الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تمهيد
1 - كلمة أدب
كلمة أدب من الكلمات التى تطور معناها بتطور حياة الأمة العربية وانتقالها من دور البداوة إلى أدوار المدنية والحضارة. وقد اختلفت عليها معان متقاربة حتى أخذت معناها الذى يتبادر إلى أذهاننا اليوم، وهو الكلام الإنشائى البليغ الذى يقصد به إلى التأثير فى عواطف القراء والسامعين، سواء أكان شعرا أم نثرا.
وإذا رجعنا إلى العصر الجاهلى ننقّب عن الكلمة فيه لم نجدها تجرى على ألسنة الشعراء، إنما نجد لفظة آدب بمعنى الداعى إلى الطعام، فقد جاء على لسان طرفة بن العبد (1):
نحن فى المشتاة ندعو الجفلى
…
لا ترى الآدب فينا ينتقر (2)
ومن ذلك المأدبة بمعنى الطعام الذى يدعى إليه الناس. واشتقوا من هذا المعنى أدب يأدب بمعنى صنع مأدبة أو دعا إليها.
وليس وراء بيت طرفة أبيات أخرى تدل على أن الكلمة انتقلت فى العصر الجاهلى من هذا المعنى الحسى إلى معنى آخر، غير أننا نجدها تستخدم على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم فى معنى تهذيبى خلقى، ففى الحديث النبوى:
«أدبنى ربى فأحسن تأديبى» (3) ويستخدمها شاعر مخضرم يسمى سهم بن حنظلة
(1) انظر ديوان طرفة (طبعة آلوارد) القصيدة رقم 5 بيت 46.
(2)
المشتاة: الشتاء، الدعوة الجفلى: العامة، الآدب: الداعى إلى الطعام، لا ينتقر: لا يختار أناسا دون آخرين.
(3)
انظر النهاية فى غريب الحديث والأثر لابن الأثير (طبع القاهرة 1311 هـ) ج 1 ص 3.
الغنوى بنفس المعنى إذ يقول (1):
لا يمنع الناس منّى ما أردت ولا
…
أعطيهم ما أرادوا حسن ذا أدبا
وربما استخدمت الكلمة فى العصر الجاهلى بهذا المعنى الخلقى، غير أنه لم تصلنا نصوص تؤيد هذا الظن. وذهب «نالينو» إلى أنها استخدمت فى الجاهلية بمعنى السنّة وسيرة الآباء مفترضا أنها مقلوب دأب، فقد جمع العرب دأبا على آداب كما جمعوا بئرا على آبار ورأيا على آراء، ثم عادوا فتوهموا أن آدابا جمع أدب، فدارت فى لسانهم كما دارت كلمة دأب بمعنى السنة والسيرة. ودلوا بها على محاسن الأخلاق والشّيم (2). وهو فرض بعيد، وأقرب منه أن تكون الكلمة انتقلت من معنى حسى وهو الدعوة إلى الطعام إلى معنى ذهنى وهو الدعوة إلى المحامد والمكارم.
شأنها فى ذلك شأن بقية الكلمات المعنوية التى تستخدم أولا فى معنى حسى حقيقى، ثم تخرج منه إلى معنى ذهنى مجازى.
ولا نمضى فى عصر بنى أمية حتى نجد الكلمة تدور فى المعنى الخلقى التهذيبى.
وتضيف إليه معنى ثانيا جديدا، وهو معنى تعليمى فقد وجدت طائفة من المعلمين تسمى بالمؤدّبين، كانوا يعلمون أولاد الخلفاء ما تطمح إليه نفوس آبائهم فيهم من معرفة الثقافة العربية، فكانوا يلقّنونهم الشعر والخطب وأخبار العرب وأنسابهم وأيامهم فى الجاهلية والإسلام. وأتاح هذا الاستخدام الجديد لكلمة الأدب أن تصبح مقابلة لكلمة العلم الذى كان يطلق حينئذ على الشريعة الإسلامية وما يتصل بها من دراسة الفقه والحديث النبوى وتفسير القرآن الكريم.
وإذا انتقلنا إلى العصر العباسى وجدنا المعنيين التهذيبى والتعليمى يتقابلان فى استخدام الكلمة، فقد سمى ابن المقفع رسالتين له تتضمنان ضروبا من الحكم والنصائح الخلقية والسياسية باسم «الأدب الصغير» و «الأدب الكبير» . وبنفس هذا المعنى سمى أبو تمام المتوفى سنة 232 هـ/846 م الباب الثالث من ديوان
(1) انظر الأصمعيات (طبع دار المعارف) رقم 12 بيت 30.
(2)
تاريخ الآداب العربية من الجاهلية حتى عصر بنى أمية لكارلونالينو (طبع دار المعارف) ص 14 وما بعدها.
الحماسة الذى جمع فيه مختارات من طرائف الشعر، باسم باب الأدب. وينطبق هذا المعنى تمام الانطباق على كتاب الأدب الذى عقده البخارى المتوفى سنة 256 هـ/ 870 م فى مؤلفه المشهور فى الحديث والمعروف باسم الجامع الصحيح، كما ينطبق على كتاب الأدب الذى صنفه ابن المعتز المتوفى سنة 296 هـ/908 م. وفى هذه الأزمنة أى فى القرنين الثانى والثالث للهجرة وما تلاهما من قرون كانت الكلمة تطلق على معرفة أشعار العرب وأخبارهم. وأخذوا يؤلفون بهذا المعنى كتبا سموها كتب أدب مثل «البيان والتبيين للجاحظ» المتوفى سنة 255 هـ وهو يجمع ألوانا من الأخبار والأشعار والخطب والنوادر، مع ملاحظات نقدية وبلاغية كثيرة. ومثله كتاب «الكامل فى اللغة والأدب للمبرد» المتوفى سنة 285 هـ وقد وجّه اهتمامه إلى اللغة لا إلى البلاغة والنقد كما صنع الجاحظ، وقدم فيه صورا من الرسائل النثرية التى ارتقت صناعتها فى تلك العصور، جاء فى مقدمته:«هذا كتاب ألفناه يجمع ضروبا من الآداب ما بين كلام منثور وشعر مرصوف ومثل سائر وموعظة بالغة واختيار من خطبة شريفة ورسالة بليغة» . ومما ألّف فى الأدب بهذا المعنى كتاب عيون الأخبار لابن قتيبة المتوفى سنة 276 هـ والعقد الفريد لابن عبد ربه المتوفى سنة 328 هـ وزهر الآداب للحصرى المتوفى سنة 453 هـ.
ولم تقف الكلمة عند هذا المعنى التعليمى الخاص بصناعتى النظم والنثر وما يتصل بهما من الملج والنوادر، فقد اتسعت أحيانا لتشمل كل المعارف غير الدينية التى ترقى بالإنسان من جانبيه الاجتماعى والثقافى؛ فقد جاء على لسان الحسن ابن سهل المتوفى سنة 236 هـ:«الآداب عشرة، فثلاثة شهرجانية (1)، وثلاثة أنو شروانية (2)، وثلاثة عربية، وواحدة أربت عليهن، فأما الشهرجانية فضرب العود ولعب الشطرنج ولعب الصوالج، وأما الأنوشروانية فالطب والهندسة والفروسية، وأما العربية فالشعر والنسب وأيام الناس، وأما الواحدة التى أربت عليهن فمقطعات الحديث والسمر وما يتلقاه الناس بينهم فى المجالس» (3). وبهذا المعنى الواسع نجدها عند إخوان الصفا فى القرن الرابع للهجرة، فقد دلوا بها فى رسائلهم إلى جانب
(1) الشهرجانية: نسبة إلى الشهارجة أو الشهاريج وهم أشراف الفرس.
(2)
الأنوشروانية: نسبة إلى كسرى أنوشروان ملك الفرس من سنة 531 - 579 م.
(3)
انظر زهر الآداب للحصرى (طبع مصر) ج 1 ص 140.
علوم اللغة والبيان والتاريخ والأخبار على علوم السحر والكيمياء والحساب والمعاملات والتجارات (1). ولا نصل إلى ابن خلدون المتوفى سنة 808 هـ حتى نجدها تطلق على جميع المعارف دينية وغير دينية، فهى تشمل جميع ألوان المعرفة وخاصة علوم البلاغة واللغة، ومن ثم قال:«الأدب هو حفظ أشعار العرب وأخبارهم والأخذ من كل علم بطرف» (2).
ومنذ القرن الثالث للهجرة نجد الكلمة تدل-فيما تدل عليه-على السنن التى ينبغى أن تراعى عند طبقة خاصة من الناس، وألّفت بهذا المعنى كتب كثيرة مثل أدب الكاتب لابن قتيبة وأدب النديم لكشاجم المتوفى حوالى سنة 350 هـ. وتوالت كتب مختلفة فى أدب القاضى وأدب الوزير وأخرى فى أدب الحديث وأدب الطعام وأدب المعاشرة وأدب السفر إلى غير ذلك. على أن أكثر ما كانت تدل عليه مقطعات الأشعار وطرائف الأخبار.
وأخذت الكلمة منذ أواسط القرن الماضى تدل على معنيين: معنى عام يقابل معنى كلمة Litterature الفرنسية التى يطلقها الفرنسيون على كل ما يكتب فى اللغة مهما يكن موضوعه ومهما يكن أسلوبه، سواء أكان علما أم فلسفة أم أدبا خالصا، فكل ما ينتجه العقل والشعور يسمى أدبا. ومعنى خاص هو الأدب الخالص الذى لا يراد به إلى مجرد التعبير عن معنى من المعانى، بل يراد به أيضا أن يكون جميلا بحيث يؤثر فى عواطف القارئ والسامع على نحو ما هو معروف فى صناعتى الشعر وفنون النثر الأدبية مثل الخطابة والأمثال والقصص والمسرحيات والمقامات.
(1) راجع الرسالة السابعة من القسم الرياضى فى رسائل إخوان الصفا.
(2)
مقدمة ابن خلدون (طبعة المطبعة البهية) ص 408.