الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(من أحكام القصاص)
6 -
أقولُ: أنزل الله -سبحانَه- في القصاص آيتينِ: هذهِ الآيةَ، وآيةَ المائدةِ (1)، وإحداهما أخصُّ من الأخرى، وقد اختلفَ أهلُ العلمِ في العمل بهما.
فالشافعيُّ ومالكٌ وعمرُ بنُ عبدِ العزيزِ والحسنُ وعطاءٌ وعكرمةُ والليثُ بنُ سعدٍ وأبو ثَوْرٍ عملوا بخصوصِ آيةِ البقرةِ، فَخَصُّوا بمفهومِها عُمومَ آيةِ المائدةِ، فلم يقتُلوا الحرَّ بالعبدِ، واستدلوا بما يأتي ذكرهُ إن شاء الله تعالى.
= (23/ 749)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(5/ 10) عن أم سلمة، بلفظ:"إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم".
(1)
وعَمِلَ بآيةِ المائدةِ سعيدُ بنُ المسيِّبِ والشعبيُّ والنَّخَعِيُّ وقَتادةُ والثَّوْريُّ وأبو حنيفةَ وأصحابُه، فأوجبوا قتلَ الحُرِّ بالعبدِ (1)، واستدلوا أيضًا بقوله صلى الله عليه وسلم:"المسلمونَ تَتكافَأُ دِماؤُهُمْ"(2).
وقد اختلفوا في هذه الآية: هل هي محكمةٌ أو منسوخةٌ أو مَخْصوصة ببعض الأحوالِ، على خمسةِ أقوالٍ:
الأول: قالهُ الشعبيُّ والكلبيُّ وقَتادةُ،
فقالوا (3): أنزلتْ في قومٍ تقاتلوا، فَقُتِلَ منهم خلقٌ كثيرٌ، وذلك قبيل الإسلام (4).
وقال مقاتلُ بن حيان: كان بين قريظة والنضير.
وقال سعيدُ بن جُبير: كان بينَ الأوسِ والخزرج، وكانت إحدى الطائفتين أعزَّ من الأخرى، فقالتِ العزيزة: لا نقتلُ بالعبدِ مِنَّا إلا الحُرَّ
(1) انظر طرفًا من الكلام عن تطبيق خصوص آية البقرة وعموم آية المائدة في:
"أحكام القرآن" للجصاص (1/ 164)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (1/ 2/ 231)، و"رد المحتار" لابن عابدين (10/ 131)، و"فتح الباري" لابن حجر (12/ 244)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 477)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (4/ 524).
وستأتي مسألة الخلاف في القصاص بين الحر والعبد قريبًا.
(2)
رواه أبو داود (2751)، كتاب: الجهاد، باب: في السرية ترد على أهل العسكر، وابن ماجه (2685)، كتاب: الديات، باب: المسلمون تتكافأ دماؤهم، والإمام أحمد في "المسند"(2/ 215)، وابن الجارود في "المنتقى"(771)، عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
(3)
في "ب": "قالوا".
(4)
انظر: "تفسير الطبري"(2/ 103).
منكم، ولا بالأنثى منّا إلا الذَّكَرَ منكم، فنزلتْ هذه الآيةُ، فهي محكمةٌ لمن أراد أن يفعل مثلهم (1).
والثاني: قالهُ السُّدِّيُّ، قال: هي مخصوصةٌ في فرقتينِ تَقاتَلتَا على (2) عهدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقعَ بينهما قتلى، وأمر (3) النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يُفادى (4) بينهم دياتُ النِّساءِ بدِياتِ النِّساء، ودياتُ الرجالِ بدياتِ الرجالِ، فهي في شيءٍ بعيِنهِ (5).
الثالث: قاله الحسنُ البَصْرِيُّ، قال: نزلت في نَسْخِ التراجُعِ الذي كانوا يفعلونه، وذلك أنهم كان يَحْكُمون فيما بينهم أنَّ الرجلَ إذا قتلَ امرأةً، كان أولياءُ المرأة بالخِيار، إن شاؤوا قتلوا الرجلَ، وأَدَّوا نصفَ الدِّيةِ، وإن شاؤوا أخذوا نصفَ ديةِ رجلٍ. وإذا قتلت المرأةُ رجلًا، كان أولياءُ الرجل مخيَّرين، إن شاؤوا قتلوا المرأة، وأخذوا نصفَ دية رجلٍ، وإن شاؤوا أخذوا الدية الكاملة، ولم تقتل المرأة، فنُسخ ذلك من فعلهم.
وقد روي هذا القولُ عن عليٍّ -رضي الله تعالى عنه (6).
(1) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره"(1/ 293).
وانظر هذا القول في: "تفسير الطبري"(2/ 102)، و"أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 89)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (1/ 2/ 238)، و"تفسير ابن كثير"(1/ 368).
(2)
في "ب": "في".
(3)
في "ب": "فأمر".
(4)
في "ب": "يقاد".
(5)
رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره"(2/ 104). وقال بذلك الشعبي أيضًا؛ انظر: "تفسير الطبري"(2/ 104).
(6)
انظر: "تفسير الطبري"(2/ 105)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (1/ 232).
الرابع: ورُويَ (1) عن ابنِ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما-: أن آية البقرة منسوخة بآية المائدة (2)، فيجب قتلُ الرجلِ بالمرأةِ، والمرأةِ بالرجل، والحرِّ بالعبدِ، والعبدِ بالحرِّ (3). وفي هذا نظر؛ فإنه لا شَكَّ في أن نطق الآية غير منسوخ، وإنما الذي ادُّعي نسخه هو المفهومُ (4)، وفي نسخ المفهومِ خلافٌ بينَ أهلِ العلم بالنظر. فإذا قلنا: يصح، استقامَ القولُ بنسخه إذا قلنا: إن المفهومَ لا يَخُصُّ العُمومَ. والصحيحُ عندَ أهلِ العلم بالنظر والاستدلال أنَّهُ يخص العموم -أيضًا-.
ثم اعترضَ على هذا القولِ بعضُ العلماء، وقال: هذا لا يجوز عند جماعة من العلماء؛ لأن ما فرض الله -تعالى- لنا لا ينسخُه ما حكى الله تعالى لنا من شريعةِ غيرنا، واللهُ -سبحانه- أخبرَنا بما في سورةِ المائدةِ، أنها شرعةٌ لغيرِنا، ولم يفرضْها علينا (5).
وهذا الاعتراضُ غير مستقيمٍ؛ لأن الله تعالى قدْ بيَّنَ أَنَّ ذلك شُرِعُ لنا
(1) في "ب": "ويروى".
(2)
رواه النحاس في "الناسخ والمنسوخ"(1/ 419 - الدر المنثور) عن ابن عباس قال: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} قال: نسخته: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} .
وانظر: "المصفى بأكف أهل الرسوخ"(ص: 17)، و"ناسخ القرآن العزيز ومنسوخه" (ص: 25)، و"قلائد المرجان" (ص: 74 - 75).
(3)
انظر: "تفسير الطبري"(2/ 105)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (1/ 2/ 230)، و"تفسير ابن كثير"(1/ 369).
(4)
ادَّعى النسخ جماعة من المفسرين؛ انظر: "زاد المسير" لابن الجوزي (1/ 164) و"الدر المنثور" للسيوطى (1/ 419).
(5)
انظر: "سبل السلام" للصنعاني (3/ 477)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (4/ 525).
-أيضًا- بطريق الإشارةِ، فقالَ في آخرِ الآية:{فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: 45] يعني: القصاصَ، وشريعةُ بني إسرائيل لا تصدُّقَ فيها بالدم، ولا عفوَ، بل القصاصُ عليهم متحتِّمٌ (1)، ثبت ذلكَ في "الصحيحِ" عن ابنِ عباس -رضي اللهُ تعَالى عنهما- في تفسيرِ قوله تعالى:{ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} (2)[البقرة: 178]، وعلى الجملةِ، فبعيدٌ أن يصحَّ القولُ بالنسخِ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
الخامس: قالهُ أبو عُبَيْدٍ، قال: آية المائدة مُفَسِّرة لآية البقرة؛ لأن أَنْفُسَ الأحرار متساويةٌ فيما بينهم، يُقْتَلُ الحُرُّ بالحُرِّ والأنثى بالأنثى بآيةِ البقرةِ وآيةِ المائدةِ، ويقتلُ الرجلُ بالمرأةِ والمرأةُ بالرَّجلِ بآيةِ (3) المائدة (4).
وفي هذا نَقْضٌ -أيضًا-؛ فإنَّ قتل المرأة بالرجل ثابتٌ بآية البقرة -أيضًا- بطريق الفحوى (5).
وهذا القولُ لا يستقيم، إلَّا عندَ مَنْ لا يرى مفهومَ الخطابِ حُجَّةً، وأما من يراهُ حُجَّةً كالشافعيِّ -رضيَ اللهُ تعالى عنه- فإنه يجعلُ آية البقرة مفسِّرةً ومبيِّنةً لآيةِ المائدة؛ لعموم آية المائدة، وخصوصِ آية البقرة، ثم يخص آيةَ البقرةِ ويُبَيِّنُها بالسنَّةِ.
(1) انظر: "تفسير الطبري"(2/ 110)، و"معالم التنزيل" للبغوي (1/ 210)، و"تفسير ابن كثير"(1/ 370).
(2)
رواه البخاري (4228)، كتاب: التفسير، باب: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ
…
}.
(3)
"آية" ليست في "ب".
(4)
انظر: "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (1/ 2/ 230)، و"فتح الباري" لابن حجر (12/ 209).
(5)
يعني: مفهوم الموافقة.
* فإن قال قائل (1): فبيِّنْ لنا كيفَ نجمعُ بين هاتين الآيتين؟ وكيف نَجعلُ آيةَ البقرةِ مبيَّنَةً لآيةِ المائدة بهذه الصيغة العزيزة؟
قلت: قال اللهُ تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178]، فكتب الله تعالى القِصاصَ على المؤمنينَ في القتلى، ثم بيَّنَ ذلك القصاصَ والمساواةَ، فقال:{الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} [البقرة: 178]، فدلَّ الخِطاب بفحواه على أن العبدَ يُقْتَلُ بالحرِّ، و (2) أن الأنثى تُقتلُ بالذَّكَرِ؛ لأنه إذا قُتل الحرُّ بالحُرِّ، فأولى أن يقتل به العبدُ، وإذا قُتِلتِ الأنثى بالأنثى، فأولى أن تُقْتَل بالذَّكَرِ، و (3) لكن تخصيص هذه الأفرادَ الثلاثةَ، وهي الحر بالحر، والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى، يدلُّ بطريقِ المَفْهوم على أنَّ الحُرِّ لا يُقتلُ بالعبد، و (4) أن الذَّكَرَ لا يُقتل بالأنثى، ولكنَّ عمومَ آيَة المائدةِ تقتضي أن يقتلا بهما، فهل نَقْضي بالمَفْهومِ على العمومِ؟ أو نقضي بالعمومِ ويُتْرَكَ المفهومُ؟ هذا محلُّ نظرِ المجتهدِ، فحينئذ يَفْزَع المجتهدُ إلى دلائلِ السنَّةِ والقياسِ والأصولِ والتَّرْجيحاتِ عند التعارض.
فنقول:
أما الحرُّ فلا يُقتلُ بالعبد؛ لما رَوَى عمرُو بنُ شعيبٍ، عن أبيهِ، عن جدِّهِ: أن أبَا بَكْرٍ وعُمَرَ -رضي الله تعالى عنهما- كانا لا يقتلان الحرَّ بقتل العبد (5)،
(1) في "ب": "قيل".
(2)
في "ب" زيادة "على".
(3)
الواو ليست في "ب".
(4)
في "ب" زيادة "على".
(5)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(27515)، والدارقطني في "سننه"(3/ 134)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(8/ 34).
ولما رُوِيَ عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ رضي الله عنه: أنه قال: من السُّنَّةِ ألَاّ يُقْتَلَ حُرٌّ بعبدٍ (1).
وإلى هذا ذهبَ عَطاءٌ والحسنُ والزُّهْريُّ وعمرُ بنُ عبدِ العزيز، وبهِ قالَ الشافعيُّ وجمهورُ أهلِ العلم رضي الله تعالى عنهم (2).
وذهب أبو حَنيفةَ والثَّوْرِيُّ وابنُ أبي لَيْلَى وداودُ وسعيدُ بنُ المُسَيِّبِ وإبراهيمُ النَّخَعِيُّ إلى أنَّ الحرَّ يقتل به، وروي -أيضاً- عن عليٍّ وابنِ مسعودٍ رضي الله عنهم (3)، حتى ذهبَ قومٌ إلى أن الحرَّ يُقتلُ بعبدِه (4).
ولهم (5) من الدليلِ عمومُ آيةِ المائدة. وما خرَّجه أبو داودَ عن الحَسَنِ، عن سَمُرَة: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قتلَ عبدَه قتلناهُ، ومَنْ جَدَعَهُ
(1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(27477)، والدارقطني في "سننه"(3/ 133)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(8/ 34).
(2)
منهم المالكية والحنابلة؛ انظر: "الذخيرة" للقرافي (12/ 334)، و "المغني" لابن قدامة (11/ 473)، و"مغني المحتاج" للشربيني (5/ 241)، و"معالم التنزيل" للبغوي (1/ 207)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (1/ 2/ 231)، و"تفسير ابن كثير"(1/ 369)، و"فتح الباري" لابن حجر (12/ 244).
(3)
انظر: "معالم التنزيل" للبغوي (1/ 208)، و"أحكام القرآن" للجصاص (1/ 167)، و"أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 92)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (1/ 2/ 231)، و"تفسير ابن كثير"(1/ 369)، و"فتح الباري" لابن حجر (12/ 244)، و"رد المحتار" لابن عابدين (10/ 131).
(4)
ذهب إلى ذلك النخعي، والثوري في رواية عنه. وكذا البخاري، وعلي بن المديني.
انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 92)، و"أحكام القرآن" للجصاص (1/ 169)، و "المغني" لابن قدامة (11/ 474)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (1/ 2/ 233)، و"تفسير ابن كثير"(1/ 369).
(5)
أي: من قال بقتل السيد بعبده.
جَدَعْناهُ، ومن أَخْصاه أَخْصيناه" (1). وبه أخذ البخاريُّ، قال البخاريُّ عن عليِّ بنِ المدينيِّ: سماعُ الحَسَنِ (2) عن سَمُرَةَ صَحيحٌ (3).
وقيل: إنَّ الحَسَنَ لم يسمعْ من سَمُرَة إلَّا حديثَ العقيقَةِ (4).
واستدلَّ منْ قالَ بخلافِه بما رَوَى عمرُو بنُ شُعَيْبٍ، عن أبيهِ، عن جَدِّهِ: أَنَّ رجلاً قتلَ عبدَهُ متعمِّداً، فجلده النبيُّ صلى الله عليه وسلم، ونفاه سنةً، ومحا سهمَه من المسلمين، ولم يُقِدْهُ منه (5).
* وأما الذكر فُيقتل بالأنثى عندَ عامةِ أهلِ العلم؛ لعمومِ آيةِ المائدةِ،
(1) رواه أبو داود (4515)، كتاب: الديات، باب: من قتل عبده أو مثَّل به، أيقاد منه؟، والنسائي (4736)، كتاب: القسامة، باب: القود من السيد للمولى، والترمذي (1414)، كتاب: الديات، باب: الرجل يقتل عبده، وابن ماجه (2663)، كتاب: الديات، باب: هل يقتل الحر بالعبد؟ عن سمرة بن جندب، وعندهم "عبده" بدل "عبداً".
(2)
في "ب": "من".
(3)
ذكره الترمذي في "سننه"(1/ 342) عن البخاري، وقد ذكره البخاري في "التاريخ الأوسط"(1/ 247)، و "التاريخ الكبير"(2/ 289).
(4)
انظر: "شرح علل الترمذي"(2/ 847)، و "سنن النسائي الكبرى"(1684)، و "المجتبى"(1380)، و "السنن الكبرى" للبيهقي (5/ 288).
وانظر: "أحكام القرآن" للجصاص (1/ 171)، و "أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 92)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (1/ 2/ 232)، و "رد المحتار" لابن عابدين (10/ 133)، و"الذخيرة" للقرافي (12/ 336)، و"روضة الطالبين" للنووي (9/ 156)، و"المغني" لابن قدامة (11/ 500).
(5)
رواه ابن ماجه (2664)، كتاب: الديات، باب: هل يقتل الحر بالعبد؟، والطحاوي في "شرح معاني الآثار"(3/ 137)، والدارقطني في "سننه"(3/ 143)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(8/ 36)، وابن حزم في "المحلى"(10/ 462)، وابن عبد البر في "الاستذكار"(8/ 177).
ولما رَوى أبو بكرِ بن (1) محمدِ بنِ عَمْرِو بنِ حَزْمٍ، عن أبيهِ، عن جَدِّهِ: أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمنِ: "يُقْتَلُ الرجلُ بالمرأةِ"(2).
وروي أنَّ عمرَ قتلَ ثلاثةَ نفرٍ بامرأةٍ قادهم بها (3). ولأنهما شخصان يُحَدُّ كل واحد منهما بقذف الآخر، فجرى القصاص بينهما كالرجلينِ والمرأتين.
قال الشافعيُّ: ولستُ أعلمُ ممَّنْ لقيتُ من أهلِ العِلْمِ مُخالفاً في أن الدَّمَيْنِ متكافئان في الحرية والإسلام، فإذا قَتَلَ الرجلُ المرأةَ، قُتل بِها، وإذا قتلته، قُتلتْ به، ولم يؤخذ شيء (4).
وكذا ادَّعى ابنُ المنذرِ الإجماع على قتل الرجل بها، وأنه لا شيء لأولياء المقتول قصاصاً.
وحُكي عن الحسن أنه لا يُقتلُ الذكرُ بالأنثى (5)، وهو شاذ.
وأما ما يُروى عن عليٍّ والحَسَنِ -رضيَ اللهُ تَعالى عنهما- من أنه إذا قَتلتِ المرأةُ الرجلَ، كانَ على أوليِاء المرأةِ نصفُ الدِّيةِ (6)، فمنقطع، وقد رُوي عنهما خِلافُ ذلك.
(1) في "أ": "عن"، وهو خطأ.
(2)
رواه النسائي (4853)، كتاب: القسامة، باب: ذكر حديث عمرو بن حزم في العقول، واختلاف الناقلين له، والحاكم في "المستدرك"(1447)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(8/ 28)، والخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد"(8/ 228)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(22/ 305). عن عمرو بن حزم في حديثه الطويل.
(3)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(27479).
(4)
انظر: "الأم" للإمام الشافعي (6/ 21).
(5)
وحكي هذا القول عن عطاء أيضاً؛ انظر: "تفسير ابن كثير"(1/ 369).
(6)
انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (1/ 171)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 300)، و"الذخيرة" للقرافي (12/ 336)، و"المغني" لابن قدامة (11/ 500).
* ولما واجهَ اللهُ جل جلاله بالخطاب المؤمنين، وقالَ: يا أيهُّا الذين آمنوا! ولم يقلْ: يا أيها الناس! يا بني آدم! استدلَلْنا به على اخْتِصاصِ القِصاصِ بالمُؤْمنين، وأنه لا يُقْتَلُ مؤمنٌ بكافرٍ، وتأيد الاستدلالُ عندنا بقولِه تعالى:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178] ولا أُخُوَّةَ بينَ المؤمنينَ والكافرينَ. ثم وجدْنا النبيَّ صلى الله عليه وسلم بيَّن ذلكَ عن اللهِ سبحانه؛ كما أشار إليه.
روينا في "صحيح البخاري" عن أبي جُحَيْفَةَ -رضيَ اللهُ تَعالى عنه- قالَ: سألتُ علياً -رضي الله تعالى عنه-: هل عندَكُم من النبيِّ صلى الله عليه وسلم شيء سوى القرآن؟ قالَ: لا، والذي فلقَ الحَبَّةَ وبَرَأ النَّسَمَةَ إلَّا أَنْ يؤتيَ اللهُ عبداً فَهْماً في القرآن، وما في الصَّحيفةِ. فقلت: وما في الصحيفة؟، قالَ: العقلُ، وفِكاكُ الأسيرِ، ولا يقتلُ مؤمنٌ بكافر (1).
وذهبَ قومٌ من الكوفيين إلى أن المسلمَ يُقتل بالذِّمِّيِّ، واحتجوا بأحاديثَ ضعيفةٍ منقطعةٍ لا تثبتُ بمثلها حُجَّةٌ في سفكِ دم رجلٍ مؤمنٍ، ولولا طلبي للاختصار، لذكرتها وبينت عن الحفاظ ضَعْفَها (2).
* ثم بيَّنَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أن اللهَ -سبحانَهُ- أرادَ قتلَ الحُرِّ بالحُرِّ ما لم يكنِ القاتلُ والداً للمقتول، فثبت عن عمرَ بنِ الخطابِ -رضي الله تعالى عنه- أنهُ
(1) رواه البخاري (2882)، كتاب: الجهاد، باب: فكاك الأسير.
(2)
ذهب جماهير أهل العلم إلى أنه لا يقتل مسلم بكافر مطلقاً، وخالف في ذلك الشعبي والنخعي وأبو حنيفة وأصحابه.
انظر: "معالم التنزيل" للبغوي (1/ 207)، و "أحكام القرآن" للجصاص (1/ 173)، و"أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 90)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (1/ 2/ 231)، و "رد المحتار" لابن عابدين (10/ 132)، و "الذخيرة" للقرافي (12/ 332)، و"روضة الطالبين" للنووي (9/ 150)، و"المغني" لابن قدامة (11/ 465)، و "فتح الباري" لابن حجر (12/ 323).
قالَ: لولا أني سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنه قالَ: "لا يُقادُ الأَبُ مِنِ ابنِه"، لقتلتُه، هَلُمَّ ديتَةُ، فأتاه بها، فدفعها إلى ورثته، وترك أباه (1).
وروي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تقامُ الحدودُ في المساجدِ، ولا يقادُ بالولدِ الوالِدُ"(2). ولأنَّ الأبَ سببٌ لوجودِ الابنِ، فلا يكونُ الابنُ سبباً لعدمه.
وإلى هذا ذهب أبو حنيفةَ والشافعيُّ وأحمدُ وإسحاقُ (3)، وهو المختارُ عندي.
وذهب مالكٌ إلى أنَّ الأبَ يُقادُ بابنه إذا قتلَهُ متعمِّداً لا شُبْهَة له في دعوى الخطأ؛ كما إذا أضجعه وذبحه، وأما إذا رماه بالسلاح أدباً أو غيظاً، فماتَ، فلا يُقتل، ويكونُ شبهةً للأب (4)، بخلافِ الأجنبيِّ؛ فإنه يقتل بمثل
(1) رواه ابن الجارود في "المنتقى"(788)، والدارقطني في "سننه"(3/ 140)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(8/ 38).
(2)
رواه الترمذي (1401)، كتاب: الديات، باب: ما جاء في الرجل يقتل ابنه يقاد منه أم لا؟، وابن ماجه (2599)، كتاب: الحدود، باب: النهي عن إقامة الحدود في المساجد، والدارمي في "سننه"(2357)، والطبراني في "المعجم الكبير"(10846)، والدارقطني في "سننه"(3/ 141)، والحاكم في "المستدرك"(8104)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(8/ 39)، عن ابن عباس.
(3)
انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (1/ 178)، و"رد المحتار" لابن عابدين (10/ 133)، و"مغني المحتاج" للشربيني (5/ 242)، و"المغني" لابن قدامة (11/ 483).
(4)
الأصل في مذهب مالك: أن الأب لا يقتل بابنه؛ لأن شفقة الأب شبهة شاهدة بعدم قصد القتل، فإن فعل ما لا شبهة معه؛ كشق جوفه أو ذبحه أو وضع أصبعه في عينه فأخرجها، فالواجب هو القصاص.
انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 94)، و"التفريع" لابن الجلاب (2/ 217)، و"الذخيرة" للقرافي (12/ 335)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (1/ 2/ 234).
هذا، واختاره ابنُ المنذرِ (1)؛ لعمومِ الكتاب العزيز، ولقولهِ صلى الله عليه وسلم:"المُسلمون (2) تتكافأُ دِماؤهم"(3).
وأجابوا: بأن الحديثَ باطلٌ غيرُ معروفٍ، وبأن عمر تَأَوَّلَ لأجلِ الشُّبهةِ، وأفسدوا القياس بما إذا زَنى الأبُ بابنته؛ فإته يُرْجَمُ، وتكونُ سَبَباً لعدمه.
والجوابُ ضعيفٌ؛ أما العُمومُ فَمَخْصوصٌ. وأما دعوى التأويل من عمر، فخلاف الظاهر. وأما الاعتراض بالزنى بابنته، فإنه فعلٌ يوجبُ القتلَ، ولا يَسْقُطُ في هذا المَحَلِّ بحالٍ، بخلاف قتلِ الوالدِ، ولأنَّ عقوبةَ الزنى حَقٌّ لله -سبحانه-، وعقوبةَ القتل حقٌّ للمقتول، وكان الأب أَولى به، ولكن انتقل عنه لعدوانِه.
* وفي الآيةِ دلالةٌ بَيِّنَةٌ على أن العبيدَ يَجْري بينهمُ القِصاصُ، وهو كذلكَ عندَ الشافعيِّ ومالكٌ، وروي عن عمرَ بنِ الخَطَّابِ رضيَ اللهُ تعالى عنهم (4).
وقال قوم: لا يجري بينهم القصاص؛ لأنهم أموال كالبهائِم، وهو قولُ الحسنِ وابنِ شُبْرُمَةَ (5).
(1) وقد قال بقتل الوالد بولده مطلقاً: ابن نافع، وابن عبد الحكم، وابن المنذر. انظر:"المغني" لابن قدامة (11/ 483).
(2)
في "ب": "المؤمنون".
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
وهو قول أحمد وأكثر أهل العلم. انظر: "المغني" لابن قدامة (11/ 475).
وانظر: "التفريع" لابن الجلاب (2/ 216)، و"الذخيرة" للقرافي (12/ 335)، و"مغني المحتاج" للشربيني (5/ 242).
(5)
وقد روي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً. انظر: "المغني" لابن قدامة (11/ 476).
وفرَّق أبو حنمفةَ والثوريُّ بين النَّفْس وما دُونَها، فيُقاد في النَّفْس، ولا يُقاد فيما دونها، وروي (1) عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه (2).
* ولمَّا ذكرَ اللهُ -سبحانَهُ- القِصاصَ في القَتْلى، بَيَّنَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم صِفَتَهُ، فرضَخَ رأسَ يهوديٍّ بينَ حَجَرَيْنِ، كما رضخَ رأسَ جاريةٍ بحَجَرٍ (3).
وبهذا أخذ مالكٌ والشافعيُّ (4)، خلافاً لقوم؛ حيث اعتبروا السيف مطلَقاً (5).
* ثمَّ إن اللهَ سبحانَهُ رَحِمَنا -أيتها الأمَّةُ الكريمةُ- فجوَّز لنا العَفْوَ، ولم يُحَتِّمْ علينا القَتْلَ، فقالَ:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178] أي: فليكن اتباع بالمعروف من وليِّ الدمِ، فلا يُعَنِّفْ، ولا يطلبْ أكثرَ من حَقِّهِ.
وكذلك من الجاني، فلا يُحْوِجْهُ إلى العنفِ وسوءِ المطالَبَة.
واختلفَ أهلُ العلم في هذه الآية، منْ هُو المعفوُّ لَهُ؟
(1) في "ب": "ويروى".
(2)
وهو قول الشعبي والنخعي أيضاً. انظر: "مصنف عبد الرزاق"(18167 - 18168)، و"المغني" لابن قدامة (11/ 476).
(3)
رواه البخاري (2282)، كتاب: الخصومات، باب: ما يذكر في الإشخاص والملازمة والخصومة بين المسلم واليهودي، ومسلم (1672)، كتاب: القسامة، باب: ثبوت القصاص في القتل بالحجر وغيره من المحددات والمثقلات، وقتل الرجل بالمرأة، عن أنس بن مالك.
(4)
انظر: "الذخيرة" للقرافي (12/ 349)، و"روضة الطالبين" للنووي (9/ 229).
وللإمام أحمد في هذا روايتان؛ إحداهما: يُقتل بما قَتل به، والثانية: لا قصاص في النفس إلا بالسيف، وهذه هي المعتمدة المشهورة.
انظر: "المغني" لابن قدامة (11/ 512)، و"الإنصاف" للمرداوي (9/ 490).
(5)
وهو قول الحنفية، والرواية المعتمدة عند الحنابلة. انظر:"رد المحتار" لابن عابدين (10/ 137)، و"الإنصاف" للمرداوي (9/ 490).
هل هو الجاني عُفي له عن جنايته، والعافي وليُّ الدَّمِ؟ وهو قولُ ابنِ عَبّاسٍ ومُجاهدٍ وجُمهورِ أهلِ العلمِ.
- أو المعفوُّ لهُ هو الوَلِيُّ عفي له بِديَةٍ أُعْطِيَها، والعافي هو الجاني؟ وهو تأويل مالكٍ وأبي حنيفةَ، وهذا ثمرةُ اختلافهم في أن القاتل هل يُفْتَقَرُ إلى رِضاهُ في العَفْوِ عن الدية؟ أو لا يفتقر إلى رِضاهُ؟.
فمن قالَ: لا يُفتقر إلى رضاهُ، كان العافي وليَّ الدَّمِ.
ومن قال: يُفتقر إلى رِضاهُ، جعل العافيَ هو الجاني إذا رَضِيَ ولِيُّ الدَّمِ بقبول الدِّيةِ.
وقدْ ذهبَ أكثرُ العلماءِ من الصحابةِ والتابعين إلى أنه لا يُفتقر إلى رضاه. وبه قال مالكٌ والشافعيُّ (1).
وقال قوم: يُفتقر إلى رضاهُ، وهو قولُ الحسنِ والنَّخَعِيِّ، وبه قالَ أبو حنيفةَ (2)، ومالكٌ في أضعفِ الروايتين عنه (3).
والأولُ أقوى؛ لكثرةِ الاستعمالِ في لسانِ العرب؛ فإن أكثرَ استعمالِهم
(1) وهو المعتمد عند الحنابلة. انظر: "الذخيرة" للقرافي (12/ 413)، و"مغني المحتاج" للشربيني (5/ 288)، و"الإنصاف" للمرداوي (10/ 4).
(2)
انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (1/ 158)، و"بدائع الصنائع" للكاساني (6/ 284).
(3)
قلت: الصواب أن هذه الرواية هي المشهورة عن الإمام مالك، وهي المعتمدة.
انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 96)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (1/ 2/ 236)، و"التفريع" لابن الجلاب (2/ 210)، و"الذخيرة" للقرافي (12/ 413)، و"مواهب الجليل" للحطاب (8/ 295)، و"حاشية الدسوقي"(4/ 368).
للعفو إنما هو عن الجنايِة، وذلكَ -أيضاً- شائعٌ مستفيضٌ في ألفاظِ الكتابِ والسنَّةِ.
فإن قلتَ: فهلْ تجدُ في الكتابِ والسُّنَّةِ دليلاً على ترجيحِ المعنى الأولِ غيرَ الاستعمالِ؟
قلتُ: نعم، قالَ اللهُ تعالى في مثلِ حكمِ هذه الآيةِ في سورةِ المائدةِ:{فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: 45]. والمتصدِّقُ هو المجروحُ، أو وليُّ الدمِ، لا الجاني، بل الجاني متصدَّق عليه، فهوَ معفوٌّ له، بدليل قراءة أُبيٍّ (1) رضي الله عنه:- (فهو كفارته له)(2). وبما روي عنه صلى الله عليه وسلم: "من تَصَدَّقَ من جَسَدِه بشيءٍ، كَفَّرَ اللهُ عنهُ بقَدْرِهِ من ذنوبه"(3). وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ثمَّ أنتمْ يا خُزاعَةُ قد قتلتمْ هذا القتيلَ من هُذَيْلٍ واللهِ عاقِلُهُ، مَنْ قتلَ بعدَهُ قتيلاً، فأهلُهُ بين خِيْرَتَيْنِ: إن أحبُّوا أخذوا العَقْلَ، وإنْ أَحَبُّوا قَتَلوا"(4).
(1) في "أ": "أبي هريرة".
(2)
"له" ليست في "أ". وانظر: "تفسير البيضاوي"(2/ 330)، و"روح المعاني" للألوسي (6/ 149).
(3)
رواه النسائي في "السنن الكبرى"(11146)، والضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة"(366)، عن عبادة بن الصامت.
(4)
رواه أبو داود (4504)، كتاب: الديات، باب: ولي العمد يرضى بالدية، والترمذي (1406)، كتاب الديات، باب: ما جاء في حكم ولي القتيل في القصاص والعفو، والإمام الشافعي في "مسنده"(1/ 200)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار"(3/ 174)، والطبراني في "المعجم الكبير"(22/ 486)، والدارقطني في "سننه"(3/ 95)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(8/ 52)، عن أبي شريح الكعبي، وهذا لفظ البيهقي.
* وفي (1) الآية دليلٌ على (2) أنه إذا عُفي عن بعضِ الدَّم، سقطَ القِصاص، وقد فعلَ ذلك عمرُ وابنُ مسعودٍ رضيَ اللهُ تعالى عنهما (3).
* ثم توعّدَ اللهُ سبحانه مَنِ اعْتَدى فَقَتَل القاتِلَ بعدَ العَفْوِ وقَبولِ الديةِ بعذابٍ أليمٍ، وهو أن يُقْتَلَ قِصاصاً.
قالَ قتادةُ وابنُ جُرَيْجٍ والسُّدِّيُّ: يتحتَّمُ قتلُه حتى لا يُقْبَلَ العَفْوُ (4)؛ لِما رَوَى أبو داودَ عن جابرٍ رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا أعافي أَحَداً قَتَلَ بعدَ أَخْذِ الدِّيَةِ"(5). وقال عمرُ بنُ عبد العزيز: أمرُهُ إلى الإمامِ، يفعلُ فيه ما رَأى (6).
* وبيَّنَ -سبحانَه- وَجْهَ الحِكْمَةِ في القِصاصِ، وأنهُ حياةٌ للناسِ، وحقنُ
(1) في "ب" زيادة "هذه".
(2)
"على" ليست في "أ".
(3)
هذه المسألة هي: إذا عفا بعض الورثة عن حقه في القصاص، فإن القصاص يسقط، وقد قال بذلك جمهور الفقهاء من المذاهب الأربعة.
انظر: "المصنف" لعبد الرزاق (10/ 13)، و"بدائع الصنائع" للكاساني (6/ 294)، و "الذخيرة" للقرافي (12/ 416)، و"روضة الطالبين" للنووي (9/ 239)، و"الإنصاف" للمرداوي (9/ 481).
(4)
رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره"(2/ 112) عن قتادة والسدي، ورواه عبد الرزاق في "المصنف"(10/ 16) عن ابن جريج.
(5)
رواه عبد الرزاق في "المصنف"(18200)، وابن عدي في "الكامل في الضعفاء"(6/ 396) عن قتادة مرسلاً.
(6)
رواه عبد الرزاق في "المصنف"(18204).
وقال جماعة من العلماء؛ إنه كمن قتل ابتداء، فللولي قتله، أو أخذ الدية بعد العفو. انظر:"معالم التنزيل" للبغوي (1/ 210)، و"أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 100)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (1/ 2/ 239)، و"فتح القدير" للشوكاني (1/ 202).
دمائهم فقالَ: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 179]، وقد اسْتَنْبَطْنا من هذا أنَّ الجماعةَ يُقتلون بالواحِد؛ كما فعلَ عمرُ -رضيَ اللهُ تعالى عنه (1) - فإنَّهُمْ لو لم يُقتلوا به، لم يحصل لنا حياة، وكان التعاون والاشتراك ذريعةً إلى سقوط القِصاص، ووقوعِ الفَسادِ في الأرض (2).
والعَجَبُ من الإمامِ أحمَدَ حيث تعلَّقَ بشبهةِ المساواةِ في القِصاص، وغَفَلَ عن وَجْهِ الحكمةِ (3)، معَ فعلِ عمرَ بمحضرٍ من الصحابة -رضيَ اللهُ تعالى عنهم-، ولم يخالفهُ منهمْ أحدٌ علمناهُ.
* * *
(1) رواه الإمام مالك في "الموطأ"(2/ 871)، وعبد الرزاق في "المصنف"(18073)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(27693)، والدارقطني في "سننه"(3/ 202)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 41): أن عمر رضي الله عنه قتل سبعة من أهل صنعاء اشتركوا في دم غُلامٍ، وقال:"لو تَمَالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعاً".
(2)
وهو مذهب الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة. انظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (6/ 280)، و"الذخيرة" للقرافي (9/ 159)، و"الإنصاف" للمرداوي (9/ 458)، و"أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 95)، و"أحكام القرآن" للجصاص (1/ 180).
(3)
حكي ذلك عن الإمام أحمد في رواية، والرواية المعتمدة وعليها الأصحاب كقول الجمهور، وقد حكاه ابن المنذر عن معاذ، وابن الزبير، وعبد الملك بن مروان، والزهري، وابن سيرين، وحبيب بن أبي ثابت. وهو مذهب داود الظاهري. انظر:"المغني" لابن قدامة (11/ 495)، و"الذخيرة" للقرافي (12/ 319)، و"الإنصاف" للمرداوي (9/ 458)، و"تفسير ابن كثير"(1/ 211).