الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(من أحكام النكاح)
31 -
(31) قوله جل جلاله: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 223].
* هذه الآية رَدٌّ على اليهودِ، وكانت تقول: إذا أتى الرجلُ امرأته مِنْ دُبُرِها في قُبُلِها، كانَ الولدُ أحولَ، فنزلت:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} (1)[البقرة: 223].
والحَرْثُ من المرأةِ: الموضِعُ الذي يوضع (2) فيه المَنِيُّ لابتغاء الولد.
و (أنّى) كلمةٌ لها معنيان:
- تكون بمعنى (كيف)، وبهذا أخذ أهل العلم (3)؛ لما دلَّ عليه سببُ الآية من عيب اليهود على المسلمين، فردَّ اللهُ سبحانه عليهم.
قال جابر -رضيَ الله تعالى عنه-: أنزل اللهُ سبحانه وتعالى: {نِسَاؤُكُمْ
(1) رواه أبو داود (2162)، كتاب: النكاح، باب: في جامع النكاح، وابن جرير الطبري في "تفسيره"(2/ 396)، والطبراني في "المعجم الأوسط"(571)، وأبو عوانة في "مسنده"(4290)، عن جابر بن عبد الله.
(2)
في "ب": "يزرع".
(3)
انظر: "تفسير الطبري"(2/ 392)، و"تفسير الرازي"(3/ 2/ 77)، و"زاد المسير" لابن الجوزي (1/ 226)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (2/ 1/ 88)، و"المغني" لابن قدامة (10/ 226)، و"شرح مسلم" للنووي (10/ 6).
حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223]، من بَيْنِ يَدَيْها، ومِنْ خَلفِها، ولا يأتيها إلاّ في المَأْتَى (1).
- وتكون في اللسانِ بمعنى (حيث)، ويُروى القولُ بهذا عن بعض علماء المدينةِ، وأنه ذهبَ إلى إباحةِ وَطْءِ المرأةِ في دُبُرها، حتى نسب ذلك إلى ابنِ عمرَ، ونافعٍ (2)، وابن المسيّبِ (3)، ومالكٍ (4)، ومعاذَ اللهِ سبحانه أن يصحَّ هذا عنهم.
ويدلّ عليه ما رواه النَّسائي عن أبي النضر أنه قال لنافعٍ مولى ابنِ عمرَ: قد أُكْثِرَ عليك القولُ أنك تقول عن ابن عمر: إنه أفتى أن تُؤْتى النساءُ في أدبارهن، قال نافعٌ: لقد كذبوا عليَّ، سأخبركَ كيفَ كانَ الأمر: إن ابنَ عمرَ
(1) رواه ابن حبان في "صحيحه"(4197)، والنسائي في "السنن الكبرى"(11039)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 195)، وهذا لفظ البيهقي.
(2)
قلت: ولم يثبت ذلك عنهما، فقد قال ابن كثير في "تفسيره"(1/ 464) وما بعدها، وبعد أن صحح إسناد حديث النسائي الذي سيذكره المؤلف، قال: وقد روينا عن ابن عمر خلاف ذلك صريحاً، وأنه لا يباح ولا يحل.
وانظر: "معالم التنزيل" للبغوي (1/ 291)، و"أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 238)، و"زاد المسير" لابن الجوزي (1/ 226)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (2/ 1/ 90).
(3)
وقد نسب ابن كثير في "تفسيره"(1/ 470) إلى ابن المسيب: أنه يقول بحرمة ذلك.
(4)
قال القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن"(2/ 1/ 88): وحكي ذلك عن مالك في كتاب له يسمى "كتاب السر"، وحذاق أصحاب مالك ومشايخهم ينكرون ذلك الكتاب، ومالك أجل من أن يكون له كتاب سِرّ، ووقع هذا القول في "العتبية" وقال فيه: وما نسب إلى مالك وأصحابه من هذا باطل، وهم مبرؤون من ذلك، انتهى.
وقال القرافي في "الذخيرة"(4/ 416): ونسبته إلى مالك كذب.
عرض عليَّ المصحفَ يوماً، وأنا عنده، حتى بلغ:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} قال: يا نافع! هل تدري ما أمرُ هذه الآية؟ إنّا كُنَّا -معشرَ قريشٍ- نَجيءُ النساءَ منْ قِبَل أدبارهنّ، فلما دخلنا المدينةَ، ونكحنا نساءَ الأنصارِ، أردنا منهنَّ ما كنا نريدُ من نسائِنا، فإذا هُنَّ قَدْ كَرِهْنَ ذلك، وأَعْظَمْنَهُ، وكان نساءُ الأنصارُ يُؤْتينَ على جُنوبِهِنَّ، فأنزل اللهُ سبحانه:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ} الآية (1).
والقولُ بهذا أيضًا باطلٌ؛ لأنه قد دلَّ الدليل على حَمْل هذا اللفظِ على أحدِ مَعْنَييه، فلا يجوز العُدول عنه (2).
فإن قلتم: فقد ذهبَ الشافعي، والمالكيَّةُ، وجماعةٌ من الأصوليين إلى حمل المشترك على معانيه (3)، بل قال الشافعيُّ: يجب حملُه كالعموم، والعبرةُ بعمومِ اللفظ لا بخصوصِ السببِ.
قلنا: إنما يحمل على معانيه حيث لا قرينةَ تدلُّ على أن المرادَ أحدُهما، والقرينةُ دالةٌ عليه من وجوه:
أحدها: السببُ الذي ذكرناه قرينةً في إرادةِ أحدِ المعنيين وصرفِه عن المعنى الآخر.
(1) رواه النسائي في "السنن الكبرى"(8978)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار"(3/ 42)، وابن حزم في "المحلى"(10/ 69).
(2)
انظر الأدلة التي استدل بها العلماء على منع إتيان النساء في الأدبار في: "معالم التنزيل" للبغوي (1/ 292)، و"تفسير الرازي"(3/ 2/ 77)، و"زاد المسير" لابن الجوزي (1/ 226)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (2/ 1/ 90). وانظر:"المغني" لابن قدامة (10/ 227)، و"مجموع الفتاوى" لابن تيمية (32/ 265)، و"زاد المعاد" لابن القيم (4/ 256)، و"تفسير ابن كثير"(1/ 465)، و"فتح الباري" لابن حجر (8/ 242).
(3)
تقدم ذكر مسألة حمل المشترك على معانيه في مقدمة الكتاب.
وثانيها: نهى (1) الله سبحانه عن قربان النساء في حال الحَيْض، وأمر (2) بإتيانهنَّ عند الطُّهْر (3)، ولو كان وَطْؤُهُنَّ في الدُّبُرِ حَلالاً، لما كانَ لنهيِهِ عن قربانهن معنًى.
وثالثها: التشبيه بالحَرْث قرينةٌ دالة على أحد المَعْنيين؛ بدليل أن الحَرْثَ لا يكونُ إلا في موضعِ الزرعِ، قال الشاعر:[من مجزوء الرمل]
إنَّما الأَرْحامُ أَرَضُو
…
نَ لنا محترثات
فَعَلَينا الزَّرْعُ فيها
…
وعلى اللهِ النَّباتُ (4)
وهذا تأويلُ الإمامِ مالك رضيَ الله تعالى عنه.
روى يونسُ بنُ عبدِ الأَعْلى، عن ابنِ وهبٍ: أنه قال: سألتُ مالكَ بنَ أنس، فقلت: إنهم حَكَوْا عنكَ أنك تَرى إتيانَ النساءِ في أدبارهن، فقال: معاذَ اللهِ! أليسَ أنتم قوماً عرَباً؟ فقلت: بلى، فقال: قال اللهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223]، وهل يكونُ الحرثُ إلا في مَوْضِعِ الزرعِ أو موضع المنبت؟
وروى الدارَقُطْنِيُّ عن رجاله، عن إسرائيلَ بنِ رَوْح: أنه قال: سألتُ مالِكاً فقلت: يا أبا عبد الله! ما تقول في إتيان النساء في أدبارهن؟ فقال: ما أنتم عرب؟ هل يكونُ الحرثُ إلا في موضعِ الزرع، ألا تسمعونَ اللهَ تعالى يقول:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223]، قائمة
(1) في "ب": "نهي".
(2)
في "ب":"وأمره".
(3)
في "ب": "التطهر".
(4)
أنشده ثعلب؛ كما ذكر أبو حيان في "البحر المحيط"(2/ 180)، والقرطبي في "الجامع لأحكام القرآن"(2/ 1/ 88)، والثعلبي في "تفسيره"(2/ 162).
وقاعدةً، وعلى جَنْبِها، ما (1) لا يتعدَّى الفَرْجَ. قلت: يا أبا عبد الله! إنهم يقولون: إنك تقول بذلك، فقال: يكذبون علي، يكذبون عليّ، يكذبون عليّ (2).
فإن قيل: فقد قالَ محمدُ بن عبد اللهِ بنِ عبد الحَكَم: سمعتُ الشافعيَّ يقول: ليس فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في التحريم والتحليل حديث ثابت، والقياسُ أنه حلالٌ (3)، وقد غلط سفيان في حديثِ ابنِ الهاد (4).
فالجوابُ: أن هذه الروايةَ مختصرةٌ من حكايةِ مناظرةٍ جرتْ بينَ الشافعيِّ ومحمدِ بنِ الحسنِ، وفي سياقِها دلالة على أنه إنما قَصَدَ بما قالَ الذَّبَّ عن بعضِ أهلِ المدينةِ على طريقِ الجَدَلِ، وأما مذهبُه، فقدْ قال الربيعُ: كان الشافعيُّ يحرّمُ إِتيان النساءِ في (5) أدبارهن (6).
(1)"ما" ليست في "ب".
(2)
رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(8/ 324) من طريق الخطيب البغدادي، ورواه أيضاً (8/ 405) من طريق البيهقي به إلى إسرائيل بن روح. وقد رواه الخطيب في "رواه مالك" من طريق إسماعيل بن حصن، عن إسرائيل بن روح، به.
قال الحافظ في "التلخيص الحبير"(3/ 187): والعهدة في هذه الحكاية على إسماعيل، فإنه واهي الحديث.
(3)
رواه الإمام الذهبي في "ميزان الاعتدال"(6/ 219)، ونسبه ابن القيم في "حاشيته على سنن أبي داود"(6/ 143) للبيهقي. ثم أورد كلام البيهقي في هذا، وهو ما ذكره المصنف هنا من قوله: وقد غلط سفيان في حديث ابن الهاد
…
إلخ.
(4)
قال الحافظ في "التلخيص الحبير"(3/ 181): هذا سمعه -يعني: قول الشافعي- ابن أبي حاتم من محمد، وكذلك الطحاوي، وأخرجه عنه ابن أبي حاتم في "مناقب الشافعي" له، وأخرجه الحاكم في "مناقب الشافعي" عن الأصم، عنه، وأخرجه الخطيب عن أبي سعيد بن موسى، عن الأصم.
(5)
"في "ليست في "أ".
(6)
وقال الحاكم: لعلَّ الشافعي كان يقول بذلك في القديم، فأما في الجديد:=
وقال: قال الشافعيُّ: قال الله عز وجل: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223]، وبين أن موضعَ الحرثِ موضعُ الولد؛ فإن الله تعالى أباح الإتيان فيه إلاّ في وقت الحيض (1)، وَ {أنَّى شِئْتُمْ}: من أين شئتم. قال: وإباحةُ الإتيان في موضعِ الحرث يشبهُ أن يكون تحريمَ إتيانِ غيره، فالإتيانُ في الدُّبُرِ حتى يبلغَ مبلغَ الإتيان في القُبُلِ مُحَرَّم بدلالةِ الكتابِ، ثم السنَّة.
ثم قال: أخبرني عَمِّي محمدُ بنُ عليِّ بنِ شافعٍ، قال: أخبرني عبدُ الله ابن علي بن السائب، عن عمروِ بنِ أجحد بن الجلاح، أو عن عمرو بن فلان بن أجحد -أنا شككت- عن خُزَيمةَ بنِ ثابتٍ: أنَّ رجلاً سألَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن إتيان النساء في أدبارهن، أو إتيان الرجلِ امرأته في دبرها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"حلال"، فلما ولّى الرجلُ دَعاه، أو أمرَ بهِ فدُعي، فقال:"كيف قلتَ؟ في أي الحرثين أو في أي الخرزتين، أو في أي الخصعتين، أَمِن دُبرها في قُبلها، فنعم، أمن دُبُرِها في دُبرها، فلا، إن الله لا يستحيي من الحق، لا تَأتوا النساءَ في أَدْبارهنّ"(2).
عمي ثقةٌ، وعبدُ الله بنُ عليّ ثقةٌ، وخُزيمة مِمَّنْ لا يَشُك عالِمٌ في ثقتِهِ،
= فالمشهور أنه حرمه.
وذكر الربيع: أن الشافعي قد نص على تحريمه في ستة كتب. وانظر: "التلخيص الحبير" لابن حجر (3/ 182).
(1)
في "ب": "المحيض".
(2)
رواه الإمام الشافعي في "مسنده"(1/ 275)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار"(3/ 43)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 196)، والخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد"(3/ 197)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(5/ 131).
فلستُ أُرَخِّصُ فيه بدليل (1)، بل أنهى عنه (2).
* * *
(1)"بدليل" ليس في "ب".
(2)
انظر: "الأم" للإمام الشافعي (5/ 173 - 174).
قال ابن القيم في "زاد المعاد"(4/ 261): قلت: ومن هاهنا نشأ الغلط على من نقل عنه الإباحة من السلف والأئمة، فإنهم أباحوا أن يكون الدبر طريقاً إلى الوطء في الفرج، فيطأ من الدبر لا في الدبر، فاشتبه على السامع "من" بـ "في "، ولم يظن بينهما فرقاً، فهذا الذي أباحه السلف والأئمة، فغَلِطَ عليهم الغالطُ أقبح الغلط وأفحشه.