الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعلى هذا النحو صفّى علماء الرواية واللغة الشعر الجاهلىّ من شوائب كثيرة علقت به. وإن كنا لا ننكر فى الوقت نفسه أنهم تناولوا أشياء منه بالتنقيح، غير أن ذلك كان فى حدود ضيقة، كأن يبدلوا كلمة مكان كلمة، أيقيموا بعض الألفاظ على سنن لهجة قريش، فقد كانت تسقط على لسان الشعراء أحيانا أشياء من لهجاتهم القبلية، فكانوا يصلحونها، وقد يصلحون عروض بعض القصائد، ولكنهم بصفة عامة حافظوا على جوهر هذا الشعر محافظة تشهد لهم بالدقة، أنهم استطاعوا أن ينقلوا غير قليل منه إلى أجيالهم والأجيال التالية فى صورة تكاد تكون مطابقة تمام المطابقة لأصوله.
3 - التدوين
مرّ بنا أن العرب لم يدونوا شعرهم فى الجاهلية، وأن ما يذكر من أخبار عن كتابة بعض شعرائهم لمقطوعات لهم، إن صح، فإنه لا يدل على أنهم فكروا فعلا فى تدوين أشعارهم، إنما هى قطع تكتب على زحل أو على حجر أو جلد لإنباء القبيلة أو بعض أفرادها بحادث. وقد نفينا أن يكونوا علقوا المعلقات فى الكعبة وكذلك رفضنا رواية حماد عن تدين النعمان بن المنذر لأشعار العرب وما مدح به هو وأهل بيته. ومن الأدلة على ذلك أننا لا نجد راويا ثقة يزعم أنه نقل عن قراطيس كانت مكتوبة فى الجاهلية، كما أننا لا نجد راويا ثقة يزعم أن شاعرا فى الجاهلية ألقى قصيدته من صحيفة مدونة، إنما كانوا ينشدون شعرهم إنشادا، ومن كان منهم يعدّ قصيدته فى حول أو أقل من حول كان يعدها فى نفسه، ويرددها فى ذاكرته، ثم ينشدها، ويحملها الناس عنه، ومن ثم قال الجاحظ:«وكل شئ للعرب فإنما هو بديهة وارتجال وكأنه إلهام. . فما هو إلا أن يصرف (العربى) وهمه إلى جملة المذهب وإلى العمود الذى إليه يقصد، فتأتيه المعانى أرسالا (أفواجا) وتنثال عليه الألفاظ انثيالا، ثم لا يقيّده على نفسه (1)» .
(1) البيان والتبيين 3/ 28.
وظل هذا شأن العرب فى صدر الإسلام، فهم يتناشدون الشعر ولا يقيدونه إلا قليلا وفى ظروف خاصة، حتى مصّرت الأمصار، وراجعت العرب الأشعار، وأخذت فكرة التدوين تسلك طريقها فى تسجيل غزوات الرسول وأحاديثه وفى تقييد بعض الأخبار التاريخية، فدوّن زياد بن أبيه كتابا فى المثالب، ودوّن عروة ابن الزبير غزوات النبى عليه السلام وحروبه، ودوّن معاوية أخبار عبيد بن شريّة أو بعبارة أدق أمر غلمانه بتدوينها، وأخذ بعض الصحابة والتابعين يدوّن أحاديث الرسول عليه السلام. وقد يكون فى تدوين الأحاديث ما ينير لنا الطريق فى تدوين الشعر، فإن كثيرا من الصحابة والتابعين كان ينكر تدوينها، ولم تدوّن تدوينا عاما إلا على رأس المائة، وكذلك نستطيع أن نقول إنه على الرغم من اهتمام القبائل بشعرها الجاهلى وشعرائها الذين يعدون مناط شرفها وفخارها لما يسجلون من مناقبها وأمجادها ومثالب خصومها فإنها لم تعمد إلى تدوين هذا الشعر إلا فى حقبة متأخرة من عصر بنى أمية.
ويظهر أنهم لم يكونوا يدوّنون حينئذ أشعار شعرائهم وحدها، بل كانوا يدونون معها أخبارهم، ولعل أقدم إشارة إلى هذه المدوّنات ما أسلفنا من رواية أصحاب الأخبار عن حماد فى أول تعلقه بالشعر من أنه نقب ليلة على رجل، فأخذ ما عنده وكان فيما أخذه جزء من شعر الأنصار! ويزعم حماد أن الوليد بن يزيد أرسل فى طلبه، فقال فى نفسه:«لا يسألنى إلا عن طرفيه: قريش وثقيف، فنظرت فى كتابى قريش وثقيف (1)» ويروى عن ثعلب أن الوليد بن يزيد جمع ديوان العرب وأشعارها وأنسابها ولغاتها، وأنه طلب لذلك من حماد وجنّاد الكوفيين ما عندهما من هذا الديوان، ثم رد إليهما ما أخذه منهما (2)».
وإن صحت هذه الأخبار كانت دليلا على أنه أخذت تظهر مع أوائل القرن الثانى مدونات تاريخية للقبائل لعلها هى التى أعدت فيما بعد لتدوين الرواة أشعار كل منها على حدة بنفس الصورة التى نعرفها لديوان هذيل.
وتمضى بعد عصر الوليد بن يزيد فيلقانا أبو عمرو بن العلاء، وكان يعتمد على الرواية، ولكنّه كان يقيّد إلى جانبها كثيرا من الأشعار والأخبار حتى قالوا إن
(1) الأغانى 9416
(2)
الفهرست ص 134.
كتبه ملأت بيتا له إلى قريب من السقف، ثم تقرّأ (تنسك) فأحرقها كلها، بقول الجاحظ:«فلما رجع بعد إلى علمه الأول لم يكن عنده إلا ما حفظه بقلبه، كانت عامة أخباره عن أعراب قد أدركوا الجاهلية (1)» . وكان حماد على ما يظهر يعنى بالرواية أكثر من عنايته بالكتابة، بل لعله لم يكن يعنى بالكتابة، إنما كتب عنه تلاميذه، يقول صاحب الفهرست:«لم ير لحماد كتاب، وإنما روى عنه الناس وصنفت الكتب بعده (2)» . ويروى للمفضل الضبى كتب صنفها، فيها أشعا وأخبار (3) ومن المؤكد أنه لم يكتب مفضلياته، وإنما أنشدها تلاميذه فحملوها عنه.
ولعلنا لا نخطئ إذا قلنا إن الرواة الأولين لم يدونوا ما رووه لطلاّبهم، ولم يكن هذا شأن رواة الشعر وحدهم، بل كان شأن رواة التاريخ الجاهلى جميعهم مثل محمد بن السائب الكلبى فإن ابنه هشاما هو الذى حمل مادة أخباره ودوّنها فى كتبه. ونفس الخليل بن أحمد لم يخلف كتابا فى النحو، بل أملى إملاءات جمع منها سيبوبه كتابه المشهور. وكانوا يتأثرون فى ذلك برواة الحديث، وربما كانت الحاجة عندهم أمسّ، لأن الشعر يحتاج إلى تلقين حتى لا يلحن فيه من ينشده، ولذلك كانوا ينبذون فى أواخر القرن الثانى وأوائل الثالث من يلحن فيه بأنه صحفى يأخذ عن الصحف، ولا يأخذ شفاها عن مشيخة العلماء باللغة والشعر.
ومن ثم ضعّفوا من يروى عن المدونات ولم يقبلوا روايته إلا أن يكون قد أخذها عن شيخ، ولذلك ضعّف ابن سلام رواية من يتداولون الشّعر القديم من كتاب إلى كتاب، يقول:«ليس لأحد أن يقبل من صحيفة ولا يروى عن صحفى» .
والرواة التالون لهؤلاء الرواة المتقدمين هم الذين يرجع الفضل إليهم فى تدوين الشعر الجاهلى تدوينا منهجيا قائما على التوثيق والتجريح، وعلى رأسهم الأصمعى، وقد حصر اهتمامه فى جمع الشعر الجاهلى فى دواوين ومجموعات صحيحة. وكان هؤلاء الرواة المدونون لا يكتفون بالسماع من جلّة الرواة السابقين، فكانوا يرحلون إلى الصحراء العربية ليتوثقوا مما يروونه على نحو ما هو معروف عن الأصمعى
(1) البيان والتبيين 1/ 321.
(2)
الفهرست (طبعة المطبعة الرحمانية) ص 135.
(3)
إنباه الرواة (طبعة دار الكتب المصرية) 3/ 302.
نفسه وعن أبى عمرو الشيبانى الذى يقال إنه دخل البادية ومعه دستيجتان من حبر، فما خرج حتى أفناهما بكتب سماعه عن العرب (1)
وكان بعض الأعراب يفد على الحواضر وقد يقيم فيها ليسدّ هذه الحاجة عند الرواة.
والمهم أنهم لم يكتفوا بالاعتماد على ذاكرتهم صنيع الرواة من قبلهم، بل كانوا يدوّنون ما يسمعونه ويحتفظون به ويقرءون منه فى مجالسهم وينقله عنهم طلابهم.
وأخذت موجة هذا التدوين تتسع اتساعا شديدا، ويستطيع من يرجع إلى الفهرست وكتب التراجم أن يطلع على هذا النشاط التأليفى الذى لا يكاد يبلغه الحصر والعد، فقد ترك هشام بن محمد الكلبى نحو مائة وأربعين كتابا، وكانت كتب المدائنى لا تقل عنها عددا، بينما خلف الهيثم بن عدى خمسين مصنفا. وأكثر كتبهم يعد مفقودا ومن بينها ما يشير إلى عنايته بالشعر ككتاب أخبار خزاعة للمدائنى وأخبار طيئ للهيثم، وقد نشر الأصنام لابن الكلبى وهو يمتلئ بالشعر الجاهلى مما يدل على أنه كان يملأ كتبه به.
على أنه يلاحظ إزاء المؤرخين أن كثيرا منهم لم يكن دقيقا فيما يجمع من شعر، ولعل ابن إسحق صاحب السيرة النبوية أشهرهم فى هذا الباب، وقد تصدّى له ابن سلام فى طبقاته، فقال: «وكان ممن أفسد الشعر هجّنه وحمل كل غثاء منه محمد بن إسحق بن يسار، مولى آل مخرمة بن المطلب بن عبد مناف، وكان من علماء الناس بالسّير. . فقبل الناس عنه الأشعار، وكان يعتذر منها ويقول: لا علم لى بالشعر أوتى به فأحمله. ولم يكن ذلك له عذرا. فكتب السير أشعار الرجال الذين لم يقولوا شعرا قط وأشعار النساء فضلا عن الرجال، ثم جاوز ذلك إلى عاد وثمود فكتب لهم أشعارا كثيرة، وليس بشعر إنما هو كلام مؤلف معقود بقواف، أفلا يرجع إلى نفسه، فيقول: من حمل هذا الشعر ومن أدّاه منذ آلاف السنين، والله تبارك وتعالى يقول:{(فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا)} أى لا بقية لهم، وقال أيضا:{(وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى وَثَمُودَ فَما أَبْقى)} وقال فى عاد:
{(فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ)} وقال: {(وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً)} وقال: {(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَاّ اللهُ)} (2)».
(1) نزهة الألباء للأنبارى ص 63
(2)
ابن سلام ص 8 وما بعدها.
وقال ابن سلام أيضا فى ابن إسحق: «فلو كان الشعر مثل ما وضع لابن إسحق ومثل ما رواه الصحفيون ما كانت إليه حاجة ولا فيه دليل على علم» (1) وتعقب ابن هشام فى سيرته ابن إسحق وردّ كثيرا مما روى، أو صحح نسبته.
وواضح أن هذه المنتحلات من الشعر المنسوب إلى عرب الجاهلية الأولى ليس لها أدنى قيمة، فقد ردها الرواة المحققون، ومع ذلك يتعلق بها بعض الباحثين المحدثين ليشككوا فى الشعر الجاهلى عامة، مع أن القدماء رفضوها وردوها، كما رفضوا وردوا رواية المتهمين من الرواة أمثال حماد وخلف. وليس معنى ذلك أننا نريد أن نوسع الأبواب فنقبل كثرة ما يروى عن الجاهليين، بل نحن نضيقها تضييقا شديدا، فلا نقبل إلا ما أورده الثقاة مثل أبى عمرو بن العلاء والمفضل الضبى والأصمعى، فجملة ما رووه وثيق.
ولا نبالغ إذا قلنا إن ما رواه هؤلاء الثقات لا يزال مادة غفلا لم يدرس ولم يفحص، وقد خلف من بعدهم خلف أتموا تدوين الشعر الجاهلى وأشهرهم فى الكوفة أبو عمرو الشيبانى وابن الأعرابى وقد اشتهر الأول بأنه جمع أشعار نيف وثمانين قبيلة، وكان كلما عمل شعر قبيلة منها وأخرجه للناس كتب مصحفا وجعله فى مسجد الكوفة، وطبيعى أن يخرج دواوين القبائل راو كوفى لأن بيوتات العرب وأشرافها كانوا فى الكوفة ولم يكونوا فى البصرة، ومن غير شكّ كانوا من أهم الأسباب التى أعانت على حفظ الشعر الجاهلى وروايته إلى أن دوّن فى القرن الثانى. ويظهر أن الكتب الخاصة بالقبائل لم تكن تكتفى برواية الأشعار بل كانت تضم إليها غير قليل من أخبارهم وأيامهم، وربما كان هذا هو السبب فى أننا نرى مؤرخيهم ينثرون فى تاريخهم أشعارا كثيرة كأنهم يرون أنها سنده وعماده، على نحو ما تصور ذلك كتب المدائنى والواقدى وابن الكلبى. وكان رواة الشعر يمزجون بروايتهم كثيرا من الأخبار التاريخية على نحو ما نرى فى شرح النقائض لأبى عبيدة. وقد بقى من دواوين القبائل ديوان هذيل برواية السكرى المتوفى سنة 275 وفيه تختلط الأشعار بالأخبار، ومن خير ما يصور ذلك فيه ديوان أبى ذؤيب.
ويدل كتاب الأغانى لأبى الفرج الأصبهانى أنهم دونوا من هذه الأشعار
(1) ابن سلام ص 11.