

وإن تسهلوا للخيل تسهل عليكم

بطعن كإيزاغ المخاض الضوارب (7)

ومرّة قد أخرجنهم فتركنهم

يروغون بالصّلعاء روغ الثعالب (8)

وأشجع قد أدركنهم فتركنهم

يخافون خطف الطير من كل جانب

وثعلبة الخنثى تركنا شريدهم

تعلّة لاه فى البلاد ولاعب

فليت قبورا بالمخاضة أخبرت

فتخبرعنا الخضر خضر محارب (9)

(1) الأصمعيات ص 117.

(2)

عرضت: أتيت العروض، يريد مكة والمدينة وما حولهما.

(3)

لدات: جمع لدة وهو الترب والكفء.

(4)

النزو: الوثب، الجنادب: ضرب صغير من الجراد.

(5)

رجلتى: جمع راجل ضد الفارس الراكب، وهم المشاة. والصعدة: القناة. غير ناكب: غير عادل عنهم.

(6)

الترائب: عظام الصدر.

(7)

تسهلوا: تنزلوا السهل من الأرض. المخاض: الحوامل من النوق، الضوارب: اللواقح، وإيزاغها أن ترمى ببولها شبه رشاش الطعنة من الدم ببولها ورشاشه.

(8)

يروغون: يذهبون هنا وهناك. الصلعاء موضع هو مكان معركته مع مرة.

(9)

المخاضة: موضع من ديار ذبيان، وخضر محارب: قبيلة.

ص: 203

ردسناهم بالخيل حتى تملّأت

عوافى الضباع والذئاب السّواغب (1)

ذرينى أطوّف فى البلاد لعلنى

ألاقى بإثر ثلّة من محارب (2)

وواضح أنه يتشفى من قتلة أخيه، فقد ظفر مع جمع من قبيلته بأعدائه من فزارة، فأخذتهم سيوفهم من أمام ومن وراء، ومسهلين فى الأرض. ويصور ما لقيته مرّة فى الحرب من بلاء شديد وكيف هربت أشجع وكيف نكلوا ببنى ثعلبة وبنى محارب، حتى شبعت منهم الضباع. ويتهددهم بأنه سيعيد الكرّة عليهم. وفى كل مكان يدوّى مثل هذا النشيد، ومن روائعهم فى هذا الباب معلقة عمرو بن كلثوم، وفيها يصيح بانتصارات قومه وأيامهم المعلمة المشهورة من مثل قوله:

متى ننقل إلى قوم رحانا

يكونوا فى اللّقاء لها طحينا

يكون ثفالها شرقىّ نجد

ولهوتها قضاعة أجمعينا (3)

نطاعن ما تراخى الناس عنا

ونضرب بالسيوف إذا غشينا

بسمر من قنا الخطّىّ لدن

ذوابل أو ببيض يعتلينا (4)

نشقّ بها رءوس القوم شقّا

ونخليها الرّقاب فتختلينا

كأن جماجم الأبطال فيها

وسوق بالأماعز يرتمينا (5)

ورثنا المجد قد علمت معدّ

نطاعن دونه حتى يبينا (6)

ونحن إذا عماد الحىّ خرّت

على الأحفاض نمنع من يلينا (7)

نجذّ رءوسهم فى غير وتر

فما يدرون ماذا يتّقونا (8)

(1) ردسناهم: رميناهم، العوافى: لجائعة، وكذلك السواغب.

(2)

الثلة: الجماعة من الناس.

(3)

الثفال: خرقة توضع تحت الرحى لاستقبال ما يطحن، اللهوة: القبضة من الحب.

(4)

توصف الرماح بالسمرة لذبولها، وقنا الخطى: نسبة إلى الخط وهى بلدة كانت على ساحل البحرين تشتهر بصناعة القنا، اللدن: المرفة. البيض: السيوف.

(5)

الأماعز: الأراضى الصلبة، الوسوق: جمع وسق وهو الحمل.

(6)

يبين: يتضح.

(7)

العماد: جمع عمود، خرت: سقطت، الأحفاض: متاع البيت، يقصد بذلك رحلة الحى للحرب.

(8)

الوتر: الثأر، ونجذ: نقطع.

ص: 204

كأن سيوفنا فينا وفيهم

مخاريق بأيدى لاعبينا (1)

كأن ثيابنا منا ومنهم

خضبن بأرجوان أو طلينا (2)

والمعلقة جميعها صياح شديد على هذا النحو الذى يرفع فيه قبيلته تغلب على كل من حولها فى نجد شرقيها وغربيها، فكل من حدثته نفسه منهم بقتالها كان مصيره الهلاك والدمار، ويقول إن حياتهم سلسلة من الحروب، ويصف أسلحتهم التى يذيقون بها أعداءهم كئوس الموت المرة. ومدّ فخره إلى قبائل معد كلها بما يجذون من رءوس شجعانها، واعترف لأعدائه بشجاعتهم، فالسيوف فى أيديهم وأيدى أعدائهم كأنها مخاريق بأيدى لاعبين، وهم يقتلون فيهم، كما يقتل من قومه، فثيابهم جميعا ملطخة بالدماء. وليس عمرو وحده الذى يصف خصومه بالشجاعة، فهناك كثيرون اشتهروا بهذا الإنصاف، وتسمى قصائدهم المنصفة وفى الأصمعيات أمثلة منها طريفة، من مثل قول المفضّل النّكرى يصف موقعة بين عشيرته من بنى نكرة بن عبد القيس وعشيرة عمرو بن عوف، يقول (3):

كأن هزيزنا يوم التقينا

هزيز أباءة فيها حريق (4)

وكم من سيد منا ومنهم

بذى الطّرفاء منطقه شهيق (5)

فأشبعنا السباع وأشبعوها

فراحت كلها تئق يفوق (6)

فأبكينا نساءهم وأبكوا

نساء ما يسوغ بهن ريق

يجاوبن النّياح بكل فجر

فقد صحلت من النّوح الحلوق (7)

وطبيعى وهم يصورون هذه الملاحم أن يصفوا أسلحتهم على نحو ما تقدم عند عمرو بن كلثوم، وهناك كثيرون يطيلون فى وصفها ووصف الخيل التى يركبونها فى للقاء. وممن اشتهر بينهم بوصف الأسلحة أوس بن حجر فى لامية له مشهورة أطال بها فى تصوير سيفه ورمحه ودرعه وقوسه، ويلقانا هذا الوصف كثيرا فى المفضليات

(1) المخاريق: المناديل تلف ويلعب بها، مبة كانت عندهم.

(2)

الأرجوان: صبغ أحمر.

(3)

الأصمعيات ص 233 وما بعدها.

(4)

الهزيز: الصوت، الأباءة: أجمة الغاب.

(5)

ذو الطرفاء: موضع المعركة.

(6)

تئق: ممتلئ، يفوق: يأخذه البهر.

(7)

صحلت: بحت.

ص: 205

والأصمعيات (1)، كما يلقانا معه وصفهم للخيل وكانوا يلقبونها بالأسماء، وممن اشتهر فى هذا الوصف أبو دؤاد الإيادى وزيد الخيل وعمرو بن معد يكرب وغيرهم من فرسانهم المعدودين، وتزخر المفضليات والأصمعيات بهذا الوصف عند من سميناهم وغيرهم.

وفى الحق أن هذا اللون من شعرهم ليس شعر قوة وبطولة فحسب، فقد تغنوا فيه بكريم الشيم وكل ما اتخذوه مثلا رفيعا لهم فى حياتهم وسلوكهم، من كرم ووفاء وغير كرم ووفاء، فعلى نحو ما صوروا فيه بطولة وشجاعة نادرة صوروا كثيرا من الفضائل الحميدة على شاكلة ما نقرأ فى ميمية ربيعة بن مقروم إذ يقول (2):

وإن تسألينى فإنى امرؤ

أهين اللئيم وأحبو الكريما

وأبنى المعالى بالمكرمات

وأرضى الخليل وأروى النديما

ويحمد بذلى له معتف

إذا ذمّ من يعتفيه اللئيما (3)

وأجزى القروض وفاء بها

ببؤسى بئيسى ونعمى نعيما (4)

وقومى فإن أنت كذّبتنى

بقولى فاسئل بقومى عليما

يهينون فى الحق أموالهم

إذا اللّزبات انتحين المسيما (5)

طوال الرماح غداة الصباح

ذوو نجدة يمنعون الحريما

وهو يذكر فى البيت الثانى أن من شيمه أن يروى نديمه بالخمر، ويكثر فى حماستهم تمدحهم بأنهم يسقون ندماءهم الخمر وأنهم يأخذون حظهم من الغناء وسماع القيان ولعب الميسر (6)، وكأن فى ذلك إعلانا عن كرمهم وبذلهم على نحو ما تقدم فى غير هذا الموضع عن طرفة وفتوته. وربما كان ذلك هو أصل ذكر الخمر ووصفها فى الشعر الجاهلى على نحو ما هو معروف عن الأعشى وعدى بن زيد

(1) انظر المفضليات ص 95 وما بعدها ورقم 64 و 75 والأصمعيات رقم 62 و 65.

(2)

المفضليات ص 183.

(3)

المعتفى: السائل فى غير طلب.

(4)

البؤس والبئيسى بمعنى، يقول يجزى بالسيئة مثلها وكذلك الحسنة.

(5)

اللزبات: الشدائد، انتحى: قصد، المسيم: الكثير الإبل والغنم، اشتقه من السائمة.

(6)

المفضليات رقم 113، 120

ص: 206

العبادى، فقد تحولا بها من هذا الباب إلى وصفها فى ذاتها وصفا طريفا.

ومن الموضوعات التى تتصل اتصالا واضحا بالحماسة الرثاء، فقد كانوا يرثون أبطالهم فى قصائد حماسية يريدون بها أن يثيروا قبائلهم لتأخذ بثأرهم (1)، فكانوا يمجدون خلالهم ويصفون مناقبهم التى فقدتها القبيلة فيهم، حتى تنفر إلى حرب من قتلوهم. وكان يشرك الرجال فى ذلك النساء، فقد كن ما يزلن ينحن على القتيل حتى تثأر القبيلة له. ويظهر أنه كان يشيع عندهم ضرب من (التعديد) الذى نعرفه فى مصر، فما تزال امرأة تنوح ويرد عليها صواحبها، وقد حدثنا الرواة أن الخنساء كانت تخرج إلى عكاظ فتندب أخويها صخرا ومعاوية، وكانت هند بنت عتبة أم معاوية تحكيها نائحة أباها (2). وفى هذا الخبر ما يدل على أن النساء لم يكن يندبن موتاهن يوما أو أياما، بل كن يطلن ذلك إلى سنين معدودات، ويقال إنهن كن يحلقن شعورهن ويلطمن خدودهن بأيديهن وبالنعال والجلود، وكن يصنعن ذلك على القبر وفى مجالس القبيلة والمواسم العظام. ولعل فى حلق رءوسهن ما يجمع بينهن وبين الهجائين كما قدمنا وما يشهد بأن هذا الرثاء إنما هو تطور عن تعويذات كانت تقال للميت وعلى قبره حتى يطمئن فى لحده. وبمر الزمن تطور الرثاء عندهم إلى تصوير حزنهم العميق إزاءما أصابهم به الزمن فى فقيدهم، فتلك التعويذات أصبحت وخاصة عند نسائهم بكاء ونواحا وندبا حارّا. ونجد بجانب هذا الندب ضربا من الرثاء يقوم على تأبين الميت والإشادة بخصاله وصفاته، وما نشك فى أن الصورة القديمة لهذا التأبين هى تلك النقوش التى عثروا عليها فى أنحاء مختلفة من الجزيرة، وقد تحدثنا عنها فيما أسلفنا، وكانوا يكتبون فيها أسماءهم وألقابهم وبعض أعمالهم تمجيدا لذكراهم وتخليدا لها، وتحولت هذه الصورة الساذجة إلى هذا التأبين الواسع الذى نجده عند الجاهليين. وقد ذهبوا يضمون إليه صورة من العزاء والدعوة إلى الصبر على الشدائد، فالموت كأس دائرة على الجميع، ولا مردّ لحكم القضاء.

وقام بالقسط الأكبر من ندب الميت وبكائه النساء، فكن يشققن جيوبهن عليه ويلطمن وجوههن ويقرعن صدورهن ويعقدن عليه مأنما من العويل والبكاء، ومن خير ما يصور ذلك كتاب «مراثى شواعر العرب» للويس شيخو، وسابقتهن

(1) المفضليات رقم 109.

(2)

الأغانى (طبعة دار الكتب) 4/ 210.

ص: 207

التى لا تنازع هى الخنساء، فقد قتل أخوها معاوية فى بعض المعارك، فارتفع نشيجها وبكاؤها عليه، وقتل أيضا أخوها صخر فاتسع الجرح والتاعت لوعة شديدة، ومن رائع ما ندبت به صخرا:

قذى بعينك أم بالعين عوّار

أم ذرّفت أن خلت من أهلها الدار (1)

كأن عينى لذكراه إذا خطرت

فيض يسيل على الخدّين مدرار (2)

فالعين تبكى على صخر وحقّ لها

ودونه من جديد الأرض أستار (3)

تبكى خناس وما تنفك ما عمرت

لها عليه رنين وهى مقتار (4)

بكاء والهة ضلّت أليفتها

لها حنينان: إصغار وإكبار (5)

ترعى إذا نسيت حتى إذا ذكرت

فإنما هى إقبال وإدبار

وإن صخرا لتأتمّ الهداة به

كأنه علم فى رأسه نار (6)

ولعل من الطريف أن بعض شعرائهم كان إذا أحسّ داعى الموت ندب نفسه ووصف ما يصنعه به أهله بعد الموت من ترجيل شعره ووضعه فى مدارج الكفن، ثم لحده ودفنه، وتنسب للممزّق العبدى أو ليزيد بن الخذّاق قطعة يصور فيها هذا المصير الذى ينتظره، يقول فيها (7):

هل للفتى من بنات الدهر من واق

أم هل له من حمام الموت من راق (8)

قد رجّلونى وما رجّلت من شعث

وألبسونى ثيابا غير أخلاق (9)

وأرسلوا فتية من خيرهم حسبا

ليسندوا فى ضريح التّرب أطباقى (10)

(1) العوار: الرمد، ذرفت: قطرت قطرا متتابعا.

(2)

مدرار: كثير.

(3)

الأستار: الأحجار، وكنت بجديد الأرض عن أنه مات حديثا.

(4)

خناس: الخنساء، مقتار: ضعيفة.

(5)

الإصغار: خفض الصوت بالحنين، والإكبار: رفعه.

(6)

العلم: الجبل.

(7)

المفضليات: ص 300.

(8)

بنات الدهر: أحداثه، حمام الموت: دنوه.

(9)

الترجيل: تسريح الشعر، الأخلاق: الممزقة.

(10)

الأطباق: المفاصل.

ص: 208

وكانوا يكثرون من تأبين من يموتون منهم فى ميادين الحرب، وقد يضمنون هذا التأبين هجاء لاذعا لخصومهم وفخرا بعشيرتهم ومآثرها وأيامها، على نحو ما نجد فى قصيدة المرقش (1):

هل بالديار أن تجيب صمم

لو كان رسم ناطقا كلّم

فقد بدأها بالغزل وخرج منه إلى الرثاء، فمديح بعض ملوك الغساسنة، ثم فخر بقومه، وهجا أعداءهم. وقد يجعلون القصيدة خالصة للتأبين، على نحو ما صنع دريد بن الصمة فى مرثية أخيه عبد الله (2).

أرثّ جديد الحبل من أمّ معبد

بعاقبة وأخلفت كلّ موعد

وقد استهلها على هذه الشاكلة بالغزل، ثم مضى يرثى أخاه مصورا مصرعه وولهه به وجزعه ومتحدثا عن خلاله الحميدة من الشجاعة والجود والمضاء والصبر والحزم.

ولم يؤبنوا أبطالهم من القتلى فحسب، بل فسحوا فى مراثيهم لتأبين أشرافهم وإن ماتوا حتف أنوفهم، فخرا بهم واعتزازا بمناقبهم وأعمالهم ومآثرهم، وقد نجدهم يستنزلون لهم الغيث من السماء حتى تصبح قبورهم رياضا عطرة، ومن رائع تأبينهم مرثية أوس بن حجر لفضالة بن كلدة الأسدى، وفيها يقول (3):

أيّتها النفس أجملى جزعا

إن الذى تحذرين قد وقعا

إن الذى جمّع السماحة

والنّجدة والحزم والقوى جمعا

الألمعىّ الذى يظنّ لك ال

ظنّ كأن قد رأى وقد سمعا (4)

المخلف المتلف المرزّأ لم

يمتع بضعف ولم يمت طبعا (5)

أودى وهل تنفع الإشاحة من

شئ لمن قد يحاول البدعا (6)

(1) المفضليات ص 237.

(2)

الأصمعيات ص 111، أرث: أخلق. بعاقبة: بآخرة.

(3)

ديوان أوس بن حجر ص 53 والأغانى 11/ 74.

(4)

الألمعى: حاد الذكاء، يريد أنه يحدس الأمور فلا يخطئ وأنه فطن صادق الظن جيد الفراسة.

(5)

المرزأ: الذى تصيبه الرزايا فى ماله لكرمه، يمتع: يصاب، الطبع: اللئيم.

(6)

أودى: مات، الإشاحة: الجد فى طلب الشئ، البدع: الأمور الغريبة.

ص: 209

وكانوا أحيانا حين يذكرون الموت يتأسون ويتعزون عنه بأنه حوض لا بد من وروده وقد سبقتهم إليه الأجيال الماضية من ملوك وغير ملوك (1):

وعلى هذا النحو ألمّ الشاعر الجاهلى بجوانب الرثاء الثلاثة من الندب والتأبين والعزاء، وكان رثاؤه غالبا يتعلق بأفراد وقلما تعلق بمجموعة من الفرسان، ومن هذا القليل قصيدة أصمعية لأبى دؤاد الإيادى يرثى فيها من أودى من شباب قبيلته وكهولهم، ونراه يقول فى مطلع رثائهم (2):

لا أعدّ الإقتار عدما ولكن

فقد من قد رزئته الإعدام

ويستمر يبكى فيهم الرءوس العظام وخلالهم من التأنى والرفق والكرم وطيب الأرومة وشجاعة الأسد وما يخلط فرط حدّتهم من أحلام وعقول راجحة، ويقول إنهم أصبحوا هاما وصدى، إذ كانوا يعتقدون أن عظام الميت تتحول هامة تطير وصدى ما يزال يقول اسقونى:

سلّط الدهر والمنون عليهم

فلهم فى صدى المقابر هام

فعلى إثرهم تساقط نفسى

حسرات وذكرهم لى سقام

وبجانب هذا الرثاء كان عندهم مديح واسع يتمدحون فيه بمناقب قبائلهم وسادتها. وكانوا كثيرا ما يمدحون القبيلة التى يجدون فيها كرم الجوار متحدثين عن عزتها وإبائها وشجاعة أبنائها وما فيهم من فتك بأعدائهم وإكرام لضيوفهم ورعاية لحقوق جيرانهم (3).

وكان بعض السادة تمتد مآثرهم إلى من حولهم من القبائل فكان يتصدّى لهم شعراؤها يمدحونهم لمكرماتهم التى أدّوها، كأن يفتكّوا أسيرا، على نحو ما صنع خالد بن أنمار بابن أخت المثقب العبدى، فكان جزاؤه منه مدحة جيدة، يقول فيها (4)»:

(1) المفضليات ص 217.

(2)

الأصمعيات ص 215.

(3)

المفضليات ص 305، 371.

(4)

المفضليات ص 294، مترع: ملآن. ربعى الندى: نسب نداء إلى الربيع كناية عن كثرته وإمراعه، والندى: الكرم. ويقول إن مجلسه غير لطم فهو لا يتلاطم فيه، إنما هو مجلس سكون وحلم.

ص: 210

مترع الجفنة ربعىّ النّدى

حسن مجلسه غير لطم

ولا نصل إلى أواخر العصر الجاهلى حتى يتخذ الشعراء المديح وسيلة إلى الكسب، فهم يقدمون به على السادة المبرزين وملوك المناذرة والغساسنة يمدحونهم وينالون جوائزهم وعطاياهم الجزيلة. وأخذوا فى أثناء ذلك يعنون بهذه القصائد عناية بالغة حتى تحقق لهم ما يريدون من التأثير فى ممدوحيهم. واشتهر بذلك زهير والنابغة وحسان ابن ثابت، أما زهير فاختص بأشراف قومه، وأما حسان فاختص بالغساسنة، ولعلقمة بن عبدة فيهم مفضلية بديعة نظمها فى الحارث الأصغر يتشفع لأخيه وقد وقع فى يديه أسيرا (1). أما النابغة فخص النعمان بن المنذر بمدائحه، وتصادف أن وقع بعض قومه أسرى فى أيدى الغساسنة، فأقبل عليهم يمدحهم ويتشفع فيهم، مما كان سببا فى غضب النعمان بن المنذر عليه، وسرعان ما أخذ يقدم له اعتذارات هى من أروع ما دبّجه الجاهليون

ومعنى ذلك أن الاعتذار نشأ نشوءا من المديح وفى ظلاله، وإن كانت تتداخل فيه عاطفة الخوف مع عاطفة الشكر والرجاء. ومما ينحو نحو الاعتذار ما ظهر عندهم من فنون عتاب كان ينشئه بعض الشعراء ملامة لما قد يصيبه من أذى الأقارب على نحو ما نجد عند ذى الإصبع العدوانى (2) والمتلمّس (3).

ولكن عتابهم واعتذارهم قليل، أما المديح فكثير كثرة مفرطة. إذ رحل به الشعراء إلى الملوك والأشراف يمتارون به، ويرجعون إلى أهليهم بجر الحقائب. ويظهر أن المناذرة خاصة كانوا يتخذونه وسيلة للدعاية لهم فى القبائل، فكثر الشعراء حولهم وأخذ يموج بهم بلاطهم منذ عمرو بن هند، فقد قصده كثيرون من أمثال المثقب العبدى، الذى لجأ إليه يمدحه بعد إيقاعه بقبيلته، وممن رحل إليه المتلمس والممزق العبدى وطرفة والمسيب بن علس. وكان النعمان بن المنذر ممدحا للشعراء ومن بديع ما نظم فيه قول حجر بن خالد (4):

سمعت بفعل الفاعلين فلم أجد

كفعل أبى قابوس حزما ونائلا

(1) المفضليات ص 390 وما بعدها.

(2)

انظر قصيدته فى المفضليات برقمى 29، 31.

(3)

الأصمعيات رقم 92.

(4)

الحيوان 3/ 58.

ص: 211

يساق الغمام الغرّ من كل بلدة

إليك فأضحى حول بيتك نازلا

فإن أنت تهلك يهلك الباع والنّدى

وتضحى قلوص الحمد جر باء حائلا (1)

فلا ملك ما يبلغنّك سعيه

ولا سوقة ما يمدحنّك باطلا

وانتهى هذا الفن من فنون شعرهم إلى الأعشى فأصبح حرفة خالصة للمنالة والتكسب. إذ لم يترك ملكا ولا سيدا مشهورا فى أنحاء الجزيرة إلا قصده ومدحه وفخّم شأنه معرضا بالسؤال.

وإذا تركنا المديح إلى الغزل وجدناه موزعا بين ذكريات الشاعر لشبابه ووصفه للمرأة ومعروف أن أول صورة تلقانا فى قصائدهم هى بكاء الديار القديمة التى رحلوا عنها وتركوا فيها ذكريات شبابهم الأولى، وهو بكاء يفيض بالحنين الرائع، ومر بنا أنهم يردونه إلى شاعر قديم سبق امرأ القيس هو ابن خذام، وربما كان فى ذلك ما يدل على أن هذا الجزء من غزلهم يسبق فى قدمه الأجزاء الأخرى فيه.

ونراهم يقفون عند المرأة فيصفون جسدها، ولا يكادون يتركون شيئا فيها دون وصف له. إذ يتعرضون لجبينها وخدها وعنقها وصدرها وعينها وفمها وريقها ومعصمها وساقها وثديها وشعرها. كما يتعرضون لثيابها وزينتها وحليها وطيبها وحيائها وعفتها (2).

وقد يتعرضون لبعض مغامراتهم معها. وهى مغامرات تحوّل بها بعض الرواة إلى قصص غرامية على نحو ما قصوا عن حب المرقش الأكبر لأسماء والأصغر لفاطمة بنت المنذر وعن حب المنخّل اليشكرى للمتجردة زوج النعمان، وله قصيدة رائعة رواها الأصمعى وهى تجرى على هذا النمط (3):

ولقد دخلت على الفتا

ة الخدر فى اليوم المطير

الكاعب الحسناء تر

فل فى الدّمقس وفى الحرير

فدفعتها فتدافعت

مشى القطاة إلى الغدير

(1) الباع: الشرف، الندى: الكرم. القلوص: الناقة الشابة. الحائل: التى حمل عليها فلم تلقح.

(2)

المفضليات رقم 20.

(3)

الأصمعيات رقم 14.

ص: 212

ولثمتها فتنفّست

كتنفّس الظّبى البهير (1)

فدنت وقالت يا من

خّل ما بجسمك من حرور

ما شفّ جسمى غير حبّ

ك فاهدئى عنى وسيرى

ووقف الشعراء طويلا يصورون حبهم للمرأة وما يذرفون من دموعهم على شاكلة قول بشر بن أبى خازم (2):

فظللت من فرط الصّبابة والهوى

طرفا فؤادك مثل فعل الأيهم (3)

وكانت ذكراها لا تزال تلم بهم. ومن ثم أكثروا الحديث عن طيفها وما يثيره فى أنفسهم من تباريح الحب (4) ولهم فى وصف هذه الذكرى وما تصنع بهم شعر كثير يصفون فيه صبابتهم على شاكلة قول المرقّش الأصغر (5):

صحا قلبه عنها، على أن ذكرة

إذا خطرت دارت به الأرض قائما

وكانوا كثيرا ما يصفون ظعنها. وهى ترحل فى الجزيرة من موضع إلى موضع.

وكانت الرحلة أساسا فى حياتهم، فهم يرحلون وراء منابت الغيث، وينتقلون معها حيث حلت، وفى معلقة زهير وصف طويل لهذه الظعن، وربما فاقه فى هذا الوصف المثقّب العبدى فى قصيدته (6):

أفاطم قبل بينك متّعينى

ومنعك ما سألت كأن تبينى

فإنى لو تخالفنى شمالى

خلافك ما وصلت بها يمينى

وقد مضى يصف ظعنها ويتتبع سيرها وما تصنع هى وصواحبها فى قلوب الرجال وهن يظهرن بكلّة ويسدلن أخرى ويرسلن براقعهن على وجوههن وذوائبهن على ظهورهن:

(1) البهير: من البهر وهو ما يعترى الإنسان والحيوان عند السعى الشديد من النهج ونتابع الأنفاس.

(2)

المفضليات ص 346.

(3)

طرفا: يطرف هنا وهناك، الأيهم: المجنون.

(4)

المفضليات ص 39، 113 والأصمعيات ص 57، 246.

(5)

المفضليات ص 245.

(6)

المفضليات ص 288.

ص: 213

أرين محاسنا وكننّ أخرى

من الأجياد والبشر المصون

ويقول إنهن كن يمددن أعناقهن مستشرفات للنظر وصاحبته بينهن تفوقهن حسنا وجمالا. وكن كطبيعة النساء فى كل عصر ينصرفن عن الشّيب ومن قلّ ماله (1).

ولذلك كثر عتابهم معهن، وخاصة من حيث ما يأخذنه عليهم من البذل الذى يذهب بأموالهم، ودائما نراهم يحتجون عليهن بأن خلود المرء فى بذله لا فى ثرائه (2). وقد يصورون فى تعلقهم بالمرأة ضربا من المتاع الحسى، على نحو ما يصور ذلك طرفة فى معلقته وكذلك امرؤ القيس، ومرد ذلك إلى ضرب شاع عندهم من الفتوة، فهم يتمدحون بأنهم يغالون من المرأة ما يريدون، وكانوا وثنيين ولم يكن هناك دين يردعهم. على أن منهم من كان يتسامى فى غزله حتى ليمكن القول بأن الغزل العذرى له أصول فى الجاهلية عند عنترة وأضرابه.

ومن المؤكد أن المرأة الحرة لم تكن ممتهنة عندهم، بل كانت فى المكان المصون، وكان الشاعر يستلهمها شعره، ولذلك كان يضعها فى صدر قصيده، ونحس عند كثيرين منهم، وخاصة فرسانهم من مثل عنترة، أنهم يقدمون مغامراتهم فى الكرم وفى الحرب لها لينالوا حبها، وكان أكثر ما يشجيهم ويبعث الموجدة فى قلوبهم أن تؤسر وتسبى، فكان لا يقر لهم قرار إلا أن يعودوا بها مكرمة إلى ديارهم.

ومن موضوعات شعرهم المهمة الوصف، وقد وصفوا كل شئ وقعت عليه أعينهم فى صحرائهم، وفى العادة يذكرون ذلك بعد غزلهم وتشبيبهم إذ يخرج الشعراء إلى وصف رحلاتهم فى الصحراء، فيتحدثون عن قطعهم للمفاوز البعيدة، فوق إبلهم، ويأخذون فى وصفها وصفا مسهبا على نحو ما هو معروف عن طرفة فى وصفه لناقته بمعلقته وقد كاد أن لا يترك فيها عضوا ولا جزءا دون وصف وتصوير، والمفضليات والأصمعيات تزخر بأحاديثهم عنها ومقدار ما كانوا يرون فيها من جمال وكانوا يشبهونها بالقصور ويشبهون قوائمها بالأعمدة وقد يشبهونها بالسفن والقناطر ويشبهون قوائمها بجذوع الطلح ويديها بالصخر الغليظ أو بيدى السابح، وصوتها

(1) المفضليات ص 35، 186، 418.

(2)

المفضليات ص 118، ص 125. بيت 4 وما بعده ورقم 59 ورقم 104 بيت 11، 12.

ص: 214

بصوت القصب وخفافها بالمطارق. وقد يشبونها بالجبل ويشبهون صدرها بالطريق.

وكانوا يشبهونها بكثير من الحيوان مثل الظليم والثور وحمار الوحش، وحينئذ يستطردون إلى وصف هذه الحيوانات وما يكون من عراك بينها وبين كلاب الصيد (1)، يقول الجاحظ:«ومن عادة الشعراء إذا كان الشعر مرثية أو موعظة أن تكون الكلاب هى التى تقتل بقر الوحش، وإذا كان الشعر مديحا وقال كأن ناقتى بقرة من صفتها كذا أن تكون الكلاب هى المقتولة. ليس على أن ذلك حكاية عن قصة بعينها ولكن الثيران ربما جرحت الكلاب وربما قتلتها. وأما فى أكثر ذلك فإنها تكون هى المصابة والكلاب هى السالمة والظافرة وصاحبها الغانم» (2). وكأنهم كانوا يتخذون قتل الكلاب فى المديح رمزا لأعداء الممدوح، وكانوا فعلا يشبهونهم بالكلاب (3).

وعلى نحو ما أكثروا من وصف الإبل أكثروا من وصف الماعز كما أكثروا من وصف الخيل وشبهوها بضروب من السباع المنعوتة بالمخالب وطول الأظفار.

ولامرئ القيس قطعة بديعة بمعلقته يصف فيها فرسه الذى اتخذه للصيد، وفيها يقول:

له أيطلا ظبى وساقا نعامة

وإرخاء سرجان وتقريب تتفل (4)

يقول أبو عبيدة: «رمما يشبه خلقه من خلق النعامة طول وظيفها (5) وقصر ساقيها وعرى نسييها (6) ومما يشبه من خلقه خلق الأرنب صغر كعبيها، ومما يشبه من خلقه خلق الحمار الوحشى غلظ لحمه وظمأ فصوصه وسراته (7) وتمحّص (8) عصبه وتمكن أرساغه (9) وعرض صهوته (10). . ومما يشبه من خلقه خلق الكلب هرت (11) شدقه وطول لسانه وكثرة ريقه وانحدار قصّه (12) وسبوغ ضلوعه وطول ذراعيه ورحب

(1) انظر فى ذلك معلقة لبيد والمفضليات رقم 17 بيت 64 وما بعده حيث وصف مزرد صائدا مسميا كلابه الستة.

(2)

الحيوان 2/ 20.

(3)

الأصمعيات ص 130.

(4)

أيطلا الظبى: خاصرتاه، الإرخاء: سير السرحان وهو الذئب. والتتفل: الثعلب، وتقريبه: قفزه ووثبه.

(5)

الوظيف: مستدق الساق والذراع.

(6)

النسى: عرق فى الساق.

(7)

ظمأ هنا: ضمور، الفصوص: ملتقى كل عظمتين، سراته: أعلاه.

(8)

تمحص: شدة.

(9)

الرسغ فى الحيوان: المستدق بين الحافر وموصل الوظيف من اليد والرجل.

(10)

الصهوة: مقعد الفارس على الفرس.

(11)

هرت: اتساع.

(12)

قصه: صدره.

ص: 215

جلده ولحوق (1) بطنه (2)». وكثيرا ما وصفوا كلاب الصيد وسموها أسماء كثيرة.

ولأبى زبيد الطائى قصيدة طريفة يصور فيها معركة بين كلب له وأسد، وقد حطمه الأسد حطما (3). وكما ذكروا الأسد ووصفوه وصفوا الذئب كقول طفيل الغنوى وقد شبه فرسه بذئب (4):

كسيد الغضا العادى أضلّ جراءه

على شرف مستقبل الريح يلحب (5)

وذكروا الهر والديك والخنزير فى وصفهم لنشاط الناقة فقال أوس بن حجر (6) كأن هرّا جنيبا عند مغرضها

والتفّ ديك برجليها وخنزير

وقد ذكروا كثيرا الضباع والرخم والعقبان والنسور والغربان وأكلها القتلى (7) كما ذكروا الحبارى والضب واليربوع والجرذان والجراد والأرانب والضفادع والوعول أو المعز الجبلية، وتعرضوا كثيرا لوصف الحيات والأفاعى، ويشبه عنترة نفسه إزاء بعض أعدائه بأسود قد علق فيه نابه، ويقول فى بعض وصفه له (8):

رقود ضحيّات كأن لسانه

إذا سمع الأجراس مكحال أرمدا (9)

وعلى نحو ما وصفوا الحيوان والزواحف وصفوا الطير، وكثيرا ما يستطردون من وصف فرسهم بالعقاب إلى وصفها (10). وكانوا يذكرون الغراب كثيرا ويتشاءمون به، وفيه يقول عنترة (11):

ظعن الذين فراقهم أتوقّع

وجرى ببينهم الغراب الأبقع (12)

(1) لحوق: ضمور.

(2)

الحيوان 1/ 275.

(3)

الحيوان 2/ 274 والأغانى 11/ 132.

(4)

الحيوان 4/ 416.

(5)

السيد: الذئب، والغضا: نبت، وذئاب الغضا أخبث الذئاب، أضل جراءه: فقد أولاده فهو يسرع فى عدوه، يلحب: يمر مرا سريعا.

(6)

الحيوان 1/ 277 وديوان أوس ص 42 جنييا: يجنبها، مغرضها: موضع الحزام منها، وإنما ذكر الهر لأنه يجمع العض بالناب والخمش بالمخالب، يصفها بشدة تفزعها لفرط نشاطها.

(7)

المفضليات ص 304 وانظر ص 252 والأصمعيات ص 119، 174، 234 والحيوان 7/ 21.

(8)

الحيوان 4/ 308.

(9)

رقود الضحى، ذاك من شأن الأفاعى تنام فى الضحى وتستيقظ فى الظلام، والأجراس الأصوات، مكحال الأرمد: ما يكتحل به، جعل لسانه كالمكحال فى دقته وسواده.

(10)

الحيوان 6/ 339 وما بعدها.

(11)

الحيوان 3/ 442 ومختار الشعر الجاهلى ص 392.

(12)

الأبقع: الأسود.

ص: 216

حرق الجناح كأنّ لحيى رأسه

جلمان بالأخبار هشّ مولع (1)

إن الذين نعبت لى بفراقهم

هم أسهروا ليلى التّمام فأوجعوا (2)

وكانوا يذكرون القطا والجراد والعصافير والنمل والعنكبوت والحمام ونوحه وما يهيج فيهم من شوق وشجا. وقد أفاض الجاحظ بكتابه الحيوان فيما جاء على ألسنتهم من وصف ذلك كله وتصويره وينبغى أن لا نعتد بما جاء فيه من قصص أسطورى عن طوق الحمامة والديك والغراب والهدهد والحيات مما ساقه على لسان أمية بن أبى الصلت، فقد حمل عليه شعر كثير وضعه القصاصون والرواة. وقد استرعى الجاحظ كثرة ما جاء على ألسنتهم من وصف فلواتهم (3) ووصف البرد وقوارصه والحر وهواجره (4)» وما يجرى فى ديارهم أحيانا من خصب بعد مطر غزير (5).

وفى معلقة امرئ القيس قطعة طويلة يصف فيها سيلا عرما نزل فى مواطن بنى أسد بالقرب من تيماء. ويتردد هذا الوصف فى شعره وشعر شاعرهم عبيد بن الأبرص.

وكما أكثروا من ذكر الخصب ورطوبة النبات ولدونة الأغصان وكثرة الماء أكثروا من وصف الجدب وطالما وصفوا وعوثة الصحراء ومخاوفهم فى لياليها من الجن والشياطين. وكادوا لا يتركون شيئا يتصل بهم إلا وصفوه، فوصفوا الرعى والمراعى.

ووصفوا الأسلحة والحروب، ووصفوا الخمر وأوانيها وسقاتها ومجلسها وأثرها. وكانوا يقحمونها كما قدمنا فى حماستهم. ويفتخرون بأنهم يسقونها الصحاب والرفاق على صوت القيان ومع نحر الجزور، يقول ثعلبة بن صعير فى حماسية له (6):

أسمىّ ما يدريك أن رب فتية

بيض الوجوه ذوى ندى ومآثر

باكرتهم بسباء جون ذارع

قبل الصباح وقبل لغو الطائر (7)

(1) حرق: أسود، وشبه لحييه بالجلمين لأنه يخبر بالفرقة كما يقطع الجلمان أو المقراضان.

(2)

نعب: صاح، ليل التمام: الشديد الطول.

(3)

الحيوان 6/ 255 وانظر الأصمعيات رقم 61 بيت 29 وما بعده والمفضليات رقم 75

(4)

الحيوان 5/ 73، 5/ 78 وما بعدها وانظر المفضليات رقم 120 بيت 50، 51

(5)

الحيوان 3/ 120 والمفضليات ص 335.

(6)

المفضليات ص 130.

(7)

السباء: اشتراء الخمر، الجون: الزق الأسود. الذارع: المختلط بالماء.

ص: 217

فقصرت يومهم برنّة شارف

وسماع مدجنة وجدوى جازر (1)

وهذه الموضوعات التى قدمناها جميعا كانت تتداخل فى القصيدة الطويلة وكان يتداخل معها ضرب من الحكم والمعانى التهذيبية، فالشاعر ما يزال يدلى فى تضاعيف قصيدته بتجاربه، وقد يفرد لها مقطوعات، إذا اتجه بها إلى تقديم وصية لبنيه، على نحو ما صنع عمرو بن الأهتم فى وصيته لابنه التى يستهلها بقوله (2):

وإن المجد أوّله وعور

ومصدر غبّه كرم وخير (3)

وممن كثرت الحكمة فى شعرهم زهير والأفوه الأودى وعلقمة بن عبدة، وهى تكثر فى ميمية الأخير وتتوالى فى أبيات متعاقبة من مثل قوله (4):

الحمد لا يشترى إلا له ثمن

مما يضنّ به الأقوام معلوم

والجود نافية للمال مهلكة

والبخل باق لأهليه ومذموم

وكلّ حصن وإن طالت سلامته

على دعائمه لا بدّ مهدوم

ويلخص لنا رأى الجاهليين فى المرأة وما تطلبه من الرجل، فيقول فى بائيته (5):

فإن تسألونى بالنساء فإننى

بصير بأدواء النساء طبيب

إذا شاب رأس المرء أو قلّ ماله

فليس له من ودّهن نصيب

ويظهر أن الحكمة قديمة عندهم، فنحن نجدها فى معلقة عبيد بن الأبرص، وفيها يقول:

وكلّ ذى غيبة يئوب

وغائب الموت لا يئوب

ويقول عبدة بن الطبيب (6):

والمرء ساع لأمر ليس يدركه

والعيش شحّ وإشفاق وتأميل

(1) الشارف: الناقة، ورنتها: صوتها عند النحر. المدجنة: القينة تغنى يوم الدجن والغيم. وجدوى الجازر: عطاياه من أطايب اللحم.

(2)

المفضليات ص 410 وانظر القصيدة رقم 116.

(3)

غبه: عاقبته، الخير: الكرم.

(4)

المفضليات ص 401.

(5)

المفضليات ص 392.

(6)

المفضليات ص 142.

ص: 218