الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(من أحكام القضاء)
11 -
(11) قوله جل جلاله: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188].
* حرَّم اللهُ جل جلاله في هذه الآية أَكْلَ المالِ بالباطلِ، وحرَّمَ المُخاصَمَةَ فيهِ، والرشوةَ عليه.
* وفي الآية دليل على أن حكم الحاكم لا يُحِل حَرامًا، ولا يُحرِّمُ حَلالًا، وإنما ينفُذُ في الظَّاهِرِ، ولا يغير حُكما شرعيًا في الباطن.
قال الشافعيُّ: فحُكْمُ القاضي لا يجعلُ الحلالَ على واحدٍ من المَقْضِيِّ له والمَقْضِيِّ عليه حرامًا، ولا الحرامَ حلالًا، فالحلالُ والحرامُ على ما يعلمُ الله، والحكمُ على ظاهر الأمر (1).
وكان القاضي شريح يقول للرجلِ: إني لأقضي لك، وإنِّي لأَظُنُّك ظالمًا، ولكن لا يسعُني إلا أن أقضيَ بما يحضرني من البيِّنة، وإن قضائي لا يُحِلُّ لك حرامًا (2).
(1) نقله البيهقي في "معرفة السنن والآثار"(7/ 379) عن الإمام الشافعي في رواية أبي سعيد.
(2)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(22977)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 150). وانظر:"معرفة السنن والآثار" للبيهقي (7/ 380).
وبهذا قال مالكٌ وأحمدُ وجماهيرُ علماء الإسلامِ من الصحابة والتابعين (1)، فإذا شهدَ شاهدانِ بالزورِ أنَّ رجلًا طَلَّقَ امرأتَهُ، لم يَحِلَّ لمنْ علمَ كَذِبَهُما أنْ يتزوَّجَها بعد حكمِ الحاكم بالطلاق.
وقال أبو حنيفةَ: يُحِلُّ حكمُ القاضي الفروجَ دونَ الأموال (2)، وقال: يحلُّ (3) المذكورةَ؛ كالمُلاعَنَةِ؛ فإنه لما حكمَ الحاكمُ بشهادتِهما، فرَّقَ بينهما، وحلَّت للأزواج، وإن كانتْ كاذبةً في الباطن الذي لو لم تُدْلِ (4) به، لَوَجَبَ عليها الحَدُّ، ولَم تثبتِ الفرقةُ لها على زوجها.
* واختلفتِ الشافعيَّةُ فيما إذا وقع حكمُ الحاكمِ في أمرٍ يسوغُ فيه النظرُ والاجتهادُ، هل ينفُذُ في الظاهرِ والباطن؟ وذكروا ذلك فيما إذا قضى الحنفيُّ للشافعيِّ بشفعةِ الجوار (5).
(1) انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 139)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (1/ 2/ 315)، و"روضة الطالبين" للنووي (11/ 152)، و"أدب القضاء" لابن أبي الدم (ص: 168)، و"المغني" لابن قدامة (14/ 37)، و"الذخيرة" للقرافي (10/ 146).
(2)
وقد خالفه في ذلك الصاحبان، موافِقَيْنِ بذلك الجمهور. انظر:"فتح القدير" لابن الهمام (6/ 399)، و"أحكام القرآن" للجصاص (1/ 314).
(3)
في "ب": "تحل".
(4)
في "ب": "تُدلي".
(5)
قال الشافعية: إذا كان القضاء في الأمور الاجتهادية الإنشائية، فإنه ينفذ ظاهرًا، أما باطنًا؛ ففيه عندهم ثلاثة أقوال: الصحيح أنه ينفذ باطنا أيضًا. والثاني: لا ينفذ، والثالث: إن اعتقده الخصم نفذ باطنًا أيضًا، وإلا فلا. انظر:"روضة الطالبين" للنووي (11/ 153)، و"أدب القضاء" لابن أبي الدم (ص: 169).
وقد ذكر الإمام ابن دقيق في "إحكام الأحكام في شرح عمدة الأحكام"(4/ 166) في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا بشر، وإنما يأتيني الخصم، فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض
…
. ": أن الحديث يَستدِل به من يرى أن القضاء لا ينفذ في=
* والإثمُ: قال فيه ابن عباس رضي الله عنهما: هو اليمينُ الكاذبة (1). وقيل: الرشوة. وقيل: شهادةُ الزور أقيم المسبَّبُ مقامَ السبب في ذلك.
وكلُّه حرامٌ بالاتَفاق.
روينا (2) في "الصحيحين": أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم سمع جَلَبَة (3) خَصْمٍ بباب حُجرته، فخرج إليهم، فقالَ:"ألا إنما أنا بشرٌ، وإنما يأتيني الخَصْمُ، فلعلَّ بعضَكُم أنْ يكونَ أبلغَ من بعضٍ، وأَحْسَبُ (4) أنه صادِقٌ، فأقضيَ له، فمنْ قضيْتُ لهُ بِحَقّ مُسْلِمٍ، فإنما هي قطعةٌ من النار، فَلْيَحْمِلْها أو يَذَرْها"(5)
* * *
= الظاهر والباطن معًا مطلقًا، وأنَّ حكم القاضي لا يغير حكمًا شرعيًا في الباطن. واتفق أصحاب الشافعي على أن القاضي الحنفي إذا قضى بشفعة الجار للشافعي أخذها في الظاهر. واختلفوا في حل ذلك في الباطن له على وجهين، والحديث عام بالنسبة إلى سائر الحقوق. والذين يتفقون عليه -أعني: أصحاب الشافعي-: أن الحجج إذا كانت باطلة في نفس الأمر؛ بحيث لو اطلع عليها القاضي لم يجز له الحكم بها: أن ذلك لا يؤثر، وإنما وقع التردد في الأمور الاجتهادية إذا خالف اعتقادُ القاضي اعتقادَ المحكوم له، كما قلنا في شفعة الجار، انتهى.
(1)
رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره"(2/ 183).
(2)
في "ب": "وروينا".
(3)
الجَلَبَةُ: اختلاط الصوت. "القاموس"، (مادة: جَلَب)، (ص: 64).
(4)
في " أ ": "وأحتسب".
(5)
رواه البخاري (2326)، كتاب: المظالم، باب: إثم من خاصم في باطل وهو يعلمه، ومسلم (1713)، كتاب: الأقضية، باب: الحكم بالظاهر واللحن بالحجة، عن أم سلمة، وهذا لفظ مسلم.