المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌مقدِّمة جَامِعَة في أصول الفقه والتَّفسِيْر

- ‌القولُ في الأسماءِ المُفْرَدَةِ

- ‌القولُ في البَيِّنِ والمُشْكِلِ

- ‌فصل (المُشْكِلُ)

- ‌وأَمَّا المركَّباتُ، فيأتي على وُجوهٍ -أيضاً

- ‌منها: الاشتراكُ بين الأمرِ والخَبَر:

- ‌ومنها: الاشتراك بين السؤال والتَّنْبيهِ:

- ‌ومنها: الاشتراك بينَ السؤالِ والدُّعاء

- ‌ومنها: الاشتراك في المَفْعولِ إذا تنازعَه فِعلان يَقْتضيانِ مُقْتَضًى واحداً:

- ‌ومنها: الاشتراك في الإبهام:

- ‌واختلفَ علماؤنا في مسائلَ:

- ‌القَولُ في العَامِّ والخَاصِّ

- ‌الفصل الأول في الألفاظ

- ‌الفصل الثاني في كيفيةِ استعمالِ العرب للعامِّ واتِّساعها فيه

- ‌الفصلُ الثالِثُ في الخَاصِّ

- ‌الفصلُ الرابُع في ترتيبِ العامِّ على الخاص

- ‌القولُ في المُطْلَقِ والمُقَيَّدِ

- ‌القول في الحقيقة والمجاز

- ‌ الأول: الاستعارةُ:

- ‌الثاني: التّشبيهُ:

- ‌الثالثُ: الزيادَةُ:

- ‌الرابع: النّقصان:

- ‌الخامس: التقديمُ والتأخيرُ:

- ‌السادس: المحاذاةُ والمُقابَلَةُ للشيءِ بمثلِ لَفْظِهِ معَ اختِلاف المعنى:

- ‌الثامنُ: أَنْ يُسَمَّى الشيءُ بما كانَ عليهِ:

- ‌التاسع: تسميتُهم الشيءَ بما يَستحيلُ وُجودُه:

- ‌القول في الأمر والنهي

- ‌الفصلُ الأولُ وفيه أربعُ مسائلَ:

- ‌ الأولى: الأمر هَلْ يقْتَضي الوُجوبَ

- ‌ الثانية: إذا وردَ لفظُ الأمرِ، وفي الصيغةِ ما يدلُّ على التكْرارِ

- ‌ الثالثةُ: الأَمْرُ هَلْ تقتَضي الفِعْلَ على الفَوْرِ، أوْ لا

- ‌ الرابعةُ: إذا وَرَدَ الأمْرُ بعدَ الحَظْرِ والمنعِ، فهل يقْتَضي الوُجوبَ؟ فيه مذهبان:

- ‌الفصل الثاني في تَصَرُّفِ العَرَبِ بِصيغَةِ الأمرِ

- ‌ الأولُ: أن يكون أمرًا ومعناهُ الوجوبُ

- ‌الثاني: أمرٌ ومعناه الاسْتِحْبابُ

- ‌الثالث: أمرٌ ومعناه الإرشاد

- ‌الرابع: أمرٌ ومعناهُ التأديبُ

- ‌الخامس: أمرٌ ومعناهُ التخييرُ

- ‌السادس: أمر ومعناهُ الإباحَةُ

- ‌السابع: أمرٌ ومعناهُ التَّسخيرُ، وبعضُهم يقولُ:

- ‌الثامنُ: أمر ومعناهُ التَّحْقيرُ

- ‌التاسع: أمر ومعناهُ التَّعْجيزُ

- ‌العاشرُ: أمرٌ ومعناهُ التَّكوينُ

- ‌الحادي عَشَرَ: أمر ومعناهُ الوَعيدُ والتَّهديدُ

- ‌الثاني عَشَرَ: أمر ومعناهُ التَّفَكرُ والاعْتِبارُ

- ‌الثالثَ عَشَرَ: أمرٌ ومعناهُ الصَّيْرورَةُ

- ‌الرابعَ عَشَرَ: أمرٌ ومعناهُ الدُّعاء

- ‌الخامسَ عَشَرَ: أمر ومعناه التَّفْويضُ والتَّسليمُ

- ‌السادِسَ عَشَرَ: أمرٌ ومعناه التعجُّبُ

- ‌السابعَ عَشَرَ: أمرٌ ومعناهُ الإِنْعامُ

- ‌الثامِنَ عَشَرَ: أمرٌ ومعناهُ التَّمَنِّي

- ‌التاسِعَ عَشَرَ: أمر ومعناه التَّلَهُّفُ

- ‌العِشرونَ: أمرٌ ومعناهُ الخَبَرُ

- ‌فصل

- ‌إحداهُما: النَّهْيُ يقْتَضي التَّحْريم

- ‌المسألة الثانية: النَّهْيُ هل تقْتَضي الفَساد؟ فيه أقوالٌ:

- ‌القول في الخبر

- ‌القول في القرائن

- ‌القولُ في مَعرفة المُتشابه والمُتعارض

- ‌(القول في الناسخ والمنسوخ)

- ‌الفصل الأول في معنى النسخ وحقيقته

- ‌الفصل الثَّاني في أقسام النسخ والناسخ والمنسوخ

- ‌الفصلُ الثالث فيما يَجوزُ نسخُه وما لا يجوزُ

- ‌الفصلُ الرابعُ فيما يجوزُ أن يكونَ ناسخاً، وما لا يجوز

- ‌الأولُ: نسخُ القرآنِ بالقرآنِ:

- ‌الثَّاني: نسخ السُّنَّةِ بالسُّنَّةِ:

- ‌الثالث: نسخُ القرآنِ بالسُّنَّةِ:

- ‌الرابع: نسخُ القرآنِ بالإجماعِ:

- ‌الخامس: نسخُ السُّنَّةِ بالقُرآنِ

- ‌السادس والسابع: نسخُ الإجماع بالقرآنِ، ونسخُ الإجماعِ بالسُّنَّةِ: مستحيلٌ وغيرُ جائزٍ اتّفاقاً

- ‌الفصل الخامس في الطَّريق إلى معرفة الناسخ والمنسوخ

- ‌القول في السُّنَّة وأنواعها وترتيبها وتقديم بعضها على بعض

- ‌الفصلُ الأولُ في السُّنَّة

- ‌الفصل الثَّاني في بيانِ أنواعِ السُّنَّةِ

- ‌الفصلُ الثالثُ في ترتيبِ بعضِها على بعضٍ

- ‌الفصلُ الرابعُ تقديمُ بعضِها على بعضٍ

- ‌(القول في القياس)

- ‌(خاتمة المقدِّمة)

- ‌سُوْرَةُ البَقَرَةِ

- ‌(من أحكام الصَّلاة)

- ‌(من أحكام الحج)

- ‌(من أحكام الأطعمة)

- ‌(من أحكام القصاص)

- ‌(أحكام الوصايا)

- ‌(من أحكام الصِّيام)

- ‌(من أحكام القضاء)

- ‌(من أحكام الجهاد)

- ‌(من أحكام الجهاد)

- ‌(من أحكام الحج)

- ‌(من أحكام النفقة)

- ‌(من أحكام الجهاد)

- ‌(تحريم شرب الخمر)

- ‌(معاملة اليتامي)

- ‌(حكم نكاح المشركات والكتابيات)

- ‌(من أحكام الحيض)

- ‌(من أحكام النكاح)

الفصل: ‌(من أحكام الصلاة)

(من أحكام الصَّلاة)

(القبلة)

1 -

(1) قوله عز وجل: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 115].

أقول:

اختلفَ أهلُ العلمِ في هذه الآيةِ اختلافًا كثيرًا، فمنهم من أَوَّلَها، ومنهم منْ خَصّصَها، ومنهم من جَعَلَها ناسِخَةً، ومنهم من جعلها منسوخةً:

- فقال مالك وأصحابه: هي منسوخةً بقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144].

ورويَ القولُ بهذا عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما-، رواه الترمذي، وأنه كان يجوزُ للرجلِ أن يصليَ حيثُ (2) شاءَ (3).

(1) لم أقف على هذا القول عند المالكية، ولا من ذكر ذلك عنهم من المفسرين. ثم رأيت مكي بن أبي طالب ينقل عن الإمام مالك وأصحابه أنها منسوخة، كما ذكره المصنف، ولعله نقل ذلك عنه. انظر:"الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه"(ص: 131).

(2)

في "ب": "أين".

(3)

رواه الترمذي (2958)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة البقرة. لكن عن ابن عمر، ودون ذكر النسخ. وروى النسخ عن ابن عباس: الحاكم في "المستدرك"(3060)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(2/ 12).

ص: 169

وأما المُؤَوِّلونَ،- فاختلفوا أيضًا:

فقال مجاهد والحسنُ: لما نزلت: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، قالوا: أينَ ندعوهُ؟ فأنزل الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (1)[البقرة: 115]، هكذا نقل البَغَوِيُّ (2).

وقال بعضهم (3): {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا} معناه: فأيَّ مكانٍ تصلون فيه، فثمَّ وجهُ الله، فقد جُعِلَتْ لكمُ الأرضُ مسجدًا.

وقال بعضُ أصحابِ المعاني (4): هيَ مخصوصةٌ بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم حين صَلَّى على النجاشِي، واستقبلَ جهتَهُ (5).

وأما المخصصون بالمصلين، فقال ابنُ عباسٍ - رضي الله تعالى

(1) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره"(2/ 159)، وابن المنذر في "تفسيره"(1/ 267 - الدر المنثور).

(2)

انظر: "معالم النزيل" للبغوي (1/ 158). وانظر: "تفسير الطبري"(1/ 505)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (1/ 79).

(3)

هذا قول الزمخشري والبيضاوي. انظر: "الكشاف"(1/ 314)، و"أنوار التنزيل"(1/ 130).

(4)

نقله المؤلف رحمه الله عن مكي بن أبي طالب في "الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه"(ص: 132). وإليه ذهب القرطبي في "تفسيره"(1/ 1/ 78) ونسبه إلى علماء المالكية، قال: قال علماؤنا رحمة الله عليهم: النبي بذلك مخصوص، لثلاثة أوجه

إلخ.

(5)

روى ابن جرير الطبري في "تفسيره"(1/ 504)، وابن المنذر في "تفسيره" (1/ 267 - الدر المنثور) عن قتادة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أخاكم النجاشي قد مات، فصلوا عليه"، قالوا: نصلي على رجل ليس بمسلم؟! قال: فنزلت: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ} . قال قتادة: فقالوا: إنه كان لا يصلي إلى القبلة، فأنزل الله عز وجل:{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ} .

ص: 170

عنهما-: خرجَ نفرٌ من أصحاب رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في سَفَر قَبْلَ تحويلِ القِبْلَةِ إلى الكعبةِ، فأصابَ الناسَ ضبابٌ، وحضرتِ الصلاةُ، فتحرَّوا القبلةَ وصلَّوا، فلما ذهبَ الضبابُ، استبانَ لهم أنهم لم يُصيبوا، فلما قَدِموا، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فنزلت هذه الآية (1).

ورُوي نحوُه عن عامرِ بنِ ربيعةَ، ولكنَّه لم يقل: قَبْلَ تحويلِ الِقْبَلةِ، وذكر أن فيهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم (2)، ويُروى هذا القولُ عن النَّخَعِيِّ (3)، لكنْ قالَ الترمذيُّ في حديث عامرِ بنِ ربيعةَ: ليس إسنادهُ بذلك القويِّ (4)، لا نعرفهُ إلا من حديثِ أَشْعَثَ السَّمَّانِ، وأشعثُ بنُ سعيدٍ أبو الربيعِ يُضَعَّفُ في الحديث (5).

وثبتَ في "صحيح مسلمٍ" عن ابنِ عمر -رضيَ اللهُ تعالى عنهما-: أنها نزلتْ في المسافِرِ يُصلي التطوُّعَ حيثما توجهتْ به راحلتُه (6). قالَ البيهقيُّ: هذا أصحُّ ما رُويَ في نزول هذه الآية (7).

(1) رواه ابن مردويه في "تفسيره"(1/ 267 - الدر المنثور) عن ابن عباس.

(2)

رواه الترمذي (345)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الرجل يصلي لغير القبلة في الغيم، وابن ماجه (1020)، كتاب: الصلاة، باب: من يصلي لغير القبلة وهو لا يعلم، والطيالسي في "مسنده"(1145)، وعبد بن حميد في "مسنده"(316)، والبزار في "مسنده"(3812)، والدارقطني في "سننه"(1/ 272)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(2/ 11).

(3)

انظر: "تفسير الطبري"(1/ 503). وقد ذهب إلى ذلك -أيضًا-: جابر بن عبد الله، وعطاء. انظر:"الدر المنثور" للسيوطي (1/ 266 - 267).

(4)

في "ب": "بالقوي" بدل "بذلك القوي".

(5)

انظر: "سنن الترمذي"(2/ 176).

(6)

رواه مسلم (700)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: جواز صلاة النافلة على الدابة في السفر حيث توجهت.

(7)

انظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (2/ 4) وما بعدها.

ص: 171

* فعلى قولِ ابنِ عباسٍ -رضيَ اللهُ تعالى عنهما- في الآيةِ دليلٌ على أنْ المصليَ إذا صلَّى بالاجتهادِ، ثم تبينَ لهُ الخطأ، لا إعادةَ عليه. وبهذا قال جمهورُ أهلِ العلم.

وقال قومٌ (1): عليهِ الإعادةُ قياسًا على من أخطأ في الوقت، وصلَّى قبلَهُ؛ إذْ عليهِ الإعادةُ اتِّفاقًا.

وللشافعيِّ قولٌ -مع هذا- أَنَّهُ إذا تيقَّنَ الخطأَ، وتيقَّنَ الصَّوابَ، فعليه الإعادةُ (2).

* وعلى قولِ ابنِ عمرَ -رضيَ اللهُ تعالى عنهما- في الآيةِ دليل على جوازِ صلاةِ التطوُّعِ إلى غيرِ جِهَةِ الِقبْلَةِ للمسافِرِ، وقد ثبَتَ ذلكَ من فِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم (3).

وأما من قالَ: إنها ناسخةٌ (4)، قال: هي ناسخةٌ للصَّلاةِ إلى بَيْتِ المَقْدِسِ؛ لأن اليهودَ أنكروا رُجوعَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلى الكَعْبَةِ، وتركَه بيتَ المقدسِ، وقالوا:{مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة: 142]،

(1) هم الشافعية، إلا أن المعتمد عندهم: أنه لا بدَّ أن يتيقن الخطأ ويتيقن الصواب، فعندها تجب عليه الإعادة.

انظر: "المجموع في شرح المهذب" للنووي (3/ 206)، و"مغني المحتاج" للشربيني (1/ 338).

وقال المالكية: يعيد وجوبًا إن تبين له الخطأ ما دام في الوقت. انظر: "مواهب الجليل" للحطاب (1/ 554).

(2)

انظر: "الأم" للإمام الشافعي (1/ 191).

(3)

انظر تخريج الحديث المتقدم عند مسلم.

(4)

وقد روي هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما، وهو قول مجاهد والضحاك، وبقولهم قال ابن زيد.

انظر: "تفسير الطبري"(1/ 502)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (1/ 1/ 79)، و"الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه" لمكي (ص: 131).

ص: 172

فأنزلَ اللهُ تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [البقرة: 142]، وأنزلَ (1):{فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115].

وفي هذا ضَعْفٌ؛ لأن الناسخَ للصّلاة إلى بَيْتِ المقدسِ إنما هو قولُه عز وجل: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144]، فإذا جاء بعده نصٌّ أو ظاهرٌ على وفقه، لا يكونُ ناسِخًا، وإنما يكون مبيِّنًا ومؤكِّدًا.

وجملة هذه الأقاويل سبعةٌ (2)، وما ثبت أنه السببُ في نزولها، تعيَّن حَمْلُها عليه، ولا حاجةَ إلى التأويلِ مع وجودِه، ولا يجوزُ القول بالنَّسْخِ حينئذ مع ثبوت السببِ المخصِّصِ للآية لبعض الأحوال، والله أعلم.

2 -

(2) قوله- عز وجل: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ

(1)"وأنزل" ليست في "ب".

(2)

قلتُ: خلاصتها:

1 -

أنها نزلت في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم قِبَل بيت المقدس، ثم عاد وصلى إلى الكعبة، فاعترضت عليه اليهودُ، فأنزلها الله -تعالى- كرامةً له.

2 -

أنها نزلت في تخيير النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ليصلوا حيث شاؤوا من النواحي.

3 -

أنها نزلت في صلاة التطوع، يتوجه المصلي في السفر إلى حيث شاء فيها راكبًا.

4 -

أنها نزلت فيمن صلى الفريضة إلى غير القبلة في ليلة مظلمة.

5 -

أنها نزلت في النجاشي، آمن ولم يصلِّ إلى القبلة.

6 -

أنها نزلت في الدعاء، يتوجه الداعي حيث شاء.

7 -

أن معناها: أينما كنتم من مشرقٍ ومغربٍ فلكم قبلة واحدة تستقبلونها. وانظر - أيضًا-: "أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 52).

وقد أوصلها القرطبي في "تفسيره"(1/ 1/ 76) إلى عشرة أقوال.

ص: 173

وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 144].

أقولُ: أمرَ اللهُ جل جلاله نبيَّه صلى الله عليه وسلم، وجميعَ المؤمنينَ بالتوجُّه إلى شطرِ المَسْجِدِ الحرامِ.

* والمسجدُ الحرامُ يقعُ على البيت (1)، ويقعُ على مَكَّةَ.

قال اللهُ سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء: 1]، وكان مَسْراهُ من بيتهِ (2)، كَما ورد في رواية أبي ذَرٍّ رضي الله عنه (3).

ويقع على جميعِ الحَرَمِ، قال الله تعالى:{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28].

والمرادُ بالمسجدِ الحرام هنا (4) الكعبةُ باتِّفاقِ المسلمين؛ لِما روى ابنُ عبّاسٍ رضي الله عنهما: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لما دخلَ البيتَ (5)، دعا في نواحيه كُلِّها، ولمْ يُصَلِّ فيهِ حتى خرجَ، فلما خرجَ ركعَ ركعتينِ في قبلِ الكعبةِ، ثم قال:"هذهِ القِبْلَةُ"(6).

(1) يعني: الكعبة المشرفة.

(2)

أي: وبيته كان في مكة.

(3)

رواه البخاري (3164)، كتاب: الأنبياء، باب: ذكر إدريس عليه السلام، ومسلم (163)، كتاب: الإيمان، باب: الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماوات، وفرض الصلوات. عن أنس بن مالك قال: كان أبو ذر يحدث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فُرِجَ سقف بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريل صلى الله عليه وسلم ففرج صدري

" الحديث.

(4)

يعني: في الآية التي يريد تفسيرها.

(5)

في "ب": "المسجد".

(6)

رواه البخاري (389)، كتاب: القبلة، باب: قول الله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} ، ومسلم (1330)، كتاب: الحج، باب: استحباب دخول الكعبة=

ص: 174

والشَّطْرُ يقعُ في لسانِ العرب على النِّصْفِ (1)، ويقعُ على الجِهَةِ، والنَّحْوِ (2)، قال خُفافُ بْنُ نُدْبَةَ:[البحر الوافر]

أَلا مَنْ مُبْلِغٌ عَمْرًا رسولا

وما تُغْني الرسالَةُ شَطْرَ عمرِو (3)

وقال ساعِدَةُ بن جُؤَيَّةَ: [البحر الوافر]

أقولُ لأُمِّ زِنباعٍ أقيمي

صدورَ العِيْسِ شَطْرَ بني تميمِ (4)

وقال لقيطٌ الإياديُّ: [البحر البسيط]

وقَدْ أَظَلَّكُمُ مِنْ شَطْرِ ثَغْرِكُمُ

هَوْلٌ لهُ ظُلَمٌ تَغْشاكُمُ قِطَعَا (5)

وقال قيسُ بنُ العيزارة يصفُ لقْحَتَهُ (6): [البحر البسيط]

إنَّ النُّفوسَ بها داءٌ يُخامِرُهَا

فَشَطْرُها بَصَرُ (7) العَينينِ مَحْسُورُ (8)

= للحاج وغيره، والصلاة فيها. عن ابن عباس رضي الله عنهما.

(1)

كقوله صلى الله عليه وسلم: "الطهور شطر الإيمان".

(2)

"والنحو" ليست في "ب". وانظر: "لسان العرب" لابن منظور (4/ 407)(مادة: شطر).

(3)

لم أجد هذا البيت في ديوانه المطبوع، جمع: حمودي القيس. وانظر: "المحرر الوجيز"(1/ 222).

(4)

البيت في "الأغاني"(21/ 249).

(5)

انظر: "ديوانه": البيت (25)، (ص: 81).

(6)

لقحة: اللَّقْحةُ: هي اللَّقوح على وزن صبور؛ وهي الناقة الحلوب أو التي نتُجت. انظر: "القاموس"(مادة: لقح)(ص: 218).

(7)

في "أ": "بَصيرُ" وهو خطأ.

(8)

رواية البيت في "الكامل" للمبرد (1/ 249):

إن النفوسَ بها داء يخامرها

فنحوَها نظرُ العينين محسورُ

وقد أنشد أبو عبيدة البيت على هذه الرواية في "مجاز القرآن"(1/ 60) و (2/ 60) ونسبه إلى قيس بن العيزارة الهذلي. وهذا البيت أول أربعة أبيات في=

ص: 175

قال الشافعي: يريدُ تلقاءها: بَصَرُ (1) العينين (2).

وهذا المعنى هو المرادُ باتِّفاقِ المسلمين، فعن عليِّ بنِ أبي طالبٍ رضي الله عنه: أنهُ قالَ: شَطْرُهُ: قِبَلُهُ (3).

وعن ابنِ عباسِ ومجاهد: شطرُه: نَحْوُهُ (4).

وفي حرف ابن مسعودٍ -رضيَ اللهُ تعالى عنه-: تلقاءَ المسجدِ الحرامِ (5).

وهذا كلُّه مع غيرِه من أشعارِ العربِ وأصحابِ الأدِلَّة يبينُ أن توليةَ (6) شطرِ الشيءِ قصدُ عينِ الشَّيءِ، قال الشافعيُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى- إذا قلت: اقصد شطر كذا، كأنك قلت: اقصدْ معروفَ قصدِ عينِ كذا (7).

= "شرح أشعار الهذليين"(2/ 807) وروايته:

إن النفوس بها داء يخامرها

فنحوها بصر العينين مخزور

(1)

في "أ": "تلقاها بصير".

(2)

انظر: "الرسالة" للإمام الشافعي (ص: 37).

(3)

رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره"(2/ 22)، والحاكم في "المستدرك"(3064)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 3). وانظر:"تفسير ابن كثير"(1/ 339)، و "الدر المنثور"(1/ 355).

(4)

انظر: "تفسير الطبري"(2/ 21)، و"تفسير ابن كثير"(1/ 339).

(5)

قرأ بها عبد الله بن مسعود، وأُبي بن كعب. انظر:"تفسير الرازي"(2/ 16)، و"البحر المحيط" لأبي حيان (1/ 429)، و"تفسير القرطبي"(1/ 2/ 149).

وانظر: "معجم القراءات القرآنية"(1/ 124).

(6)

"تولي" ليس في "ب".

(7)

نقل المؤلف رحمه الله كلام الإمام الشافعي بالمعنى، فأخلَّ بالمراد، ولفظ الشافعي؛ كما في "الرسالة" (ص: 34): "وشطره": جهته في كلام العرب؛ إذا قلت: أَقصد شطر كذا، معرف أنك تقول: أَقصدُ قصدَ عينِ كذا، يعني: قصد نفس كذا.

ص: 176

* - وقد اتفقَ المسلمون على أن الواجبَ على من كان معاينًا للكعبةِ إصابةُ عينِها.

* واختلفوا فيمن كانَ غائبًا عنها.

فقال قومٌ (1): الواجب إصابة عينها في ظَنِّ المصلي.

وقال قومٌ (2): الواجب استقبالُ الجهةِ التي فيها المسجدُ، وجعلوا التولِّيَ المأمورَ بهِ مشترَكًا بين اليقينِ والتخمين.

والقولُ الأولُ أصحُّ قَولَي الشافعيِّ -رضيَ اللهُ تعالى عنه-، وأنا (3) أختارُه؛ لظاهرِ الخِطابِ المفسّر بتفسيرِ الصَّحابَةِ رضي الله عنهم، ويحملُ اللفظُ على حقيقتهِ وسلامَتهِ من الاشتراكِ والحذفِ والإضْمار، وعدمُهما خيرٌ منهما (4)، ولقوله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم:"إذا أَمَرْتُكُمْ بأَمْرٍ فَأْتوا منُه ما اسْتَطَعْتُم"(5)، وإصابةُ عيِنها في ظَنِّ المُصَلّي داخلٌ في الاستطاعَةِ منْ غيرِ مشقةٍ ولا حَرَج. وما روي عنهُ صلى الله عليه وسلم: "البَيْتُ قِبْلَةٌ لأهْلِ المَسْجِدِ، والمَسْجِدُ قِبْلَةٌ لأَهْلِ الحَرَمِ،

(1) هم الشافعية؛ انظر: "المجموع في شرح المهذب" للنووي (3/ 202 - 203) و"الإقناع" للشربيني (1/ 170).

(2)

هم الحنفية والمالكية، والحنابلة؛ انظر:"رد المحتار" لابن عابدين (2/ 97)، و"الذخيرة" للقرافي (2/ 117)، و"الكافي" لابن قدامة (1/ 143).

(3)

في "ب": "وإيّاه".

(4)

فإن الأصل عدم المجاز والاشتراك والحذف والإضمار، فإذا تردد الكلام بين الحقيقة والمجاز، قدمت الحقيقة، أو بين النصوصية والاشتراك قدمت النصوصية، أو بين الذكر والحذف قدِّم الذكر، أو بين الإظهار والإضمار قدِّم الإظهار.

(5)

تقدم تخريجه.

ص: 177

والحَرَمُ قبلةٌ لأَهْلِ الأَرْضِ" (1)، فَضعيفٌ لا يُحْتَجُّ به.

* فإن قلتُمْ: فَبَيِّنْ لنا صفةَ الاستقبالِ للمسجدِ الحرام، فإنّ المصلِّيَ لا يخلو إمّا:

أن يستقبلَ بجميعِ بدنِهِ جميع (2) ساحَةَ البيتِ التي هي قِبَلَ وَجْهِهِ.

أو يستقبلَ بجميعِ بدنهِ بَعْضَ ساحةِ البيتِ، كما إذا صَلَّى داخلَ البيتِ.

أو يستقبلَ ببعضِ بدنِه جميعَ ساحةِ البيتِ التي تُحاذيه.

قلنا:

أما الصورةُ الأولى، فمتفَقٌ عليها؛ لوقوعِ اسمِ الاستقبالِ على مُسَمَّى البيتِ.

وأما الصورةُ الثانيةُ، فمختلَفٌ فيها بينَ أهلِ العلمِ:

فمنهم مَنْ منعَ الصَّلاةَ داخلَ البيتِ (3)، واستقبالَ بعضِ ساحتِه؛ لظهورِ الأمرِ باستقبالِ جميعِه، واحتجَّ بحديثِ ابنِ عباسٍ - رضي اللهُ تعالى عنهما- قال: لما دخلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم البيتَ، دعا في نواحيهِ كُلِّها، ولم يُصَلِّ حتى خرجَ، فلما خرجَ ركعَ ركعتين قِبَلَ الكعبةِ، قال:"هذهِ القِبْلَةُ"(4).

ومنهم من جَوَّزَ الصلاةَ مُطْلَقًا (5)، واحتجَّ بحديثِ ابنِ عمرَ -رضيَ اللهُ

(1) رواه البيهقي في "السنن الكبرى"(2/ 9) عن ابن عباس.

(2)

"جميع" ليست في "أ".

(3)

قال به ابن جرير، وأصبغ المالكي، وجماعة من الظاهرية، وحكي عن ابن عباس رضي الله عنهما.

انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (15/ 319)، و"المجموع في شرح المهذب" للنووي (3/ 196).

(4)

تقدم تخريجه.

(5)

أي: سواء كانت فرضًا أو نفلًا، وهو قول الحنفية والشافعية. =

ص: 178

عنهما-: أَنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دخَلَ الكعبةَ، فأقبلَ والنبيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ خرجَ، قالَ: فسألتُ بِلالًا، قلتُ: أصلَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم في الكعبةِ؟ قالَ: نعم، رَكْعتينِ بين الساريتينِ اللتينِ على يساركَ إذا دخلْتَ، ثم خرجَ فصلَّى في وجهِ الكعبةِ ركعتينِ (1).

وحملَ هؤلاءِ الاستقبالَ على غيرِ الأَظْهَرِ منَ المعنيين (2)؛ لبيانِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقدَّموه على حديثِ ابنِ عباس؛ لكونه مُثْبِتًا، والمُثْبِتُ أولى من النَّافي.

ومنهم منْ فَرَّقَ، فجوَّزَ النفلَ، ومنعَ الفَرْضَ (3)، فحملَ حديثَ ابنِ عَبّاسٍ على الفرضِ، وحديثَ ابنِ عُمَرَ على النَّفْل.

وفي هذا المذهبِ ضَعْفٌ؛ فإنَّ الصلاةَ التي رواها ابنُ عَبّاسٍ نَفْلٌ أيضًا. وهو وإنْ (4) كانَ الجمعُ بينهما يمكنُ بهذهِ الطريقِ؛ فإنه إذا جازَ النفلُ

= انظر: "رد المحتار" لابن عابدين (3/ 156)، و"مغني المحتاج" للشربيني (1/ 335).

(1)

رواه البخاري (388)، كتاب: القبلة، باب: قول الله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} .

(2)

قلت: لأن الأظهر في معنى الاستقبال: أن يستقبل عين الكعبة، ويجعلها قبالة وجهه، أما في حالة الصلاة في جوف الكعبة: فإنه لم يجعلها قِبلَ وجهه، وإنما هو في جوفها، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن معنى الاستقبال، فصلى خارجها وفي جوفها؛ ليبين أن استقبال جزء منها ولو في داخلها كافٍ، والله أعلم.

(3)

وهو مذهب المالكية والحنابلة؛ انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (15/ 318)، و"الذخيرة" للقرافي (2/ 114)، و "الروض المربع شرح زاد المستقنع" للبهوتي (ص: 63).

(4)

في "أ ": "وإذا".

ص: 179

خارجَ (1) البيتِ (2)، جاز الفرض أيضًا بالإجماع، وأما داخل البيت، فلم يصلِّ فيه النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلا النَّفْلَ. لكنْ يُضَعِّفُه (3) شهادةُ الأصولِ بالتسويةِ بينَ الفرضِ والنَّفْلِ في جميعِ الشرائِطِ والأَحْكام؛ من الطهارةِ والسِّتارةِ والاستقبالِ، وإيجابِ الفرضِ من القراءةِ والركوعِ والسجودِ، إلا ما أخرجَهُ الشارعُ صلى الله عليه وسلم المشقة، كتركِ الاستقبالِ في حالةِ السفرِ خاصَّةً، وتركِ القيامِ في صلاتها.

والذي أراه أنهُ لا تعارُضَ؛ لاحتمالِ كونِ ذلك منه صلى الله عليه وسلم في وقتينِ (4)، وإن ثبتَ أنَّ مَحَلَّ الروايتينِ في وقتٍ واحدٍ، فليس في حديثِ ابنِ عباس أكثرُ من نفي الصلاة في البيتِ، ونفيُ الصلاةِ لا يمنعُ جوازَها. وقوله صلى الله عليه وسلم:"هذه القبلة" بيان للقبلةِ لجملتها، لا لصفةِ استقبالِها.

وأما الصورةُ الثالثةُ، فهي فرع للصورةِ الثانية، فمن منعَ الصلاةَ داخلَ البيت، منعَ هذه الصورة، ومن أجازَ تلكَ، أجازَ هذه. وربَّما خالفَ بعضُهم في جوازِ هذهِ الصورةِ مع إجازتِه لتلكَ (5).

إذا تمَّ هذا، فقد فرضَ اللهُ سبحانَه على نبيِّه صلى الله عليه وسلم وعلى أُمَّتِه التوجُّهَ إلى

(1)"خارج" ليس في "ب".

(2)

قلت: هذا استدلال لهم على ما ذهبوا إليه من التفرقة بين الفرض والنفل، والله أعلم.

(3)

أي: القول بالتفرقة بين الفرض والنفل.

(4)

قلت: إلا أنه يرِد عليه معرفة السابق واللاحق منهما.

(5)

هذه الصورة هي أن يستقبل المصلي ببعض بدنه الكعبة، وقد اختلفوا فيها:

فذهب الحنفية إلى أن ذلك جائز، وأن الصلاة صحيحة، ومنع ذلك المالكية والشافعية والحنابلة، وقالوا بأن الصلاة غير صحيحة.

انظر: "رد المحتار" لابن عابدين (2/ 98)، و"المغني" لابن قدامة (2/ 100)، و"مواهب الجليل" للحطاب (2/ 195)، و"مغني المحتاج" للشربيني (1/ 335).

ص: 180

البيت حيثما كانوا، فَرْضًا عامًّا مؤكَّدًا، وكَرَّرَهُ مِرارًا، وذلك تعظيمٌ لشأنِه، وتأكيدٌ لنسخ القبلةِ التي كانوا عليها؛ إكرامًا له صلى الله عليه وسلم حينَ رأى تقلُّبَ وجههِ في السّماءِ، وحكمةٌ منه جل جلاله، لا معقِّبَ لحُكْمِهِ.

* وفي هذا التعميمِ والتأكيدِ دليل على أن المصليَ لا بُدَّ أن يستقبلَ المسجدَ الحرام على أيِّ حالٍ كانَ منْ خوفٍ أو سَفَرٍ أو مَرضٍ.

وقد أجمعَ على هذا المسلمون، إلا في حالين:

- صلاةِ شدةِ الخوفِ، وسيأتي بيانُها -إنْ شاءَ الله تعالى- عندَ قولهِ تعالى:{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239].

- وصلاةِ النافلةِ في السفر؛ لقولِ ابنِ عمرَ رضي الله عنه: كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يصلِّي، وهو مقبل من مَكَّةَ إلى المدينةِ على راحلتهِ (1).

وعلى هذا أجمعَ أهلُ العلمِ، لكنهمُ اختلفوا في تقييدِ حديثِ ابنِ عمرَ رضيَ اللهُ تَعالى عنهما:

فذهبَ مالكٌ إلى العَمَلِ بإطلاقه (2).

وذهب الشافعيُّ (3)، وأحمدُ (4)، وأبو ثورٍ إلى تقييدِه بما رواهُ أنسُ بنُ

(1) رواه مسلم (700)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: جواز صلاة النافلة على الدابة في السفر حيث توجهت. وتمامه: "

حيث كان وجهه" قال: وفيه نزلت: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} .

(2)

انظر: "الذخيرة" للقرافي (2/ 122)، و" مواهب الجليل" للحطاب (2/ 196).

(3)

إلا أنه عند الشافعي مقيد بسهولة الاستقبال، فإن عسر ذلك، فلا يجب.

انظر: "الأم" للإمام الشافعي (1/ 197)، و"المجموع" للنووي (3/ 215)، و"نهاية المحتاج" للرملي (1/ 332).

(4)

وهو مقيد -أيضًا- بإمكان افتتاحها متوجهًا إلى القبلة، ومع ذلك، فهناك =

ص: 181

مالك -رضيَ الله تَعالى عنهُ- قال: كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا كانَ في سَفَرٍ، فأراد أن يصلِّيَ على راحلتِه، استقبلَ القِبْلَةَ، وكَبَّرَ، ثمَّ صلَّى حيث تَوَجَّهَتْ به (1).

* واختلفَ أهلُ العلمِ في القبلةِ التي كانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يصلي إليها، وهي بيتُ المَقْدِسِ، هل كانَ تَوَجُّهُهُ إليها بقرآنٍ؟ أو بغيرِ قرآن؟ وبعضُ المصنفين يقولُ: بوحيٍ من الله، أو باجتهادٍ منه؟

فقال قوم (2): كان ذلكَ بقرآنٍ، ولهم من الأدلَّةِ قولُ الله عز وجل:{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] قيل: نزلت لما هاجر النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وقال:"لا ندري أينَ نتوجَّهُ"، فأنزل الله تعالى:{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (3)[البقرة: 115].

قال عطاءٌ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أولُ ما نُسِخَ منَ القُرآنِ فيما ذكروا- واللهُ أعلمُ- شأنُ القِبْلَةِ، قالَ اللهُ عز وجل: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ

= روايتان عنه:

الأولى: يلز مه؛ للحديث المذكور.

والثانية: لا يلزمه؛ لأنه جزء من أجزاء الصلاة، فأشبه سائر أجزائها.

انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 93 - 95).

(1)

رواه الدارقطني في "سننه"(1/ 396) بهذا اللفظ.

وقد رواه مسلم أيضًا (702)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: جواز صلاة النافلة على الدابة في السفر حيث توجهت.

(2)

هو قول ابن عباس، وابن جريج، وعليه الجمهور. انظر:"زاد المسير" لابن الجوزي (1/ 137)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (1/ 2/ 140).

(3)

لم أجده هكذا، وقد روى ابن جرير الطبري في "تفسيره"(1/ 505)، وابن المنذر في "تفسيره" (1/ 267 - الدر المنثور) عن مجاهد قال: لما نزلت {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} قالوا: إلى أين؟ فأنزلت {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} .

ص: 182

فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (1)[البقرة: 115]، استقبلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فصلى نحوَ بيت المَقْدِسِ (2)، وتركَ البيتَ العتيقَ، فقال:{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة: 142] يعنون (3): بيتَ المَقْدِسِ، فنسخَها، وصرفَهُ إلى البيتِ العتيق، فقال:{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} (4)[البقرة: 150].

ولهمْ (5): قولُه تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، وكان ذلك قِبلةَ الأنبياءِ- صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليهم-.

ولهم: (6) قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة: 143].

وقالَ قومٌ (7): صَلَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدسِ؛ ليتأَلَّفَ بذلك اليهودَ،

(1) من قوله: "عطاء، عن ابن عباس

" إلى هنا سقط من "ب".

(2)

في "ب": "فاستقبل بيت المقدس فصلى نحوه".

(3)

في "ب": "يعني".

(4)

رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره"(1/ 212)، والطبراني في "مسند الشاميين"(2412)، والحاكم في "المستدرك"(3060)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(2/ 12).

وانظر: "الناسخ والمنسوخ"(ص: 32)، و"المصفى بأكف أهل الرسوخ" (ص: 16)، و"قلائد المرجان" (ص: 71).

(5)

أي: من احتج بذلك.

(6)

"ولهم" ليست في "ب".

(7)

هو قول الحسن البصري، وعكرمة، وأبي العالية، وبه قال ابن جرير الطبري.

وهذا الكلام مبني على قول هؤلاء: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان مخيرًا. ثم لماذا اختار بيت المقدس؟ قالوا: ليتألف اليهود.

انظر: "تفسير الطبري"(2/ 4)، و"زاد المسير" لابن الجوزي (1/ 137)،=

ص: 183

وذلك أنهُ (1) هاجرَ إلى المدينةِ، فكانَ أَكْثَرُ أهلِها ومَنْ حَوْلَها اليهودَ، فَطَعنوا في ذلكَ، وتكلموا فيه بما يَشُقُّ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابهِ، فأمرهُ اللهُ تَعالى بالصلاةِ نحوَ الكَعْبَةِ (2).

والحَق -إن شاءَ الله تعالى- أن استقبالَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بيتَ المقدسِ ليسَ باجتهادٍ منهُ، بلْ بوحي من اللهِ سُبْحانه، ولو قلنا بالمذهبِ الصَّحيحِ أَنَّهُ يجوزُ لهُ الاجتهادُ؛ لقولِ اللهِ عز وجل:{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة: 144]، فلو كان توجُّهُهُ إليها باجتهادِه، لتحوَّلَ عنها باجتهاده، كما استقبلَ باجتهِاده (3)، فلمّا سألَ ربَّهُ التحويلَ إلى قبلةِ أبيهِ إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام وانتظر إذْنَ ربِّهِ سبحانَه، علمْنا أنه لم يتوجَّهْ إلى بيتِ المقدسِ إلَّا بأمرِ اللهِ سبحانَهُ. وأما كونُ ذلكَ الأمرِ قرآنًا، فليسَ عليه دليلٌ.

أما قولهُ تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]، فإنها نزلتْ في قومٍ مخصوصين كما سبقَ بيانُه (4).

وأما قوله تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، فالظاهر أن المراد به التوحيد والإيمان.

وأما قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} [البقرة: 143]، فليس

= و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (1/ 2/ 140).

(1)

في "ب": "وقد كان".

(2)

رواه البخاري (390)، كتاب: القبلة، باب: التوجه نحو القبلة حيث كان، ومسلم (525)، كتاب: الصلاة، باب: تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة، عن البراء بن عازب رضي الله عنهما.

(3)

أي: بعد أن خُيِّر فاختار، وكان ذلك الاختيار باجتهادٍ منه صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.

(4)

انظر -ما تقدم-: (ص: 181).

ص: 184

فيهِ دَلالةٌ على أنه سبحانه حمله عليها (1) بقرآنٍ، بل الظَّنُّ أنه (2) بوحيٍ من اللهِ سبحانَهُ، فإنه إذا أوحى إليه بها، فقد جعله عليها.

وهذا الجواب أحسنُ من جوابِ من أجابَ: بأنَّ (كان) زائدة، وجعلَ القبلةَ هي الكعبةَ، والتقديرُ عنده: وما جعلنا القبلةَ التي أنتَ عليها (3)، فاحتاجَ إلى القولِ بالمجاز، وتقديرِ الزيادة، ومخالفةِ الظاهرِ، وغيرُه خيرٌ منه.

وعلى هذا يكون هذا من نسخ السنّةِ بالقرآن (4)، قالَ أهلُ العلمِ بالقرآن: وهذا أولُ ناسخٍ ومنسوخٍ بعدَ نسخِ الصلاةِ (5).

(1) في "ب": "جعله عليه".

(2)

"أنه "ليست في "أ".

(3)

نسب هذا القول إلى ابن عباس: أبو حيان في "البحر المحيط"(2/ 15).

وانظر: "معالم التنزيل" للبغوي (1/ 176)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (1/ 2/ 146)، و"الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه" لمكي بن أبي طالب (ص: 127).

(4)

قال القرطبي: دلت الآية على جواز نسخ السنة بالقرآن، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم صلَّى نحو بيت المقدس، وليس في ذلك قرآن، فلم يكن الحكم إلا من جهة السنة، ثم نسخ ذلك بالقرآن. انظر:"الجامع لأحكام القرآن"(1/ 2/ 141).

(5)

قال القرطبي: أجمع العلماء على أن القبلة أول ما نسخ من القرآن.

انظر: "الجامع لأحكام القرآن"(1/ 2/ 141)، وانظر:"نواسخ القرآن" لابن الجوزي (ص: 143) و"الناسخ والمنسوخ" لابن العربي (2/ 49).

ص: 185