الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القولُ في مَعرفة المُتشابه والمُتعارض
أما المُتشَابه (1)، فإنَّه ورَد على معنيينِ مختلفينِ في آيتينِ من كتاب اللهِ جل جلاله:
إحداهما: قولُه جل جلاله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)} [آل عمران: 7] فهذه الآية قد كَثُر فيها كلامُ أهلِ العِلْمِ من الخَلَفِ والسَّلَفِ؛ لعِظَمِ شأنِها، فاختلفوا في حقيقةِ المُتَشابهِ، وفي موضِع الوَقْفِ منها عندَ التّلَاوةِ.
أما المحكم، فقالَ ابنُ عَبّاسٍ -رضيَ اللهُ تعالى عنهما-: المُحْكَماتُ
(1) اختلف العلماء في كون القرآن كله محكم، أم كله متشابه، أم يجمع الأمرين؟ على ثلاثة أقوال:
القول الأول: القرآن كله محكم؛ لقوله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} .
القول الثاني: القرآن كله متشابه؛ لقوله تعالى: {كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} .
القول الثالث: فيه المحكم والمتشابه، وهذا هو الصحيح؛ لقوله تعالى:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} .
انظر: "البرهان في علوم القرآن" للزركشي (2/ 79)، و،"الإتقان" للسيوطي (1/ 639).
اللَّواتي هُنَّ أُمُّ الكِتاب مثلُ قوله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ} [الأنعام: 151] إلى آخِرِ الثلاثِ الآياتِ، وهُنَّ أُمُّ كل كتاب نزلَ (1).
والمُتشابِهاتُ: ما اشْتبَهَ على اليَهودِ حينَ سَمِعوا {آلم} فقالوا: هذا بالجُمَّلِ أَحَدٌ وسبعونَ، وهذا غايةُ أَجَلِ هذهِ الأُمَّة، فلما سمعوا {آلر} وغيرَها، اشْتبَهَتْ عليهم (2).
وقال جابرٌ رضي الله عنه: المُتشابهُ ما لا يُعلم تعيينُ تأويلِه؛ كقيامِ الساعةِ، وخُروجِ دابّهِ الأرضِ، ويأجوجَ ومَأجوجَ.
وقال عبد الملك بن جُريج: هو ما لا سبيلَ إلى مَعْرِفَتِهِ، والمَرْءُ مُبتلًى باعتقادِ حَقيقَتِهِ لا غَيْر، كَصِفَةِ اليَدِ والوَجْهِ والاسْتِواءِ؛ لأنَّه تَخَالَفَ فِيهِ السَّمْعُ والعَقْلُ (3)؛ لاشْتِباهِ لَفْظِهِ بما لا يَليقُ بمعناهُ، والحِكْمَةُ فيهِ اعترافُ العبدِ بعَجْزِهِ، فَيَذِلُّ لمَولاه، فالحكيمِ إذا صَنَّفَ كِتاباً؛ ربَّما أَبْهَمَ فيما أَفْهَمَ؛ ليرجِعَ الطالبُ في ذلكَ إليهِ، فيأخَذ مِمَّا لَدَيهِ، ويعترفَ بِعَجْزِهِ وافْتِقارهِ إليه.
وقال بَعْضُهُمْ: المُتَشابِهُ: هو القصصُ والأَمْثالُ، والمُحْكَمُ: هوَ الحلالُ والحَرامُ (4).
وهذا ضعيف جدًا (5).
(1) انظر: "تفسير ابن أبي حاتم"(2/ 592)، و"المستدرك" للحاكم (3138).
(2)
انظر: "تفسير الطبري"(1/ 107)، و"تفسير ابن كثير"(1/ 64).
(3)
في "أ" و"ب": "لأنه مخالف فيه السمعَ والعقل" وهو غير واضح، ولعل الصواب ما أثبته لاتضاح معناه.
(4)
حكاه الآمدي في "الأحكام"(1/ 219) وقال: وهو بعيد عمَّا يعرفه أهل اللغة، وعن مناسبة اللفظ له لغة.
(5)
قلت: للعلماء في تعريف المحكم والمتشابه أقوال كثيرة؛ لعل أحسنها قول من =
وأَمَّا الوَقْفُ على المَوضِعِ الذي تَمَّ بهِ المَعْنى (1)، فهوَ على قوله سبحانَه:{إِلَّا اللَّهَ} على قولِ منْ زَعَم أنَّ الراسخينَ لم يعلموا تأويلَهُ، وهمْ أكثرُ أهلِ العلمِ منَ المُفَسِّرينَ وغَيْرِهم، ويكونُ {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} مُبْتَدَأَّ بَعدَ وَقْفٍ، ويشهدُ له قراءةُ عبدِ اللهِ:(إنْ تأويلُه إلَّا عندَ اللهِ)(2)، وقراءَةُ أُبَيٍّ وابنِ عباس رضي الله عنهما، (ويقولُ الرَّاسخونَ)(3) الآية.
الثانية: قوله جل جلاله: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ
= قال: المحكم: كل ما اتضح معناه، والمتشابه: ما خفي معناه.
انظر: "البرهان في أصول الفقه" للجويني (1/ 422)، و "الإحكام" للآمدي (1/ 1/ 218)، و "البرهان في علوم القرآن" للزركشي (2/ 79)، و"شرح مختصر الروضة" للطوفي (2/ 47)، و "الاستعداد لرتبة الاجتهاد" للمؤلف (1/ 124)، و"إرشاد الفحول" للشوكاني (ص: 31).
(1)
انظر أقوال العلماء في الوقف عند هذه الآية: المصادر التالية:
"شرح مختصر الروضة" للطوفي (2/ 52)، و "تفسير ابن كثير"(1/ 462)، و"البرهان في علوم القرآن" للزركشي (2/ 83)، و "الاستعداد لرتبة الاجتهاد" للمؤلف (1/ 130)، و "التمهيد في علم التجويد" للجزري (ص: 182)، و"الإتقان في علوم القرآن" للسيوطي (1/ 649)، و "إرشاد الفحول" للشوكاني (ص: 32)، و "مذكرة في أصول الفقه" للشنقيطي (ص: 75).
(2)
قرأ بها ابن مسعود، وقرأ الباقون:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} . انظر: "تفسير الطبري"(6/ 204)، و (معاني القرآن) للفراء (1/ 191)، و "الكشاف" للزمخشري (1/ 176)، و "البحر المحيط" لأبي حيان (2/ 384). وانظر:"معجم القراءات القرآنية"(2/ 7).
(3)
قرأ بها أُبي وابن عباس وطاوس، وقرأ الباقون: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا
…
}. انظر: "تفسير الطبري"(6/ 202، 204)، و "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 310)، و "الكشاف" للزمخشري (1/ 176)، و "معاني القرآن" للفراء (1/ 191). وانظر:"معجم القراءات القرآنية"(2/ 7).
تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} [الزمر: 23] فقيلَ: متشابِهاً في العَدْلِ والإِعجاز، وقيل غيرُ ذلك مِمّا هو في معناهُ (1).
و {مَثَانِيَ} قال ابنُ عَبّاسٍ رضي الله عنه: يُحْمَلُ بعضُها على بعضٍ (2).
وهذانِ النوعانِ -أعني نَوعَي المُتَشابِهِ- مِمّا اخْتَصَّ بهما القرآنُ، وكذا السُّنَّةُ المُحَمَّدِيَّةُ -على صاحبِها أفَضلُ الصلاة والسلام-.
وهذا النوعُ الثاني من المتشابِهِ على قسمين:
أحدهما: الاقْتِصاصُ (3)، وهو الاتِّباعُ، مأخوذٌ من قولِهِم: اقْتَصَّ الأَثَرَ إذا اتّبَعَهُ (4)، وهو أن يكونَ كلامٌ في سورةٍ مَقْرونا بلامِ الذكْرِ، فيقتصُّ العالِمُ ذلكَ من كلامٍ آخَرَ، إمّا في تلكَ السورةِ، وإمّا في سورةٍ أخرى؛ كقولِ اللهِ جل جلاله:{وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [العنكبوت: 27] والآخرةُ دارُ ثوابٍ وجَزاءٍ لا عَمَلَ فيها، فهذا مُقْتَصٌّ من قوله تعالى:{وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى} [طه: 75].
ومثلُه قولُ اللهِ عز وجل: {وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57)} [الصافات: 57]، والمُحْضَرُ مأخوذٌ من قولهِ تعالى: {فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ
(1) انظر: "الاستعداد لرتبة الاجتهاد" للمؤلف (1/ 123)، و"الإتقان في علوم القرآن" للسيوطي (1/ 639)، و"التحرير والتنوير" لابن عاشور (11/ 385)، و"مذكرة في أصول الفقه" للشنقيطي (ص: 75).
(2)
انظر: "تفسير ابن كثير"(4/ 51)، و"الدر المنثور" للسيوطي (7/ 221).
(3)
انظر هذا المبحث في: "البرهان في علوم القرآن" للزركشي (3/ 343)، و"الإتقان" للسيوطي (2/ 913).
(4)
انظر: "لسان العرب"(7/ 73)، (مادة: قصص).
مُحْضَرُونَ} [الروم: 16]، ومن قوله تَعالى:{ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا} [مريم: 68].
ومن الاقتصاصِ قولُهُ تَعالى: {وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51] فيقال: إنها مقتصَّة من أربعِ آياتٍ:
إحداهن: قولُه تعالى: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق: 21] ، فهم في هذه الآيةِ الملائكةُ -عليهمُ الصلاةُ والسلامُ-.
الثانية: قولُه تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41] ، فهم في هذه الآيةِ الأنبياءُ -عليهمُ الصَّلاة والسلامُ-.
الثالثة: قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] فهم في هذهِ الآيةِ أمةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
الرابعة: قولُه تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور: 24] فهم في هذه الآيةِ الأعضاءُ.
ومنَ الاقتصاصِ قولُه تعالى: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ} [غافر: 32] ، قُرِئَ بتخفيفِ الدالِ، وقُرِئ بتشديدها في غيرِ السَّبعْ (1)، فَمَنْ شَدَّدَ، فهو
(1) قرأ ورش وابن وردان وعبد الوارث وقالون: (التنادي) وصلاً. انظر: "التيسير" للداني (192)، و"تفسير القرطبي"(15/ 312)، و"البحر المحيط"(7/ 455)، و "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 366).
وقرئت: (التنادي) وصلًا ووقفًا، قرأ بها أبو عمر وعلي بن نصر. انظر:"البحر المحيط" لأبي حيان (7/ 464)، و"تفسير القرطبي"(15/ 312).
وقرئت: (التنادّ)(بالتشديد): قرأ بها ابن عباس، والضحاك، وأبو صالح، والكلبي، والزعفراني، وابن مقسم، وعكرمة. انظر:"تفسير الطبري"(24/ 40)، و"إعراب القرآن" للنحاس (3/ 10)، و"معاني القرآن" للفراء (3/ 8)، =
مِنْ: نَدَّ إذا انْفَرَدَ، وهذا المعنى مُقْتَصٌّ من قوله تعالى:{يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس: 34 - 36] ومَنْ خَفَّفَ فهو من تَفاعَلَ منَ النِّداءِ، وهذا المعنى مُقْتَصّ من قوله تَعالى:{وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ} [الأعراف: 44]، وقوله تعالى:{وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 50]، وقوله تعالى:{وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ} [الأعراف: 48]، وما أشبه هذا من الآيات التي فيها ذكر النداء.
ومنهُ قولُه تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [يونس: 64]، فالبشرى: الجَنَّةُ، مُقَتصَّة من قوله تعالى:{تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30].
وقد يكونُ الاقتصاصُ مُتَّصِلاً؛ كقولِ اللهِ عز وجل: {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 16]، فبيانُ الرسول مُقْتَصٌّ منَ الآيةِ الأولى المُتَّصِلَةِ بهذه، وهي قولُه تعالى:{كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا} [المزمل: 15].
القسمُ الثَّاني: التَّفسيرُ والبيانُ (1)، ويسميهِ بعضُ أهلِ العلم بالقُرْآنِ: الجَوابَ، وهو شديدُ الشَّبَهِ بالنوعِ الأولِ، وهو متصلٌ ومنفصلٌ كالقِسْم الأولِ.
فالمتصل: كقولِ اللهِ عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} [الأنفال: 1]، فبيان هذا قولُه تعالى:{قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1]، ومثْلُه قولُ اللهِ
=و "تفسير الرازي"(27/ 61). وانظر لما سبق جميعاً في: "معجم القراءات القرآنية"(6/ 44).
(1)
انظر: "البرهان في علوم القرآن" للزركشي (3/ 41)، و "الإتقان" للسيوطي (2/ 864).
تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} [الأعراف: 187].
وأمَّا المُنْفَصِلُ، فقد يكونُ في تلكَ السُّورَةِ، وقد يكونُ في سورةٍ أخرى؛ يقول اللهِ جل جلاله:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} [الفرقان: 60]، فبيانه:{الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 1 - 4].
ومنه قولُه تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} [النمل: 45]، فتفسيرُ هذا الاخْتِصامِ ما قالَ سُبْحانَهُ في سورَة أخرى:{قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ} [الأعراف: 75] الآيات.
ومنه قولُه تعالى: {قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} [الأنفال: 31]، فقيل لهم في الجَواب والردِّ عليهم:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88].
ومنه قوله تعالى: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} [ص: 6]، فقيل لهم في الجواب:{فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [فصلت: 24].
ومنه قولُه تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ} [الطور: 33]، فردَّ عليهم مُتَّصلاً بقوله تعالى:{بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الطور: 33]، وردَّ علهيم منفصلاً بقوله عز وجل:{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} [الحاقة: 44 - 45].
ومنه قولُه عز وجل: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: 7]، فردَّ عليهم بقوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: 20].
وهذا البابُ واسعٌ منتشرٌ، وقد أفردَ ذلكَ بتصنيفٍ بعضُ أهلِ العلمِ بالقرآنِ.
فصل
وأمَّا المُتَعارِضُ، فمعرفتُه مُهِمَّةٌ عندَ أهلِ العِلْم، وبسببها تتفاوتُ العُلماء في دَرَجاتِهم، وسأذكرُ من ذلكَ جُمْلَةً نفيسةً إنْ شاءَ اللهُ تعَالى.
فأقول: التعارُضُ (1) على ثلاثةِ أقسامٍ:
الأول: تعارضُ العامِّ والخاصِّ، والمُطْلَقِ والمُقَيَّدِ، والمُجْمَلِ والمُبَيَّنِ (2).
فهذا يُقضى فيه بالخاصِّ على العامِّ، والمُقَيَّدِ على المُطْلَقِ، والمُبَيَّن على المُجْمَل، ويُعْمَلُ بالدليلَينِ كما قَدَّمْتُ أمثلةَ ذلك، وفي الحقيقةِ ليسَ بِمُتعارضٍ، ولا بِمُخْتَلِفٍ (3).
(1) التعارض اصطلاحاً: أن يقتضي أحد الدليلين حكمًا في واقعة خلاف ما يقتضيه دليل آخر فيها.
انظر: "البحر المحيط" للزركشي (6/ 109)، و "إرشاد الفحول" للشوكاني (ص: 273)، و "أصول الفقه" للخضري (ص: 358)، و "أصول الفقه الإسلامي" لوهبة الزحيلي (2/ 1173).
(2)
لا يمكن أن نحكم بأنَّ الدليلين متعارضان إلَّا بشروط:
أولها: التساوي في الثبوت، فلا تعارض بين الكتاب وخبر الواحد إلَّا من حيث الدلالة.
ثانيها: التساوي في القوة، فلا تعارض بين المتواتر والآحاد، بل المتواتر مقدَّم بالاتفاق.
ثالثها: الاتحاد في الموضوع والمحل والزمان.
انظر: "البحر المحيط" للزركشي (6/ 109)، و "إرشاد الفحول" للشوكاني (ص: 273)، و "أصول الفقه" لعبد الوهاب خَلَّاف (ص: 230)، و "الوجيز في أصول الفقه الإسلامي" لمحمد الزحيلي (2/ 408).
(3)
وإنَّما ذلك فيما يظهر لمجتهد؛ لأنَّه لا تناقض في الشريعة، فمن المحال على الله =
الثَّاني: تعارضُ العامِّ والعامِّ.
فإنْ كانا عامَّينِ من كُل الوجوه؛ فهو كَتَعارُضِ النَّصَّينِ، وسيأتي بَيانُ حُكْمِهِ.
وإنْ أمكنَ أن يُخَصَّ عُمومُ كُلِّ واحدٍ منهما بالآخَر، فهذا لا يُقْضَى بأحدِهما على الآخر، إلَّا بدليل يَدُل على المَخْصوصِ منهُما، أو ترجيع لأحدِهما على الآخَرِ، وهذا كثيرٌ موجودٌ في الكِتاب والسُّنَّة، لكنْ دون الأَوَّلِ (1).
ومثالُهُ من الكِتابِ (2): قولُه عز وجل: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23]، وهذا عامٌّ في النكاحِ وفي مُلْكِ اليَمينِ، معَ قولهِ تعالى:{إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24]، وهذا عام في الأَجْنَبياتِ والقَريباتِ، فَيَحْتَمِلُ تحريمَ الجَمْع بين الأختين بملكِ اليمين؛ بدليل قوله تعالى:{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23]، ويَحْتَمِلُ تحليلَهُما؛ بدليل قوله تعالى:{إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24]، والتحريمُ أَحْوَطُ، فكانَ أَرْجَحَ، ولهذا قالَ عثمانُ وعلى رضي الله عنهما: أحلَّتْهُما آيةٌ، وحَرَّمَتْهُما آية، والتحريمُ أولى (3). ونحو هذا من الكِتابِ العزيز.
= تعالى أنْ يَصْدُرَ عنه حكمان متناقضان في حكم واحد، في وقت واحد.
انظر: "نهاية السول" للإسنوي (2/ 964)، و "البحر المحيط" للزركشي (6/ 108)، و "أصول الفقه" للخضري (ص: 358)، و "أصول الفقه الإسلامي" لوهبة الزحيلي (2/ 1174)، و "الوجيز في أصول الفقه الإسلامي" لمحمد الزحيلي (2/ 410).
(1)
هذه حالة أن يكون كل من الدليلين عاماً من وجه، خاصاً من وجه.
(2)
هذا المثال للترجيح في حالة العموم والخصوص الوجهي.
(3)
رواه الإمام مالك في "الموطأ"(2/ 538)، ومن طريقه: الإمام الشَّافعي في "مسنده"(ص: 288)، وعبد الرَّزاق في "المصنف"(12728)، والدارقطني في =
ومثْلُه منَ السنَّةِ (1) ما رُوِي عنهُ صلى الله عليه وسلم من النَّهْي عنِ الصلاةِ في الأوقاتِ المكروهةِ (2)، مع قوله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ نامَ عَنْ صَلاةٍ أَو نَسِيَها، فَلْيصَلِّها إذا ذَكَرَها"(3).
فإنَّه يَحْتَمِلُ أنهُ أرادَ بالنَّهْيِ عنِ الصَّلاةِ في الأوقاتِ المذكورةِ الصَّلاةَ التي لا سَبَبَ لَها؛ بدليل هذا الحديثِ.
ويَحْتَمِلُ أنهُ أرادَ بالصَّلاة عندَ الذِّكْرِ إذا ذَكَرَها في غيرِ وقْتِ الكَراهَة؛ بدليل نَهْيِهِ صلى الله عليه وسلم، فقضى الشافعيّ -رضيَ اللهُ تَعالى عنهُ- بِجَوازِ ما لها سَبَبٌ (4)؛ بدليل ما رُوِيَ أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي بعدَ الصُّبْحِ رَكْعَتينِ، فسألَهُ فقالَ: هما رَكْعَتا الفَجْرِ، فأقرَّهُ صلى الله عليه وسلم على ذلك (5).
= "سننه"(3/ 281)، والبيهقيّ في "السنن الكبرى"(7/ 163)، عن قبيصة بن ذؤيب.
(1)
وهو مثال لإمكان الجمع في حالة العموم والخصوص الوجهي.
(2)
روى مسلم (831)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الأوقات التي نهي عن الصَّلاة فيها، من حديث عقبة بن عامر الجهني قال: ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن، أو أن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشَّمس بازغة حتَّى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتَّى تميل الشَّمس، وحين تَضيَّفُ الشَّمس للغروب حتَّى تغرب.
(3)
رواه ابن الجارود في "المنتقى"(239)، وأبو يعلى في "مسنده"(3086)، والطبراني في "المعجم الأوسط"(6129) عن أنس بن مالك بهذا اللفظ. وقد رواه مسلم (684)، كتاب: المساجد ومواضع الصَّلاة، باب: قضاء الصَّلاة الفائتة، واستحباب تعجيل قضائها، عن أنس بن مالك -أيضاً- بلفظ نحوه.
(4)
انظر: "الوسيط" للغزالي (2/ 36).
(5)
رواه أبو داود (1267)، كتاب: الصَّلاة، باب: من فاتته الصَّلاة، متى يقضيها؟، وابن ماجه (1154)، كتاب: الصَّلاة، باب: ما جاء فيمن فاتته الركعتان قبل صلاة الفجر متى يقضيها؟، والإمام أحمد في "المسند"(5/ 447)، وابن =
هذا في تقديم أَحَدِ المُتَعارِضَيْنِ على الآخَرِ (1).
وقد يُقضى لِكُلِّ واحدٍ من المُتعارِضَينِ على معارضه من الطَّرَفَينِ جَميعاً؛ لقيامِ الدليلِ (2)، وذلكَ كما رُوي عنه صلى الله عليه وسلم:"خَيرُ الشُّهودِ مَنْ شِهَد قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدَ"(3)، مع ما رُويَ عنهُ:"شَرُّ الشُّهودِ مَنْ شَهِدَ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدَ"(4)، فقال أصحابُه:
= أبي شيبة في "المصنف"(2/ 59)، والطبراني في "المعجم الكبير"(18/ 937)، والدارقطني في "سننه"(1/ 384)، والحاكم في "المستدرك" (1018) عن قيس بن عمرو بلفظ:"رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا يصلِّي بعد صلاة الصبح ركعتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة الصبح ركعتان"، فقال الرجل: إنِّي لم أكن صليت الركعتين اللتين قبلهما، فصليتهما الآن، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(1)
قلت: في هذا نظر؛ لأنَّ المثال الثَّاني لا تقديم فيه، وإنَّما هو للجمع.
وانظر: "اللمع" للشيرازي (ص: 87)، و "شرح مختصر الروضة" للطوفي (3/ 733).
(2)
هذه حالة كون كل من الدليلين عامًا من كل وجه، انظر تطبيق المثال في:"اللمع" للشيرازي (ص: 85)، و "نهاية السول" للإسنوي (2/ 974)، و "شرح مختصر الروضة" للطوفي (3/ 732)، و "الاستعداد لرتبة الاجتهاد" للمؤلف (1/ 360)، و "مذكرة في أصول الفقه" للشنقيطي (ص: 269).
(3)
رواه مسلم (1719)، كتاب: الأقضية، باب: بيان خير الشهود. عن زيد بن خالد الجهني: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أخبركم بخير الشهداء؟ الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها"، ورواه ابن ماجه عن زيد بن خالد أيضاً (2364)، كتاب: الأحكام، باب: الرجل عنده الشهادة لا يعلم بها صاحبها، بلفظ:"خير الشهود من أدَّى شهادته قبل أن يسألها".
(4)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(1/ 26)، وأبو يعلى في "مسنده"(143)، وابن حبان في "صحيحه"(15586)، والبيهقيّ في "السنن الكبرى"(5/ 387)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (11/ 202) عن جابر بن سمرة قال: خطب عمر النَّاس بالجابية، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام في مثل مقامي هذا فقال: "أحسنوا =
الأولُ: محمولٌ إذا شهدَ وصاحِبُ الحَقِّ لا يعلَمُ أنَّ لهُ شاهدًا، فإن الأَولى أن يشهدَ، وإن لم يُسْتشهَدْ؛ لِيَصِلَ المَشْهودُ له إلى حَقِّهِ.
والثاني: مَحْمولٌ عليهِ إذا عَلِمَ مَنْ لَهُ الحَقُّ أَنَّ له شاهِداً، فلا يجوزُ للشاهدِ أن يبدأَ بالشهادةِ قبلَ أن يستشهدَ؛ لما فيهِ منَ الحِرْصِ (1).
الثالثُ (2): تَعارُضُ النَّصَّين: ومن ضرورةِ تعارُضِهِما ولوازمِه أنهُ لا يقعُ إلَّا في وَقْتَينِ؛ أحدُهما بعدَ الآخَر، وحُكْم ذلكَ أن يُنْسَخَ الأولُ بالثاني (3). والنَّسْخُ واقعٌ في السُّنَّةِ (4)، وفي القرآنِ المَجيدِ؛ خلافًا لأبي مُسْلِمٍ الأَصْفَهانِيِّ، ولا الْتِفاتَ إلى مقالتهِ، فلا يُشْتَغَلُ بالرَّدِّ عليهِ مع وُرودِ النَّصِّ بذلكَ في الكتاب العزيز، قال اللهُ تَعالى:{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106].
* * *
= إلى أصحابي، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم يحلف أحدهم على اليمين قبل أن يستحلف عليها، ويشهد على الشهادة قبل أن يستشهد
…
".
(1)
انظر: "اللمع" للشيرازي (ص: 34).
(2)
يعني: القسم الثالث من أقسام التعارض.
(3)
انظر: "الاستعداد لرتبة الاجتهاد" للمؤلف (1/ 360).
(4)
انظر ذلك في: "اللمع" للشيرازي (ص: 120)، و"البرهان في أصول الفقه" للجويني (2/ 1301)، و "الإحكام" للآمدي (2/ 3/ 127)، و"شرح مختصر الروضة" للطوفي (2/ 266)، و "نهاية السول" للإسنوي (1/ 587)، و "الاستعداد لرتبة الاجتهاد" للمؤلف (2/ 776)، و "إرشاد الفحول" للشوكاني (ص: 185).