الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[أم المؤمنين أم حبيبة]
[ (1) ] وأم حبيبة رملة، وقيل: هند- ورملة أثبت- ابنة أبى سفيان صخر بن
[ (1) ] هي السيدة المحجّبة: رملة بنت أبى سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس ابن عبد مناف بن قصي. مسندها خمسة وستون حديثا، واتفق لها البخاري ومسلم على حديثين، وتفرد مسلم بحديثين [البخاري في النكاح، باب وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ، وفي الطلاق، باب الكحل للحادة، ومسلم في الرضاع، باب تحريم الربيبة وأخت المرأة، وفي الطلاق، باب وجوب الإحداد، وفي صلاة المسافرين، باب فضل السنن الراتبة قبل الفرائض وبعدهن، وفي الحج، باب استحباب تقديم دفع الضعفة من النساء وغيرهن من مزدلفة إلى مني في أواخر الليل قبل زحمة الناس] .
وهي من بنات عم الرسول صلى الله عليه وسلم، ليس في أزواجه من هي أقرب نسبا إليه منها، ولا في نسائه من هي أكثر صداقا منها، ولا من تزوج بها وهي نائية الدار أبعد منها، عقد له صلى الله عليه وسلم عليها بالحبشة، وأصدقها عنه صاحب الحبشة أربعمائة دينار وجهزها بأشياء، روت عنه عدّة أحاديث، وقبرها بالمدينة.
قال ابن سعد: ولد أبو سفيان: حنظلة المقتول يوم بدر، وأم حبيبة، توفى عنها زوجها الّذي هاجر بها إلى الحبشة: عبيد اللَّه بن جحش بن رياب الأسدي، مرتدا متنصرا.
عقد عليها للنّبيّ صلى الله عليه وسلم بالحبشة سنة ست، وكان الولي عثمان بن عفان. [ (الاستيعاب) (والمستدرك) ] معمر، عن الزهري، عن عروة، عن أم حبيبة: أنها كانت تحت عبيد اللَّه، وأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تزوجها بالحبشة، زوجها إيها النجاشىّ، ومهرها أربعة آلاف درهم، وبعث بها مع شرحبيل بن حسنة، وجهازها كله من عند النجاشىّ. [إسناده صحيح، أخرجه أبو داود في النكاح، باب الصداق، والنسائي في النكاح، باب القسط في الأصدقة، وأحمد في (المسند) ] .
وقيل: إن أم حبيبة لما جاء أبوها إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليؤكد عقد الهدنة، ودخل عليها، فمنعته أن يجلس على فراش رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لمكان الشرك. [أخرجه ابن سعد في (الطبقات) من طريق الواقدي، عن محمد بن عبد اللَّه، عن الزهري] .
وأما ما ورد من طلب أبى سفيان من النبي صلى الله عليه وسلم أن يزوجه بأم حبيبة، فما صحّ، ولكن الحديث في مسلم، وحمله الشارحون على التماس تجديد العقد. [مسلم في فضائل الصحابة، باب من فضائل أبى سفيان بن حرب، وقد أعله غير واحد من الأئمة] .
وقد كان لأم حبيبة حرمة وجلالة، ولا سيما في دولة أخيها ولمكانه منها قيل له: خال المؤمنين [كذا قاله الذهبي في (سير الأعلام) . لكن قال القسطلاني في (المواهب اللدنية) : ولا يقال: بناتهن أخوات المؤمنين، ولا آباؤهن وأمهاتهن أجداد وجدات، ولا إخوتهن ولا أخواتهن أخوال وخالات] .
قال الواقدي، وأبو عبيد، والفسوي: ماتت أم حبيبة سنة أربع وأربعين.
وقال أيضا: حدثنا محمد بن عبد اللَّه، عن الزهري، قال: لما قدم أبو سفيان المدينة، والنبي صلّى اللَّه عليه وسلم
حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، أمها صفيّا بنت أبى العاص، عمة عثمان بن عفان رضى اللَّه عنه، تزوجها عبيد اللَّه بن جحش، فولدت له جارية سميت حبيبة، فكنيت بها، وهاجر بها إلى الحبشة، فتنصّر، وثبتت أم حبيبة على الإسلام، فلما هلك عبيد اللَّه رأت في منامها أباها يقول لها: يا أم المؤمنين.
وكتب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في سنة سبع- وهو الثابت- كتابين إلى النجاشي يدعوه في أحدهما إلى الإسلام، ويأمره في الثاني أن يخطب عليه أم حبيبة، وأن يبعث من قبله من المسلمين مع عمرو بن أمية الضمريّ، وهو كان رسوله بالكتابين.
وقال الحافظ أبو نعيم: فأما بعثة عمرو بن أمية الضمريّ من قبل رسول اللَّه إلى النجاشي ليزوجه أم حبيبة بنت أبى سفيان وإجابته إلى ذلك، فلا أعلم خلافا أنه كان بعد مرجعه صلى الله عليه وسلم من خيبر، وذلك بعد خمس سنين
[ () ] يريد غزو مكة، فكلمه في أن يزيد في الهدنة، فلم يقبل عليه، فقام فدخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش النبي صلى الله عليه وسلم طوته دونه، فقال: يا بنية! أرغبت بهذا الفراش عنى، أم بى عنه؟
قالت: بل هو فراش رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأنت امرؤ نجس مشرك، فقال: يا بنيه، لقد أصابك بعدي شرّ.
[أخرجه ابن سعد في (الطبقات) ] .
قال عطاء: أخبرنى ابن شوال، أن أم حبيبة أخبرته، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أمرها أن تنفر من جمع بليل. [أخرجه مسلم في الحج، باب استحباب تقديم دفع الضعفة من النساء وغيرهن من مزدلفة إلى منى قبل زحمة الناس، وابن سعد في (الطبقات) ، وجمع: علم للمزدلفة، وابن شوال هو سالم مولى أم حبيبة] .
قال الواقدي: حدثني أبو بكر بن أبى سبرة، عن عبد المجيد بن سهيل، عن عوف بن الحارث:
سمعت عائشة تقول: دعتني أم حبيبة عند موتها، فقالت: قد كان يكون بيننا ما يكون بين الضرائر، فغفر اللَّه لي ولك ما كان من ذلك، فقلت: غفر اللَّه لك ذلك كله وحلّلك من ذلك، فقالت: سررتني سرّك اللَّه، وأرسلت إلى أم سلمة، فقالت لها مثل ذلك:[أخرجه ابن سعد في (الطبقات) ، والحاكم في (المستدرك) ] . لها ترجمة في: (مسند أحمد) : 7/ 577- 581، (طبقات ابن سعد) :
8/ 96- 100، (طبقات خليفة) : 332، (تاريخ خليفة) : 79، 86، (المعارف) : 136، 344، (الجرح والتعديل) : 9/ 461، (المستدرك) : 4/ 21- 24، (الاستيعاب) : 4/ 1929، ترجمة رقم (4136)، (تهذيب التهذيب) : 12/ 448، ترجمة رقم (2793)، (الإصابة) : 7/ 651- 654، ترجمة رقم (11185)، (خلاصة تذهيب الكمال) :(شذرات الذهب) : 1/ 54، (صفة الصفوة) : 2/ 31- 33 ترجمة رقم (130)، (المواهب اللدنية) : 2/ 85- 87، (سير أعلام النبلاء) :
2/ 218، ترجمة رقم (23) .
وأشهر مضت من هجرته إلى المدينة، وأن النجاشي أصدقها عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أربعمائة دينار، دفعها من ماله إليها [ (1) ] .
وفي صحيح ابن حبان عن ابن شهاب عن عروة، عن عائشة قالت: هاجر عبد اللَّه بن جحش بأم حبيبة بنت أبى سفيان- وهي امرأته- إلى أرض الحبشة، فلما قدم أرض الحبشة مرض، فلما حضرته الوفاة أوصى إلى رسول اللَّه، فتزوج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أم حبيبة، وبعث بها النجاشي مع شرحبيل بن حسنة [ (2) ] .
فأسلم النجاشي، ووجه إلى أم حبيبة جارية له يقال لها: أبرهة لتعلمها بذلك وتبشرها بذلك وتبشرها به، فوهبت لها أم حبيبة [حلة] كانت عليها وكستها.
ثم وكلت خالد بن سعيد بن العاص بن أمية- وهو ابن عمها- بتزويجها، فخطبها عمرو بن أمية إليه، فزوجها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ومهرها عنه النجاشىّ أربعمائة دينار- وقيل: مائتي دينار، وقيل أربعة آلاف درهم- وبعث بها إليها مع أبرهة، فوهبتها منها خمسين مثقالا فلم تقبلها، وردت ما كانت أعطتها أولاد، وذلك أن النجاشي أمرها برده.
وهيأ النجاشي طعاما أطعمه من حضره من المسلمين، وأهدى إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كسوة جامعة، وأمر نساءه أن يبعثن إلى أم حبيبة فبعثن لها بعود وروس وعنبر وزيادة كثير، قدمت به على رسول اللَّه، وكان يراه عندها وعليها فلا ينكره.
[ (1) ] سبق تخريجه في ترجمتها.
[ (2) ](سنن النسائي) : 6/ 429، باب (66) القسط في الأصدقة، حديث رقم (3350)، (سنن أبى داود) : 2/ 583، كتاب النكاح، باب (29) الصداق، حديث رقم (2107) ، (2108)، وقال الخطابي في (معالم السنن) : وقد روى أصحاب السير أن الّذي عقد النكاح عليها خالد بن سعيد بن العاص، وهو ابن عم أبى سفيان- وأبو سفيان إذا ذاك مشرك- وقبل نكاحها عمرو بن أبى أمية الضمريّ، وكله رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، (مسند أحمد) : 7/ 579 حديث رقم (26862)، (الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان) : 13/ 385- 386، كتاب الوصبة، باب ذكر إباحة وصية المرء وهو في بلد ناء إلى الموصى إليه في بلد آخر، حديث رقم (6027) ، وإسناد صحيح على شرط البخاري.
فلما قدم عمرو بن أمية بأم حبيبة المدينة، ابنتي بها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، والثابت أنها قدمت مع عمرو في إحدى السفينتين أيام خيبر، وقيل: بل بعث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أبا عامر الأشعري حين بلغه خطبة عمرو أم حبيبة وتزويج خالد إياها، فحملها إليه قبل قدوم أهل السفينتين وهيأ النجاشي طعاما أطعمه من حضره من المسلمين، وأهدى إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كسوة جامعة، وأمر نساءه أن يبعثن إلى أم حبيبة فبعثن لها بعود وروس وعنبر وزياد كثير، قدمت به على رسول اللَّه، وكان يراه عندها وعليها فلا ينكره.
وأن أبا سفيان قال: أنا أبوها أم أبو عامر؟ وقيل: بل بعث إليها شرحبيل بن حسنة فجاءه بها.
قال ابن المبارك: أخبرنا معمر عن الزهري، عن عروة، أن أم حبيبة بعث بها النجاشي إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع شرحبيل بن حسنة، ولما بلغ أبو سفيان تزوّج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أم حبيبة قال: ذلك الفحل لا [يقدع] أنفه [ (1) ] .
وقال ابن عباس رضى اللَّه عنه في قول اللَّه تعالى: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً [ (2) ] ، نزلت حين تزوج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبى سفيان بن [حرب][ (3) ] وقيل قدم عمرو بن أمية بأم
[ (1) ] القدع: الكفّ والمنع، وفلان لا يقدع أنفه، أي لا يرتدع، وهذا فحل لا يقدع أي لا يضرب أنفه، وذلك إذا كان كريما، وفي حديث زواجه صلى الله عليه وسلم خديجة رضى اللَّه عنها: قال ورقة ابن نوفل: محمد يخطب خديجة، هو الفحل لا يقدع أنفه (لسان العرب) : 8/ 260.
[ (2) ] الممتحنة: 7.
[ (3) ] وقد قال مقاتل بن حيان: إن هذه الآية نزلت في أبى سفيان صخر بن حرب، فإن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تزوج ابنته، فكانت هذه مودة ما بينه وبينه. وفي هذا يقول العلامة محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسى الغرناطي: ومن ذكر أن هذه المودة هي تزويج النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبى سفيان، وأنها كانت بعد الفتح فقد أخطأ، لأن تزويجها كان وقت هجرة الحبشة، وهذه الآيات سنة ست من الهجرة، ولا يصح ذلك عن ابن عباس إلا أن يسوقه مثالا، وإن كان متقدما لهذه الآية، لأنه استمر
حبيبة مع أصحاب السفينتين فخطبها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى عثمان بن عفان رضى اللَّه عنه، فزوجه إياها، والأول أثبت، وتوفيت رضى اللَّه عنها سنة أربع وأربعين، وقيل سنة اثنتين وأربعين، وصلّى عليها مروان.
وقد وقع في صحيح مسلم من حديث عكرمة بن عمار قال: حدثنا أبو زميل قال: حدثني ابن عباس رضى اللَّه عنه قال: كان المسلمون لا ينظرون إلى أبى سفيان ولا يقاعدونه، فقال للنّبيّ صلى الله عليه وسلم يا نبي اللَّه! ثلاثة أعطينهنّ، قال: نعم، قال: عندي أحسن العرب وأجمله أم حبيبة بنت أبى سفيان أزوجكها، قال: نعم، قال: ومعاوية تجعله كاتبا بين يديك، قال: نعم، قال: وتؤمّرنى حتى أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين، قال: نعم.
قال أبو زميل: ولولا أنه طلب ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم لما أعطاه ذلك، لأنه لم يكن يسأل شيئا إلا قال: نعم [ (1) ] .
قال أبو عبد اللَّه محمد بن أبى نصر الحميدي رحمه الله: قال لنا بعض الحفاظ: هذا الحديث وهم فيه بعض الرواة، لأنه لا خلاف بين اثنين من أهل المعرفة بالأخبار، أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج أم حبيبة رضى اللَّه عنها قبل الفتح بدهر وهي بأرض الحبشة، وأبوها كافر يومئذ [ (2) ] .
[ () ] بعد الفتح كسائر ما نشأ من المؤدّات، قاله ابن عطية. (البحر المحيط) : 10/ 156.
[ (1) ](مسلم بشرح النووي) : 16/ 296، كتاب (44) ، فضائل الصحابة باب (40) من فضائل أبى سفيان بن حرب، رضى اللَّه تعالى عنه، حديث رقم (168) .
[ (2) ] قال الإمام محيي الدين أبو زكريا بن شرف النووي: واعلم أن هذا الحديث من الأحاديث المشهورة بالإشكال، ووجه الإشكال أن أبا سفيان إنما أسلم يوم فتح مكة سنة ثمان من الهجرة، وهذا مشهور لا خلاف فيه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد تزوج أم حبيبة قبل ذلك بزمان طويل.
قال أبو عبيدة، وخليفة بن خياط، وابن البرقي، والجمهور: تزوجها سنة ست، وقيل: سنة سبع، قال القاضي عياض: واختلفوا أين تزوجها، فقيل: بالمدينة بعد قدومها من الحبشة، وقال الجمهور: بأرض الحبشة. قال: واختلفوا فيمن عقد له عليها هناك، فقيل: عثمان، وقيل: خالد بن سعيد بن العاص بإذنها، وقيل: النجاشىّ لأنه كان أمير الموضع وسلطانه.
قال كاتبه: وقد استغرب من مسلم رحمه الله كيف لم ينتبه لهذا الحديث؟ فإنه لا يخفى عليه أن أبا سفيان إنما أسلم ليلة فتح مكة، وقد كان بعد تزويج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بأكثر من سنة بلا خلاف، وقد أشكل هذا الحديث على الناس واختلفوا فيه، ووجه إشكاله أن أم حبيبة تزوجها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قبل إسلام أبى سفيان كما تقدم، زوّجها إياه النجاشي، ثم قدمت على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم أبوها، فكيف يقول بعد الفتح: أزوجك أمّ حبيبة؟ فقالت طائفة من أهل الحديث: هذا الحديث كذب لا أصل له.
قال أبو محمد على بن سعيد بن حزم: كذبه عكرمة بن عمار وحمل عليه، واستعظم ذلك آخرون وقالوا: إني يكون في صحيح مسلم حديث مرفوع؟ وإنما وجه الحديث أنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجدد له العقد على
[ () ] وقال القاضي عياض: والّذي في مسلم هنا أنه زوّجها أبو سفيان غريب جدا، وخبرها مع أبى سفيان حين ورد المدينة في حال كفره مشهور، ولم يزد القاضي على هذا.
وقال ابن حزم: هذا الحديث وهم من بعض الرواة، لأنه لا خلاف بين الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج أم حبيبة قبل الفتح بدهر وهي بأرض الحبشة، وأبوها كافر، وفي رواية عن ابن حزم أيضا أنه قال: أنه موضوع. قال: والآفة فيه من عكرمة بن عمار، الراويّ عن أبى زميل، وأنكر الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله هذا أيضا على ابن حزم، وبالغ في الشناعة عليه.
قال: وهذا القول من جسارته فإنه كان هجوما على تخطئة الأئمة الكبار، وإطلاق اللسان فيهم.
قال: ولا نعلم أحدا من أئمة الحديث نسب عكرمة بن عمار إلى وضع الحديث، وقد وثقه وكيع، ويحيى بن معين، وغيرهما، وكان مستجاب الدعوة.
قال: وما توهمه ابن حزم من منافاة هذا الحديث لتقدم زواجها غلط منه وغفلة، لأنه يحتمل أنه سأله تجديد عقد النكاح تطييبا لقلبه، لأنه ربما يرى عليها غضاضة من رياسته ونسبه، أن تزوج بنته بغير رضاه، أو أنه ظن أن إسلام الأب في مثل هذا يقتضي تجديد العقد، وقد خفي أوضح من هذا على أكبر مرتبة من أبى سفيان ممن كثر علمه، وطالت صحبته، هذا كلام أبى عمرو رحمه الله، وليس في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم جدّد العقد: ولا قال لأبى سفيان أنه يحتاج إلى تجديده، فلعله صلى الله عليه وسلم أراد بقوله: نعم، أن مقصودك يحصل، وإن لم يكن بحقيقة عقد. واللَّه تعالى أعلم. (مسلم بشرح النووي) : 16/ 296.
ابنته ليتقى له بذلك وجهه بين المسلمين.
واعترض على هذا القول بأن في الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم وعده وهو الصادق الوعد، ولم ينقل أحد قط أنه صلى الله عليه وسلم جدد العقد على أم حبيبة، ومثل هذا لو كان لنقل، فحيث لم ينقله أحد قط علم أنه لم يقع.
ولم يردّ القاضي [عياض] على استشكال الحديث فقال: والّذي وقع في مسلم من هذا غريب جدا عند أهل الخبر، وخبرها مع أبى سفيان عند وروده المدينة بسبب تجديد الصلح ودخوله عليها مشهور.
وقالت طائفة: ليس الحديث بباطل، وإنما سأل أبو سفيان النبي صلى الله عليه وسلم، أن يزوجه ابنته الأخرى على أختها أم حبيبة، قالوا: ولا يبعد أن يخفى هذا على أبى سفيان لحداثة عهده بالإسلام، كما خفي على ابنته أم حبيبة حتى
سألت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها، فقال: إنها لا تحل لي،
فأراد أبو سفيان أن يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم ابنته الأخرى، والتبعة على الراويّ. وذهب وهمه إلى أنها أم حبيبة وهذه التسمية من غلط بعض الرواة لا من قول أبى سفيان.
قال شيخنا العماد عمر بن كثير- رحمه الله: والصحيح في هذا أن أبا سفيان لما رأى صهر النبي صلى الله عليه وسلم [رفع من قدره][ (1) ] أحب أن يزوجه ابنته الأخرى- وهي عزة- واستعان على ذلك بأختها أم حبيبة، كما أخرجاه
في الصحيحين عن أم حبيبة أنها قالت: يا رسول اللَّه! أنكح أختى بنت أبى سفيان، فقال: وتحبين ذلك؟ قلت: نعم.. الحديث [ (2) ] .
[ (1) ] زيادة يقتضيها السياق، ومكانها مطموس في (خ) .
[ (2) ]
أخرجه البخاري في (الصحيح) قال: حدثنا عبد اللَّه بن يوسف، حدثنا الليث عن عقيل، عن ابن شهاب، أن عروة بن الزبير أخبره أن زينب ابنة أبى سلمة أن أم حبيبة قالت: قلت: يا رسول اللَّه، أنكح أختى بنت أبى سفيان، قال: وتحبين؟ قلت: نعم، لست لك بمخلية، وأحب من شاركني في خير أختى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن ذلك لا يحل لي. قلت: يا رسول اللَّه، فو اللَّه إنا لنتحدث أنك تريد أن تنكح درة بنت أبى سلمة، قال: بنت أم سلمة؟ فقلت: نعم، قال: فو اللَّه لو لم تكن في حجري ما
_________
[ () ] حلت لي، إنها لابنة أخى من الرضاعة، أرضعتنى وأبا سلمة ثويبة- فلا تعرضن عليّ بناتكن ولا أخواتكن. (فتح الباري) : 9/ 198، كتاب النكاح، باب (27) وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ، حديث رقم (5107)، (مسلم بشرح النووي) : 9/ 278، كتاب الرضاع، باب (4) تحريم الربيبة وأخت المرأة، حديث رقم (15) ،
وقال الإمام النووي: هذا الإسناد فيه أربعة تابعيون:
أولهم: بكير بن عبد اللَّه بن الأشج، روى عن جماعة من الصحابة، والثاني عبد اللَّه بن مسلم الزهري أخو الزهري المشهور وهو تابعي سمع ابن عمرو آخرين من الصحابة، وهو أكبر من أخى الزهري المشهور، والثالث: محمد بن مسلم الزهري المشهور، وهو أخو عبد اللَّه الراويّ عنه كما ذكرنا، والرابع: حميد بن عبد الرحمن بن عوف، وهو الزهري، تابعيان مشهوران.
ففي هذا الإسناد ثلاث لطائف من علم الإسناد: إحداها: كونه جمع أربعة تابعين بعضهم عن بعض، الثانية: أن فيه رواية الكبير عن الصغير، لأن عبد اللَّه أكبر من أخيه محمد كما سبق، الثالثة: أن فيه رواية الأخ عن أخيه.
قوله صلى الله عليه وسلم: «لو أنها لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي إنها ابنة أخى من الرضاعة» ،
معناه أنها حرام عليّ بسببين: كونها ربيبة، وكونها بنت أخى، فلو فقد أحد السببين حرمت بالآخر، والربيبة بنت الزوجة، مشتقة من الربّ، وهو الإصلاح، لأنه يقوم بأمورها، ويصلح أحوالها.
ووقع في بعض كتب الفقه أنها مشتقة من التربية، وهذا غلط فاحش، فإن من شرط الاشتقاق الاتفاق في الحروف الأصلية، ولام الكلمة، وهو الحرف الأخير مختلف، فإن آخر ربّ باء موحدة، وفي آخر ربّى ياء مثناة من تحت، واللَّه تعالى أعلم.
قوله صلى الله عليه وسلم: «ربيبتي في حجري» ،
ففيه حجة لداود الظاهري أن الربيبة لا تحرم إلا إذا كانت في حجر زوج أمها، فإن لم تكن في حجره فهي حلال له، وهو موافق لظاهر قوله تعالى: وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ، ومذهب العلماء كافة سوى داود أنها حرام، سواء كانت في حجره أم لا.
قالوا: والتقييد إذا خرج على سبب لكونه الغالب، لم يكن له مفهوم يعمل به، فلا يقصر الحكم عليه، ونظيره قوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ، ومعلوم أنه يحرم قتلهم بغير ذلك أيضا، لكن خرج التقييد بالإملاق لأنه الغالب، وقوله تعالى: وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً، ونظائره في القرآن كثيرة.
قوله صلى الله عليه وسلم: «أرضعتنى وأباه ثويبة» ،
أباها بالباء الموحدة، أي أرضعتنى أنا وأبوها أبو سلمة، من ثوبية بثاء مثلثة مضمومة، ثم واو مفتوحة ثم ياء التصغير ثم باء موحدة ثم هاء، وهي مولاة لأبى لهب، ارتضع منها صلى الله عليه وسلم قبل حليمة السعدية رضى اللَّه عنها.
قوله صلى الله عليه وسلم: «فلا تعرضوا عليّ بناتكن ولا أخواتكن» ،
إشارة إلى أخت أم حبيبة، وبنت أم سلمة، واسم أخت أم حبيبة هذه: عزّة، بفتح العين المهملة، وهذا محمول على أنها لم تعلم حينئذ تحريم
وعلى هذا فيصح الحديث الأول، ويكون قد وقع الوهم من بعض الرواة في قوله: عندي أحسن العرب وأجمله أم حبيبة، وإنما قال: عزة، فشبه على الراويّ، أو أنه قال- يعنى الشيخ-: ابنته، فتوهم السامع أنها أم حبيبة، إذا لم يعرف سواها، ولهذا النوع من الغلط شواهد كثيرة، قلما قررت سرد ذلك في خبر مفرد لهذا الحديث، وللَّه الحمد، وهذا القول جيد، لكن سرده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: نعم، فأجابه إلى ما سأل، ولو كان المسئول أن يزوجه أخت أم حبيبة لقال: إنها لا تحل لي كما قال ذلك لأم حبيبة، ولولا هذا لكان هذا التأويل في الحديث من أحسن التأويل.
وقال ابن طاهر المقدسي في (مسألة الانتصار) : والشبهة التي حملته- يعنى ابن حزم- على الكلام في عكرمة بن عمار بغير حجة، هي أن النجاشي زوّج أم حبيبة من النبي صلى الله عليه وسلم وهي بأرض الحبشة، ثم بعث بها إلى المدينة قبل إسلام أبى سفيان.
والجواب عن هذه الشبهة: أن أبا سفيان لما أسلم أراد بهذا القول تجديد النكاح، لأنه إذا ذاك كان مشركا، فلما أسلم ظن أن النكاح [يجدد] بإسلام الولي، وخفي ذلك عليه، وقد خفي على أمير المؤمنين على بن أبى طالب الحكم في الّذي [][ (1) ] مع قدم إسلامه وصحبته وعلمه وفقهه، حتى أرسل المقداد فسأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وخفي على عبد اللَّه بن عمر الحكم في طلاق الحائض، حتى سأل عمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأمره بالسنة
[ () ] الجمع بين الأختين، وكذا لم تعلم من عرض بنت أم سلمة تحريم الربيبة، وكذا لم تعلم من عرض بنت حمزة تحريم بنت الأخ من الرضاعة، أو لم تعلم أن حمزة أخ له من الرضاع، واللَّه تعالى أعلم.
(المرجع السابق) .
وأخرجه أيضا الحافظ البيهقي في (السنن الكبرى) : 7/ 162، كتاب النكاح، باب ما جاء في قول اللَّه تعالى: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ.
[ (1) ] ما بين الحاصرتين مطموس في (خ) .
في ذلك.
ولهذا نظائر غير خافية بين أهل النقل، [والرجوع] إلى هذا التأويل أولى من التخطي إلى الكلام في رجل ثقة، وإبطال حديث ورد عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، متصل الإسناد، معتمد الرواة. وأما قول أبى زميل: حدثنا ابن الوليد، فهو مقصور عليه، لم ينسبه إلى من فوقه، فتكلم عليه.
قال جامعة: وقد تبع ابن طاهر على هذا الجواب أبو عمر بن الصلاح إلى الشيخ أبى زكريا النووي في (شرح مسلم) ، وهذا تأويل بعيد جدا، لأنه لو كان كذلك لم يقل: عندي أحسن العرب وأجمله، إذ قد رآها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم منذ سنة فأكثر، وتوهّم فسخ نكاحها بإسلامه بعيد جدا.
وقالت طائفة لم يتفق أهل النقل على أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج أم حبيبة بأرض الحبشة، حكاه أبو محمد المنذرىّ، وهذا من أضعف الأجوبة لوجوه.
أحدها: أن هذا القول لا يعرف به أثر صحيح ولا حسن، ولا حكاه أحد ممن يعتمد على نقله.
الثاني: أن قصة تزوج أم حبيبة وهي بأرض الحبشة قد جرت مجرى التواتر، كتزويجه صلى الله عليه وسلم خديجة بمكة، وعائشة بمكة، وبنائه بعائشة بالمدينة، وتزويجه حفصة بالمدينة، وصفية عام خيبر، وميمونة في عمرة [القضية][ (1) ] ، ومثل هذه الوقائع شهرتها عند أهل العلم موجبة بقطعهم بها، فلو جاء سند ظاهره الصحة يخالفها، عدوّه غلطا، ولم يلتفتوا إليه ولا يمكنهم مكابرة نفوسهم في ذلك.
الثالث: أنه من [المعلوم][ (1) ] عند أهل العلم بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأحواله، أنه لم يتأخر نكاحه أم حبيبة إلى بعد فتح مكة، ولا يقع ذلك في وهم
[ (1) ] زيادة يقتضيها السياق.
أحد منهم أصلا.
الرابع: أن أبا سفيان لما قدم المدينة دخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم طوته عنه، فقال: يا بنية! ما أدرى أرغبت بى عن هذا الفراش؟ أم رغبت به عنى؟ قالت: بل هو فراش رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال: واللَّه لقد أصابك يا بنية بعدي شرّ، وهذا الخبر مشهور عند أهل المغازي والسّير، ذكره ابن إسحاق وغيره في قصة قدوم أبى سفيان المدينة لتجديد الصلح.
الخامس: أن أم حبيبة [كانت][ (1) ] من مهاجرات الحبشة مع زوجها عبد اللَّه بن جحش، ثم تنصر زوجها وهلك بأرض الحبشة، ثم قدمت حتى جاءت على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعد ما زوجه النجاشي إياها، فكانت عندك صلى الله عليه وسلم ولم تكن عند أبيها، وهذا مما لا يشك فيه أحد من أهل النقل، [ومن المعلوم أن أبا سفيان][ (1) ] لم يسلم إلا عام الفتح، فكيف يقول: عندي أجمل العرب أزواجك إياها؟ وهل كانت عنده بعد هجرتها وإسلامها قط؟
فإن كان قال ذلك القول قبل إسلامه فهو محال، فإنّها لم تكن عنده، ولم يكن له عليها ولاية أصلا، وإن كان قاله بعد إسلامه فمحال أيضا، لأن نكاحها لم يتأخر إلى بعد الفتح، فإن قيل: بل بيقين أن يكون نكاحها بعد الفتح لأن الحديث الّذي رواه مسلم صحيح، ورجال إسناده ثقات حفاظ، وحديث نكاحها بأرض الحبشة من رواية محمد بن إسحاق مرسلا، والناس مختلفون بمسانيد ابن إسحاق، فكيف بمراسيله؟ فكيف بها إذا خالفت المسانيد الثابتة؟ وهذه طريقته في تصحيح حديث ابن عباس هذا، والجواب من وجوه:
أحدها: أن ما ذكره هذا القائل إنما يمكن عند تساوى النّقلين، فيترجح ما
[ (1) ] زيادة يقتضيها السياق.
ذكره، وأما مع تحقق بطلان أحد النقلين فلا يلتفت إليه فإن لا يعلم نزاع بين اثنين من أهل العلم بالسير والمغازي، وأحوال رسول اللَّه في ذلك قط، ولو قاله قائل لعلموا بطلان قوله ولم يشكوا فيه.
الثاني: أن الاعتماد في هذا [الحديث][ (1) ] على رواية ابن إسحاق وحده لا متصلة ولا مرسلة، بل النقل المتواتر عند أهل المغازي والسير، أن أم حبيبة هاجرت مع زوجها، وأنه هلك نصرانيا بأرض الحبشة، وأن النجاشي زوجها النبي صلى الله عليه وسلم وأمهرها من عنده، وقصتها في كتب المغازي والسير.
وقد ذكرها أيضا أئمة العلم، واحتجوا بها على جواز الوكالة في النكاح،
قال الشافعيّ رحمه الله في رواية الربيع في حديث عقبة بن عامر رضى اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: إذا نكح الوليان فالأول أحق،
فيه دلالة على أن الوكالة في النكاح جائزة، مع توكيل النبي صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمريّ فزوجه أم حبيبة بنت أبى سفيان.
وقال في (الأم) أيضا: ولا يكون الكافر وليا لمسلمة، ولو كانت بنته، [و][ (1) ] قد زوج ابن سعيد بن العاص النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبى سفيان، وأبو سفيان حي، لأنها كانت مسلمة وابن سعيد مسلم، ولا أعلم مسلما أقرب لها منه، ولم يكن لأبى سفيان [فيها][ (2) ] ولاية، لأن اللَّه تعالى قطع الولاية بين المسلمين والمشركين في المواريث [والعقل][ (3) ] وغير ذلك [ (4) ] .
وابن سعيد هذا هو خالد بن سعيد بن العاص، ذكره ابن إسحاق وغيره، وذكر عروة والزهري أن عثمان بن عفان رضى اللَّه عنه هو الّذي ولى
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] في (خ) : «عليها» .
[ (3) ] في (خ) : «القتل» ، والعقل في الشرع: الدية.
[ (4) ](الأم) : 5/ 13، من لا يكون له الولاء من ذي القرابة، والتصويبات السابقة منه.
نكاحها، وكلاهما ابن عم أبيها، لأن عثمان بن عفان بن أبى العاص بن أمية، وخالد بن سعيد بن أبى العاص بن أمية، وأبو سفيان هو صخر بن حرب بن أمية.
والمقصود أن أئمة الفقه والسير، ذكروا أن نكاحها كان بأرض الحبشة، وهذا يبطل وهم من توهم أنه تأخر إلى بعد الفتح، احترازا منه بحديث عكرمة بن عمار.
الثالث: أن عكرمة بن عمار- راوي حديث ابن عباس هذا- قد ضعفه كثير من أئمة الحديث. قال على بن المديني: سألت يحى بن سعيد عن أحاديث عكرمة بن عمار عن يحى بن أبى كثير فضعفها وقال: ليست بصحاح، وقال الإمام أحمد: ضعاف ليست بصحاح، قال عبد اللَّه: قلت له: من عكرمة أو من يحى؟ قال: لا، إلا من عكرمة، وقال البخاري:
عكرمة بن عمار يضطرب في حديث يحى بن أبى كثير، ولم يكن عنده كتاب، ومرة قال: منكر الحديث [ (1) ] .
[ (1) ] قال المفضل الغلابي: حدثنا رجل من أهل اليمامة، وسألته عن عكرمة فقال: هو عكرمة بن عمار بن عقبة بن حبيب بن شهاب بن ذباب بن الحارث بن حمضانة بن الأسعد بن جذيمة بن سعد بن عجل.
وقال عبد اللَّه بن أحمد بن حنبل، عن أبيه: عكرمة مضطرب الحديث عن يحيى بن أبى كثير، وقال أيضا عن أبيه: عكرمة مضطرب الحديث عن غير إياس بن سلمة، وكان حديثه عن إياس صالحا.
وقال أبو زرعة الدمشقيّ: سمعت أحمد يضعف رواية أيوب بن عتبة، وعكرمة بن عمار عن يحى ابن أبى كثير، وقال: عكرمة أوثق الرجلين.
وقال الفضل بن زياد: سألت أبا عبد اللَّه هل كان باليمامة أحد يقدم على عكرمة اليمامي مثل أيوب ابن عتبة، وملازم بن عمرو. وهؤلاء؟ فقال: عكرمة فوق هؤلاء أو نحو هذا، ثم قال: روى عنه شعبة أحاديث.
وقال معاوية بن صالح. عن يحيى بن معين: ثقة. وقال الغلابي عن يحى: ثبت. وقال ابن أبى خيثمة، عن ابن معين: صدوق ليس به بأس. وقال أبو حاتم، عن ابن معين: كان أميا، وكان حافظا.
وقال عثمان الدارميّ: قلت لابن معين: أيوب بن عتبة أحب إليك أو عكرمة بن عمار؟ فقال:
_________
[ () ] عكرمة أحب إليّ، وأيوب ضعيف.
وقال ابن المدائني: أحاديث عكرمة عن يحى بن أبى كثير ليست بذاك، مناكير كان يحى بن سعيد يضعفها. وقال في موضع آخر: كان يحى يضعف رواية أهل اليمامة، مثل عكرمة وضربه.
وقال محمد بن عثمان بن أبى شيبة، عن على بن المديني: كان عكرمة عند أصحابنا ثقة ثبتا. وقال العجليّ ثقة، يروى عنه النضر بن محمد ألف حديث. وقال البخاري: مضطرب في حديث يحى بن أبى كثير، ولم يكن عنده كتاب. وقال الآجري، عن أبى داود: ثقة، وفي حديثه عن يحي بن أبى كثير اضطراب.
وقال النسائي: ليس به بأس، إلا في حديث يحى بن أبى كثير. وقال أبو حاتم: كان صدوقا، وربما وهم في حديثه، وربما دلّس، وفي حديثه عن يحى بن أبى كثير بعض الأغاليط.
وقال الساجي صدوق، وثّقه أحمد ويحى، إلا أن يحي بن سعيد ضعّفه في أحاديثه عن يحي بن أبي كثير، وقدم ملازما عليه. وقال عكرمة بن عمار ثقة عندهم، وروى عنه ابن مهدي: ما سمعت فيه إلا خيرا.
وقال في موضع آخر: هو أثبت من ملازم، وهو شيخ أهل اليمامة. وقال على بن محمد الطنافسي:
حدثنا وكيع عن عكرمة بن عمار، وكان ثقة. وقال صالح بن محمد الأسدي: كان يتفرد بأحاديث طول، ولم يشركه فيها أحد.
قال: وقدم البصرة، فاجتمع إليه الناس. فقال: ألا أرانى فقيها وأنا لا أشعر، وقال صالح بن محمد أيضا: إن عكرمة بن عمار صدوق، إلا أن في حديثه شيئا. روى عنه الناس.
وقال إسحاق بن أحمد بن خلف البخاري: ثقة، روى عنه الثوري، وذكره بالفضل، وكان كثير الغلط، ينفرد عن إياس بأشياء.
وقال ابن خراش: كان صدوقا، وفي حديثه نكرة. وقال الدارقطنيّ: ثقة. وقال ابن عدي: مستقيم الحديث إذا روى عنه ثقة. وقال عاصم بن على: كان مستجاب الدعوة.
قال معاوية بن صالح: مات في إمارة المهدي، وقال ابن معين وغيره: مات سنة (159) . قلت: وكذا ذكر ابن حبان في الثقات، وقال: في روايته عن يحى بن أبى كثير اضطراب، كان يحدث عن غير كتابة.
وقال أبو أحمد الحاكم: جل حديثه عن يحى وليس بالقائم. وقال يعقوب بن شيبة: كان ثقة ثبتا.
وقال ابن شاهين في الثقات: قال أحمد بن صالح: أنا أقول: إنه ثقة، واحتج به وبقوله.
له ترجمة في: (تهذيب التهذيب) : 12/ 234، ترجمة رقم (475)، (الكامل في ضعفاء الرجال) : 5/ 272- 277، ترجمة رقم (444/ 1412) . (تاريخ بغداد) : 12/ 257- 262، ترجمة رقم (6705)، (الضعفاء الكبير) : 3/ 378- 379، ترجمة رقم (1415) ، (المغنى في
وقال أبو حاتم: عكرمة هذا صدوق، وربما وهم، وربما دلّس، وإذا كان هذا حال عكرمة، فلعله دلّس هذا الحديث عن غير حافظ، أو غير ثقة، أو وهم هو فيه، فإنه كان أميا لا يكتب. ومسلم- رحمه الله قد رواه عن عباس بن عبد العظيم، عن النضر بن محمد عن عكرمة بن عمار عن أبى زميل، عن ابن عباس هكذا معنعنا، لكن رواه الطبراني فقال: حدثنا محمد بن محمد الجدوعى، حدثنا العباس بن عبد العظيم، حدثنا النضر ابن محمد بن عكرمة بن عمار، حدثنا زميل قال: حدثني ابن عباس..
فذكره.
وقال الحافظ أبو الفرج بن الجوزي: في هذا الحديث وهم من بعض الرواة لا شك فيه ولا تردد، وقد اتهموا فيه ابن عمار راوي الحديث، قال: وإنما قلنا: إن هذا وهم لأن أهل التاريخ أجمعوا على أن أم حبيبة كانت تحت عبد اللَّه بن جحش، وولدت له، وهاجر بها وهما مسلمان إلى أرض الحبشة، ثم تنصر، وثبتت أم حبيبة على دينها، فبعث إلى النجاشي يخطبها عليه فزوجه إياها، وأصدقها عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أربعة آلاف درهم، وذلك في سنة سبع من الهجرة، وجاء أبو سفيان في زمن الهدنة فدخل بيتها، [فطوت عنه فراش] رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى لا يجلس عليه، ولا خلاف أن أبا سفيان ومعاوية أسلما في فتح مكة سنة ثمان، ولا يعرف أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم [] أبا سفيان.
وقال أبو محمد بن حزم: هذا حديث موضوع لا شك فيه، والأنة فيه من عكرمة بن عمار، ولا يختلف اثنان من أهل المعرفة بالأخبار في أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوج أم حبيبة رضى اللَّه عنها إلا قبل الفتح بدهر وهي بأرض
[ () ] الضعفاء) : 2/ 438، ترجمة رقم (4168)، (الضعفاء والمتروكين) : 2/ 185، ترجم رقم (2337)، (سير أعلام النبلاء) : 7/ 134- 139، ترجمة رقم (49)، (الجرح والتعديل) :
7/ 10، ترجمة رقم (14)، (ثقات ابن حبان) : 5/ 233، (التاريخ الكبير للبخاريّ) : 7/ 50، ترجمة رقم (226) .
الحبشة، ومثل هذا لا يكون خطأ أصلا، ولا يكون إلا قصدا، نعود باللَّه من البلاء.
[و] قال محمد بن طاهر المقدسي [في كتاب](الانتصار لإمامى الأمصار) : هذا كلامه بعينه ورمته، وهو كلام رجل مجازف، هتك فيه حرمة كتاب مسلم، و [صار] إلى الغفلة عما اطلع هو عليه، وصرح أن عكرمة بن عمار وضعه، وهذا ارتكاب بطرق لم تسلكها أئمة النقل [أو علماء] الحديث، فإنا لا نعلم أحدا منهم نسب عكرمة إلى الوضع البتة، وهم أهل مائة الذين عاصروه وعرفوا أمره، وحملوا عنه واحتجوا بأحاديثه، وأخرجوها في الدواوين الصحيحة.
واعتمد عليه مسلم في غير حديث من كتابه الصحيح، [وروى] عنه الأئمة، مثل عبد الرحمن بن مهدي، وعبد اللَّه بن المبارك، وأبو عامر العقدي، وزيد بن الحباب، ففي مسلم- وهو [من] الأئمة المقتدى بهم في تزكية الرواة الذين عاهدوهم وأخذوا عنهم- ثم ذكر بسنده: قال وكيع عن عكرمة- وكان ثقة- وعن يحى بن معين: عكرمة بن عمار صدوق وليس به بأس، وفي روايته كان أمينا وكان حافظا، وعن الدار قطنى أنه قال: عكرمة بن عمار يماني ثقة، ثم قال: فكان الرجوع إلى قول الأئمة الحفاظ في تعديله أولى من قوله وحده في تجريحه.
فإن قيل: لم ينفرد عكرمة بهذا الحديث بل توبع عليه، فقال الطبراني:
حدثنا على بن سعيد الرازيّ، حدثنا عمر بن خليف بن إسحاق بن مرسال الحنفي قال: حدثني عمى إسماعيل بن مرسال عن أبى زميل الحنفي قال:
حدثني ابن عباس قال: كان المسلمون لا ينظرون إلى أبى سفيان ولا يفاتحونه، فقال: يا رسول اللَّه، ثلاث أعطينهن
…
، الحديث. فهذا إسماعيل ابن مرسال قد رواه عن أبى زميل، كما رواه عكرمة بن عمار، يبرئ
عكرمة من عهدة التفرد به.
قيل: هذه المتابعة لا تفيد قوة، فإن هؤلاء مجاهيل لا يعرفون بنقل العلم، ولا هم ممن يحتج به، فضلا [عن] أن تقدم روايتهم على النقد المستفيض المعلوم خاصة عند أهل العلم وعامتهم، فهذه المتابعة إن لم تزده وهنا لم تزده قوة.
وقالت طائفة، منهم البيهقي والمنذري- رحمهما اللَّه-: يحتمل أن تكون مسألة أبي سفيان النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يزوجه أم حبيبة وقعت في بعض خرجاته إلى المدينة وهو كافر، حين كان سمع نفى زوج أم حبيبة بأرض الحبشة، والمسألة الثانية والثالثة وقعتا بعد إسلامه، فجمعهما الراويّ.
وعورض هذا بأن أبا سفيان إنما قدم آمنا بعد الهجرة في زمن [الهدنة][ (1) ] قبيل الفتح، وكانت أم حبيبة إذ ذاك من نساء النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقدم أبو سفيان قبل ذلك إلا مع الأحزاب عام الخندق، ولولا الهدنة والصلح الّذي كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم لم يقدم المدينة، فمتى [قد تزوج][ (1) ] النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة، وهذا وهم بيّن، ومع ذلك فإنه لا يصح أن يكون تزويجه إياها في حال كفره، إذ لا ولاية له عليها، ولا تأخّر تزوجه إياها بعد إسلامه لما تقدم.
فعلى التقريرين لا يصحّ قوله: أزوجك أم حبيبة، هذا، وظاهر الحديث يدل على أن المسائل الثلاثة وقعت منه في وقت واحد، فإنه قال: ثلاث أعطينهن
…
، الحديث.
ومعلوم أن سؤاله [تزويجها][ (1) ] واتخاذ معاوية كاتبا، إنما يتصور بعد إسلامه، فكيف يقال: سأل بعض ذلك حال كفره، وبعضه وهو مسلم، وسياق الحديث يرده.
[ (1) ] زيادة للسياق.
وقالت طائفة: بل يمكن حمل الحديث على محمل صحيح يخرج به عن كونه موضوعا، إذ القول بأنه في صحيح مسلم حديث موضوع مما يسهل.
قال: ووجهه أن تكون معنى [أزوّجك][ (1) ] بها: أرضى بزواجك بها، فإنه كان على زمن منى وبدون اختياري، وإن كان نكاحك صحيحا، لكن هذا أجمل وأحسن وأكمل، لما فيه من تأليف القلوب. قال: وتكون إجابة النبي صلى الله عليه وسلم بنعم له، كانت تأنيسا له، ثم أخبره بعد بصحة العقد، وأنه لا يشترط رضاك، ولا ولاية لك عليها، لاختلاف دينكما حالة العقد. قال:
وهذا مما لا يمكن دفع احتماله.
وردّ هذا بأن ما ذكرتم لا يفهم من لفظ الحديث، فإن قوله: عندي أجمل العرب أزوجكها، لا يفهم منه أحد أن زوجتك التي هي في عصمة نكاحك أرضى زواجك بها، ولا يطابق هذا المعنى أن يقول له النبي صلى الله عليه وسلم:
نعم، فإنه إنما سأل من النبي صلى الله عليه وسلم أمرا تكون الإجابة إليه من جهته صلى الله عليه وسلم، وأما رضاه بزواجه بها فأمر قائم بقلبه هو، فكيف يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم؟
ولو قيل: طلب منه أن يقره على نكاحه إياها- وسمى إقراره نكاحا- لكان مع فساده أقرب إلى اللفظ، وكل هذه تأويلات لا يخفى شدة بعدها، وأنها مستنكرة [و][ (1) ] في غاية المنافرة للفظ ولمقصود الكلام.
وقالت طائفة: كان أبو سفيان يخرج إلى المدينة كثيرا، [فجاءها وهو كافر][ (1) ] وبعد إسلامه حين كان النبي صلى الله عليه وسلم آلى من نسائه شهرا واعتزلهن، فتوهم أن ذلك الإيلاء طلاق، كما توهمه عمر رضى اللَّه عنه، فظن وقوع الفرقة به، فقال هذا القول للنّبيّ صلى الله عليه وسلم، متعطفا ومتعرضا لعله يراجعها، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم على تقدير إن امتد الإيلاء أوقع طلاق، فلم يقع شيء من
[ (1) ] زيادة للسياق.
ذلك.
وردّ هذا بأن قوله: عندي أجمل العرب وأحسنه أزوجك إياها، لا يفهم منه ما ذكر من شأن الإيلاء ووقوع الفرقة به، ولا يصح أن يجاب بنعم، ولا كان أبو سفيان حاضرا وقت الإيلاء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم اعتزل في مشربة [و][ (1) ] حلف أن لا يدخل على نسائه شهرا، وجاء عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه فاستأذن في الدخول عليه مرارا، فأذن له في الثالثة، فقال: طلقت نساءك؟ قال: لا، قال عمر: اللَّه أكبر، واشتهر عند الناس أنه لم يطلق نساءه، وأين كان أبو سفيان حينئذ؟
وقال المحب الطبري: يحتمل أن يكون أبو سفيان قال ذلك كله قبل إسلامه بمدة تتقدم على تاريخ النكاح، كالمشترط ذلك في إسلامه، ويكون التقدير: ثلاث إن أسلمت تعطيهن: أم حبيبة أزوجكها، ومعاوية يسلم فيكون كاتبا بين يديك، وتؤمرنى بعد إسلامي فأقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين، [حيث قد كان الناس][ (1) ] لا ينظرون إلى أبى سفيان ولا يقاعدونه، فقال: يا نبي اللَّه! ثلاث أعطينهنّ
…
، لا يليق أن يصدر منه وهو بمكة قبل الهجرة أو بعد الهجرة وهو يجمع الأحزاب لحرب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أو وقت قدومه المدينة، وأم حبيبة عند النبي صلى الله عليه وسلم لا عنده، فما هذا إلا تكلف وتعسف، فكيف يقول- وهو كافر-: حتى أقاتل المشركين كما كنت أقاتل المسلمين؟ وكيف ينكر جفوة المسلمين له وهو جاهد مجد في قتالهم وحربهم وإطفاء نور اللَّه؟
وهذه قصة إسلام أبى سفيان معروفة، لا اشتراط فيها ولا تعرض لشيء من هذا، ومن أنصف علم أن هذه التأويلات كلها بعيدة، وأن الصواب في الحديث أنه غير محفوظ، بل وقع فيه تخبيط، واللَّه أعلم.
[ (1) ] زيادة للسياق.