المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌مقدِّمة جَامِعَة في أصول الفقه والتَّفسِيْر

- ‌القولُ في الأسماءِ المُفْرَدَةِ

- ‌القولُ في البَيِّنِ والمُشْكِلِ

- ‌فصل (المُشْكِلُ)

- ‌وأَمَّا المركَّباتُ، فيأتي على وُجوهٍ -أيضاً

- ‌منها: الاشتراكُ بين الأمرِ والخَبَر:

- ‌ومنها: الاشتراك بين السؤال والتَّنْبيهِ:

- ‌ومنها: الاشتراك بينَ السؤالِ والدُّعاء

- ‌ومنها: الاشتراك في المَفْعولِ إذا تنازعَه فِعلان يَقْتضيانِ مُقْتَضًى واحداً:

- ‌ومنها: الاشتراك في الإبهام:

- ‌واختلفَ علماؤنا في مسائلَ:

- ‌القَولُ في العَامِّ والخَاصِّ

- ‌الفصل الأول في الألفاظ

- ‌الفصل الثاني في كيفيةِ استعمالِ العرب للعامِّ واتِّساعها فيه

- ‌الفصلُ الثالِثُ في الخَاصِّ

- ‌الفصلُ الرابُع في ترتيبِ العامِّ على الخاص

- ‌القولُ في المُطْلَقِ والمُقَيَّدِ

- ‌القول في الحقيقة والمجاز

- ‌ الأول: الاستعارةُ:

- ‌الثاني: التّشبيهُ:

- ‌الثالثُ: الزيادَةُ:

- ‌الرابع: النّقصان:

- ‌الخامس: التقديمُ والتأخيرُ:

- ‌السادس: المحاذاةُ والمُقابَلَةُ للشيءِ بمثلِ لَفْظِهِ معَ اختِلاف المعنى:

- ‌الثامنُ: أَنْ يُسَمَّى الشيءُ بما كانَ عليهِ:

- ‌التاسع: تسميتُهم الشيءَ بما يَستحيلُ وُجودُه:

- ‌القول في الأمر والنهي

- ‌الفصلُ الأولُ وفيه أربعُ مسائلَ:

- ‌ الأولى: الأمر هَلْ يقْتَضي الوُجوبَ

- ‌ الثانية: إذا وردَ لفظُ الأمرِ، وفي الصيغةِ ما يدلُّ على التكْرارِ

- ‌ الثالثةُ: الأَمْرُ هَلْ تقتَضي الفِعْلَ على الفَوْرِ، أوْ لا

- ‌ الرابعةُ: إذا وَرَدَ الأمْرُ بعدَ الحَظْرِ والمنعِ، فهل يقْتَضي الوُجوبَ؟ فيه مذهبان:

- ‌الفصل الثاني في تَصَرُّفِ العَرَبِ بِصيغَةِ الأمرِ

- ‌ الأولُ: أن يكون أمرًا ومعناهُ الوجوبُ

- ‌الثاني: أمرٌ ومعناه الاسْتِحْبابُ

- ‌الثالث: أمرٌ ومعناه الإرشاد

- ‌الرابع: أمرٌ ومعناهُ التأديبُ

- ‌الخامس: أمرٌ ومعناهُ التخييرُ

- ‌السادس: أمر ومعناهُ الإباحَةُ

- ‌السابع: أمرٌ ومعناهُ التَّسخيرُ، وبعضُهم يقولُ:

- ‌الثامنُ: أمر ومعناهُ التَّحْقيرُ

- ‌التاسع: أمر ومعناهُ التَّعْجيزُ

- ‌العاشرُ: أمرٌ ومعناهُ التَّكوينُ

- ‌الحادي عَشَرَ: أمر ومعناهُ الوَعيدُ والتَّهديدُ

- ‌الثاني عَشَرَ: أمر ومعناهُ التَّفَكرُ والاعْتِبارُ

- ‌الثالثَ عَشَرَ: أمرٌ ومعناهُ الصَّيْرورَةُ

- ‌الرابعَ عَشَرَ: أمرٌ ومعناهُ الدُّعاء

- ‌الخامسَ عَشَرَ: أمر ومعناه التَّفْويضُ والتَّسليمُ

- ‌السادِسَ عَشَرَ: أمرٌ ومعناه التعجُّبُ

- ‌السابعَ عَشَرَ: أمرٌ ومعناهُ الإِنْعامُ

- ‌الثامِنَ عَشَرَ: أمرٌ ومعناهُ التَّمَنِّي

- ‌التاسِعَ عَشَرَ: أمر ومعناه التَّلَهُّفُ

- ‌العِشرونَ: أمرٌ ومعناهُ الخَبَرُ

- ‌فصل

- ‌إحداهُما: النَّهْيُ يقْتَضي التَّحْريم

- ‌المسألة الثانية: النَّهْيُ هل تقْتَضي الفَساد؟ فيه أقوالٌ:

- ‌القول في الخبر

- ‌القول في القرائن

- ‌القولُ في مَعرفة المُتشابه والمُتعارض

- ‌(القول في الناسخ والمنسوخ)

- ‌الفصل الأول في معنى النسخ وحقيقته

- ‌الفصل الثَّاني في أقسام النسخ والناسخ والمنسوخ

- ‌الفصلُ الثالث فيما يَجوزُ نسخُه وما لا يجوزُ

- ‌الفصلُ الرابعُ فيما يجوزُ أن يكونَ ناسخاً، وما لا يجوز

- ‌الأولُ: نسخُ القرآنِ بالقرآنِ:

- ‌الثَّاني: نسخ السُّنَّةِ بالسُّنَّةِ:

- ‌الثالث: نسخُ القرآنِ بالسُّنَّةِ:

- ‌الرابع: نسخُ القرآنِ بالإجماعِ:

- ‌الخامس: نسخُ السُّنَّةِ بالقُرآنِ

- ‌السادس والسابع: نسخُ الإجماع بالقرآنِ، ونسخُ الإجماعِ بالسُّنَّةِ: مستحيلٌ وغيرُ جائزٍ اتّفاقاً

- ‌الفصل الخامس في الطَّريق إلى معرفة الناسخ والمنسوخ

- ‌القول في السُّنَّة وأنواعها وترتيبها وتقديم بعضها على بعض

- ‌الفصلُ الأولُ في السُّنَّة

- ‌الفصل الثَّاني في بيانِ أنواعِ السُّنَّةِ

- ‌الفصلُ الثالثُ في ترتيبِ بعضِها على بعضٍ

- ‌الفصلُ الرابعُ تقديمُ بعضِها على بعضٍ

- ‌(القول في القياس)

- ‌(خاتمة المقدِّمة)

- ‌سُوْرَةُ البَقَرَةِ

- ‌(من أحكام الصَّلاة)

- ‌(من أحكام الحج)

- ‌(من أحكام الأطعمة)

- ‌(من أحكام القصاص)

- ‌(أحكام الوصايا)

- ‌(من أحكام الصِّيام)

- ‌(من أحكام القضاء)

- ‌(من أحكام الجهاد)

- ‌(من أحكام الجهاد)

- ‌(من أحكام الحج)

- ‌(من أحكام النفقة)

- ‌(من أحكام الجهاد)

- ‌(تحريم شرب الخمر)

- ‌(معاملة اليتامي)

- ‌(حكم نكاح المشركات والكتابيات)

- ‌(من أحكام الحيض)

- ‌(من أحكام النكاح)

الفصل: ‌(من أحكام الجهاد)

(من أحكام الجهاد)

24 -

(24) قولُه جل جلاله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} البقر ة: 216].

أقولُ: لمَّا أرادَ اللهُ -سبحانَهُ- إنقاذَ عبادِهِ من الهَلَكَةِ، وهُداهُم من الضَّلال، بعث نبيَّهُ مُحَمَّداً-صلى الله عليه وسلم إلى قومه خاصَّةً، وإلى الناسِ عامَّةً بشيراً ونذيراً.

فقال عز وجل: {وَأَنذِرْ عَشِيَرتَكَ الأَقرَبِينَ} [الشعراء: 214].

وقال عز وجل: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الشورى: 7]، فقال:"يابني عبدِ مَناف! إن الله بعثني أن أنذرَ عَشيرتي الأَقْرَبينَ، وأنتم عَشيرتي الأقربون"(1).

وقال عز وجل: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158].

فلما صَدُّوا عنه، وأَعْرَضوا، أَمَرَهُ اللهُ -سبحانَهُ- بالصَّدِّ عنهم، والإعراض كما أعرضوا.

(1) رواه مسلم (207)، كتاب: الإيمان، باب: في قوله: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقَرَبِينَ} ، عن قبيصة بن المخارق وزهير بن عمرو، بلفظ نحوه.

ص: 369

فقال جل جلاله: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا} [النجم: 29].

وقال جل جلاله: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام: 68].

ولما هدى اللهُ -سبحانَهُ- قوماً من عبادِه، واختارَهُم لدينه، واصطفاهُم لنفسِه، فآمنوا به، واتبعوا النورَ الذي أُنزلَ معه، فتنتهم قريشٌ، وصدُّوهم (1) عن دينِ اللهِ -سُبْحانه-، وعذَّبوهم، وظلموهم، ليرجعوا عن دينِ الله -سُبحانه- حَتَّى كَثُرَ تأذِّي رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، فحينئذٍ أَذِنَ اللهُ -تَعالى- لهم في الهجرة، ولَمْ يوجبْها، فقال جل جلاله:{وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} [النساء: 100]، فهاجر إلى أرضِ الحبشةِ قومٌ، وبقيَ قومٌ فيهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فهاجروا إلى المدينةِ الشريفة -شَرَّفَها اللهُ الكريم-.

ووجبت الهجرةُ على كلِّ مفتونٍ لا يقدرُ على إظهارِ دينهِ.

وسيأتي إنْ شاءَ الله تعالى بيانُ الهجرةِ وأحكامُها في "سورةِ النساءِ" عند قوله -تعالى-: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} [النساء: 88].

فلما عَمَّرَ اللهُ الكريمُ طَيْبَةَ بالإيمانِ، وجعلَها دارَ الإسلام، أذِنَ للمؤمنين في القِتال، ولم يفرضْه عليهم، فقالَ جل جلاله:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39].

ولما قويَ المؤمنون، وكَثُرَ عددُهم، واشْتَدَّت شَوكَتُهُم، كتبَ اللهُ عليهمُ القِتالَ، فقال جل جلاله:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة: 216]، واستمرَّ فرضُ الجِهاد حتى تَضَعَ الحربُ أوزارها (2).

(1) في "ب": "فصدوهم".

(2)

الوِزْرُ: أحمل الثقيل، والذنبُ لثقله، وجمعها أوزار، وأوزار الحرب وغيرها:=

ص: 370

* وقد أجمعَ المسلمون على فريضَةِ الجِهادِ، إلَّا ما حُكيَ عن عبيدِ اللهِ ابنِ الحَسَنِ العَنْبَرِيِّ أنه قال: إنَّهُ تطوُّع، وهذا من جُمْلَة شُذوذهِ (1).

* واختلفوا هل (2) فُرضَ على الأعيانِ، أو على الكِفاية؟

- فقال قومٌ: هو فرض على الكِفاية، في جميع الأزمان (3)، في أولِ الإسلام وآخره؛ لقوله تعالى:{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]، ولقوله تعالى:{لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ} [النساء: 95]

= الأثقال والآلات، قال الأعشى:

وأعددتَ للحرب أوزارها

رماحاً طِوالاً وخيالا ذكورا

انظر: "اللسان"(مادة: وزر)(5/ 282).

(1)

وروي ذلك عن عطاء، وعمرو بن دينار، والثوري، وابن شبرمة في آخرين. وقال ابن العربي: قال جماعة من الفقهاء: إن الجهاد بعد فتح مكة ليس بفرض، إلا أن يستنفر الإمام أحداً منهم

ومال إليه سحنون، انتهى.

وقد روي فيه عن ابن عمر نحو ذلك، وإن كان مختلفاً في صحة الرواية عنه. قال الجصاص: وجائز أن يكون قول ابن عمر، وعطاء، وعمرو بن دينار في أن الجهاد ليس بفرض؛ يعنون به: أنه ليس فرضه متعيناً على كل أحد؛ كالصلاة والصوم، وأنه فرض على الكفاية.

انظر: "معالم التنزيل" للبغوي (1/ 273)، و"أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 146)، و"أحكام القرآن" للجصاص (4/ 311)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (2/ 1/ 37).

(2)

"هل" ليست في "أ".

(3)

وهو قول الجمهور. انظر: "تفسير الطبري"(2/ 344)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (14/ 292)، و"الحاوي الكبير" للماوردي (14/ 111)، و"معالم التنزيل" للبغوي (1/ 274)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (2/ 1/ 37).

ص: 371

بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النساء: 95].

- وقال قومٌ: كانَ فرضاً على الأعيانِ في أولِ الإسلام (1)، واستدلُوا بقوله تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} [البقرة: 216]، وبقوله تعالى:{مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} [التوبة: 120]، ثم صارَ فرضاً على الكفاية؛ لقوله تعالى:{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا} [التوبة:122] الآية.

وهذا القولُ حَسَن، لكنَّه يَحتاجُ إلى نَقْلٍ وتوقيفٍ في الترتيب.

- وقالَ قومٌ: هو فرضٌ على البَعْض دون البَعْضِ، ما لم يَنْفِرْ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فإذا نَفَرَ وَجَبَ على الجَميع النَّفْرُ (2).

وهو مذهبُ ابنِ عبَّاسٍ والضَّحّاكِ وقَتادة (3).

وهذا قولٌ حَسَنٌ؛ لقوله تعالى: {وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} [التوبة: 120]، ولما فيه من الجَمْع بين الآيات، ونفي المعارَضات، ولأنَّ اللهَ -سُبحانه- عاتَبَ المُتَخَلِّفين عنهُ في غزوة تَبوكَ حتى (4) نزلَتْ توبتُهُ على الثلاثَةِ المُخَلَّفينَ (5).

(1) وهو قول عطاء والأوزاعي. وقاله الماوردي والسهيلي. انظر: "تفسير الطبري"(2/ 344)، و"الحاوي الكبير" للماوردي (14/ 112)، و"أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 405)، و "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (2/ 1/ 37)، و"فتح الباري" لابن حجر (6/ 46).

(2)

نسب القرطبي هذا القول إلى الجمهور، وصدَّره ابنُ حجر بقوله:"قيل". انظر: "الجامع الأحكام القرآن" للقرطبي (2/ 1/ 37)، و "فتح الباري" لابن حجر (6/ 47).

(3)

لم أقف على من عزا ذلك إليهم، والله أعلم.

(4)

في "أ": "حين".

(5)

في "ب":"المتخلفين".

ص: 372

فإن قيل: فقدْ بعثَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى بني لِحْيانَ، وقال:"ليخرُجْ من كلِّ رَجلينِ رَجُلٌ"، ثم قال للقاعدين:"أيُّكمْ خَلَفَ الخارِجَ في أهلِهِ ومالِهِ بخيرٍ، كانَ له مثلُ نصفِ أجرِ الخارجِ"(1).

قلت: إنما تَخَلَّفوا بإذنه صلى الله عليه وسلم؛ ليقوموا على نسائِهم وأموالِهم، وليحفظوها من كيد العدوِّ والمنافقين.

ولكن المذهبَ الأولَ أحسنُ وأصحُّ؛ بدليلِ أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ يَنْفِرُ في أَوَّلِ الإسلام، ويتخلَّف عنهُ بعضُ أصحابه.

وأما معاتبةُ اللهِ -سُبْحانه- للمتخَلِّفين، فإنَّما هو لأجلِ الحاجةِ إلى نُفورهم؛ لكثرةِ العدوِّ وبعدِهم.

وهذهِ الحالُ كما إذا وَطِئ الكفارُ بلادَ الإسلام -ونعوذُ باللهِ من ذلك- فليسَ لأحدٍ أَنْ يتخلفَ مِنْ غَنِيٍّ وفقيرٍ، وحُرٍّ وعَبْدٍ (2)؛ كَما فعلَ المسلمونَ يومَ الخندقِ، والله أعلم.

* * *

25 -

(25) قوله جل جلاله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ

(1) رواه مسلم (1896)، كتاب: الإمارة، باب: فضل إعانة الغازي في سبيل الله بمركوب وغيره، وخلافته في أهله بخير، عن أبي سعيد الخدري.

(2)

انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (14/ 292)، و"الحاوي الكبير" للماوردي (14/ 112)، و"تفسير الرازي"(3/ 2/ 29)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (2/ 1/ 37).

ص: 373

أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217].

* نزلت هذه الآيةُ في سَرِيَّة بَعَثَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وأَمَّرَ عليهم عبدَ الله بْنَ جَحْشٍ، فانطلقوا حتى هبطوا نَخْلَةَ، فوجدوا بها عَمْرَو بنَ الحَضْرميِّ في عِيرٍ بِتجارَة لقريش في آخِر يوم من جُمادى الآخرة، أو في أولِ يوم من رَجَب، على اختلاف فيه، فقتلوا ابْنَ الحَضْرَميَ، وأخذوا العِيْرَ، فعيرَّ المشركونَ المسلمينَ، فأنزلَ اللهُ -سبحانه- هذه الآية (1).

وكان القتالُ في أولِ الإسلام مُحَرماً في الشَّهْرِ الحَرام، وفي البلدةِ (2) الحَرام، إلَّا أن يُبْدَؤوا بالقِتال.

* واختلفَ أهلُ العلم هلْ هذا الحُكْمُ باقٍ إلى الآن لم ينسخْ، أولا؟ (3)

فقال عطاءٌ ومُجاهِدٌ: هوَ باق لمْ يُنْسَخْ، ولا يجوزُ القِتالُ في الشهرِ الحَرام (4)، ويُروى عن الشعبيِّ والحكمِ، ولهم هذه الآية، وغيرُها، وكان عطاء يقول: لا يجوزُ القتال في الشهرِ الحرامِ، ولا البلدِ الحَرامِ، ويحلفُ على ذلك.

(1) رواه البيهقي في "السنن الكبرى"(9/ 12)، عن عروة بن الزبير، بهذا السياق، ورواه الطبري في "تفسيره"(2/ 350)، وابن أبي حاتم في "تفسيره"(2/ 384) عن مقسم مولى ابن عباس رضي الله عنهما نحوه.

(2)

في "ب":"البلد".

(3)

انظر: "الناسخ والمنسوخ"(ص: 33 - 34)، و"المصفى بأكف أهل الرسوخ" (ص: 20)، و"قلائد المرجان" (ص: 80).

(4)

انظر: "تفسير الطبري"(2/ 353)، و"أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 206)، و"زاد المسير" لابن الجوزي (1/ 214)، و"الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه" لمكي (ص:160).

ص: 374

ونُقل عن أكثر العُلماءِ خلافُهم، وقالوا: هذهِ الآيةُ منسوخةٌ (1) بقوله سبحانَهُ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} (2)[التوبة: 5]، وبقوله تعالى:{وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 36]؛ كما قاله الزهريُّ (3).

وما ذكرهُ هؤلاءِ الجَماعةُ لا يجوزُ أن يكونَ ناسِخاً لآية البقرة؛ لأن (حيثُ) كلمةٌ معناها عمومُ الأمكنةِ، والأمكنةُ لا تُعارضُ الشُّهورَ والأزمانَ، ولا نسخَ معَ عدمِ التعارض.

وأما قولُه تَعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [التوبة: 29]؛ فإن الأمرَ بالقتال مُطْلَقٌ في جميع الأحوال، مقيَّدٌ بإعطاءِ الجزية، والنهيُ عن القتالِ في الشهرِ الحرامِ خاصٌ ببعض الأزمان، فلا تَعارُضَ بينَهُما، فلا يجوزُ القولُ بالنسخِ، بل يجوزُ تَخصيصُ إطلاق قوله تعالى:{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} بالنهيِ عن القِتال في الشَّهْرِ الحَرام؛ لخصوص هذا، ولعموم ذلك، ولقوله تَعالى:{فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5].

وأما قولُه تَعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193]،، فقد تقدَّمَ بيانُه أيضاً.

وأما قولُه تَعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: 36]، فإنَّها

(1) انظر: "الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه" لمكي (ص: 160)، و"الناسخ والمنسوخ" لابن العربي (2/ 27)، و"نواسخ القرآن" لابن الجوزي (ص: 197).

(2)

في "ب" زيادة "ولقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ}، وبقوله تعالى: {قَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} ".

(3)

رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره"(2/ 350)، وابن أبي حاتم في "تفسيره"(2/ 384).

ص: 375

عامَّة في المشركين، مطلَقَةٌ في الزمانِ والمكانِ، وهذه الآيةُ خاصَّة مقيَّدَةٌ، والمطلَقُ لا يَنْسَخُ المقيَّدَ.

والمختارُ عندي بقاءُ حرمَتِه كما حَرمَهُ اللهُ سبحانَه في غيرِ مَوْضِع من كتابهِ العزيزِ، فحرَّمَهُ في هذه السورة، وقال في سورةِ المائدةِ، وهي من آخِرِ ما نَزَلَ:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} [المائدة: 2]، وقال أيضاً:{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ} [المائدة: 97].

واستدل الآخرونَ (1) بأنَ النبي صلى الله عليه وسلم غزا هوازنَ بِحُنَيْنٍ، وأَنْفَذَ سَرِيَّةً إلى أَوْطاسٍ، وحاصَرَ ثقيفاً بالطَّائِفِ في الشهر الحَرام، وبايع أصحابه بالحُدَيبيَةِ بيعةَ الرّضوانِ على القِتال في ذي القعدة (2).

ولا حُجَّةَ لهم في ذلكَ:

أَمَّا بيعةُ الرضْوانِ، فإنَ النبي صلى الله عليه وسلم إنما بايَعَ المُسلِمين لمَّا بلغَهُ الخَبَرُ بقتل عُثمانَ، وأَنَّ قريشاً عازمون على قتاله (3).

وأمّا غزوةُ هَوازنَ، وأُوطاسٍ، والطَّائِفِ، فلم تكنْ في الشهر الحرام؛

فإنَّ فتحَ مكةَ كانَ في شهرِ رمضانَ، وأقامَ النبي صلى الله عليه وسلم بمكةَ عشرةَ أيامٍ، أو تِسْعَةَ عَشَرَ يوماً؛ كما قالَ ابنُ عباسٍ (4)، ثم خرجَ إلى حُنَيْنٍ في رمضان؛ كما ذكرهُ البخاري عن ابنِ عباس قال: خرجَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في رَمَضانَ إلى

(1) يعني: من قال بالنسخ.

(2)

انظر: "الناسخ والمنسوخ" للنحاس (ص: 33)، و"الناسخ والمنسوخ" لابن العربي (2/ 27)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (2/ 1/ 41).

(3)

انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 206).

(4)

رواه البخاري (4047)، كتاب: المغازي، باب: مقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة زمن الفتح.

ص: 376

حُنينٍ (1)، وأنفذ السرية إلى أَوْطاسٍ لَمَّا فرغَ من حُنَيْنٍ (2).

وكان حِصارُ الطائِفِ في شَوَّالٍ؛ كما ذكرهُ البُخاريُّ عن موسى بنِ عُقْبَه (3).

ولعلَّهُ إنما أوهم هؤلاءِ ما رواهُ البخاريُّ: أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم اعتمرَ عُمْرَةً من الجعْرانَةِ (4) حيثُ قَسَمَ غنائِمَ حُنَيْنٍ في ذي القَعْدَةِ (5)، والله أعلم.

وسيأتي تعريفُ الشَّهر الحَرام في سورة (براءة) - إن شاء الله تعالى-.

* * *

* قوله تبارك وتعالى: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217].

* فيها دليلٌ على أن العملَ الأخرويَّ لا يحْبَطُ بنَفْسِ الرِّدَّةِ، بل يكونُ العملُ موقوفاً على الموت، فإن ماتَ على الردَّةِ، حبطَ عملُه، وإنْ عادَ إلى

(1) رواه البخاري (4028)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الفتح في رمضان.

(2)

رواه البخاري (4068)، كتاب: المغازي، باب: غزوة أوطاس، ومسلم (2498)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي موسى وأبي عامر الأشعريين، عن أبي موسى.

(3)

انظر: "صحيح البخاري"(4/ 1572)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الطائف.

(4)

الجعْرانَة: موضع بين مكة والطائف، وهي بتسكين العين والتخفيف، وقد تكسر العين وتشدَّد الراء.

"القاموس المحيط"(مادة: جعر)(ص: 330). "اللسان"(مادة: جعر)(4/ 104).

(5)

رواه البخاري (2901)، كتاب: الجهاد، باب: من قسم الغنيمة في غزوه وسفره، عن أنس بن مالك. والبخاري أيضاً (3917)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الحديبية.

ص: 377

الإسلام، لم يحبطْ عملُه قبلَ الرِّدَّةِ، ولم يجبْ قضاؤه، وبهذا قال الشافعي (1).

وذهبَ مالكٌ، وأبو حنيفَة (2) إلى أن العمل يَحْبَطُ بنَفْسِ الردَّةِ، فإنْ عادَ إلى الإسلام، كان عليه قضاءُ الحج دونَ الصَّلاةِ والصِّيامِ؛ لقوله تعالى:{وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة: 5][ولقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (3) [الزمر: 65].

ودليلُ الشافعيِّ أظهرُ؛ لأنَّ الردَّةَ فيهِ مقيدَة بالمَوتِ، وفي غيرهِ مطلَقَةٌ، والمطلقُ مُرَتَّب على المُقَيَّدِ، ولا يجوزُ أنْ يُقالَ: التقييدُ ذُكِرَ ليترتَّبَ عليهِ العقابُ والخُسرانُ؛ لأنَّ الخُسرانَ مذكور في آياتِ الإطلاق.

* وفيها دليلٌ على عدمِ إبطالِ العملِ الدُّنْيَوِيِّ؛ كإبطالِ بَيْعهِ ونِكاحه وسائرِ تصرفاتِه، وإزالة ملكه، إلا أنْ يموتَ على غيرِ الإسلام، وهو الصحيحُ من أقوال الشَّافعيّ (4).

(1) وهو مذهب الحنابلة. انظر: "تفسير الرازي"(3/ 2/ 40)، و"السراج المنير" للشربيني (1/ 222)، و "الإنصاف" للمرداوي (10/ 338).

(2)

انظر: "تأويلات أهل السنة" للماتريدي (1/ 161)، و"أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 207)، و"شرح شرح النخبة" للقاري (ص: 576). وانظر: "الذخيرة" للقرافي (4/ 337)، و"رد المحتار" لابن عابدين (6/ 303).

(3)

ما بين معكوفتين ليس في "ب".

(4)

وبه قال الحنفية والحنابلة. انظر: "روضة الطالبين" للنووي (10/ 78)، و"الإنصاف" للمرداوي (10/ 339)، و"الاختيار لتعليل المختار" للموصلي (2/ 419).

أما المالكية فقالوا: يسقط عنه ما تركه من حقوق الله تعالى؛ بمعنى: أنه لا يطالب بها بعد عودته إلى الإسلام؛ كالصلاة والصوم والزكاة والحد والنذر=

ص: 378

وله قولٌ أنه بِنَفْسِ الردَّة يزولُ ملكُهُ، ولا تصحُّ تصرفاتُهُ.

ولهُ قولٌ آخرُ أنه لا يزولُ ملكُهُ، وتصحُّ تصرفاتُه (1)، والله أعلم.

* * *

= واليمين وغيرها، أما حقوق العباد فلا تبطل، وهي مبطلة للنكاح والوصية.

انظر: "الذخيرة" للقرافي (4/ 335)، و"حاشية الدسوقي"(4/ 474).

(1)

انظر هذين القولين في: "روضة الطالبين" للنووي (10/ 78)، و"مغني المحتاج" للشربيني (5/ 440).

ص: 379