الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(حكم نكاح المشركات والكتابيات)
28 -
* اختُلِفَ في حقيقة النكّاحِ على ثلاثةِ أوجهٍ للشافعيَّةِ:
وأَصَحُّها عندهم أنهُ حقيقة في العَقْدِ، مَجازٌ في الوَطْءِ (1)، وإياهُ أختارُ، لغلبةِ عُرْفِ الكتابِ والسُّنَّةِ واللسانِ فيه.
وقيل: حقيقةٌ في الوَطْءِ، مجازٌ في العَقْدِ؛ كما هو أصلُ وضع اللُّغة، وبه قالَ أبو حنيفةَ (2).
وقيل: إنه مشتركٌ بينهما (3).
(1) وهو قول الحنابلة. انظر: "شرح مسلم" للنووي (9/ 172)، و"الفروع" لابن مفلح (5/ 145)، و"فتح الباري" لابن حجر (9/ 128).
(2)
وهو قول المالكية. انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (5/ 108)، و "الاختيار" للموصلي (2/ 109)، و"الذخيرة" للقرافي (4/ 188).
(3)
وهو قول الزجاجي، كما نسبه الحافظ في "الفتح" (9/ 103). قال الحافظ: وهذا الذي يترجح في نظري، وإن كان أكثر ما يستعمل في العقد. وانظر:"شرح مسلم" للنووي (9/ 172)، وعنه نقل المصنف هذا الاختلاف.
- * وقد أنزل اللهُ سبحانَه في نِكاح المُشركاتِ آياتٍ يعارضُ بعضُها بعضاً، وها أنا أتكلمُ فيها على مَبْلَغِ عِلمي، ومُنْتَهى فَهْمي، وأستعينُ باللهِ وأستهديه.
فأقول: حَرّمَ اللهُ سبحانَهُ على المؤمنين نِكاحَ المُشْركاتِ ابتداءً ودواماً، فقال هنا:{وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} [البقرة: 221]، وقال تعالى:{وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10]، وهذا الخطابُ عامّ في الوَثَنِيّاتِ والكِتابِيّاتِ، الذِّمِّيَّاتِ منهنَّ والحَرْبِيّاتِ، وسمَّى اللهُ سبحانَهُ الكِتابيَّ مُشْرِكاً؛ لقوله:{عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30]، ولقوله:{الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّه} [التوبة: 30]، وقوله:{ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} [المائدة: 73]، وكانَ ابنُ عمرَ- رضي الله عنهما إذا سُئِل عن نكاحِ الرجلِ اليهوديَّةَ أو (1) النصرانيَّةَ، قال: حَرَّمَ اللهُ المُشْركاتِ على المؤمنينَ، ولا أعرفُ شيئاً من الشِّرْكِ أعظمَ من أن تقولَ المرأةُ: ربُّها عيسى، أو عبدٌ من عبادِ اللهِ (2).
وأحلَّ اللهُ لهم نِكاحَ الكِتابياتِ في سورة المائدةِ، فقال:{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5].
وهذا الخِطابُ لهم عامّ من وجهٍ، وخاصٌّ من وجهٍ، فخصوصُه في الكِتابياتِ دون الوَثنياتِ، فيقضى بخُصوص آيةِ المائدةِ على آية البقرة، وعمومُه في الذمِّياتِ والحربياتِ، في (3) الحرائر منهنَّ والإماءِ، ولكنَّ اللهَ
(1) في "أ": "و".
(2)
رواه البخاري (4981)، كتاب: الطلاق، باب: قول الله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ
…
}، عن نافع.
(3)
في "ب": "من".
سبحانَهُ حَرَّمَ الإِماء منهن، فقال في سورة النساء:{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25]، فشرط فيهنَّ الإيمان، فيقضى بخُصوص آية النساءِ على عُموم آية المائدة، وبخصوصِ آية المائدةِ على عموم آيةِ البقرة، هكذا ترتيبُ هذه الآيات بعضِها على بعضِ، ويُعْمَلُ بجميعِها.
وقد اتفقَ العلماءُ على ترتيبِ آية البقرة على آية المائدة (1)، إلا ما يُروى عن ابنِ عمرِ -رضي الله تعالى عنهما- من تحريم نكاح الكتابيات (2)، وأن آية البقرة ناسخة لآيةِ المائدةِ (3)، وقيل: إنه كَرِهه، ولم يحرِّمْه (4).
قال بعضُهم: ولا تصح عَنْهُ روايةُ التحريمِ (5).
قلت: أو تُحْمَل على الكِتابيات الحَرْبيات؛ كما هو قولُ ابنِ عباس رضي الله تعالى عنهم (6).
(1) انظر: "الناسخ والمنسوخ" للنحاس (ص: 55)، و"تفسير الرازي"(3/ 2/ 62)، و"زاد المسير" لابن الجوزي (1/ 223)، و"أحكام القرآن" للجصاص (2/ 16)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (2/ 1/ 64).
(2)
كما تقدم عنه قريباً.
(3)
انظر: "الناسخ والمنسوخ" للنحاس (ص: 55)، وقد نسبه إلى قوم.
(4)
وكرهه عطاء أيضاً. انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (2/ 15)، و"تفسير ابن كثير"(1/ 457).
(5)
انظر: "الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه" لمكي (ص: 170)، و"الناسخ والمنسوخ" للنحاس (ص: 55)، و"أحكام القرآن" للجصاص (2/ 15).
(6)
انظر: "الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه" لمكي (ص: 169)، و"الناسخ والمنسوخ" للنحاس (ص: 55)، و "أحكام القرآن" للجصاص (2/ 17)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (2/ 1/ 65).
* واختلفوا في صفةِ ترتيبِ آية البقرة على آية المائدة (1).
فقال مجاها وقتادةُ وابنُ جُبيرٍ: آيةُ البقرةِ مخصوصة مبيَّنة بآية المائدة (2).
وقال الحَسَنُ وعِكرمةُ: نسخ الله سبحانَهُ من آيةِ البقرةِ تحريمَ نساءِ أهلِ الكِتاب، ويُرْوى عن ابنِ عباسٍ ومالكٍ وسفيانَ الثوريِّ (3).
والقولُ بالنَّسخِ لا يستقيمُ إلا أنْ يكونَ قدِ استقرَّ تحريمُ المشركاتِ، الوثنيَّاتُ منهنَّ والكتابياتُ، ثم نُسِخَ بآيةِ المائدةِ.
وقول هؤلاء الجماعةِ محمولٌ على ذلك، ولكن هذا يحتاج إلى صِحَّةِ نقلٍ لحكمِ الاستقرارِ في أثناءِ الإسلام (4)، ولعل الإشارة إلى اليوم بقوله تعالى:{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 5] هي التي دلَّتهُمْ على استقرارِ الحكم، ثم نسخِه، أو لعل هذا بناء على أن تأخير البيانِ عن وقتِ الخِطاب لا يجوز.
* واتفقوا على حِلِّ نكاح الكتابياتِ المُحْصَنات (5) المُعاهَداتِ كما
(1) انظر: "المصفى بأكف أهل الرسوخ"(ص: 20)، و"قلائد المرجان" (ص: 82).
(2)
انظر: "تفسير الطبري"(2/ 376 - 377)، و"الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه" لمكي (ص: 169).
(3)
انظر: "الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه"(ص: 171 - 172)، و"الناسخ والمنسوخ" للنحاس (ص: 54 - 55)، وقد أخرج أثر ابن عباس وعكرمة والحسن: الطبري في "تفسيره"(2/ 376).
(4)
المراد بالمحصنات هنا: الحرائر.
(5)
قال الطبري في "تفسيره"(2/ 377): كل آيتين أو خبرين كان أحدهما نافياً حكم الآخر في فطرة العقل، فغير جائز أن يقضى على أحدهما بأنه ناسخ حكم الآخر إلا بحجة من خبر قاطع للعذر مجيئه، وذلك غير موجود؛ يعني في هذا الموضع.
تَقَدَّمَ، واختلفوا في الحربيّاتِ منهنَّ:
فقال قومٌ من أهلِ العلمِ بتحريمه (1)؛ لأنهنَّ (2) لسن (3) من أهل ذمة المسلمين. وبه قال ابنُ عباس -رضيَ الله تعالى عنهما- ولما سُئِل عن ذلك تلا قولَه تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} إلى قوله: وَهُمْ صَاغِرُونَ} (4).
وقال قومٌ بكراهيته، ولم يُحَرِّموه (5)؛ لعموم قوله:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5]، وغلَّبوا الكِتاب على الدار، وبه قال مالكٌ وأبو حنيفةَ والشافعيُّ رضيَ اللهُ تعالى عنهم (6).
* واتفقوا على حلِّ غيرِ المُحصَناتِ منهنَّ (7)، وهنَّ الإماء بملك اليمين (8)؛ لعموم قوله سُبْحانه:{إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء: 24].
(1) وهو قول جماعة من العلماء؛ كابن عباس والنخعي. انظر: "الإيضاح لناسخ القراَن ومنسوخه" لمكي (ص: 171)، و"الناسخ والمنسوخ" للنحاس (ص: 56)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (2/ 1/ 65).
(2)
في "أ": "لأنهم".
(3)
في "ب": "ليسوا".
(4)
رواه أبو الشيخ الأصبهاني، وابن مردويه في "تفسيريهما"، كما نسبه السيوطي في "الدر المنثور"(4/ 170).
(5)
في "أ": "يحرموا".
(6)
وهو مذهب الحنابلة على تفصيل عندهم في ذلك، انظر:"الاختيار" للموصلي (2/ 118)، و "حاشية الدسوقي"(2/ 421)، و"مغني المحتاج" للشربيني (4/ 311)، و "شرح الزركشي على الخرقي"(5/ 176).
وقد كرهه الحنفية والمالكية والشافعية. انظر: "حاشية الدسوقي"(2/ 421)، و"مغني المحتاج" للشربيني (4/ 311)، و"أحكام القرآن" للجصاص (2/ 17).
(7)
في "أ":"منهم".
(8)
انظر: "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (2/ 1/ 107).
* واختلفوا في حِلِّه بالنكّاحِ:
فقال أبو حنيفةَ بجوازه (1).
وقال مالكٌ والشافعيُّ بتحريمِه (2)؛ لقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة: 5] فَسَّره عمر، وابن عباسٍ -رضيَ اللهُ تعالى عنهم- بالحرائر (3)، ولقوله تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25]، فقيدهن بفتياتنا المؤمنات، فدلَّ على أن فتياتنا الغير المؤمنات حرامٌ.
وأجاب الحنفية بأن المرادَ بالمُحْصنات العفائف، وقد فسره (4) بذلك غير (5) ابنِ عمرَ رضي الله تعالى عنهما (6)، وبأن المفهومَ ليس بدليلٍ عندهم، وبأن التقييد للاستحباب؛ لأنها خيرٌ من الحُرَّةِ الكِتابية، وقد أُبيحَ نكاحُها، وإن كانت دونها، وبأن الخطابَ واردٌ على التغليب، لا على التقييد، والغالب على الإماء الإسلام (7).
(1) انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (3/ 116)، و"الاختيار" للموصلي (2/ 118).
(2)
وهو قول الحنابلة أيضاً. انظر: "حاشية الدسوقي"(2/ 422)، و"مغني المحتاج" للشربيني (4/ 304)، و"شرح الزركشي على الخرقي"(5/ 188).
(3)
قال البيهقي: روينا في إباحة ذلك عن عمر وعثمان وطلحة وحذيفة وابن عباس. انظر: "معرفة السنن والآثار"(10/ 121).
(4)
في "أ": "فسر".
(5)
"غير" ليست في "ب".
(6)
وقد قال بكون المحصنة هنا هي العفيفة كلٌّ من مجاهد، والشعبي، وسفيان، والضحاك. انظر:"تفسير الطبري"(4/ 105)، و"الدر المنثور" للسيوطي (3/ 25).
(7)
انظر أدلة الحنفية وما أجابوا به عن أدلة الجمهور في: "أحكام القرآن" للجصاص=
وبقولِ مالكٍ والشافعي أقولُ؛ لما فيه من الاحتياط، والتحريمُ أولى؛ لظهور التقييد على التغليب في سائرِ آيِ القرآن؛ كقوله تعالى:{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} [النساء: 15]، وكقوله تعالى:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282]، وكقوله تعالى:{أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [النور: 31]، وغير ذلك، ولموافقته عُمومَ القرآنِ؛ كقوله تعالى:{وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] وقوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10].
* وحرّمَ اللهُ سُبْحانه على المؤمنينَ أن يُنكِحوا المشركين (1)، فلن يجعلَ الله للكافرينَ على المؤمنينَ سبيلاً.
* وربَّما استدل بهذه الآية من يقولُ باشتراط الوليِّ في النكاح (2)؛ اعتقاداً منهُ أنَّ الخِطابَ مع الأولياءِ، ولا دلالةَ فيه؛ لأن الخطاب مع المؤمنين، وإن سلم فالخِطابُ واردٌ بالمَنع للأولياءِ من إنكاحِ المشركِ، ومنعُ الوليِّ لا (3) يوجبُ لهُ ولايةً، وسيأتي الكلامُ على هذا إنْ شاءَ الله تعالى.
* * *
= (3/ 116)، و "فتح القدير" لابن الهمام (3/ 135 - 136، 140 - 141).
(1)
وهذا بالإجماع. انظر: "معالم التنزيل" للبغوي (1/ 284)، و"تفسير الرازي" 3/ 2/ 66)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (2/ 1/ 67).
(2)
قال بذلك أبو جعفر محمد بن علي؛ كما أخرجه عنه الطبري في "تفسيره"(2/ 379).
(3)
في "ب" زيادة "لا".