الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ونفى الجاحظ (1) وابن سلام (2) أن يكون النابغة قد قال هذا الشعر، وكأنهما أحسّا ما أحسه طه حسين إزاء الأبيات السالفة وأنها خليقة بأن تكون مصنوعة.
ومثلها فى المعلقة الأبيات التالية التى تصوّر فطنة اليمامة وعدّها الدقيق لحمام طائر فى مضيق من الهواء يجعله يشتد فى طيرانه ويسرع إسراعا:
احكم كحكم فتاة الحىّ إذ نظرت
…
إلى حمام شراع وارد الثّمد (3)
يحفّه جانبا نيق وتتبعه
…
مثل الزجاجة لم تكحل من الرّمد (4)
قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا
…
إلى حمامتنا ونصفه فقد (5)
فحسّبوه فألفوه كما حسبت
…
تسعا وتسعين لم تنقص ولم تزد
فكمّلت مائة فيها حمامتها
…
وأسرعت حسبة فى ذلك العدد
وهى أبيات واضحة الانتحال. ونحن بعد ذلك نصحح بقية المعلقة، كما نصحح قصائده ومقطوعاته الأخرى التى جاءت فى رواية الأصمعى باستثناء ما اتهمناه.
4 - شعره
قرن ابن سلام النابغة إلى امرئ القيس وزهير والأعشى، فهؤلاء الأربعة فى رأيه هم المقدمون على سائر الشعراء فى الجاهلية (6)، وتبعه الرواة والنقاد يؤمنون بهذا الحكم، وأن الأربعة حقّا هم المجلّون السابقون فى اقتدارهم على تصريف الشعر والنظم فى فنونه المختلفة.
(1) الحيوان 2/ 246.
(2)
طبقات فحول الشعراء (طبع دار المعارف) ص 49 - 50.
(3)
فتاة الحى: زرقاء اليمامة. شراع: مجتمعة. الثمد: الماء القليل.
(4)
يحفه: يحيط به. نيق: جبل. وجعل الحمام يمر فى جانبى نيق لأنه إذا مر فى مضيق من الهواء كان أسرع منه إذا اتسع عليه الفضاء. وشبه عين زرقاء اليمامة بالزجاجة فى صفائها. لم تكحل من الرمد: لم يصبها رمد فتكحل منه.
(5)
قد: حسب.
(6)
انظر طبقات فحول الشعراء ص 43 وما بعدها.
وإذا استعرضنا دواوينهم جميعا وجدنا النابغة يقرب فى ذوقه من أوس بن حجر وزهير ومدرستهما التى اشتهرت عند القدماء بالتجويد والتنقيح، فهو لا يقبل كل ما يفد على خاطره، بل لا يزال يثقفه ويصقل فيه حتى يستوى له اللفظ المونق والديباجة الجزلة. وقد أتيح له أن يعيش فى بيئتين متحضرتين هما الحيرة وبلاط الغساسنة، فرقّ ذوقه وسهل منطقه ولفظه، وإن كان لم ينس البادية ولغتها وغرابة هذه اللغة.
وقد وقف القدماء طويلا عند إجادته لفنى المديح والاعتذار، غير أنهم عادوا فقالوا إنه أحد الأشراف الذين غضّ الشعر منهم، فإنه مدح الملوك وقبل صلتهم ونوالهم، وكان فى غنى عن هذا القبول. «قيل لأبى عمرو بن العلاء: أفمن مخافة النعمان بن المنذر امتدحه النابغة وأتاه بعد هربه منه أم لغير ذلك؟ فقال: لا، لعمر الله ما لمخافته فعل، إن كان لآمنا من أن يوجّه النعمان له جيشا، وما كانت عشيرته لتسلمه لأول وهلة، ولكنه رغب فى عطاياه وعصافيره (إبله) وكان النابغة يأكل ويشرب فى آنية الفضة والذهب من عطايا النعمان وأبيه وجده، لا يستعمل غير ذلك (1)».
ويبعد فى رأينا أن يكون قد وفد على أبى النعمان وجده كما يقول أبو عمرو بن العلاء وغيره من الرواة فإن ديوانه برواية الأصمعى يخلو من مديحهما. أما أن تكسبه بالشعر وأخذه نوال المناذرة وكذلك الغساسنة قد غضّ منه وأنزله من مرتبة شرفه فغير صحيح، لأن وفوده عليهما لم يكن القصد منه التكسب، وإنما كان القصد رعاية مصالح قبيلته عندهما كما قدمنا، فقد كان سفيرها فى بلاطهما. وحقّا إنه يبالغ فى مديحه واعتذاره، ولكنها مبالغة لا تنتهى إلى ذلة نفس، بل هى المبالغة التى تأتى من أنه يتحدث إلى أمراء كان لهم سلطان كبير على القبائل العربية، ويريد أن يصلح ما فسد من قلوبهم عليه وعلى قبيلته.
وليس شعره جميعه مديحا واعتذارا فقد رثى النعمان الغسانى، وهو يقدم لرثائه ومديحه واعتذاراته بالنسيب ووصف ناقته، وقد يخرج من ذلك إلى وصف الحيوان فى الصحراء وصيده. وأيضا ففى شعره قصائد ومقطوعات تتصل بأحداث قبيلته
(1) أغانى 11/ 29 وما بعدها.
وأحلافها من بنى أسد وأعدائها من بنى عامر، وبعبارة أخرى فى شعره فخر وهجاء، وفى تضاعيف ذلك كله نرى عنده أسرابا من الحكمة والتجربة الصادقة، وما يدل على وفائه وصدق مودته.
ونحن لا نلمّ بمديحه للغساسنة حتى نؤمن حقّا بأنه كان شاعرا بارعا، يعرف كيف يتخير ألفاظه وكيف ينوع فى معانيه وكيف يستتم صوره. وخير مدائحه فيهم قصيدته البائية، وهو يستهلها بوصف طول الليل وما تجمع عليه فيه من الهموم، يقول:
كلينى لهمّ يا أميمة ناصب
…
وليل أقاسيه بطئ الكواكب (1)
تطاول حتى قلت ليس بمنقض
…
وليس الذى يرعى النجوم بآيب (2)
وصدر أراح الليل عازب همّه
…
تضاعف فيه الحزن من كل جانب (3)
فهو محزون فى أول القصيدة يخاطب بنته أمامة ويشكو لها همومه وأشجانه لما وقع فى قبضة الغساسنة من أسرى قومه، ونراه يصور طول الليل وهمّه فيه تصويرا بديعا، فالكواكب بطيئة لا تجرى، حتى ليظن أن الصبح الذى يرعى النجوم بأضوائه ويحصدها حصدا لن يؤوب، والليل يثقل على صدره بما يردّ عليه من موجات الهم والحزن. وهى براعة استهلال رائعة تدل دلالة بينة على أننا بإزاء شاعر يعرف كيف يجسّم معانيه وكيف يعبر عنها تعبيرا واضحا مستقيما بالصور. وقد خرج من ذلك توّا إلى مدح عمرو بن الحارث الغسانى وآبائه وعشيرته، ووقف طويلا عند تصوير جيوشه وما تحقق من انتصارات مدوية، وأطال فى هذا التصوير قائلا:
إذا ما غزوا بالجيش حلّق فوقهم
…
عصائب طير تهتدى بعصائب (4)
يصاحبنهم حتى يغرن مغارهم
…
من الضّاريات بالدماء الدوارب (5)
(1) كلينى: دعينى. ناصب: متعب. بطئ الكواكب: كناية عن أنها لا تغور ولا تمضى.
(2)
آيب: راجع. وأراد براعى النجوم الصباح.
(3)
أراح: رد. العازب: البعيد.
(4)
عصائب: جماعات.
(5)
الضاريات: المتعودات. الدوارب: المدربة.
تراهن خلف القوم خزرا عيونها
…
جلوس الشيوخ فى ثياب المرانب (1)
جوانح قد أيقنّ أنّ قبيله
…
إذا ما التقى الجمعان أول غالب (2)
لهنّ عليهم عادة قد عرفنها
…
إذا عرّض الخطّىّ فوق الكواثب (3)
على عارفات للطعان عوابس
…
بهنّ كلوم بين دام وجالب (4)
إذا استنزلوا عنهن للطّعن أرقلوا
…
إلى الموت إرقال الجمال المصاعب (5)
فهم يتساقون المنية بينهم
…
بأيديهم بيض رقاق المضارب (6)
يطير فضاضا بينها كلّ قونس
…
ويتبعها منهم فراش الحواجب (7)
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
…
بهن فلول من قراع الكتائب (8)
تورّثن من أزمان يوم حليمة
…
إلى اليوم قد جرّ بن كلّ التّجارب (9)
تقدّ السّلوقىّ المضاعف نسجه
…
وتوقد بالصّفّاح نار الحباحب (10)
بضرب يزيل الهام عن سكناته
…
وطعن كإيزاغ المخاض الضوارب (11)
وهو يبدأ تصويره بأن جماعات الطير من النسور والعقبان تتبع جيش الغساسنة، تنتظر زادها من أشلاء قتلاهم وربما سبقه الأفوه بقوله:
وترى الطير على آثارنا
…
رأى عين ثقة أن ستمار (12)
(1) خزر العيون: جمع أخزر وهو الذى ينظر بمؤخر عينه. المرانب: ثياب سوداء.
(2)
جوانح: مائلات الوقوع.
(3)
الخطى: الرماح. الكواثب: القربوس.
(4)
عارفات: صابرات. كلوم: جروح. دام وجالب: مدم ومتجمد عليه الدم.
(5)
أرقلوا: أسرعوا. المصاعب: النافرة.
(6)
بيض: سيوف.
(7)
فضاضا: متفرقا. القونس: أعلى الرأس. فراش الحواجب: عظامها.
(8)
فلول: ثلوم. قراع: مضاربة.
(9)
يوم حليمة: معركة مشهورة انتصر فيها الحارث بن جبلة الغسانى على المنذر بن ماء السماء
(10)
السلوقى: الدرع المنسوبة إلى سلوق من أرض اليمن. تقد: تشق. الصفاح: الحجارة ويريد خوذ الجنود. الحباحب: ذباب له شعاع بالليل.
(11)
الهام: جمع هامة وهى الرأس. سكناته: حيث يسكن ويستقر. الإيزاغ: دفع الناقة بولها. المخاض: الحوامل.
(12)
انظر ديوان الأفوه ص 13. تمار: تعطى الميرة من لحوم القتلى.
غير أن النابغة فصّل الصورة حتى يحكم المعنى ويكشفه كشفا دقيقا، فالنسور والعقبان خزر العيون، وهى تشبه فى ألوانها ثياب المرانب السوداء التى يلبسها الشيوخ، وهى تسير خلفهم موقنة بأنها لا بد أن تجد زادها من أعدائهم، وأنها على وشك الوقوع على ما تريد من هذا الزاد، وهى لذلك لا تزال جانحة، عادة عرفتها فيهم لا يخلفونها ولا يمطلونها. وقد أعجب القدماء طويلا بهذه الصورة عند النابغة، فتعاور عليها الشعراء، وكل منهم يحاول أن يثبت مهارته وقدرته (1).
ويمضى النابغة فيصور شجاعة الجيش، وما على خيله من أثر للطعان وجروح بين مدم ومتجمد عليه الدم. ونلاحظ هنا الدقة فى الوصف، وهى دقة استتبعت ضربا من الطباق. وقد صورهم يتساقون كئوس المنية، كناية عن جرأتهم فى الحرب واقتحامهم لأهوالها، ثم صور كيف يثخنون فى أعدائهم، ولم يلبث أن جاء بصورة طريفة ظاهرها ذم وباطنها مدح شديد، فالغساسنة لا عيب فيهم إلا عيب واحد، وهو ليس فى حقيقته عيبا، بل هو مفخرة من مفاخرهم، فسيوفهم مفللة من طول قراعها ومضاربتها للكتائب. ومثل هذا التعبير الذى سبق إليه يدل على أنه كان يدقق فى معانيه وألفاظه جميعا. ولم ينس أن يشير إلى نصرهم القديم فى يوم حليمة الذى هزم فيه المناذرة شر هزيمة، حتى لقد قتل المنذر بن ماء السماء فى ساحة المعركة. وقد جعل سيوفهم المفللة تشق الدروع المتينة وتمزق أصحابها تمزيقا مطيحة برءوسهم ومرسلة شررا لا ينقطع ضياؤه حتى لكأنه أشعة الحباحب، وسيولا من الدماء كأنها إيزاغ المخاض. حتى إذا استوفى كل ما أراد من تصويرهم بالشجاعة فى ميادين الحروب انتقل يصورهم فى سلمهم متحدثا عن شيمهم وشمائلهم ودينهم ونعيمهم، يقول:
لهم شيمة لم يعطها الله غيرهم
…
من الجود، والأحلام غير عوازب (2)
محلّتهم ذات الإله، ودينهم
…
قويم فما يرجون غير العواقب (3)
(1) انظر الصناعتين العسكرى (طبعة الحلبى) ص 225 والوساطة للجرجانى (طبعة الحلبى) ص 274.
(2)
الأحلام: العقول. وعوازب: جمع عازب وهو الغائب.
(3)
محلتهم: منزلتهم، ذات الإله: يقصد كنائسهم.
رقاق النّعال طيب حجزاتهم
…
يحيّون بالرّيحان يوم السّباسب (1)
تحيّيهم بيض الولائد بينهم
…
وأكسية الإضريج فوق المشاجب (2)
يصونون أجسادا قديما نعيمها
…
بخالصة الأردان خضر المناكب (3)
ولا يحسبون الخير لا شرّ بعده
…
ولا يحسبون الشرّ ضربة لازب (4)
حبوت بها غسّان إذ كنت لاحقا
…
بقومى وإذ أعيت علىّ مذاهبى (5)
وهو فى أول الأبيات يصفهم بالجود ورجاحة الأحلام والعقول، ثم يأخذ فى وصفهم بأنهم متدينون بدين قويم، وكان الغساسنة نصارى كما مر بنا فى غير هذا الموضع، ويقول إن منازلهم تحل بأمكنة مقدسة، ولعله يريد كنائسهم، ولا يلبث أن يقول إنهم يخشون العواقب، وكأنه يستحثهم على أن يفكوا أسرى قبيلته من أغلالهم. وتحوّل يصفهم بالترف وما كانوا فيه من رفاهة العيش، فهم رقاق النعال، وهم أعفاء، يحيّون بالأزهار فى عيد السّباسب أو يوم الشّعانين، وهو من أعياد النصارى، وهم منعمون يلبسون ثيابا بيض المناكب خضر الأكمام. وعاد يستعطفهم على قومه وأنهم إذا كانوا أهاجوهم واستتبع ذلك شرّا وبلاء فإن فى الغساسنة خيرا كثيرا. ولم يلبث أن صرح بما جاء من أجله، فهو إنما يمدح الغساسنة باسم قومه، وقد ضاقت عليه الدنيا بما رحبت بسبب من أسر منهم عند ممدوحيه، وكأنه يهيب بهم أن يردوا إليهم حريتهم، وردوها فعلا لما بهرهم به النابغة من هذا المديح الرائع.
وواضح أن روعة هذا المديح ترجع إلى استيفاء النابغة لمعانيه وعرضها فى معارض بديعة من اللفظ الواضح الجزل ومن الصور المونقة الدقيقة. وقد نفذ فى أثناء ذلك إلى معان حضرية جديدة، إذ صور دينهم وترفهم وما هم فيه من نعيم. وهو فى ذلك يختلف عن شعراء البادية أمثال زهير فى مديحه، إذ كانوا لا يعرفون هذه المعانى ولا تلم بخواطرهم، أما هو فعاش أغلب أيامه فى الحيرة وفى بلاط الغساسنة،
(1) الحجزات: معاقد الثياب. طيب حجزاتهم: كناية عن عفتهم.
(2)
الولائد: الجوارى والإماء. الإضريج: الحرير الأحمر. المشاجب: جمع مشجب وهو أعواد تعلق عليها الثياب.
(3)
الأردان: الأكمام. وخلوصها: نصوع بياضها.
(4)
لازب: لازم.
(5)
بها: يريد قصيدته. أعيت مذاهبه عليه: ضاقت وسدت.
فكان طبيعيّا أن يختلف ذوقه عن ذوق البدو وأن يأتى بمثل هذه المعانى التى تروق ممدوحيه من الأمراء.
وإذا كان النابغة يتفوق فى المديح تفوقا ظاهرا فإنه كذلك يتفوق فى الاعتذار، وكأن ذوقه الحضرى هو الذى أعدّه لهذا التفوق، إذ نحس فيه رقة فى اللهجة وإلحاحا فى التلطف محاولا أن يزيل من نفس النعمان بن المنذر ظنه السيئ فيه. وقد استعان بموهبته فى اختراع الصور والمعانى والتدقيق فيها، مدبجا فى ذلك قصائد طوالا تعدّ من أروع ما خلّفه العصر الجاهلى لا لطولها فحسب، بل لما فيها من صدق اللهجة وسهولة اللفظ وحسن ديباجته. وقد أسعفه فى ذلك ذوقه الحضرى الذى خلصه من خشونة البدو ومن الأنفة الجامحة، فإذا ذنبه يكبر فى نفسه، وإذا هو يحس كأنه أتى جريرة لا تغتفر، فماينى يقدّم للنعمان المعاذير متخذا إليه كل ما يستطيع من البراهين ومن سبل التلطف والملاينة وقد يؤديه ذلك إلى غير قليل من التذلل والاسترحام، حفاظا على صداقته القديمة له واستبقاء لوده، وهو حسن تأتّ لا صغار نفس ولا مهانة، ولا طلبا لعصافير النعمان كما قال أبو عمرو بن العلاء، وإنما هو الذوق الحضارى الذى اكتسبه النابغة والذى جعله يختلف عن معاصريه ويقترب من ذوق العباسيين المتحضرين، حين يشعرون بضخم ذنبهم لدى الممدوحين ويأخذون فى التنصل منه، وتقديم شتى المعاذير. وهو يخلط اعتذاره بمديح النعمان والثناء عليه، وارجع إلى المعلقة فتراه يستهلها بوصف أطلال دار مية، ثم وصف ناقته التى قطع بها الصحراء إلى مقصده مفتنّا فى تصويرها، ومشبها لها بثور تناضله كلاب الصيد، حتى إذا انتهت به إلى النعمان أخذ يمدحه بكرمه الفياض وما وهبه من قطعان الإبل والخيل ومن الجوارى المنعّمات، ثم مضى يستعطفه قائلا:
فلا لعمر الذى مسّحت كعبته
…
وما هريق على الأنصاب من حسد (1)
والمؤمن العائذات الطير تمسحها
…
ركبان مكّة بين الغيل والسّعد (2)
(1) مسحت: لمست ألتمس البركة. هريق: سال. الجسد: الدم. الأنصاب: الحجارة التى كانوا يذبحون عليها قرابينهم للآلهة.
(2)
المؤمن: الذى آمنها من الخوف. العائذات: اللاجئات إلى الحرم. تمسحها الركبان: يريد أنها تمسح عليها ولا تهيجها بصيد. الغيل والسعد: أجمتان بين مكة ومنى.
ما قلت من سيّئ مما أتيت به
…
إذن فلا رفعت سوطى إلىّ يدى
إلا مقالة أقوام شقيت بها
…
كانت مقالتهم قرعا على الكبد (1)
إذن فعاقبنى ربى معاقبة
…
قرّت بها عين من يأتيك بالفند (2)
أنبئت أن أبا قابوس أوعدنى
…
ولا قرار على زأر من الأسد (3)
مهلا فداء لك الأقوام كلّهم
…
وما أثمّر من مال ومن ولد (4)
لا تقذفنّى بركن لا كفاء له
…
وإن تأثّفك الأعداء بالرّفد (5)
وواضح أنه يقسم له بأيمانه الوثنية المغلظة أنه برئ مما يتّهم به من غدر، ويستنزل غضب ربه عليه إن كان غير صادق، ولتشلّ يده إن كان ما يقول الوشاة صحيحا. ولا يلبث أن يصور نفسه ضعيفا أمام النعمان وقوته وبطشه، ويمثله أسدا جائعا يزأر، وقد وقع منه موقع الفريسة. وسرعان ما يعود إلى الاستعطاف، فالناس جميعا من غساسنة وغير غساسنة فداء النعمان، بل إنه ليفديه بماله وولده، ويقول له لا ترمنى بما لا أطيق منك، وأنت الذى لا يستطيع الأعداء مهما تآزروا أن يثبتوا له. ويخرج من ذلك إلى مديحه، ثم يعود إلى استعطافه فيقول:
فما الفرات إذا هبّ الرياح له
…
ترمى أواذيّه العبرين بالزّبد (6)
يمدّه كلّ واد مترع لجب
…
فيه ركام من الينبوت والخضد (7)
يظلّ من خوفه الملاّح معتصما
…
بالخيزرانة بعد الأين والنّجد (8)
يوما بأجود منه سيب نافلة
…
ولا يحول عطاء اليوم دون غد (9)
(1) القرع: الضرب.
(2)
الفند: الكذب.
(3)
أبو قابوس: النعمان بن المنذر.
(4)
أثمر: أنمى وأجمع.
(5)
الكفاء: النظير والمثل. تأثف: تجمع. الوفد: الجماعات من الناس.
(6)
أواذيه: أمواجه. العبرين: الشاطئين.
(7)
مترع: مملوء. لجب: ذو صوت شديد. الينبوت: شجر. الخضد: المحطم من الأشجار.
(8)
الخيزرانة: سكان السفينة. الأين: التعب. النجد: الكرب.
(9)
سيب: عطاء. قافلة: زيادة يريد أن عطاءه وفر.
هذا الثناء فإن تسمع به حسنا
…
فلم أعرّض-أبيت-اللّعن-بالصّفد (1)
ها إنّ ذى عذرة إلا تكن نفعت
…
فإن صاحبها مشارك النّكد (2)
وقد بدأ فشبهه بالفرات فى كرمه، ثم أخذ يصف الفرات فى ارتفاع فيضانه، وعمد إلى تفصيل الصورة، حتى يبرزها وحتى يظهر مقدرته الفنية فى دقة التصوير، فهو قد علت أمواجه ورمت شاطئيه بالزبد، وهو ينساب حاملا ما يقتلعه من الأشجار والنباتات، وإنه ليعصف بكل ما عليه حتى لنرى الملاح معتصما فى مركبه بسكّانها يخشى الغرق. وقد نفى أن يكون الفرات فى فيضانه أكرم من النعمان وأكثر سيبا. ودائما يحاول النابغة أن يخترع مثل هذه الصورة، ليدل على براعته. ونراه يعود إلى استعطاف النعمان، وأنه قدم له هذا الثناء لا يبغى به نواله، وإنما يبغى رضاه، وأنه إن لم يقبل اعتذاره ألقى به فى مهاوى النكد والهم. ومن بديع اعتذاراته قصيدته العينية، وفيها يقول:
وعيد أبى قابوس فى غير كنهه
…
أتانى ودونى راكس فالضواجع (3)
فبتّ كأنى ساورتنى ضئيلة
…
من الرّقش فى أنيابها السمّ ناقع (4)
يسهّد من ليل التّمام سليمها
…
لحلى النساء فى يديه قعاقع (5)
تناذرها الرّاقون من سوء سمّها
…
تطلّقه طورا، وطورا تراجع (6)
أتانى-أبيت اللّعن-أنك لمتنى
…
وتلك التى تستكّ منها المسامع (7)
(1) الصفد: العطاء. أبيت اللعن: تحية كانوا يحيون بها ملوكهم.
(2)
عذرة: اعتذار. مشارك النكد: حليف نكدوهم.
(3)
فى غير كنهه: كنهه: حقيقته، يريد على غير ذنب منه. راكس: واد فى منازل بنى أسد. الضواجع: منحنى الوادى.
(4)
ساورتنى: لدغتنى. ضئيلة: أفعى دقيقة الجسم. الرقش: جمع رقشاء، وهى المنقطة نقطا بيضاء وسوداء. ناقع: قاتل.
(5)
يسهد: يمنع من النوم. ليل التمام: أطول ليالى الشتاء. السليم: الملدوغ. قعاقع: أصوات. كانوا يجعلون الحلى فى يد الملدوغ اعتقادا منهم بأنها تشفيه.
(6)
يقول من خبثها لا تجيب الراقى. بل مرة تجيب ومرة لا تجيب. تناذرها الراقون: خوف بعضهم بعضا منها.
(7)
تستك: تضيق.
مقالة أن قد قلت سوف أناله
…
وذلك من تلقاء مثلك رائع
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة
…
وهل يأثمن ذو أمّة وهو طائع (1)
بمصطحبات من لصاف وثبرة
…
يزرن إلالا، سيرهنّ التّدافع (2)
سماما تبارى الرّيح خوصا عيونها
…
لهن رذايا بالطريق ودائع (3)
عليهنّ شعث عامدون لحجّهم
…
فهنّ كأطراف الحنىّ خواضع (4)
لكلّفتنى ذنب امرئ وتركته
…
كذى العرّ يكوى غيره وهو راتع (5)
فإن كنت لاذو الضّغن عنى مكذّب
…
ولا حلفى على البراءة نافع
ولا أنا مأمون بشئ أقوله
…
وأنت بأمر لا محالة واقع
فإنك كالليل الذى هو مدركى
…
وإن خلت أن المنتأى عنك واسع (6)
خطاطيف حجن فى حبال متينة
…
تمدّ بها أيد إليك نوازع (7)
أتوعد عبدا لم يخنك أمانة
…
وتترك عبدا ظالما وهو ضالع (8)
وأنت ربيع ينعش الناس سيبه
…
وسيف أعيرته المنية قاطع (9)
أبى الله إلا عدله ووفاءه
…
فلا النكر معروف ولا العرف ضائع (10)
(1) أمة هنا: دين.
(2)
بمصطحبات: أقسم بالإبل التى تصطحب فى المسير إلى الحج. لصاف وثبرة: موضعان فى ديار تميم. إلال: جبل بعرفة. التدافع: العجلة.
(3)
سماما: طائر شديد الطيران شبه به الإبل فى سرعتها. خوصا: غائرات من شدة السير وإجهاده. رذايا: جمع رذية وهى الساقطة إعياء من الإبل. ودائع: مستودعات فى الطريق. يريد ما سقط منهن إعياء فترك.
(4)
شعث: جمع أشعث وهو المغبر من طول السفر. الحنى: القسى. الخواضع: المتطامنة رءوسها من الأرض.
(5)
العر: الجرب. وكانوا يداوون الإبل منه بكيها.
(6)
المنتأى: المكان النائى البعيد.
(7)
مر شرحه.
(8)
ضالع: مائل عن الحق، ويروى ظالع وهو الجائر المذنب.
(9)
الربيع هنا: الغيث. السيب: العطاء.
(10)
النكر: المنكر. العرف: المعروف.
وتسقى إذا ما شئت غير مصرد
…
بزوراء فى حافاتها المسك كانع (1)
وهو فى أول هذه الأبيات يقول له: إن وعيدك أتانى وأنا آمن فى قومى وبينى وبينك منازل بنى أسد ومن وراءهم، فألمت حفظا للعهد وبت مسهدا، كأنما لدغتنى أفعى، وهى صورة بارعة، وقد أخذ يدقق فيها حتى يجسم ألمه، فهى أفعى من الرقش تستودع السم فى أنيابها الحادة، فمن عضّته لم يطف به النوم من شدة الألم، وعلق عليه أهله الحلى والخلاخيل حتى يفيق ويبرأ. وهى من الأفاعى الخبيثة التى قلما أجابت الرقى، وإن الرقاة والحاوين ليرهبونها ويتخوفون من أن يطأوا حماها. ويصور النابغة للنعمان فزعه حين أتاه أنه يلومه، ويحلف له بأيمانه الوثنية، ويختار هنا الحلف بالإبل التى كانوا ينذرونها لآلهتهم، ويقف ليعطينا صورة عن هذه الإبل، فهى تقبل على مكة مسرعة سرعة السمام، حتى لكأنها تبارى الريح، وقد أجهدت من السير وطول السفر، حتى إن بعضها سقط فى الطريق إعياء، فلم ينبعث ولم يستطع براحا. وقد بقيت بقية عليها شعث مغبرون يقصدون الحج، وقد أخذها النحول حتى لكأنها القسى الضامرة. وهذا اليمين العظيم يقسم به متنصلا مما سمع عنه من بعض الوشاة أنه انصرف إلى الغساسنة يمدحهم ويهجوه، وكان حريا به أن ينزل سخطه لا عليه، وإنما على هذا الواشى وإلا فمثله ومثل من وسوس للنعمان مثل البعير السليم يكوى من الجرب، والأجرب راتع بجانبه لا يصيبه كى ولا أذى. وهى صورة أخرى بارعة، ويقول إن كنت لا تكذب من يضطغن علىّ ولا تصدق يمينى ولا حلفى فما أحرانى بالرهبة منك والخوف من بطشك، ويودع ذلك صورة رائعة، إذ يتخيل النعمان كالليل، لا مفر لشخص من أن يطبق عليه. وعاد إلى الاستعطاف فصور قصائده التى يرسل بها إليه ليلين قلبه عليه كأنها خطاطيف معوجة ثبّتت فى حبال متينة، وأيدى النابغة تمد بها إليه، تريد أن تظفر بعطفه ورضاه. ويصور له أمانته وأنه لا يخون عهده، بينما من يختانون هذا العهد يقربهم ويرعاهم، ويختم اعتذاره إليه
(1) مصرد: من التصريد وهو الشرب دون الرى. زوراء: كأس طويلة من فضة كان النعمان يشرب فيها. كانع: لاصق.
بمديحه والثناء عليه، فهو غيث منعش لأوليائه وسيف مصلت على أعدائه، وقد براه الله لرعيته عادلا وفيا، لا يلقى المنكر بالمعروف ولا المعروف بالمنكر، يجزى على الإساءة إساءة وعلى الإحسان إحسانا. وانتهى بتمثيل ما هو فيه من نعيم، فهو يشرب فى كأس مفضضة مزج ما فيها بالمسك والطيب. ومن رائع اعتذاراته إليه قوله:
أتانى-أبيت اللّعن-أنك لمتنى
…
وتلك التى أهتمّ منها وأنصب (1)
فبتّ كأن العائدات فرشننى
…
هراسا به يعلى فراشى ويقشب (2)
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة
…
وليس وراء الله للمرء مذهب
لئن كنت قد بلّغت عنى خيانة
…
لمبلغك الواشى أغشّ وأكذب
ولكننى كنت امرأ لى جانب
…
من الأرض فيه مستراد ومذهب (3)
ملوك وإخوان إذا ما أتيتهم
…
أحكّم فى أموالهم وأقرّب
كفعلك فى قوم أراك اصطنعتهم
…
فلم ترهم فى شكر ذلك أذنبوا
وإنّك شمس والملوك كواكب
…
إذا طلعت لم يبد منهن كوكب
فلا تتركنّى بالوعيد كأننى
…
إلى الناس مطلىّ به القارّ أجرب (4)
ألم تر أن الله أعطاك سورة
…
ترى كل ملك دونها يتذبذب (5)
ولست بمستبق أخا لا تلمّه
…
على شعث، أىّ الرجال المهذّب (6)
فإن أك مظلوما فعبدا ظلمته
…
وإن تك ذا عتبى فمثلك يعتب (7)
وواضح أنه يصور نفسه فى أول هذه الأبيات حين بلغه لوم النعمان بمريض،
(1) أنصب: أجهد جهدا شديدا.
(2)
الهراس: شحر كثير الشوك. العائدات: الزائرات فى المرض. قرشننى: بسطن لى. يقشب: يجدد.
(3)
جانب من الأرض: متسع. مستراد: يذهب فيه الإنسان كما يريد. كناية عن إكرام الغساسنة له فى ديارهم.
(4)
القار: القطران، وكانوا يداوون به الإبل الجربى.
(5)
السورة: المنزلة. يتذبذب: يضطرب ولا يصل إليها.
(6)
شعث: فساد. تلمه: تجمعه وتضمه.
(7)
عتبى: رضا. يعتب: يعطى العتبى والرضا.
قد أخذته آلام المرض وأهله يسوون له فراشه رحمة به وعطفا عليه. ويحلف له بأنه برئ مما اتهمه به الواشى، إذ لا يزال يرعى أمانة عهده، وكل ما هناك أنه ألم بديار الغساسنة، فأكرموه وحكموه فى أموالهم، فوجب عليه أن يشكر لهم يدهم وصنيعهم كما يشكر النعمان من يرعاهم من الشعراء ويغدق عليهم من نواله. وهو بذلك يقيم الحجة على النعمان، فليس هناك كفران لنعمته عليه ولا جحود لولائه، وما يلبث أن يرفعه على جميع الملوك من غساسنة وغير غساسنة، فهو كالشمس الساطعة وغيره من الملوك كالنجوم، يتوارون فى ضيائه ومجده، وهى صورة باهرة لا شك أنها تركت أثرا بليغا فى نفس النعمان. وقد تلاها باستعطافه، فصور له ما صبّه عليه من غضب بالقار يصبّ على الأجرب فيتحاماه الناس. ويعود إلى بيان منزلة صاحبه وأن غيره من الملوك لا يرتقون إلى مكانته، بل يضطربون دون سمائه. ويقول له:
هب أن مديحى للغساسنة هفوة واعف عنى، فإن لكل شخص هفوة، وأين الأخ الذى لا يهفو ولا يعثر؟ ومثلك حرى بأن لا يظلم أصفياءه ومن يخلصون له الولاء، فإن ظلمتنى قبلت ظلمك، وإن أسدلت علىّ عفوك ورضاك فليس غريبا منك، فمثلك يعتب ويصفح الصفح الجميل.
ولعل فى كل ما قدمنا ما يدل دلالة بينة على براعة النابغة فى اعتذاره ومديحه جميعا، فقد كان يعرف كيف ينوّع معانيه وكيف يسلك إليها شعابا لم يسلكها أحد من قبله. والذى لا ريب فيه أن باب الاعتذار والاستعطاف ضيق، ولكنه عرف بمقدرته الخيالية كيف ينفذ منه إلى صور طريفة ومعان دقيقة، يقوده فى ذلك ذوقه الحضرى الذى نصب أمام عينه اتصاله بالغساسنة ذنبا كبيرا وجرما لا يغتفر فى حق النعمان بن المنذر، وقد أخذ يتنصل من هذا الجرم تارة ويعظم فضيلة العفو عن المذنب تارة ثانية. وبذلك كان فاتحا لباب الاعتذار على مصراعيه، وعلى هديه تبعه الشعراء فى العصور الإسلامية متخذين منه قدوتهم.
وإذا كنا أعجبنا باعتذارات النابغة ومديحه فإننا نعجب أيضا برثائه للنعمان بن الحارث الأصغر الغسانى، وهو يستهله بالنسيب ثم يصف ناقته مشبها لها بحمار وحشى، ويخرج من ذلك إلى الرثاء، فيقول إنه أحزنه نعى النعمان وإن كان سرّ قيسا لما أثخن فيها بحروبه. وهو يعبّر بذلك عن وفائه واعترافه بالجميل،
ومن ثمّ لا يشمت بموت النعمان كما شمتت ذبيان وغيرها من قبائل قيس، بل إنه ليدعو على أعدائه أن لا يهنئوا بمصرعه، ويحدثنا عن جيوشه وانتصاراتها فى القبائل. ويقف ليرد على من جهلوا شيمته من الحفاظ على العهد والضن بسابق الود، فقد ظنوا أنه لن يرثى النعمان ولن يذكره، ويقول كيف لا يذكره، وقد حرك موته ما يشبه الداء العضال فى فؤاده، ونحس أنه سعر قلبه وأشعل صدره بشعلة من الحزن لا تخبو. وما زال يبكيه متعزيا بأن الموت سنة الأحياء وأنه كأس دائر على الجميع، حتى قال داعيا له ومترحما عليه:
سقى الغيث قبرا بين بصرى وجاسم
…
بغيث من الوسمىّ قطر ووابل (1)
ولا زال ريحان ومسك وعنبر
…
على منتهاه ديمة ثم هاطل (2)
وينبت حوذانا وعوفا منوّرا
…
سأتبعه من خير ما قال قائل (3)
وهو يستمطر على قبره شآبيب الغيث، ولا يكتفى بذلك بل يدعو له أن يظل قبره معطرا بالريحان والمسك والعنبر، ولا تزال تمده الأمطار بما ينبت عنده النباتات العاطرة من مثل الحوذان والعرف. وحقّا كان الشعراء حوله ومن قبله يستسقون السحاب لقبور من يفقدونهم، ولكنه مدّ أطناب الصورة بذوقه الحضرى وأضاف إليها الريحان والمسك والعنبر، ودعا للأرض أن تنبت من حول النعمان الأزهار والرياض. وهى صورة حضارية تقابل أختها التى مرت فى مديحه لأخيه عمرو.
وقد قدّم لهذه المرثية كما قلنا بالنسيب، وهو يقدم به لبعض اعتذاراته مؤتسيا بمن حوله من شعراء الجاهلية إذ كانوا يضعونه غالبا فى مقدمات قصائدهم، وكأنهم يريدون أن يستوحوا المرأة شعرهم وقصيدهم. ومن نسيبه قوله فى فاتحة معلقته التى أودعها إحدى اعتذاراته:
يا دار ميّة بالعلياء فالسّند
…
أقوت وطال عليها سالف الأبد (4)
وقفت فيها أصيلانا أسائلها
…
عيّت جوابا وما بالرّبع من أحد (5)
(1) بصرى وجاسم: موضعان بالشام. الوسمى: أول المطر. وابل: غزير.
(2)
منتهاه: قبره. الديمه: المطر ليس فيه برق ولا رعد. الهاطل: المطر المتتابع.
(3)
الحوذان والعوف: نباتان طيبا الرائحة.
(4)
العلياء والسند: موضعان. أقوت: خلت. الأبد: الزمن.
(5)
أصيلانا: تصغير أصلان جمع أصيل أو لعله مصدر من أصيل على وزن غفران. عيت: عجزت.
إلا الأوارىّ لأيا ما أبيّنها
…
والنّؤى كالحوض بالمظلومة الجلد (1)
ردّت عليه أقاصيه ولبّده
…
ضرب الوليدة بالمسحاة فى الثّأد (2)
خلّت سبيل أتىّ كان يحبسه
…
ورفّعته إلى السّجفين فالنّضد (3)
أمست خلاء وأمسى أهلها احتملوا
…
أخنى عليها الذى أخنى على لبد (4)
وهو يستهلها بنداء دار مية ولا يسمع رجعا لندائه ولا ردّا عليه، فقد خلت من سكانها وبارحوها منذ أمد طويل. ويقول إنه وقف بها وقت الأصيل يسائلها ولا من مجيب، ويصف آثارها وما أبقى الزمن منها، ويقول لم يبق منها إلا الأوتاد وإلا النؤى. ويطيل فى وصفه ليظهر قدرته الخيالية، فقد حفرته جارية فى أرض صلبة، وما زالت ترد أتربته على حوافيه، باسطة طريقه إلى الخيام ليرد عنها سيول المطر. وقد أبدع فى تسمية الأرض التى لم تحفر بالمظلومة، وهو أول من أعطاها هذا الاسم، كأنه أحس إزاء الصخر الذى لا يحرث ولا يزرع بضرب من الظلم.
وقد ختم نسيبه بإظهار هذه الدار التى رحل عنها أهلها بمظهر بال، فقد جرّت الأيام عليها أذيال البلى والعفاء، كما جرّتها من قبل على لبد نسر لقمان المشهور بطول عمره وطول سلامته.
وواضح أن هذا النسيب فيه قدرة بارعة على الوصف، ولكن ليس فيه عاطفة قوية، وربما رجع ذلك إلى وقار النابغة، فهو ينسب بالمرأة لا ليصور حبّا، وإنما ليتمسك بهذا التفليد الثابت عند الجاهليين من افتتاح قصائدهم بوصف آثار الديار وما صنعت بها الأحداث. وقد أوشك فى مقدمته لاعتذاريته العينية أن يصور عواطفه وحبه ولكنه لم يكد يقول:
فكفكفت منى عبرة فرددتها
…
على النّحر منها مستهلّ ودامع (5)
(1) الأوارى: الأوتاد وما يربط بها من حبال. النؤى: حفرة حول الخيام تمنع عنها السيول. المظلومة: الأرض صعبة الحفر. الجلد: الصلبة.
(2)
لبده: جمعه. الوليدة: الأمة. الثأد: الثرى الندى.
(3)
خلت: شقت. الأتى: السيل. رفعته: أعلته. السجفان: مصراعا الستر فى الخيمة. النضد: المتاع.
(4)
أخنى عليها: أصابها بآفات الدهر. لبد: نسر للقمان يقولون إنه عمر طويلا.
(5)
كفكف الدمع: مسحه. المستهل: السائل. الدامع: الذى يترقوق فى العين قبل أن يسقط.
حتى أمسك نفسه، وعاتبها على الصبوة وقد علا رأسه الشيب. ونراه فى معلقته يخرج من الغزل إلى وصف ناقته على عادة الشعراء من حوله، فصوّر قوة متنها وسرعة سيرها ومضائها، ثم أخذ فى تشبيهها بثور وحشى، ودفعه ذلك إلى وصف صائد وأكلبه وما نشب بينها وبين هذا الثور من عراك، يقول:
من وحش وجرة موشىّ أكارعه
…
طاوى المصير كسيف الصّيقل الفرد (1)
أسرت عليه من الجوزاء سارية
…
تزجى الشمال عليه جامد البرد (2)
فارتاع من صوت كلاّب فبات، له
…
طوع الشّوامت من خوف ومن صرد (3)
فبثّهنّ عليه واستمرّ به
…
صمع الكعوب بريّات من الحرد (4)
وكان ضمران منه حيث يوزعه
…
طعن المعارك عند المحجر النّجد (5)
شكّ الفريصة بالمدرى فأنفذها
…
طعن المبيطر إذ يشفى من العضد (6)
كأنه خارجا من جنب صفحته
…
سفّود شرب نسوه عند مفتأد (7)
فظلّ يعجم أعلى الرّوق منقبضا
…
فى حالك اللّون صدق غير ذى أود (8)
لما رأى واشق إقعاص صاحبه
…
ولا سبيل إلى عقل ولا قود (9)
قالت له النفس إنى لا أرى طمعا
…
وإنّ مولاك لم يسلم ولم يصد (10)
(1) وجرة: موضع بنجد. موشى أكارعه: مزينة قوائمه بالنقط. طاوى المصير: ضامر البطن. الصيقل: الحداد. الفرد: المسلول.
(2)
أسرت: جاءت ليلا. الجوزاء: برج فى السماء. سارية: سحابة. تزجى: تدفع. الشمال: ريح الشمال.
(3)
الشوامت: القوائم ويريد بطوعها إسراعها به. والصرد: البرد.
(4)
استمر به: اشتد به وقوى. صمع: ضوامر. بريات: بريئات. الحرد: العرج.
(5)
ضمران: اسم كلب للصائد. بوزعه: يغريه. المحجر: حمى القبيلة. النجد: الشجاع.
(6)
الفريصة: لحم الكتف. المدرى: القرن. المبيطر: معالج الحيوان. العضد: داء يلم بكتفها.
(7)
السفود: الحديدة التى يشوى عليها اللحم. نسوه: تركوه. مفتأد: موضع النار الذى يشوى فيه.
(8)
يعجم: يعلك. صدق: صادق فى الطعن. أود: عوج.
(9)
واشق: اسم كلب آخر للصائد. الإقعاص: القتل السريع. العقل: الدية. القود: القصاص.
(10)
المولى: الناصر. يسلم هنا: يأسر.
وهو يبدأ برسم صورة هذا الثور، فقوائمه مزينة بما فيها من نقط، وهو ضيامر كالسيف المسلول، يجرى فى الصحراء خائفا متوجسا لما تسقط عليه السماء من برد لا ينقطع. ولم يلبث أن ذعر ذعرا شديدا إذ سمع صوت قانص يهتف بكلابه، فأسرع فى جريه، ولمحه القانص فبعث عليه كلابه، فاشتدت قوائمه وكعوبه مستخرجا منها كل ما يبتغى من سرعة، ولكن الكلاب لحقت به، وكان أول ما لقيه منها ضمران، ونشب بينهما صراع عنيف، أهوى فيه الثور على خصمه بقرنيه، ولم يلبث أن طعنه بأحدهما طعنة نجلاء، نفذت إلى ظاهر صدره، فكنت ترى الكلب من وهلته يعلك أعلى القرن وما خرج منه متقبضا متألما إلى أن لفظ أنفاسه. ولما رأى واشق ما أصاب أخاه وأنه لن يستطيع أن يعينه ولا أن يدرك بثأره أحجم عن لقاء الثور إبقاء على نفسه، وقد أخذه اليأس من أن يصيد صاحبه كما كان يبغى، فدون بغيته الموت والهلاك.
وهذا الوصف أكثر حيوية من النسيب السابق، لما بثّ النابغة فى الحيوان من حياة الإنسان وعواطفه وقلقه وطمعه ويأسه، فالثور خائف يترقب، والكلاب طامعة تتربص. وتنشب المعركة وكأنها معركة آدمية، فالثور يطعن طعن الرجل المدافع عن عرينه وحماه. ويقتل ضمران. وينظر أخوه واشق فيرى أن القصاص غير ممكن، وتحدثه نفسه بأنه يطمع فى غير طائل، وما يلبث أن ينصرف عن المعركة، وقد قذفت به فى مهاوى اليأس والقنوط. ولا ينسى النابغة مهارته فى التصوير سواء من حيث تمثيل المنظر وتجسيمه أو من حيث التشبيهات وإدخالها فى نسيج الأبيات.
وفى ديوانه فخر وهجاء يتصل بشئون قبيلته البدوية وما كان بينها وبين بنى أسد من حلف وبينها وبين بنى عامر من حرب، وهو فى هذا القسم من شعره لا يتوفر على إحكامه وإظهار مهارته فيه شأنه فى المديح والاعتذار والرثاء، وكأنه كان يمنعه وقاره أن يتمادى فيه، وخاصة فى الهجاء، واقرأ له هذه الأبيات فى عامر بن الطفيل وقد بلغه أنه يهجوه:
فإن يك عامر قد قال جهلا
…
فإن مطبّة الجهل السّباب
فكن كأبيك أو كأبى براء
…
توافقك الحكومة والصواب (1)
ولا تذهب بحلمك طاميات
…
من الخيلاء ليس لهنّ باب (2)
وإنك سوف تحلم أو تناهى
…
إذا ما شبت أو شاب الغراب (3)
وهى أبيات تخلو من الإقذاع فى الهجاء المعروف عند الجاهليين، وهو يعمد فيها بذوقه الحضرى إلى التهكم به والسخرية منه، فيصفه بالحمق، ويصغّر إليه نفسه بتفضيل أبيه وعمه عليه، وينهاه عن الخيلاء، ويؤمله فى أنه سوف يحلم حين تتقدم به السن أو لعله لا يحلم أبدا. وواضح أن الشطر الثانى فى البيت الأول حكمة سائرة، وتكثر هذه الحكم عند النابغة يأتى بها فى ثنايا شعره وقصيده، فتكون شطرا كهذا الشطر، وقد تكون بيتا كالبيت الأخير من هذه الابيات، وفيما تمثلنا من شعره كثير منها، ومن رائعها قوله:
ولست بمستبق أخا لا تلمّه
…
على شعث، أىّ الرجال المهذّب
ومما لا شك فيه أنه يدل بهذه الحكم على صدق نظرته ودقة حسّه.
وجوانب كثيرة فى شعر النابغة تفصح عن مهارته فى صوغ القصيدة ونظمها، سواء من حيث ألفاظه أو من حيث صوره ومعانيه، أما من حيث الألفاظ فإنك لا تقع منها على لفظة نابية، إنما تقع على الألفاظ المحكمة المستخدمة فى دلالالتها الدقيقة، ولعل ذلك ما جعله يلتزم الألفاظ البدوية الغريبة حين يصف الديار والصحراء والحيوان الوحشى، أما حين يمدح الملوك أو يرثيهم أو يعتذر إليهم فإنه يستخدم الألفاظ المأنوسة الجزلة الناعمة. وهذه البراعة عنده جعلت نقاد العصر العباسى يقولون: إنه «كان أحسن الجاهليين ديباجة شعر وأكثرهم رونق كلام وأجزلهم بيتا (4)» . على أنهم لم يلبثوا أن ادعوا عليه أنه كان يقوى فى شعره محتجين على ذلك ببيت فى قصيدة المتجردة التى وضعت عليه، فقد جاء فيها بيت مرفوع الروى، بينما رويها المطّرد مكسور، ورووا فى ذلك قصة، هى أن النابغة قدم
(1) أبو براء: عامر بن مالك ملاعب الأسنة وهو عم عامر بن الطفيل.
(2)
طاميات: فائضات ومرتفعات. ليس لهن باب: لا مخرج منهن.
(3)
أو شاب الغراب: ضرب النابغة ذلك مثلا لعامر وأنه لن يحلم أبدا.
(4)
طبقات فحول الشعراء لابن سلام ص 46 وانظر الشعر والشعراء 1/ 108.
يثرب، فعاب عليه أهلها ذلك فى قصيدته المذكورة، فلم يأبه لهم حتى أسمعوه إياه فى غناء، ففطن إلى ما قالوا ولم يعد إلى ذلك (1). ولكن القصيدة كما قدمنا مما نحل على النابغة، فحرى أن تكون القصة مثلها منحولة.
وإذا كان النابغة يعنى بألفاظه عناية راعت السابقين فإنه يعنى كذلك بمعانيه، وهى عناية أتاحت له كثرة الخواطر فى اعتذارياته على الرغم من ضيق هذا الموضوع، وأيضا فإنها أتاحت له ضربا من ترتيب أفكاره، ويتضح ذلك فى تنسيقه لموضوعات بعض قصائده، إذ نراه يحسن التخلص من موضوع إلى موضوع، وارجع إلى معلقته فإنك تراه يخرج من النسيب إلى وصف ناقته خروجا تسنده المناسبة، حتى إذا أتم هذا الوصف قال:
فتلك تبلغنى النعمان إن له
…
فضلا على الناس فى الأدنى وفى البعد
وكذلك صنع فى اعتذاريته العينية فإنه خرج من النسيب إلى الاعتذار خروجا متصلا، إذ قال إنه كفّ عن التشبيب والحب لشيبه ولما يشغله من هم، هو غضب النعمان، على هذه الشاكلة:
وقد حال همّ دون ذلك شاغل
…
مكان الشّغاف تبتغيه الأصابع (2)
وعيد أبى قابوس فى غير كنهه
…
أتانى ودونى راكس فالضّواجع
وهذه العناية البالغة بالمعانى والألفاظ كان يؤازرها عنده عنايته بالصور وما يطوى فيها من تشبيهات واستعارات؛ ولا نلاحظ عنده الكثرة من الصور فحسب، بل نلاحظ أيضا القدرة على الابتكار ومفاجأة السامع بالأخيلة التى تخلب لبّه، وخاصة حين يتنصّل للنعمان بن المنذر من ذنبه، وحين يصور بطشه بمن يغضب عليهم مستعطفا مسترحما. وكان له ذوق جيد فى اختيار صوره ومعانيه جميعا، وهو ذوق هذبته الحضارة التى نعم بها فى الحيرة وبلاط الغساسنة، فإذا هو رقيق الحس رقة شديدة، وإذا هو يأتى فى مديحه ورثائه بمعان حضارية غير مألوفة للجاهليين. وليس ذلك فحسب، فإنه يفتح صفحة جديدة هى صفحة
(1) ابن سلام ص 55 وما بعدها والأغانى (طبعة دار الكتب) 11/ 10.
(2)
الشغاف: حجاب القلب.
الاعتذاريات والاستعطافات وما يجرى فيها من الحس المرهف والشعور الدقيق، وتسربت من ذلك أسراب فى جميع موضوعات شعره، حتى الهجاء.
وإذا أضفنا إلى كل ذلك عند النابغة أخلاقه الرفيعة التى تتمثل فى وقاره وارتفاعه عن الدنيات ووفائه للأصدقاء والأحلاف وحفاظه الشديد على العهد وسابق الود أمكننا أن نفهم منزلته التى احتلها فى العصر الجاهلى وأسبابها، إذ جعلوه محكّما بين الشعراء فى عكاظ كما قدمنا، وكأنه فى رأيهم الشاعر الفذّ الذى لا يشقّ غباره والذى لا ينطق عن هوى أو عصبية، ومن ثمّ كان حكمه قاطعا لا يقبل طعنا ولا نقضا.