المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثاني في بيان أنواع السنة - تيسير البيان لأحكام القرآن - جـ ١

[ابن نور الدين]

فهرس الكتاب

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌مقدِّمة جَامِعَة في أصول الفقه والتَّفسِيْر

- ‌القولُ في الأسماءِ المُفْرَدَةِ

- ‌القولُ في البَيِّنِ والمُشْكِلِ

- ‌فصل (المُشْكِلُ)

- ‌وأَمَّا المركَّباتُ، فيأتي على وُجوهٍ -أيضاً

- ‌منها: الاشتراكُ بين الأمرِ والخَبَر:

- ‌ومنها: الاشتراك بين السؤال والتَّنْبيهِ:

- ‌ومنها: الاشتراك بينَ السؤالِ والدُّعاء

- ‌ومنها: الاشتراك في المَفْعولِ إذا تنازعَه فِعلان يَقْتضيانِ مُقْتَضًى واحداً:

- ‌ومنها: الاشتراك في الإبهام:

- ‌واختلفَ علماؤنا في مسائلَ:

- ‌القَولُ في العَامِّ والخَاصِّ

- ‌الفصل الأول في الألفاظ

- ‌الفصل الثاني في كيفيةِ استعمالِ العرب للعامِّ واتِّساعها فيه

- ‌الفصلُ الثالِثُ في الخَاصِّ

- ‌الفصلُ الرابُع في ترتيبِ العامِّ على الخاص

- ‌القولُ في المُطْلَقِ والمُقَيَّدِ

- ‌القول في الحقيقة والمجاز

- ‌ الأول: الاستعارةُ:

- ‌الثاني: التّشبيهُ:

- ‌الثالثُ: الزيادَةُ:

- ‌الرابع: النّقصان:

- ‌الخامس: التقديمُ والتأخيرُ:

- ‌السادس: المحاذاةُ والمُقابَلَةُ للشيءِ بمثلِ لَفْظِهِ معَ اختِلاف المعنى:

- ‌الثامنُ: أَنْ يُسَمَّى الشيءُ بما كانَ عليهِ:

- ‌التاسع: تسميتُهم الشيءَ بما يَستحيلُ وُجودُه:

- ‌القول في الأمر والنهي

- ‌الفصلُ الأولُ وفيه أربعُ مسائلَ:

- ‌ الأولى: الأمر هَلْ يقْتَضي الوُجوبَ

- ‌ الثانية: إذا وردَ لفظُ الأمرِ، وفي الصيغةِ ما يدلُّ على التكْرارِ

- ‌ الثالثةُ: الأَمْرُ هَلْ تقتَضي الفِعْلَ على الفَوْرِ، أوْ لا

- ‌ الرابعةُ: إذا وَرَدَ الأمْرُ بعدَ الحَظْرِ والمنعِ، فهل يقْتَضي الوُجوبَ؟ فيه مذهبان:

- ‌الفصل الثاني في تَصَرُّفِ العَرَبِ بِصيغَةِ الأمرِ

- ‌ الأولُ: أن يكون أمرًا ومعناهُ الوجوبُ

- ‌الثاني: أمرٌ ومعناه الاسْتِحْبابُ

- ‌الثالث: أمرٌ ومعناه الإرشاد

- ‌الرابع: أمرٌ ومعناهُ التأديبُ

- ‌الخامس: أمرٌ ومعناهُ التخييرُ

- ‌السادس: أمر ومعناهُ الإباحَةُ

- ‌السابع: أمرٌ ومعناهُ التَّسخيرُ، وبعضُهم يقولُ:

- ‌الثامنُ: أمر ومعناهُ التَّحْقيرُ

- ‌التاسع: أمر ومعناهُ التَّعْجيزُ

- ‌العاشرُ: أمرٌ ومعناهُ التَّكوينُ

- ‌الحادي عَشَرَ: أمر ومعناهُ الوَعيدُ والتَّهديدُ

- ‌الثاني عَشَرَ: أمر ومعناهُ التَّفَكرُ والاعْتِبارُ

- ‌الثالثَ عَشَرَ: أمرٌ ومعناهُ الصَّيْرورَةُ

- ‌الرابعَ عَشَرَ: أمرٌ ومعناهُ الدُّعاء

- ‌الخامسَ عَشَرَ: أمر ومعناه التَّفْويضُ والتَّسليمُ

- ‌السادِسَ عَشَرَ: أمرٌ ومعناه التعجُّبُ

- ‌السابعَ عَشَرَ: أمرٌ ومعناهُ الإِنْعامُ

- ‌الثامِنَ عَشَرَ: أمرٌ ومعناهُ التَّمَنِّي

- ‌التاسِعَ عَشَرَ: أمر ومعناه التَّلَهُّفُ

- ‌العِشرونَ: أمرٌ ومعناهُ الخَبَرُ

- ‌فصل

- ‌إحداهُما: النَّهْيُ يقْتَضي التَّحْريم

- ‌المسألة الثانية: النَّهْيُ هل تقْتَضي الفَساد؟ فيه أقوالٌ:

- ‌القول في الخبر

- ‌القول في القرائن

- ‌القولُ في مَعرفة المُتشابه والمُتعارض

- ‌(القول في الناسخ والمنسوخ)

- ‌الفصل الأول في معنى النسخ وحقيقته

- ‌الفصل الثَّاني في أقسام النسخ والناسخ والمنسوخ

- ‌الفصلُ الثالث فيما يَجوزُ نسخُه وما لا يجوزُ

- ‌الفصلُ الرابعُ فيما يجوزُ أن يكونَ ناسخاً، وما لا يجوز

- ‌الأولُ: نسخُ القرآنِ بالقرآنِ:

- ‌الثَّاني: نسخ السُّنَّةِ بالسُّنَّةِ:

- ‌الثالث: نسخُ القرآنِ بالسُّنَّةِ:

- ‌الرابع: نسخُ القرآنِ بالإجماعِ:

- ‌الخامس: نسخُ السُّنَّةِ بالقُرآنِ

- ‌السادس والسابع: نسخُ الإجماع بالقرآنِ، ونسخُ الإجماعِ بالسُّنَّةِ: مستحيلٌ وغيرُ جائزٍ اتّفاقاً

- ‌الفصل الخامس في الطَّريق إلى معرفة الناسخ والمنسوخ

- ‌القول في السُّنَّة وأنواعها وترتيبها وتقديم بعضها على بعض

- ‌الفصلُ الأولُ في السُّنَّة

- ‌الفصل الثَّاني في بيانِ أنواعِ السُّنَّةِ

- ‌الفصلُ الثالثُ في ترتيبِ بعضِها على بعضٍ

- ‌الفصلُ الرابعُ تقديمُ بعضِها على بعضٍ

- ‌(القول في القياس)

- ‌(خاتمة المقدِّمة)

- ‌سُوْرَةُ البَقَرَةِ

- ‌(من أحكام الصَّلاة)

- ‌(من أحكام الحج)

- ‌(من أحكام الأطعمة)

- ‌(من أحكام القصاص)

- ‌(أحكام الوصايا)

- ‌(من أحكام الصِّيام)

- ‌(من أحكام القضاء)

- ‌(من أحكام الجهاد)

- ‌(من أحكام الجهاد)

- ‌(من أحكام الحج)

- ‌(من أحكام النفقة)

- ‌(من أحكام الجهاد)

- ‌(تحريم شرب الخمر)

- ‌(معاملة اليتامي)

- ‌(حكم نكاح المشركات والكتابيات)

- ‌(من أحكام الحيض)

- ‌(من أحكام النكاح)

الفصل: ‌الفصل الثاني في بيان أنواع السنة

أحدُهما: أن يقولَ أحدٌ قولًا، أو يفعلَ فِعْلاً بِحَضْرَتِهِ، ولا يُنْكِرُهُ عليهِ، فهذا يَدُلُّ على جوازِ ذلكَ الشيءِ.

والثاني: أن يَفْعلَ فِعلاً بغيرِ حَضْرَتِهِ، لكنَّ مثلَ ذلكَ لا يَجوزُ أن يَخْفى عليهِ في العادَةِ، ولم يُنْقَلْ أنَّه عليه الصلاة والسلام أنكرَهُ، فهذا أيضاً يُسْتَدَلّ بهِ على جوازِ ذلكَ الشيءِ، ولكنهُ أضعفُ دَلالةً مِنَ الأولِ.

* * *

‌الفصل الثَّاني في بيانِ أنواعِ السُّنَّةِ

وهي تنقسم إلى مُتَّصِلٍ وغيرِ مُتَّصِلٍ.

والمُتَّصِلُ ينقسِمُ إلى مُتواتِرٍ وآحادٍ، وبعضهم يقسمُهُ إلى مُتَواتِرٍ ومُسْتَفيضٍ وآحادٍ (1).

= وثانيها: أن يسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول أو فعل، لا يلزم من سكوته عنه مفسدة في نفس الأمر، لكن قد يكون ظن الفاعل أو القائل يقتضي أن يترتب عليه مفسدة على تقدير امتناعه، فهل يكون هذا السكوت دليلاً على الجواز بناء على ظن المتكلم، أو لا؛ لأنَّه لا يلزم منه مفسدة في نفس الأمر؟. وضرَبَ مثالين على ذلك.

وثالثها: أن يخبر عن حكم شرعي بحضرته صلى الله عليه وسلم، فسكت عنه، فيدل ذلك على ذلك الحكم.

ورابعها: أن يخبر بحضرته عن أمر ليس بحكم شرعي يحتمل أن يكون مطابقاً، ويحتمل أن لا يكون، فهل يكون سكوته دليلاً على مطابقته؟ انتهى.

وقد عرض الإمام ابن دقيق أمثلة عدة لكل نوع، فلتنظر في موضعها، وهي حقيقة بالوقوف عليها، والتأمل فيها، وبالله التوفيق.

(1)

وهم الحنفية؛ انظر: "كشف الأسرار" للبخاري (2/ 534)، و "الاستعداد لرتبة الاجتهاد" للمؤلف (2/ 854)، و "أصول الفقه" للخضري (ص: 213).

ص: 139

فالمتواتر: ما استوى طرفاهُ ووسَطُهُ في الروايةِ عَنْ جَمْع لا يُمْكِنُ تَواطُؤُهُمْ على الكذبِ، وأن يكونَ مُسْتَنَدُهُ غيرَ النَّظَرِ والاسْتِدلالِ (1).

وهذا يفيدُ العلمَ الضَّرورِيَّ (2)؛ خِلافاً للبَلْخِيِّ منَ المُعْتَزِلَةِ، والدَّقَّاقِ منَ الأَشْعَرِيَّةِ.

وهو قليلٌ جِدًّا (3).

والمستفيض: ما كانَ من أخبارِ الآحادِ، ولكنْ تلَقَّتْهُ الأمَّةُ بالقَبول، فَعَمِلوا بهِ كُلُّهُمْ، أو عَمِلَ بهِ البَعْضُ، وتَأَوَّلَهُ الباقونَ (4)، وذلكَ كقولهِ صلى الله عليه وسلم:

(1) انظر تعريف المتواتر في: "اللمع" للشيرازي (ص: 152)، و "المحصول" للرازي (4/ 227)، و "الإحكام" للآمدي (1/ 2/ 25)، و "علوم الحديث" لابن الصلاح (ص: 267)، و "البحر المحيط" للزركشي (4/ 231)، و "نزهة النظر" لابن حجر (ص: 41)، و "فتح المغيث" للسخاوي (4/ 13)، و "إرشاد الفحول" للشوكاني (ص: 46).

(2)

وهو مذهب جماهير العلماء، لم يخالف في ذلك إلَّا قلة.

انظر: "اللمع" للشيرازي (ص: 152)، و "المحصول" للرازي (4/ 230)، و "بيان المختصر" للأصفهاني (1/ 360)، و "نهاية السول" للإسنوي (2/ 670)، و "البحر المحيط" للزركشي (4/ 239)، و "الاستعداد لرتبة الاجتهاد" للمؤلف (2/ 850).

(3)

وهذا قول ابن الصلاح في "علوم الحديث"(ص: 268)؛ حيث قال: ومن سئل عن إبراز مثال لذلك فيما يروى من الحديث أعياه تطلبُه. ثم قال: نعم حديث: "من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النَّار" نراه مثالاً لذلك. انتهى.

إلَّا أن هذه الدعوى رَدَّها الحافظ في "نزهة النظر"(ص: 45). وقد ذكر السخاوي في "فتح المغيث"(4/ 20) أمثلة كثيرة للحديث المتواتر.

(4)

انظر تعريف المستفيض، واختلاف العلماء فيه:"بيان المختصر" للأصفهاني (1/ 366)، و "كشف الأسرار" للبخاري (2/ 534)، و "البحر المحيط" للزركشي (4/ 249)، و "الاستعداد لرتبة الاجتهاد" للمؤلف (2/ 854)، و "نزهة =

ص: 140

"إنَّما الأَعْمالُ بالنّيَّاتِ"(1)، وما أشْبَهَهُ.

والآحاد: ما عدا ذلكَ (2).

وهو يُوِجِبُ العَمَلَ مُطْلَقاً (3)، خالفَتِ القِياسَ مُطْلَقاً، أو قياسَ الأُصولِ، عَمَّتِ البَلْوى بالحادثة، أو لمْ تَعمَّ.

ولا عِبْرَةَ بخِلاف ابنِ داودَ وشُذوذٍ منَ النَّاسِ؛ حيثُ مَنَعوا العَمَلَ بِها (4).

ومنعَ مالكٌ العَمَلَ بِها إذا خالفَتِ القياسَ (5).

= النظر" لابن حجر (ص: 46)، و "فتح المغيث" للسخاوي (4/ 8)، و "إرشاد الفحول" للشوكاني (ص: 49).

(1)

تقدم تخريجه.

(2)

انظر تعريف خبر الواحد: "اللمع" للشيرازي (ص: 153)، و "البرهان" للجويني (1/ 598)، و "الإحكام" للآمدي (1/ 2/ 48)، و "بيان المختصر" للأصفهاني (1/ 366)، و "الاستعداد لرتبة الاجتهاد" للمؤلف (2/ 855)، وغيرها.

(3)

انظر: "اللمع" للشيرازي (ص: 157)، و "البرهان" للجويني (1/ 599)، و "الإحكام" للآمدي (1/ 2/ 65)، و "بيان المختصر" للأصفهاني (1/ 374)، و "الاستعداد لرتبة الاجتهاد" للمؤلف (2/ 857).

(4)

منهم الشيعة والقاساني من الظاهرية. انظر: "اللمع" للشيرازي (ص: 154)، و "البرهان" للجويني (1/ 599)، و "بيان المختصر" للأصفهاني (1/ 374)، و "الاستعداد لرتبة الاجتهاد" للمؤلف (2/ 858).

(5)

قلت: نقل عن الإمام مالك في هذه المسألة قولان؛ قول أنَّه يقدم الخبر على القياس، وقول أنَّه يقدم القياس على الخبر، إلَّا أن الرّواية الصحيحة عنه: أنَّه يقدم الخبر على القياس، وهو الذي رجَّحه الباجي. وقال الشنقيطي: هي الرّواية الصحيحه عن مالك.

وقد طعن ابن السمعاني في نسبة القول إلى مالك بأنه يقدم القياس على الخبر، فقال: وهذا القول بإطلاقه سمج مستقبح عظيم، وإنما أُجِلُّ منزلة مالك عن مثل =

ص: 141

ومنعَ أبو حنيفةَ (1) إذا خالَفَتْ قِياسَ الأُصولِ (2)، أو كانَتْ فيما تعُمُّ به البَلْوى (3).

= هذا القول، وليس يُدرى ثبوت هذا منه.

انظر: "قواطع الأدلة" للسمعاني (1/ 358)، و "إحكام الفصول" للباجي (ص: 598)، و "بداية المجتهد" لابن رشد (1/ 470)، و "شرح تنقيح الفصول" للقرافي (ص: 387)، و "نثر الورود على مراقي السعود" لمحمد أمين الشنقيطي (ص: 443).

(1)

قلت: الصواب: أن تقديم القياس على الخبر إذا كان الراوي غير فقيه: هو مذهب عيسى بن أبان، وتبعه أكثر المتأخرين من الحنفية.

أما الإمام أبو حنيفة: فكان يقدم الخبر على القياس مطلقاً؛ لذلك نقل عبد العزيز البُخاريّ عن أبي حنيفة قوله: ما جاءنا عن الله وعن رسوله، فعلى الرأس والعين. انظر:"كشف الأستار" للبخاري (2/ 558)، و "شرح المصنف" للمنار (2/ 23)، و "شرح ابن ملك على المنار" (ص: 210).

(2)

قال أبو إسحاق الشيرازي: أما أصحاب أبي حنيفة: فإنهم أرادوا بالأصول: القياس على ما ثبت بالأصول، فهو الذي قاله أصحاب مالك، وقد دلَّلنا على فساده، وإن أرادوا نفس الأصول التي هي الكتاب والسنة والإجماع، فليس معهم في المسائل التي ردوا فيها خبر الواحد كتاب ولا سنة ولا إجماع، فسقط ما قالوه.

انظر: "اللمع" له (ص: 158). وانظر: "البحر المحيط" للزركشي (4/ 349).

وقال الشَّيخ أبو زهرة: خبر الآحاد قد يكون معارضاً لقياس شهدت له عدة أصول، ولم تكن علته مأخوذة من أصل واحد، بل من مجموعة نصوص لأحكام مختلفة؛ كعلة دفع الحرج في كونها سبباً للتيسير. انظر:"أصول الفقه" له (ص: 228).

(3)

خبر الواحد فيما تعم به البلوى: يجب العمل به عند أكثر العلماء. وقال عامة الحنفية: لا يجوز العمل به في ذلك. وقال بقولهم ابن خُويز مِنداد من المالكية، وابن سُريج من الشَّافعية.

انظر: "أصول السرخسي"(1/ 368)، و "إحكام الفصول" للباجي (ص: =

ص: 142

وهي لا توجبُ القَطْعَ واليقينَ؛ خلافًا لبعضِ أصحابِ الحديثِ.

فإنَّ منهم من قال: ما تَجَلّى إسنادُه، أوجبَ العِلْمَ؛ كَمالِكٍ، عن نافعٍ، عنِ ابن عُمَرَ- رضي الله عنهم.

ومنهم منْ قالَ: ما حواه صحيحاً البُخاريِّ ومُسْلِمٍ يفيدُ العِلْمَ.

قال الشيخُ أبو عَمْرِو بنُ الصَّلاحِ وغيرُه: يُفيدُ العِلْمَ النَّظَرِيَّ لا الضَّرورِيَّ؛ لأنَّ الأمةَ أجمعتْ على أن ما فيهما ثابتٌ عنْ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، والأُمَّةُ مَعْصومَةٌ مِنَ الخَطَأ (1).

وأكثرُ المحقِّقينَ منَ الأصوليين وغيرهم على أن ذلكَ لا يفيد العلم (2). وإحدى المُقَدّمتينِ في الاستدلالِ غيرُ مُسَلَّمَةٍ، فكأنهم يقولونَ: أجمعَتِ الأمَّةُ على وُجوبِ العَمَلِ بالظَّنِّ، وقد غلب على ظَنِّهِمْ أنَّ ما فيهما صحيحٌ،

=226)، و "شرح تنقيح الفصول" للقرافي (ص: 372)، و "البحر المحيط" للزركشي (4/ 347)، و "التقرير والتحبير" لابن أمير الحاج (2/ 381)، و "شرح الكوكب المنير" للفتوحي (2/ 367).

(1)

انظر: "علوم الحديث" لابن الصلاح (ص: 28).

(2)

اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة مذاهب:

الأول: يفيد العلم مطلقًا، وهي رواية عن أحمد، ونسب إلى الظاهرية، وقالت به طائفة من المحدثين وأهل الأثر، وبعض الحنابلة.

الثَّاني: لا يفيد العلم مطلقًا، بل يفيد الظن، وهو قول أكثر العلماء، وهي الرّواية الصحيحة عن أحمد.

الثالثْ يفيد العلم بالقرائن، ومن القرائن أن يخرِّجه البُخاريّ ومسلم، وبه قال الغزالي والرازي والطوفي وابن حجر، وغيرهم.

انظر: "المستصفى" للغزالي (1/ 272)، و "المحصول" للرازي (4/ 282)، و "شرح تنقيح الفصول" للقرافي (ص: 354)، و "البحر المحيط" للزركشي (4/ 262)، و "نزهة النظر" لابن حجر (ص: 52)، و "شرح الكوكب المنير" للفتوحي (2/ 348).

ص: 143

فنتيجةُ هذا أَنَّ ما فيهما يَجِبُ العَمَلُ به.

ولمُخالِفِهم أن يقولَ: قَدْ ظَنَّتِ الأُمَّةُ بثبوتِ جميعِ ما فيهما عَنْ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، والأُمَّةُ معصومة عن الخَطأ في ظَنِّها، فينتجُ ذلكَ أنَّ ما فيهما ثابِتٌ قَطْعاً ويَقيناً، فالظنُّ في طريقِ إفادَتِهما العِلْمَ، لا في إفادَتِهما العمل.

وهُوَ عندي مَذْهَبٌ قَوِيٌّ، ولكنَّه لا يَخْتَصُّ بالصَّحيحينِ، بلْ كلُّ حديثٍ غلبَ على ظنِّ عامَّةِ أهلِ العلمِ بالحديثِ ثبوتُه وصِحَّتُهُ، فهو كَذلكَ، واللهُ أعلمُ.

ثم المُتَّصِلُ ينقسم إلى: صَحيحٍ، وحَسَنٍ، وضعيفٍ.

فالأَوَّلانِ حُجة على ما قاما عليه، وإن تفاوتا في الصِّحَّةِ والحُسْن.

وأمَّا الضَّعيفُ، وإن تنوعتْ أنواعُه، فلا يجوزُ إقامةُ الحجةِ به (1).

(1) اختلف العلماء في الاحتجاج بالحديث الضعيف على ثلاثة مذاهب:

الأول: يعمل به مطلقاً في الحلال والحرام وغيرها، بشرط أن لا يوجد غيره، ذهب إلى هذا أحمد، وأبو داود، وغيرهما.

الثَّاني: لا يعمل به مطلقاً؛ لا في الحلال والحرام ولا في الفضائل، وقد قال بهذا القول: ابن العربي، والشهاب الخفاجي، وغيرهما.

الثالث: أنَّه يعمل به في الفضائل والترغيب والترهيب والقصص والمواعظ ونحوها بشروط:

الشرط الأول: أن لا يشتد ضعفه.

الشرط الثَّاني: أن يندرج تحت أصل معمول به.

الشرط الثالث: أن يعتقد عند العمل به الاحتياط لا ثبوته.

وهذه الشروط الثلاثة نقلها كل من السخاوي والسيوطي عن الحافظ ابن حجر.

وانظر: "علوم الحديث" لابن الصلاح (ص: 103)، و"القول البديع في الصَّلاة على الحبيب الشفيع" للسخاوي (ص: 363)، و "تدريب الراوي" للسيوطي (1/ 298)، و "قواعد التحديث" للقاسمي (ص: 116)، و "الأجوبة الفاضلة" للكنوي (ص: 36)، و "منهج النقد" للدكتور عتر (ص: 291).

ص: 144

وأمَّا غيرُ المتصل، فإنَّه يقعُ على المُرسَل، والمُعْضَل، والمُنْقَطع، والموقوف (1).

فالمُرْسَل: قولُ التابعيِّ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم.

والمُعْضَلُ والمُنْقَطعُ في معناهُ (2) عندَ قومٍ، ومنهم مَنْ فرَّقَ بينهما بأحوالٍ مخصوصةٍ، وقد ذكرها أهلُ العلمِ بالحديث (3) في كتبهم (4)، وقد أَوَّلوها في اصطلاحاتِهم.

(1) لكن الموقوف لا يكون غير متصل دائماً؛ فقد يكون متصلًا، وقد لا يكون. قال ابن الصلاح: إن منه ما يتصل الإسناد فيه إلى الصحابي، فيكون من الموقوف الموصول، ومنه ما لا يتصل إسناده، فيكون من الموقوف غير الموصول.

انظر: "علوم الحديث"(ص: 46).

(2)

أي: في معنى المرسل.

(3)

"بالحديث" زيادة من "ب".

(4)

اختلف العلماء في الفرق بين الحديث المرسل، والحديث المنقطع الشامل للمعضل على مذاهب:

الأول: أن المرسل ما كان الانقطاع فيه بعد التَّابعي، والمنقطع ما كان الانقطاع فيه قبل ذلك.

الثَّاني: المرسل مخصوص بالتابعين، والمنقطع شامل له ولغيره.

الثالث: المنقطع مثل المرسل، وكلاهما شامل لكل ما لم يتصل إسناده، لكن أكثر ما يوصف بالإرسال ما رواه التَّابعي عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، وأكثر ما يوصف بالانقطاع ما رواه من دون التَّابعي عن الصّحابة.

الرابع: المنقطع ما روي عن التَّابعي أو من دونه، من قوله أو فعله. وهو غريب بعيد.

انظر: "علوم الحديث" لابن الصلاح (ص: 56)، و "فتح المغيث" للعراقي (ص: 71)، و "فتح المغيث" للسخاوي (1/ 182)، و "تدريب الراوي" للسيوطي (1/ 208)، و "ظفر الأماني" للتهانوي (ص: 353).

ص: 145

وكلُّها (1) لا تقومُ بها حُجَّةٌ، ولا يثبتُ لها حكمٌ عندَ جماهيرِ أهلِ العلم.

وذهب مالكٌ وأبو حَنيفةَ في آخرين إلى صِحَّةِ الاحتجاجِ بالمرسَلِ.

وأمَّا الشافعيُّ -رضيَ اللهُ تعالى عنُه- فقالَ في كتابهِ الجديدِ: المنقطعُ مختلِفٌ، فمن شاهدَ أصحابَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم من التّابعين، فحدَّثَ حديثاً منقطِعا عنِ النَّبي صلى الله عليه وسلم، اعتُبِرَ عليهِ بأمور.

منها: أن يُنْظَرَ إلى ما أرسلَ من الحديثِ، فإن شاركه فيه الحُفَّاظُ المأمونونَ، وأَسْنَدوه إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بمِثْلِ معنى ما رَوى، كانتْ هذهِ دلالةً على صحَّةِ حفظِه.

وإن انفردَ بإرسالِ حديثٍ لم يشاركْهُ فيه غيرُه، قُبِل ما ينفردُ به، ويُعْتبَرُ عليه بأن يُنْظَرَ هلْ يوافِقُه مرسَلُ غيره ممَّن قُبِلَ عنهُ العلمُ في غيرِ رجالِه الذين قُبِلَ عنهم، فانْ وُجِدَ ذلك، كانتْ دلالةً تقوِّي مُرْسَلَهُ، وهي أضعفُ منَ الأُولى.

وإن لم يُوجَدْ ذلكَ، نُظِر إلى بعضِ ما رُوِيَ عن بعضِ أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قولًا لَهُ، فإن وُجِدَ موافقاً ما رُوِيَ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، كانتْ في هذهِ دلالةٌ على أنَّه لم يأخذْ مُرْسَلَه إلَّا من أَصْلٍ يَصِحُّ، إنْ شاءَ اللهُ تعالى.

وكذلكَ إن وُجِدَ عَوامٌ من (2) أهلِ العِلْمِ يُفتون بمثلِ معنى ما رُوي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ثم يعتبرُ عليهِ بأنْ يكونَ إذا سَقَى مَنْ روى عنهُ، لم يكنْ مجهولاً، ولا مَدْفوعاً من الروايةِ عنه، فَلْيُستدلَّ بذلك على صِحَّة ما رواهُ، أو يكونَ إذا شاركَ أحدًا من الحفَّاظ في حديثٍ لم يخالِفْهُ، وإنْ خالفهُ،

(1) أي: المعضل، والمنقطع، والمرسل.

(2)

"من" ليست في "ب".

ص: 146

وُجِدَ حديثُه أنقصَ، ففي هذهِ دلائلُ على صِحَّةِ مخرجِ حديثهِ.

ومتى خالفَ ما وَصَفْتُ، أضرَّ بحديثه حتَّى لا يسع أحداً قَبولُ مُرْسَلِهِ.

ثم قالَ بعدَ كلامٍ: فأمَّا مَنْ بعدَ كِبارِ التَّابعينَ الذين كَثُرَتْ مشاهدتُهم لبعضِ أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فلا أعلمُ منهمْ واحدًا يُقْبَلُ مُرْسَلُهُ لأمورٍ:

أحدُها: أنَّه أشدُّ تجوُّزاً فيما يروون عنه.

والآخَرُ: أنَّه يُؤخَذُ عليهم الدلائلُ فيما أرسلوه بضَعْفِ مخرجهِ بكثرةِ الإحالةِ في الأخبارِ، وإذا كَثُرَتِ الإحالةُ، كانَ أمكنَ للوَهْم وضعفِ مَنْ يُقبلُ عنهُ.

ثم قال أيضاً بعد كلامٍ آخَرَ: ومن نَظَر في العلم بِخِبرَةٍ وقلةِ غفلةٍ، استوحشَ من مُرْسَلِ كلِّ مَنْ دونَ كبار التَّابعينَ بدلائِلَ ظاهرةٍ فيها، فإن قالَ قائِلٌ: فَلِمَ فَرَّقْتَ بينِ التَّابعينَ المتقدِّمينَ الذين شاهدوا أصحابَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وبينَ مَنْ شاهدَ بعضهَم دون بعض؟ قلتُ له: لِبعدِ إحالَةِ مَنْ لم يشاهدْ أكثرَهُم (1).

(1) انظر كلام الإمام الشَّافعي في: "الرسالة"(ص: 461 - 467).

وقد اختلف العلماء في الاحتجاج بالمرسل إذا كان مُرسِلُه ثقة، على مذاهب:

الأول: أنَّه يحتج به، وهو قول مالك وأبي حنيفة، والصحيح عن أحمد.

الثَّاني: أنَّه لا يحتج به، فهو ضعيف، وهو قول المحدثين، والكثير من الفقهاء والأصوليين.

الثالث: أنَّه يحتج به بأحد شروط، بعد أن يكون الراوي من كبار التّابعين، ولا يروي عن الضعفاء:

1 -

أن يُروى مسنداً من وجه آخر.

2 -

أن يروى مرسل نحوه عن راو آخر لم يأخذ عن شيوخ الأول.

3 -

أن يوافقه قول بعض الصّحابة.

4 -

أن يقول به عوام أهل العلم.=

ص: 147

وأمَّا الموقوفُ على بعضِ الصحابةِ -رضيَ اللهُ تعالى عنهمْ- مثلَ أَنْ يقولَ بعضُهم قولًا؛ أو يفعلَ فِعْلاً، فإنِ انتشرَ قولُه أو فعلُه في علماءِ الصحابةِ، وسكتوا عن مخالفتهِ والإنكارِ عليه، فهو حُجة يجبُ العملُ بها؛ خِلافاً لداودَ؛ لأنَّ العادَةَ في أهلِ الاجتهاد إذا سمعوا جَواباً في حادثةٍ حَدَثَتْ، اجتهدوا، وأَظْهروا ما عندَهُم، فإذا لم يُظهروا الخِلافَ، دَلَّ على أنهم قد رَضُوا بذلك.

واختلفوا فيه: هلْ يكونُ إجماعاً؟

فقالَ فريقٌ من الشافِعِيَّةِ: يكونُ إجماعاً.

ويروى عن أبي حنيفةَ رَحِمَهُ اللهُ تَعالى.

وقال فريقٌ منهمْ: لا يكونُ إجماعًا، ونُسِبَ إلى الشافعيِّ -رحمهُ اللهُ تَعالى- في قوله الجديدِ (1).

= انظر: "اللمع" للشيرازي (ص: 159)، و "المحصول" للرازي (4/ 454)، و "الإحكام" للآمدي (1/ 2/ 136)، و "علوم الحديث" لابن الصلاح (ص: 53)، و "بيان المختصر" للأصفهاني (1/ 425)، و "البحر المحيط" للزركشي (4/ 404)، و "شرح علل التِّرمذيُّ" لابن رجب (1/ 292)، و "فتح المغيث" للعراقي (ص: 65)، و "فتح المغيث" للسخاوي (1/ 161)، و "ظفر الأماني" للتهانوي (ص:(347)، و "منهج النقد" للدكتور عتر (ص: 371).

(1)

إن هذه الحالة من قول الصحابي، وهو إذا قال قولاً واشتهر، ولم يعرف له مخالف، وكذلك إذا كان من مجتهدي غير الصّحابة، وهو ما يسمى بالإجماع السكوتي، فالخلاف فيها على مذاهب، أهمها:

الأول: أنَّه ليس حجة ولا إجماعاً، وقد حكي هذا عن داود، وعن الإمام الشَّافعي.

الثَّاني: هو إجماع وحجة، وهو مذهب أكثر الحنفية، وأكثر المالكية، والكثير من أصحاب الشَّافعي.=

ص: 148

وأمَّا إذا لم ينتشرْ، ولم يُعْرَفْ له مُخالِفٌ:

فَذَهَبَ الشافعيُّ في قولهِ الجديد إلى أنَّه ليسَ بِحُجَّةٍ.

وقالَ قومٌ من الفُقهاء: هو حُجَّةٌ، وإليه ذهبَ الشافعيُّ في القديم.

وقالتِ الحنفيةُ: إذا خالفَ القِياسَ، كان توقيفاً عنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويُقَدَّمُ على القِياس؛ لأنَّ فَتْوى الصَّحابيِّ بما يخالِف القياسَ دليلٌ على أنَّه إنَّما قالَ بذلكَ عن توقيفٍ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم (1).

= الثالث: هو حجة وليس إجماعًا، ونُقل عن الصَّيْرفيُّ.

انظر: "اللمع" للشيرازي (ص: 185)، و "المحصول" للرازي (4/ 153)، و "الإحكام" للآمدي (1/ 1/ 312)، و "شرح مختصر الروضة" للطوفي (3/ 78)، و "البحر المحيط" للزركشي (4/ 494)، و "الاستعداد لرتبة الاجتهاد" للمؤلف (2/ 930).

(1)

هذا ما يعرف في أصول الفقه بقول الصحابي، أو: مذهب الصحابي، وقد اختلف العلماء في كونه حجة على من بعد الصّحابة أم لا؛ على مذاهب:

الأول: ليس بحجة مطلقًا، وهو قول الشَّافعي في الجديد، وذهب إليه جمهور الأصوليين.

الثَّاني: هو حجة مقدم على القياس؛ وهو قول الشَّافعي القديم، وأكثر الحنفية، ونقل عن مالك.

الثالث: حجة إن خالف القياس؛ لأنَّه حينئذ هو توفيق، ونقل عن أصحاب أبي حنيفة أيضاً.

انظر: "اللمع" للشيرازي (ص: 193)، و "المحصول" للرازي (6/ 129)، و "شرح مختصر الروضة" للطوفي (3/ 185)، و "نهاية السول" للإسنوي (2/ 951)، و "البحر المحيط" للزركشي (6/ 53)، و "الاستعداد لرتبة الاجتهاد" للمؤلف (2/ 1179)، و "مراقي السعود" (ص: 401).

هذا إذا قال الصحابي قولًا عن رأي واجتهاد، أما إذا قال قولًا لا يدرك بالرأي والاجتهاد، وإنَّما يعرف بالتوقيف فقط، فذلك حجة؛ لأنَّه في حكم المرفوع، بشرط أن لا يعرف أنَّه يأخذ عن الإسرائيليات.=

ص: 149