المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌4 - شعره - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ١

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدّمة

- ‌تمهيد

- ‌1 - كلمة أدب

- ‌2 - تاريخ الأدب

- ‌3 - تقسيمات تاريخ الأدب العربى وعصوره

- ‌الفصل الأولالجزيرة العربية وتاريخها القديم

- ‌1 - صفة الجزيرة العربية

- ‌2 - الساميون

- ‌3 - العرب الجنوبيون

- ‌4 - العرب الشماليون

- ‌5 - النقوش ونشأة الكتابة العربية

- ‌الفصل الثانىالعصر الجاهلى

- ‌1 - تحديد العصر

- ‌2 - الإمارات العربية فى الشمال (الغساسنة-المناذرة-كندة)

- ‌3 - مكة وغيرها من مدن الحجاز

- ‌4 - القبائل البدوية

- ‌5 - حروب وأيام مستمرة

- ‌الفصل الثالثالحياة الجاهلية

- ‌1 - الأحوال الاجتماعية

- ‌2 - المعيشة

- ‌3 - المعارف

- ‌4 - الدين

- ‌5 - اليهودية والنصرانية

- ‌الفصل الرابعاللغة العربية

- ‌1 - عناصر سامية مغرقة فى القدم

- ‌2 - لهجات عربية قديمة

- ‌3 - نشوء الفصحى

- ‌4 - لهجات جاهلية

- ‌5 - سيادة اللهجة القرشية

- ‌الفصل الخامسرواية الشعر الجاهلى وتدوينه

- ‌1 - رواية العرب للشعر الجاهلى

- ‌2 - رواة محترفون

- ‌3 - التدوين

- ‌4 - قضية الانتحال

- ‌5 - أهم مصادر الشعر الجاهلى

- ‌الفصل السادسخصائص الشعر الجاهلى

- ‌1 - نشأة الشعر الجاهلى وتفاوته فى القبائل

- ‌2 - الشعر الجاهلى شعر غنائى

- ‌3 - الموضوعات

- ‌4 - الخصائص المعنوية

- ‌5 - الخصائص اللفظية

- ‌الفصل السابعامرؤ القيس

- ‌1 - قبيلته وأسرته

- ‌2 - حياته

- ‌3 - ديوانه

- ‌4 - شعره

- ‌الفصل الثامنالنابغة الذبيانى

- ‌1 - قبيلته

- ‌2 - حياته

- ‌3 - ديوانه

- ‌4 - شعره

- ‌الفصل التاسعزهير بن أبى سلمى

- ‌1 - قبيلته

- ‌2 - حياته

- ‌3 - ديوانه

- ‌4 - شعره

- ‌الفصل العاشرالأعشى

- ‌1 - قبيلته

- ‌2 - حياته

- ‌3 - ديوانه

- ‌4 - شعره

- ‌الفصل الحادى عشرطوائف من الشعراء

- ‌1 - الفرسان

- ‌2 - الصعاليك

- ‌3 - شعراء آخرون

- ‌الفصل الثانى عشرالنثر الجاهلى

- ‌1 - صور النثر الجاهلى

- ‌2 - الأمثال

- ‌3 - الخطابة

- ‌4 - سجع الكهان

- ‌خاتمة

- ‌1 - خلاصة

- ‌2 - تعليق

الفصل: ‌4 - شعره

‌4 - شعره

حاول طه حسين أن يردّ شعر امرئ القيس جميعه، لأنه يمنى من كندة وشعره قرشىّ اللغة، وقد مرّ بنا فى غير هذا الموضع أن كندة إن كانت يمنية الجنس فقد كانت عدنانية اللغة، كما مر بنا أن لغة قريش هى التى سادت وذاعت منذ أوائل العصر الجاهلى على لسان جميع الشعراء الشماليين سواء منهم من ينتسب إلى القبائل العدنانية ومن ينتسب إلى القبائل اليمنية، وقد أسلفنا أن أشعاره وأخباره دخلها وضع كثير. غير أن هذا كله لا ينتهى بنا إلى إنكار شعره جملة، وقد رأينا أننا لم نبق منه إلا على قلة قليلة.

ولعل أول ما يلاحظ على هذه الأشعار القليلة أنها تنقسم قسمين واضحين:

قسما نظمه قبل مقتل أبيه وقسما نظمه بعد مقتله. أما القسم الأول فلا يعدو المعلقة، والمطولة الثانية فى ديوانه (ألا عم صباحا أيها الطلل البالى) وهما جميعا مما رواه الأصمعى والمفضل الضبى وأبو عبيدة كما يتبين من تخريجهما فى طبعة الديوان بدار المعارف. وإذا رجعنا إلى المعلقة وجدنا فيها جزءا خاصّا بوصف البرق والمطر والسيول، ونجد نفس الموضوع فى القطعة السابعة والعشرين التى رواها أبو عمرو بن العلاء عن ذى الرمة. ولعل فى ذلك ما يؤكد صحة هذا الجزء على الأقل. ونحن نعرف أن امرأ القيس شبّ فى ديار بنى أسد بالقرب من تيماء (1)، وأن عبيد بن الأبرص كان بعاصره، وقد اشتهر بين الرواة بوصفه للمطر وإحسانه فيه (2). واجتماعهما على هذا الوصف دليل بيّن على صحة ما ينسب إلى امرئ القيس منه.

ومعنى ذلك أن المعلقة تحمل بين ثناياها ما يؤكد نسبتها إلى امرئ القيس، وهو يستهلها بقوله:

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

بسقط اللّوى بين الدخول فحومل (3)

(1) لعل من أكبر الدلالة على ذلك الأمكنة التى يذكرها فى معلقته فجميعها من منازل بنى أسد.

(2)

ابن سلام ص 76.

(3)

السقط: منقطع الرمل، واللوى حيث يلتوى ويرق. وإنما خص منقطع الرمل وملتواء لأنهم كانوا لا ينزلون إلا فى صلابة من الأرض، والدخول وحومل: موضعان.

ص: 248

وقد عدّ القدماء هذا المطلع من مبتكراته، إذ وقف واستوقف وبكى وأبكى من معه وذكر الحبيب والمنزل، ثم أخذ يصور لنا كيف كان أصحابه يحاولون أن ينفّسوا عنه، وهو غارق فى ذكرياته وبكائه وإرسال دموعه وزفراته. وانتقل انتقالا سريعا يقص علينا مغامراته مع النساء، وكأنه يريد أن يستثير صاحبته فاطمة وأن يزرع الغيرة فى قلبها، فهو يذكر لها بعض صواحبه اللائى أبكينه وبرّح حبهن مثل أم الحويرث وأم الرّباب، ثم يفيض فى وصف يوم عنيزة مصورا كيف كان ينال منها وكيف كانت تدلّ عليه أحيانا، وفى أثناء ذلك يتعهر ولا يتستر، فيقول لعنيزة بيته المشهور:

فمثلك حبلى قد طرقت ومرضعا

فألهيتها عن ذى تمائم مغيل (1)

ثم يعود فيبثّ فاطمة حبه مصورا دلالها، ومعاتبا لها عتابا رقيقا، فى تلك الأبيات البديعة:

أفاطم مهلا بعض هذا التدلّل

وإن كنت قد أزمعت صرمى فأجملى (2)

وإن كنت قد ساءتك منى خليقة

فسلّى ثيابى من ثيابك تنسل (3)

أغرّك منى أن حبك قاتلى

وأنك مهما تأمرى القلب يفعل

وما ذرفت عيناك إلا لتقدحى

بسهميك فى أعشار قلب مقتّل (4)

(1) التمائم: جمع تميمة وهى العوذة تعلق على الصبى، المغيل: المرضع.

(2)

بعض هذا التدلل: أى كفى عن بعضه وأزمعت: عزمت، وأجمل التجمل وهو ترك ما يقبح.

(3)

سلى ثيابى من ثيابك: انزعى أمرى من أمرك، وتنسل: تسقط.

(4)

ذرفت العين: سال دمعها، الأعشار: القطع، يقول: ما بكيت إلا لتجرحى قلبا مكسرا.

ص: 249

وما يلبث أن يرجع إلى استثارة فاطمة بمغامرة جريئة له مع من كنى عنها ببيضة خدر لا يرام خباؤها، مصورا كيف اقتحم إليها الأهوال والأحراس وكيف انتحى بها ناحية من الحى يتبادلان فيها الصبابة والغرام، يقول:

وبيضة خدر لا يرام خباؤها

تمتّعت من لهو بها غير معجل (1)

تجاوزت أحراسا وأهوال معشر

علىّ حراص لو يشرّون مقتلى (2)

إذا ما الثّريّا فى السماء تعرّضت

تعرّض أثناء الوشاح المفصّل (3)

فجئت وقد نضت لنوم ثيابها

لدى السّتر إلا لبسة المتفضّل (4)

فقالت يمين الله مالك حيلة

وما إن أرى عنك العماية تنجلى (5)

خرجت بها تمشى تجرّ وراءنا

على أثرينا ذيل مرط مرحّل (6)

فلما أجزنا ساحة الحىّ وانتحى

بنا بطن حقف ذى ركام عقنقل (7)

إذا التفتت نحوى تضوّع ريحها

نسيم الصّبا جاءت بريّا القرنفل (8)

إذا قلت هاتى نوّلينى تمايلت

علىّ هضيم الكشح ريّا المخلخل (9)

فهو يذكر خدرها وأحراسها ومنعتها، وكيف وصل إليها وقد استعدّت للنوم وما كان بينه وبينها من حوار، وكيف أطاعته وخرجت معه من الحى إلى مكان بعيد

(1) شبه صاحبته بالبيضة لبياضها ورقتها.

(2)

يشرون: يظهرون.

(3)

يقول: تجاوزت هذه الأحراس حين مالت الثريا المغيب فأرتك جانبا منها على نحو ما ترى من جانب الوشاح حين يتلقاك بناحية منه، والمفصل: الذى جعل بين كل خرزتين فيه لؤلؤة.

(4)

نضت: نزعت. اللبسة: هيئة اللباس. المتفضل: اللابس ثوبا واحدا.

(5)

العماية: الغواية والجهالة.

(6)

المرط: إزار من خز، المرحل: الموشى.

(7)

أجزنا: قطعنا، والساحة: الفناء. والحقف: المعوج من الرمل، وركام: بعضه فوق بعض، وعقنقل: منعقد متداخل. والواو فى وانتحى زائدة لأنها جواب لما.

(8)

تضوع: انتشر. الريا: الرائحة.

(9)

هضيم: ضامر، الكشح: الخاصرة، وريا المخلخل: أى أن موضع الخلخال من ساقيها ممتلئ.

ص: 250

لا تراهما فيه العيون، وكيف كانت تعفّى آثار أقدامهما بأذيال ثوبها الموشى.

واسترسل يصف محاسنها ومفاتن جسدها وأطرافها، مصورا كيف تستصبى الرجال وتعبث بقلوبهم.

ومن يقرأ هذه المغامرات القصصية عند امرئ القيس تفد على ذهنه توّا مغامرات ابن أبى ربيعة فى غزله، لا من حيث حواره مع النساء وحكايته لأحاديثهن وكلامهن فحسب، بل أيضا من حيث وصف الدبيب إليهن فى الليل ومنعة أحراسهن على نحو ما تصور ذلك رائيته المشهورة:

أمن آل نعم أنت غاد فمبكر

غداة غد أم رائح فمهجّر

وقد لاحظ طه حسين هذا التشابه فى غزل الشاعرين، فأنكر ما ينسب إلى امرئ القيس من هذا الغزل القصصى الصريح وقال إنه انتحل انتحالا، انتحله بعض القصاص على غرار ما وجدوا منه عند ابن أبى ربيعة (1). وليس هناك ما يمنع أن يكون ابن أبى ربيعة قد عرف غزل امرئ القيس وتأثر به كما تقضى طبيعة التأثر إذ يتأثر اللاحق بالسابق، ومن التحكم أن نرفض ذلك. ولعل خيرا من هذا؟ ؟ ؟ الرفض أن نقارن بين صنيعى الشاعرين فى وصف مثل هذه وتقليل ما؟ ؟ ؟ بينهما من فروق، فكلاهما حقّا يتحدث عن زيارته لصواحبه وما يتجشم فيها من أهوال، وما يكون بينه وبينهن من لهو. غير أننا نلاحظ عند عمر كما تصور ذلك رائيته تفننا فى رقة النجوى وفى كلف صواحبه به، ونحس أثر الحضارة التى غمرت المدينة ومكة بعد الفتوح، فالمرأة تتعلق بالشباب، وتسوق معهم معابثات ومغازلات لم تكن تألفها المرأة الجاهلية لزمن امرئ القيس.

ومعنى ذلك أن هذا المنحى من القصص الغرامى منحى قديم بدأه امرؤ القيس ونمّاه من بعده الأعشى (2)، ثم كان العصر الأموى فتعلق به عمر بن أبى ربيعة وأضرابه.

ولعل من الطريف أنه لا يتضح عند امرئ القيس فى المعلقة وحدها، فمثلها المطولة (ألا عم صباحا أيها الضّلل البالى) فإنها تذهب نفس المذهب الذى رأيناه فى المعلقة،

(1) فى الأدب الجاهلى ص 221.

(2)

ابن سلام ص 35.

ص: 251

وهو يفتتحها بالوقوف على أطلال سلمى، ثم يفيض فى وصف مغامراته ولهوه مع بعض النساء بالضبط على نحو ما رأينا فى المعلقة يقول:

سموت إليها بعد ما نام أهلها

سموّ حباب الماء حالا على حال (1)

فقالت: سباك الله إنك فاضحى

ألست ترى السّمّار والناس أحوالى (2)

فقلت: يمين الله أبرح قاعدا

ولو قطّعوا رأسى لديك وأوصالى

فلما تنازعنا الحديث وأسمحت

هصرت بغصن ذى شماريخ ميّال (3)

وصرنا إلى الحسنى ورقّ كلامنا

ورضت فذلّت صعبة أىّ إذلال (4)

فأصبحت معشوقا وأصبح بعلها

عليه القتام سيّئ الظنّ والبال (5)

يغطّ غطيط البكر شدّ خناقه

ليقتلنى والمرء ليس بقتّال (6)

أيقتلنى والمشرفىّ مضاجعى

ومسنونة زرق كأنياب أغوال (7)

وكأن امرأ القيس هو الذى سبق إلى هذا الغزل الفاحش الصريح، وتبعه الشعراء من بعده وإن لم يبلغوا مبلغه من الفحش والصراحة وقد تبعوه فى تشبيبه الذى يودعه مقدمات قصائده وما يطوى فيه من بكاء ولوعة.

ورجع فى معلقته بعد حديثه عن بيضة الخدر يصف لصاحبته شقاءه بحبها وأنه لا يستمع فيه إلى نصيحة ناصح، ولا إلى عذل عاذل، ويصور كيف يقتحم إليها الليل المخوف، ويسترسل فى وصفه فيقول:

وليل كموج البحر أرخى سدوله

علىّ بأنواع الهموم ليبتلى (8)

(1) سموت إليها: يريد نهضت إليها شيئا فشيئا لئلا يشعر أحد بمكانى فكنت مثل حباب الماء يعلو بعضه بعضا فى رفق ومهل.

(2)

سباك: باعدك وأذهب عقلك.

(3)

تنازعنا: تبادلنا، وأسمعت: انقادت وسهلت. وهصرت. جذبت: وأراد بالغصن تمامتها وبالشماريخ ثمرها شبهه بشماريخ النخل لكثرته وغزارته.

(4)

رضت: أذللت، وذلت: لانت.

(5)

القتام: الغبار يريد أن بعلها ساءه ما رآه من ميلها إليه فأصبح كأنه مغبر كاسف الحال.

(6)

يغط: يردد صوتا كصوت البكر وهو الشاب من الإبل يشد حبل فى خناقه، فيسمع له غطيط، كأنه يريد أن يقول إنه يردد صوتا كصوت البعير المختنق.

(7)

المشرفى: السيف، والمسنونة الزرق: السهام.

(8)

السدول: الستور.

ص: 252

فقلت له لما تمطّى بصلبه

وأردف أعجازا وناء بكلكل (1)

ألا أيها الليل الطويل ألا انجلى

بصبح وما الإصباح فيك بأمثل (2)

فيالك من ليل كأن نجومه

بكل مغار الفتل شدّت بيذبل (3)

كأن الثّريّا علّقت فى مصامها

بأمراس كتّان إلى صمّ جندل (4)

فهو يتصور الليل بسواده وهمومه كأنه أمواج لا تنتهى، ويحس كأنه طال وأسرف فى الطول حتى ليظن كأن نجومه شدّت بأسباب وأمراس من الجنادل والجبال فهى لا تتحرك ولا تزول، كأنما سمّرت فى مكانها، فهى لا تجرى ولا تسير، وقد ردّد الشعراء بعده هذا المعنى طويلا. ونراه يخرج منه إلى وصف فرسه وصيده ولذاته فيه، وكأنه يريد أن يضع بين يدى صاحبته فروسيته وشجاعته ومهارته فى ركوب الخيل واصطياد الوحش، يقول:

وقد أغتدى والطير فى وكناتها

بمنجرد قيد الأوابد هيكل (5)

مكرّ مفرّ مقبل مدبر معا

كجلمود صخر حطّه السّيل من عل (6)

كميت يزلّ اللّبد عن حال متنه

كما زلّت الصّفواء بالمتنزّل (7)

مسحّ إذا ما السابحات على الونى

أثرن غبارا بالكديد المركّل (8)

(1) تمطى: امتد. بصلبه: يظهره. وفى رواية بجوزه والجوز: الوسط. والكلكل: الصدر، وناء: نهض.

(2)

انجلى: انكشف. وما الإصباح بأمثل: يريد أنه مهموم فى الليل وفى الصبح.

(3)

مغار: شديد. يذبل: جبل.

(4)

المصام: مكانها الذى لا تبرحه، والأمراس: جمع مرس وهو الحبل. والجندل: الحجارة الكبيرة، والصم: جمع أصم وهو الصلب الشديد.

(5)

الوكنات: المواضع التى تأوى إليها الطير ليلا، والمنجرد: الفرس قصير الشعر، الأوابد: الوحش، هيكل: ضخم.

(6)

الجلمود: الصخرة الصلبة، حطه: أسقطه.

(7)

الكميت: الفرس الأحمر فى سواد. يزل: يسقط، حال المتن: موضعه من وسط الظهر، الصفواء: الصخرة الملساء، المتنزل: النازل عليها.

(8)

مسح: عداء يصب الجرى صبا، السابحات: الخيل المسرعة. الونى: الضعف والفتور. الكديد: ما غلظ من الأرض، المركل: الذى ركلته الخيل بحوافرها. يريد أن حوافره لا تكاد تمس الأرض، وهى لذلك لا تثير بها غبارا كما تصنع السابحات.

ص: 253

على العقب جيّاش كأن اهتزامه

إذا جاش فيه حميه غلى مرجل (1)

يطير الغلام الخفّ عن صهواته

ويلوى بأثواب العنيف المثقّل (2)

درير كخذروف الوليد أمرّه

تقلّب كفّيه بخيط موصّل (3)

له أيطلا ظبى وساقا نعامة

وإرخاء سرحان وتقريب تتفل (4)

كأنّ على الكتفين منه إذا انتحى

مداك عروس أو صراية حنظل (5)

وهو وصف رائع لفرسه الأشقر، فقد صور سرعته تصويرا بديعا، وبدأ فجعله قيدا لأوابد الوحش إذا انطلقت فى الصحراء فإنها لا تستطيع إفلاتا منه كأنه قيد يأخذ بأرجلها. وهو لشدة حركته وسرعته يخيل إليك كأنه يفر ويكرّ فى الوقت نفسه وكأنه يقبل ويدبر فى آن واحد، وكأنه جلمود صخر يهوى به السيل من ذروة جبل عال، وإن لبده لشدة حركته ليسقط عنه وينزلق كما تنزلق الصخرة من منحدر بعيد. وهو يصبّ الجرى صبّا، ويسبق كل الخيل سبقا، لا يثير غبارا ولا نقعا، إنما هو أن يحركه راكبه فإذا به يغلى غليان القدر لا ينى ولا يفتر، وإذا راكبه لا يستطيع الثبات عليه، وما أشبهه فى سرعة انطلاقه بلعبة الخذروف الدوارة التى يلعب بها الصبيان، إذ يصلونها بخيط ويسرعون فى إمرارها إسراعا. وهو فرس ضامر كأنه ظبى نافر، فله خاصرتاه النحيلتان، بل لكأنه نعامة خفيفة فله ساقاها الضئيلتان الصلبتان، وهو يهوى فى الأرض كأنه الذئب الفزع ويقفز كأنه الثعلب الخائف. وإذا اعترضك خيّل إليك للمعانه وبريقه أنك تنظر إلى مداك عروس أو صراية حنظل. واستطرد امرؤ القيس يتحدث عن صيده، فوصف سربا من بقر الوحش عنّ لهم فى الصحراء مصورا كيف قيّده فرسه، فإذا هو يلحق بأوائله

(1) العقب: جرى بعد جرى، اهتزامه: صوت جوفه عند الجرى، الحمى: الغلى، المرجل: القدر.

(2)

يطير: يسقط، الخف: الخفيف، والصهوات: موضع اللبد من ظهره، ويلوى بأثواب العنيف: يذهب بها، العنيف: الأخرق. المثقل: الذى لا يحسن الركوب.

(3)

درير: سريع، خيط موصل: وصلت أجزاؤه، أمره: أمضاه.

(4)

السرحان: الذئب، التتفل: الثعلب، والإرخاء: العدو، التقريب: القفز.

(5)

مداك العروس: حجر تسحق عليه طيبها فيبرق، شبه به الفرس فى بريقه. الصراية: حنظلة صفراء براقة.

ص: 254

تاركا وراءه ما تخلف منه. فصادوا ما ابتغوا، وأخذ الطهاة يعدون لهم طعامهم بين مشوى ومطبوخ. وانتقل من ذلك إلى وصف الأمطار والسيول التى ألمت بمنازل قومه بنى أسد بالقرب من تيماء فى شمالى الحجاز، يقول:

أحار ترى برقا كأنّ وميضه

كلمع اليدين فى حبىّ مكلّل (1)

يضئ سناه أو مصابيح راهب

أهان السّليط فى الذّبال المفتّل (2)

قعدت له وصحبتى بين حامر

وبين إكام بعد ما متأمّل (3)

وأضحى يسحّ الماء عن كل فيقة

يكبّ على الأذقان دوح الكنهبل (4)

وتيماء لم يترك بها جذع نخلة

ولا أطما إلا مشيدا بجندل (5)

كأن طميّة المجيمر غدوة

من السّيل والغثّاء فلكة مغزل (6)

كأن أبانا فى أفانين ودقه

كبير أناس فى بجاد مزمّل (7)

وألقى بصحراء الغبيط بعاعه

نزول اليمانى ذى العياب المخوّل (8)

كأن سباعا فيه غرقى غديّة

بأرجائه القصوى أنابيش عنصل (9)

(1) حار: ترخيم حارث يعنى يا حارث، وميض البرق: لمعانه. الحبى من السحاب: المتراكم، وكذلك المكلل، وقيل الحبى: الدانى من الأرض.

(2)

السنا: الضوء، السليط: الزيت، الذبال: الفتائل، وأهانه هنا: أكثر منه، ويروى أمال بمعنى رعى، وهى أجود.

(3)

حامر وإكام: موضعان، بعد ما متأمل: تأملته من مكان بعيد.

(4)

الفيقة: ما بين الحلبتين: يريد أنه يسح ثم يسكن ثم يسح. وعن: معناها هنا يكب على: يسقط ويلقى على الوجه، الكنهبل: ما عظم من شجر العضاه، والدوح: جمع دوحة وهى الشجرة كثيرة الورق والأغصان.

(5)

الأطم: البيت.

(6)

طمية: جبل، المجيمر: أرض لبنى فزارة، الغثاء: ما يحمله السيل من فتات الأشجار. وفلكة المغزل: ما استدار فوق رأسه.

(7)

أبان: جبل، أفانين: ضروب. الودق: المطر، البجاد: كساء مخطط، ومزمل: صفة لكبير أناس أى أنه متدثر بثيابه ملتف بها.

(8)

الغبيط: موضع، البعاع: الثقل، العياب: الحقائب، المخول: كثير المتاع والغلمان الذين يصحبونه.

(9)

غدية: حين يصبح الناس، وأنابيش العنصل: جذور البصل البرى.

ص: 255

على قطن بالشّيم أيمن صوبه

وأيسره على السّتار فيذبل (1)

ألقى ببسيان مع الليل بركه

فأنزل منه العصم من كل منزل (2)

وقد استهل القطعة بوصف وميض البرق وتألقه فى سحاب متراكم، وشبّه هذا التألق واللمعان بحركة اليدين إذا أشير بهما أو كأنه مصابيح راهب يتوهج ضوؤها بما يمدها من زيت كثير. ويصف كيف جلس هو وأصحابه يتأملونه بين حامر وإكام، والسحاب يسحّ سحّا، حتى لتقتلع سيوله كل ما فى طريقها من أشجار العضاه العظيمة. وتلك نماء لم تترك بها نخلا ولا بيتا، إلا ما شيّد بالصخر، فقد اجتثت كل ما مرت به وأتت عليه من قواعده وأصوله. وهذا طمية جبل المجيمر التفت به السيول وما تحمل من غثاء، حتى لكأنه فلكة مغزل. وذاك أبان بما غطاه من هذا السيل والغثاء يشبه شيخا ملتفّا فى كساء مخطط. وقد ألقى بصحراء الغبيط ثقله فنشربه من النباتات والأزهار ما يشبه ضروب الثياب الزاهية الألوان التى ينشرها التاجر اليمانى حين يعرضها للشراء. وما زالت السيول تفيض حتى علت آجام السباع فغرقت فى لججها وتراءت رءوسها للعين كأنها جذور البصل البرى. وقد تراكم السحاب وملأ أقطار السماء حتى ليظن مبصره أن أيمنه على قطن جبل بنى أسد وأيسره على الستار ويذبل مما يلى بلاد البحرين، وعمّ المطر جبل بسيان حتى أنزل منه الأوعال التى كانت مستقرة به.

ولامرئ القيس مقطوعة فى الغيث والسيل تلتقى فى كثير من معانيها وصورها بهذه القطعة، وهى ذات الرقم 27 فى ديوانه، وقد مر بنا أن أبا عمرو بن العلاء رواها عن ذى الرمة، وهى تمضى على هذا النحو:

ديمة هطلاء فيها وطف

طبق الأرض تحرّى وتدرّ (3)

(1) قطن: اسم جبل فى ديار بنى أسد، الشيم: النظر إلى البرق والمطر. الستار ويذبل: جبلان.

(2)

بسيان: جبل، والبرك: الصدر، العصم: الأوعال.

(3)

الديمة: المطر الدائم، هطلاء: كثيرة الهطل، والوطف: الدنو من الأرض. طبق الأرض: تطبقها وتعمها لكثرة مطرها. تحرى: تعمد إلى الأمكنة وتثبت فيها. وتدر: يكثر ماؤها وترسل درتها.

ص: 256

تخرج الودّ إذا ما أشجذت

وتواريه إذا ما تشتكر (1)

وترى الضّبّ خفيفا ماهرا

ثانيا برثنه ما ينعفر (2)

وترى الشّجراء فى ريّقه

كرءوس قطّعت فيها الخمر (3)

ساعة ثم انتحاها وابل

ساقط الأكناف واه منهمر (4)

راح تمريه الصّبا ثم انتحى

فيه شؤبوب جنوب منفجر (5)

ثجّ حتى ضاق عن آذيّه

عرض خيم فجفاف فيسر (6)

قد غدا يحملنى فى أنفه

لا حق الإطلين محبوك ممرّ (7)

وهو يصور فى هذه المقطوعة منظرا يماثل المنظر السابق، فالمطر ينهمر حتى يعم الأرض من حوله، وهو يدرّ لها ويدنو منها بأهدابه، وحينا يقلع فتبدو الأوتاد من الأرض ولا يلبث أن يعود وتكثر سيوله فتتوارى عن الأنظار. وتترع القيعان فيخرج الضبّ من جحره يعدو عدوا سريعا لما يرى من كثرة المطر. وما تزال السيول تتدفق حتى تغمر الأشجار بل حتى لا يبدو منها إلا أعاليها، فتتراءى كأنها رءوس معممة قطعت فى ساحة حرب عنيفة. وظل المطر على هذا الانصباب الشديد فترة لم تنكشف بعدها السماء، فقد ألقت السحب بوبلها وأثقالها تستدرّها ريح الصبا الشمالية. ولم تلبث ريح الجنوب أن هبّت فانهمرت الأمطار وعلت السيول حتى ضاقت بها خيم

(1) الود: الوتد، أشجذت: أقلعت وسكنت. تشتكر: تحتفل ويكثر مطرها. وقيل الود اسم جبل.

(2)

خفيفا ماهرا: يريد مسرعا فى عدوه. وبرثن الضب: كالإصبع للإنسان. وما ينعفر: لا يصيبه العفر والتراب، يقصد أنه لا يلصق بالتراب لخفة عدوه.

(3)

الشجراء: الأرض ذات الشجر الكثير، ريق المطر: أوله، يريد أن المطر يغمر الأشجار فلا يبدو منها إلا أعاليها، فتتراءى كأنها رءوس قطعت وفيها الخمر وفيها العمائم.

(4)

انتحاها: قصدها. وابل: مطر غزير، ساقط الأكناف: دان من نواحى الأرض. واه: متخرق، منهمر: منسكب.

(5)

راح: عاد بالمطر فى آخر النهار. تمريه: تحركه وتديره. الشؤبوب: دفعة المطر، والجنوب: ريح. منفجر: سائل.

(6)

ثج: سال. الآذى: الموج. وخيم وجفاف ويسر: مواضع.

(7)

يحملنى فى أنفه: يريد فى أنف المطر أى أوله. لاحق الإطلين: فرس ضامر الكشحين، محبوك: موثق الخلق ومثله ممر، وأصله من الحبل الممر، وهو المحكم الفتل.

ص: 257

ضاقت بها خيم وجفاف ويسر.

وأكبر الظن أنه قد اتضحت الآن الموضوعات الأساسية التى كان ينظم فيها امرؤ القيس شعره قبل مقتل أبيه، وهى التشبيب والغزل القصصى الصريح، ووصف الطبيعة المتحركة بما فيها من خيل ووحش والطبيعة الصامتة بما فيها من أمطار وسيول. فتلك هى الموضوعات التى تستغرق أشعاره الأولى. وتجمعها المعلقة جميعا، بينما تقف المطولة الثانية (ألا عم صباحا أيها الطلل البالى) عند التشبيب والقصص الغرامى، ووصف الوحش والفرس وهو فى أثناء وصفهما يعرض لصيده وما يجده فيه من لذة ومتاع ولهو.

وكتب لامرئ القيس أن لا تجرى حياته على هذه الوتيرة من الفراغ الذى يعد لاقتناص اللذات فى اتباع المرأة واللهو بها والمتعة بركوب الخيل والصيد عليها وتملّى مناظر الطبيعة، فقد قتل أبوه، وانقلبت حياته من حياة لاهية إلى حياة جادة ومحاولة عاثرة فى الأخذ بثأر أبيه ورجع سلطان كندة على بنى أسد، وكأنه كان يحس ما ينتظره حين قال فى مطولته (ألا عم صباحا أيها الطلل البالى):

كأنى لم أركب جوادا للذّة

ولم أتبطّن كاعبا ذات خلخال

ولم أسبأ الزّقّ الرّوىّ ولم أقل

لخيلى كرّى كرّة بعد إجفال (1)

ولعله نظم هذه القصيدة فى إبان الدورة الثانية من حياته.

ونحن لا ننتظر منه فى هذه الدورة سوى الحزن والألم العميق، فهذا أبوه حجر يقتل وهؤلاء أعمامه يلقون نفس المصير، ومن قبلهم قتل جده الحارث، وهو يسعى فى سبيل الأخذ بثأر أبيه، والمنذر بن ماء السماء يطلبه وتتحاماه القبائل والعشائر وهو يتنقل فيما بينها يستغيث ولا مغيث. وربما لقى فى أول الأمر شيئا من العون، ولكن ذلك لم يستمر، فقد ازوروا عنه، وهو يطلب من يجيره، وسيف المنذر مصلت يلمع أمام عينيه. فكان طبيعيّا أن يشكو الدهر وأن يتحدث عن مصيره.

وهنا تلقانا مقطوعة رواها الأصمعى غن أبى عمرو بن العلاء، تصور حزنه على آبائه

(1) أسبأ: أشترى. الزق: دن الخمر. الروى: المملوء. الإجفال: الانهزام فى سرعة.

ص: 258

وما تجمّع عليه من البلاء، وهى ذات الرقم الحادى عشر فى ديوانه، وفيها يقول:

أرانا موضعين لأمر غيب

ونسحر بالطعام وبالشراب (1)

عصافير وذبّان ودود

وأجر أمن مجلّحة الذّئاب (2)

وكلّ مكارم الأخلاق صارت

إليه همّتى وبه اكتسابى

فبعض اللوم عاذلتى فإنى

ستكفينى التجارب وانتسابى

إلى عرق الثّرى وشجت عروقى

وهذا الموت يسلبنى شبابى (3)

ونفسى سوف يسلبها وجرمى

فيلحقنى وشيكا بالتّراب

ألم أنض المطىّ بكل خرق

أمقّ الطول لمّاع السّراب (4)

وأركب فى اللهام المجر حتى

أنال مآكل القحم الرّغاب (5)

وقد طوّفت فى الآفاق حتى

رضيت من الغنيمة بالإياب

أبعد الحارث الملك بن عمرو

وبعد الخير حجر ذى القباب (6)

أرجّى من صروف الدّهر لينا

ولم تغفل عن الصّمّ الهضاب (7)

وأعلم أننى عمّا قليل

سأنشب فى شبا ظفر وناب (8)

كما لاقى أبى حجر وجدّى

ولا أنسى قتيلا بالكلاب (9)

فقد ضاع منه الماضى بكل أحلامه، وهو ينظر أمامه فى الأفق البعيد بل القريب، فلا يرى إلا وادى العدم الذى يشدّ إليه الناس جميعا رحالهم، وهم

(1) موضعين: مسرعين. لأمر غيب: يريد الموت المغيب. ونسحر بالطعام: نتلهى ونخدع.

(2)

مجلحة الذئاب: المعصمة التى لا ترجع عما تريد.

(3)

وشجت: اشتبكت واتصلت. ويشير بعرق الثرى إلى آبائه الذين ماتوا.

(4)

أنض: أهزل بطول الرحلة. الخرق: الفلاة. أمق الطول: واسع الطول.

(5)

اللهام: الجيش الكثيف. المجر: الكثير. المآكل هنا: الغنائم، القحم: جمع قحمة من الاقتحام ويريد التزاحم فى شدة. الرغاب: الواسعة.

(6)

القباب: الخيام الكبيرة.

(7)

الصم المصمتة: الجبال. الهضاب: الصلبة.

(8)

شبا كل شئ: حدّه. أنشب: أعلق.

(9)

قتيل موقعة الكلاب هو عمه شرحبيل.

ص: 259

يتعللون عنه بالطعام والشراب، وهو فى انتظارهم، وهم جادون فى المسير إليه.

ويصغر الناس وتصغر أطماعهم فى عينه، ويراهم ضعافا كالعصافير والذباب والدود، ومع ذلك يسقطون على أطماعهم كالذئاب الضارية. ويطلب إلى عاذلته أن تكف عن لومه لتركه اللهو، فإن التجارب غيرت شخصيته خلال ما مر به من أهوال الحياة. وهو ينتسب، فلا يجد أمامه إلا موتى، وهو يترقب نفس الأجل المحتوم، وكأنه شخص آخر سوى هذا الشخص الذى كان يركب الخيل وينضيها فى الفلاة الواسعة، والذى كثيرا ما انتظم فى جيوش أبيه الكثيفة، يغنم المغانم الكبيرة. وها هو اليوم يطوف فى الآفاق وراء مجده المضيّع فلا يظفر إلا بالخيبة واليأس القاتل. وماذا يرجو بعد هذه الصخور الصبة من آبائه وقد واراها التراب. إنه ينتظره نفس المصير، فالموت يفتح فاه، وأظفاره وأنيابه توشك أن تفترسه افتراسا كما افترست جده الحارث وأباه حجرا وعمه شرحبيل يوم الكلاب.

والمقطوعة رائعة لأنها تصور لنا إحساسه بعبث الكفاح ضد المنذر وكيف كان هذا الإحساس يتعمقه فى تلك الفترة من حياته. وليس له بعد ذلك أشعار تستحق الوقوف عندها سوى بعض مقطوعات قصيرة تتداخل فيها رواية الأصمعى مع رواية هشام بن الكلبى، وفيها يمدح ويهجو بعض من كانوا يكرمون جواره أو يسيئون هذا الجوار فلا يمدون يد العون إليه، وهى شظايا صغيرة لا توضح منهجا فى مديح ولا هجاء.

وأكبر الظن أن فيما قدمنا ما يدل على قيمة امرئ القيس، فهو الذى نهج للشعراء الجاهليين من بعده الحديث فى بكاء الديار والغزل القصصى ووصف الليل والخيل والصيد والمطر والسيول والشكوى من الدهر، ولعله سبق بأشعار فى هذه الموضوعات، ولكنه هو الذى أعطاها النسق النهائى، مظهرا فى ذلك ضروبا من المهارة الفنية، جعلت السابقين جميعا يجمعون على تقديمه، سواء العرب فى أحاديثهم عنه أو النقاد فى نقدهم للشعر الجاهلى، يقول ابن سلام: «سبق امرؤ القيس إلى أشياء ابتدعها، استحسنتها العرب واتبعته فيها الشعراء، منها: استيقاف صحبه والبكاء فى الديار ورقة النسيب وقرب المأخذ، وشبّه النساء بالظباء والبيض وشبّه الخيل بالعقبان والعصى، وقيّد الأوابد، وأجاد فى التشبيه، وفصل بين النسيب وبين

ص: 260

المعنى، وكان أحسن طبقته تشبيها» (1).

وواضح أن هذه الفقرة من كتاب طبقات فحول الشعراء تقرر أن امرأ القيس هو الذى فتح للجاهليين أبواب النسيب والغزل ووصف النساء والخيل، وهى تضيف إلى ذلك قرب الماخذ، بحيث جعل العبارات قريبة المنال لا يشوبها عسر ولا صعوبة، وأيضا تضيف أنه فصل بين النسيب والمعنى، فلم يخلطه بشئ، بل أسهب فيه وأفرده عما يليه.

وكل من يقرأ المعلقة وما أثبتناه له من شعر يلاحظ استواء فى العبارات واتساقا فى ترتيب الألفاظ، مما يدل على أنه كان يملك أعنة اللغة فى يده، وقليل جدّا ما قد نلاحظه عنده من بعض النبو كقوله السابق فى المعلقة:

أحار ترى برقا كأن وميضه

كلمع اليدين فى حبىّ مكلّل

يضئ سناه أو مصابيح راهب

أهان السّليط فى الذّبال المفتّل

فقد كان ترتيب السياق ونسقه يقتضيان أن يكمل وصفه للبرق بأنه فى حبى مكلل وسحاب متراكم وأنه يضيئ سناه، ثم يشبهه بلمع اليدين ومصابيح الراهب.

ولكن على كل حال مثل هذا قليل فى شعره، إذ قلما نجد فيه اضطرابا فى ترتيب ألفاظه ومعانيه.

وحقّا ما تقوله الفقرة السابقة عند ابن سلام من أنه أحسن طبقته تشبيها، فتشبيهاته جيدة، وهى تتراكم فى المعلقة وفى قصيدته (ألاعم صباحا أيها الطلل البالى) تراكما يجعله حقّا صاحب فن التشبيه فى العصر الجاهلى فالتشبيهات تتلاحق فى صفوف متعاقبة، وقد عقد لها ابن سلام فصلا فى طبقاته (2)، استمده فى جملته من القصيدتين السالفتين. وأول ما يلاحظ فى هذه التشبيهات أنها مستمدة من واقعه الحسى، وارجع إلى تشبيهاته فى المرأة، فستراه يشبهها بالبيضة فى بياضها ورقتها، كما يشبهها بالدّرّة والبقرة الوحشية، اما ترائبها فكالمرآة وأما شعرها الغزير فكعذق النخلة المتداخل وأما خصرها فليّن كالزمام، وأما ساقها فكالبردىّ فى بياضه،

(1) ابن سلام ص 46 وانظر الشعر والشعراء 1/ 57.

(2)

انظر ابن سلام ص 67 وما بعدها.

ص: 261

وأما أصابعها فكمساويك شجر الإسحل. وكل هذه الأوصاف مبثوثة فى المعلقة، وإذا تركنا حديثه فيها عن المرأة إلى حديثه عن الفرس وجدناه يشبهه بخذروف الوليد ومداك العروس وصراية الحنظل والصخرة الملساء تسقط من عل، كما يشبهه بالظبى فى خاصرتيه والنعامة فى ساقيه والذئب فى عدوه والثعلب فى تقريبه وقفزه. ونحس دائما أنه يحاول أن يطرف سامعه بما يورد عليه من الصور الغريبة، كقوله:

كأنّ دماء الهاديات بنحره

عصارة حنّاء بشيب مرجّل (1)

فدم الوحش الذى صاده امرؤ القيس يلطّخ صدر الفرس فيتراءى كأنه عصارة حناء صبغ بها شيب، إذ لا يكاد يفترق عن الخضاب فى شئ. ويخرج من ذلك إلى وصف السيل والمطر، فيفزع إلى التشبيه الكثير، كأنه لا يرى الشعر شيئا بدونه، وهو لذلك يوشى به كل شئ يعرض له فى المعلقة، سواء حين يصف الثريا أو يصف الليل، وقد أبدع فى وصفه لقطعه وأجزائه، فهى ماتنى تتدافع وتتلاحق غير منتهية. وألم بالوحش، فشبه بقره بعذارى دوار، يقول:

فعنّ لنا سرب كأن نعاجه

عذارى دوار فى الملاء المذيّل (2)

وبذلك عكس الصورة فشبه البقر بالنساء، وهو تشبيه مقلوب، تبعه فيه الشعراء، وأصبح ضربا من ضروب الخيال التى ينسجونها.

وننتقل معه إلى مطولته (ألا عم صباحا أيها الطلل البالى) فتلقانا نفس تشبيهاته للمرأة التى لقيتنا فى معلقته، فهى كالظبية وبيضة النعامة، بل هى كالتمثال الجميل يقول:

ويا ربّ يوم قد لهوت وليلة

بآنسة كأنها خطّ تمثال

ويشبه وجهها فى إشراقه بالمصباح، ويقول إنها لينة ممتلئة كحقف الرمل أو ما استدار منه، ويشبهها بالغصن فى اعتدال قوامها وتثنيها، أما شعرها فكشماريخ النخل فى تداخله وغزارته. ويعرض لليل ونجومه فيشبهها بمصابيح رهبان، ويحدثنا

(1) الهاديات: المتقدمات من بقر الوحش. مرجل: مسرح.

(2)

السرب: القطيع. النعاج هنا: بقر الوحش. ودوار: صنم كانوا يطوفون به فى الجاهلية. المذيل: الطويل السابغ.

ص: 262

عن شجاعته وأنه لا يرهب زوج من يغازلها ولا تهديده، يقول:

أيقتلنى والمشرفىّ مضاجعى

ومسنونة زرق كأنياب أغوال

وهى صورة طريفة، لأنها تقوم على التخييل والوهم. ويخرج إلى وصف فرسه فيشبهه بالهراوة أو العصا فى ضموره وصلابته، ويقول إنه ذعر به قطيع بقر، يجرى البياض والسواد فى سيقانه، حتى لكأنها وشى برود يمانية بديعة. ويعود إلى فرسه، فيشبهه بعقاب تنقض انقضاضا على فريستها، ويقول إن هذه العقاب تصيد الطير وتحمله إلى وكرها، فتأكله إلا قلوبه، فمنها الطرى الغضّ، ومنها الجاف المتقبض، ويعمل خياله، وما هى إلا أن يقول:

كأنّ قلوب الطير رطبا ويابسا

لدى وكرها العنّاب والحشف البالى

وواضح أنه يشبه القلوب الرطبة بالعناب واليابسة بالحشف البالى أو التمر الردئ الجاف، وهو تشبيه كان القدماء يعجبون به لأن امرأ القيس استطاع أن يلائم ملاءمة خيالية بين أشياء متعددة. ويروى عن بشار أنه قال: ما زلت أحسد امرأ القيس على جمعه فى هذا البيت بين تشبيه شيئين بشيئين، حتى قلت:

كأن مثار النّقع فوق رءوسنا

وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه (1)

فجمعت فيه بين ثلاثة وثلاثة (2).

ولعلنا لا نبعد بعد ذلك كله إذا قلنا إن امرأ القيس هو الذى ألهم الشاعر العربى على مر العصور فكرة التشبيه، بل هو الذى وجهه إلى الإسراف فى استخدامه، حتى عندّ ذلك ضربا رشيقا من ضروب الزخرف والبديع (3). وبجانب هذا التشبيه نجد عنده بعض أمثلة للاستعارة المكنية والتصريحية، وهو يأتى بها فى قلة، من ذلك قوله فى المعلقة يخاطب الليل:

فقلت له لما تمطّى بصلبه

وأردف أعجازا وناء بكلكل

(1) النقع: الغبار.

(2)

الأغانى (طبعة دار الكتب) 3/ 196.

(3)

انظر كتاب البديع لابن المعتز (طبعة كراتشكوفسكى) ص 58 وما بعدها.

ص: 263

فقد استعار صورة البعير لهذا الليل الذى لا يزول. ومضى فاستعار صورة القيد لفرسه، فسماه قيد الأوابد فهى لا تفوته، على نحو ما مر بنا فى بيته:

وقد أغتدى والطير فى وكناتها

بمنجرد قيد الأوابد هيكل

وإذا صحت رواية (1) أمال بدلا من أهان فى قوله يصف البرق:

يضئ سناه أو مصابيح راهب

أمال السّليط فى الذّبال المفتّل

كان البيت يتضمن استعارة بديعة، لأن من معانى أمال رعى، وكأنه استعار صورة رعى الأنعام للنبات لما يفنيه الذبال من الزيت شيئا فشيئا. وإذا تركنا معلقته إلى مطولته (ألا انعم صباحا) وجدناه يستعير للحلىّ على نحر صاحبته وتوهجه صورة الجمر، يقول:

كأنّ على لبّاتها جمر مصطل

أصاب غضا جزلا وكفّ بأجذال (2)

ومن الحق أن الاستعارة قليلة فى أشعاره، ولكنها على كل حال مبثوثة فيها، مثلها مثل لونى البديع المسميين بالطباق والجناس، ومن أمثلة طباقه قوله فى المعلقة يصف غدائر صاحبته:

غدائره مستشزرات إلى العلا

تضلّ المدارى فى مثنّى ومرسل (3)

وقوله يصف فرسه:

مكرّ مفرّ مقبل مدبر معا

كجلمود صخر حطّه السّيل من عل

ومن أمثلة الجناس قوله فى غزله:

وإن كنت قد ساعتك منى خليقة

فسلّى ثيابى من ثيابك تنسل

وقوله:

ألا أيها الليل الطويل ألا انجلى

بصبح وما الإصباح فيك بأمثل

(1) ابن المعتز ص 7.

(2)

الغضا: من أشجار نجد. الجزل: الكثير، كف: مد. الأجذال: أصول الشجر. يقول إنه جمر لا يزال متقدا، لأن بجواره مصطليا يقلبه ويتعهده ومن حوله أصول شجر الغضا وعيدانه لا يزال يمد بها النار.

(3)

مستشزرات: مفتولات، المدارى: الأمشاط.

ص: 264

وبجانب ذلك كله نجده يعنى بالتلاؤم بين ألفاظه، فقلما تلقانا فيها لفظة نابية فى حروفها، وأيضا نجد عنده عناية واضحة بموسيقاه، ولعله من أجل ذلك كان يكثر من التصريع على نحو ما صنع فى المعلقة فقد صرّع فيها مرارا، كما فى بيته الذى أنشدناه آنفا والذى يخاطب فيه الليل. وفى الحق أن الموسيقى تطّرد فى المعلقة اطرادا، فلا نحس بنشاز، سوى الزحافات التى يكثر منها على شاكلة قوله:

فجئت وقد نضت لنوم ثيابها

لدى السّتر إلا لبسة المتفضّل

فإن التفعيلة الثانية فى حشو البيت «مفاعلن» وليست مفاعيلن. وإذا قرأنا فى المعلقة قوله:

مكرّ مفرّ مقبل مدبر معا

كجلمود صخر حطّه السّيل من عل

بضم لام القافية-وهذا ما يقتضيه القياس النحوى تقول: من أسفل الجبل ومن عل أى من أعلاه فتضم اللام على نية حذف المضاف إليه-أصبح فى البيت إقواء، وهو يكثر فى الشعر الجاهلى وخاصة قديمه. وأيضا إذا قرأنا وصفه للسيل وغثائه الملتف بجبل أبان فى قوله:

كأن أبانا فى أفانين ودقه

كبير أناس فى بجاد مزمّل

بضم اللام فى كلمة «مزمل» وهو ما يقتضيه القياس النحوى لأنها صفة لكلمة كبير أناس المرفوعة أصبح فى هذا البيت هو الآخر إقواء، إذ اختلفت حركة الروىّ، فأصبحت مرفوعة بينما هى فى بقية القصيدة مجرورة. ويظهر أن هذا لم يكن يكثر عنده.

والحق أنه يعد أبا للشعر الجاهلى بل للشعر العربى جميعه، فقد استوى عنده فى صورة رائعة، سواء من حيث سبقه إلى فنون أجاد فيها، أو من حيث قدرته على الوصف والتشبيه، وقد مضى يعنى بأخيلته ومعانيه وألفاظه مما نجده مائلا فى استعاراته وبعض طباقاته وجناساته، وبذلك أعد الشعراء من بعده للعناية بحلى معنوية ولفظية محتلفة.

ص: 265