المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌مقدِّمة جَامِعَة في أصول الفقه والتَّفسِيْر

- ‌القولُ في الأسماءِ المُفْرَدَةِ

- ‌القولُ في البَيِّنِ والمُشْكِلِ

- ‌فصل (المُشْكِلُ)

- ‌وأَمَّا المركَّباتُ، فيأتي على وُجوهٍ -أيضاً

- ‌منها: الاشتراكُ بين الأمرِ والخَبَر:

- ‌ومنها: الاشتراك بين السؤال والتَّنْبيهِ:

- ‌ومنها: الاشتراك بينَ السؤالِ والدُّعاء

- ‌ومنها: الاشتراك في المَفْعولِ إذا تنازعَه فِعلان يَقْتضيانِ مُقْتَضًى واحداً:

- ‌ومنها: الاشتراك في الإبهام:

- ‌واختلفَ علماؤنا في مسائلَ:

- ‌القَولُ في العَامِّ والخَاصِّ

- ‌الفصل الأول في الألفاظ

- ‌الفصل الثاني في كيفيةِ استعمالِ العرب للعامِّ واتِّساعها فيه

- ‌الفصلُ الثالِثُ في الخَاصِّ

- ‌الفصلُ الرابُع في ترتيبِ العامِّ على الخاص

- ‌القولُ في المُطْلَقِ والمُقَيَّدِ

- ‌القول في الحقيقة والمجاز

- ‌ الأول: الاستعارةُ:

- ‌الثاني: التّشبيهُ:

- ‌الثالثُ: الزيادَةُ:

- ‌الرابع: النّقصان:

- ‌الخامس: التقديمُ والتأخيرُ:

- ‌السادس: المحاذاةُ والمُقابَلَةُ للشيءِ بمثلِ لَفْظِهِ معَ اختِلاف المعنى:

- ‌الثامنُ: أَنْ يُسَمَّى الشيءُ بما كانَ عليهِ:

- ‌التاسع: تسميتُهم الشيءَ بما يَستحيلُ وُجودُه:

- ‌القول في الأمر والنهي

- ‌الفصلُ الأولُ وفيه أربعُ مسائلَ:

- ‌ الأولى: الأمر هَلْ يقْتَضي الوُجوبَ

- ‌ الثانية: إذا وردَ لفظُ الأمرِ، وفي الصيغةِ ما يدلُّ على التكْرارِ

- ‌ الثالثةُ: الأَمْرُ هَلْ تقتَضي الفِعْلَ على الفَوْرِ، أوْ لا

- ‌ الرابعةُ: إذا وَرَدَ الأمْرُ بعدَ الحَظْرِ والمنعِ، فهل يقْتَضي الوُجوبَ؟ فيه مذهبان:

- ‌الفصل الثاني في تَصَرُّفِ العَرَبِ بِصيغَةِ الأمرِ

- ‌ الأولُ: أن يكون أمرًا ومعناهُ الوجوبُ

- ‌الثاني: أمرٌ ومعناه الاسْتِحْبابُ

- ‌الثالث: أمرٌ ومعناه الإرشاد

- ‌الرابع: أمرٌ ومعناهُ التأديبُ

- ‌الخامس: أمرٌ ومعناهُ التخييرُ

- ‌السادس: أمر ومعناهُ الإباحَةُ

- ‌السابع: أمرٌ ومعناهُ التَّسخيرُ، وبعضُهم يقولُ:

- ‌الثامنُ: أمر ومعناهُ التَّحْقيرُ

- ‌التاسع: أمر ومعناهُ التَّعْجيزُ

- ‌العاشرُ: أمرٌ ومعناهُ التَّكوينُ

- ‌الحادي عَشَرَ: أمر ومعناهُ الوَعيدُ والتَّهديدُ

- ‌الثاني عَشَرَ: أمر ومعناهُ التَّفَكرُ والاعْتِبارُ

- ‌الثالثَ عَشَرَ: أمرٌ ومعناهُ الصَّيْرورَةُ

- ‌الرابعَ عَشَرَ: أمرٌ ومعناهُ الدُّعاء

- ‌الخامسَ عَشَرَ: أمر ومعناه التَّفْويضُ والتَّسليمُ

- ‌السادِسَ عَشَرَ: أمرٌ ومعناه التعجُّبُ

- ‌السابعَ عَشَرَ: أمرٌ ومعناهُ الإِنْعامُ

- ‌الثامِنَ عَشَرَ: أمرٌ ومعناهُ التَّمَنِّي

- ‌التاسِعَ عَشَرَ: أمر ومعناه التَّلَهُّفُ

- ‌العِشرونَ: أمرٌ ومعناهُ الخَبَرُ

- ‌فصل

- ‌إحداهُما: النَّهْيُ يقْتَضي التَّحْريم

- ‌المسألة الثانية: النَّهْيُ هل تقْتَضي الفَساد؟ فيه أقوالٌ:

- ‌القول في الخبر

- ‌القول في القرائن

- ‌القولُ في مَعرفة المُتشابه والمُتعارض

- ‌(القول في الناسخ والمنسوخ)

- ‌الفصل الأول في معنى النسخ وحقيقته

- ‌الفصل الثَّاني في أقسام النسخ والناسخ والمنسوخ

- ‌الفصلُ الثالث فيما يَجوزُ نسخُه وما لا يجوزُ

- ‌الفصلُ الرابعُ فيما يجوزُ أن يكونَ ناسخاً، وما لا يجوز

- ‌الأولُ: نسخُ القرآنِ بالقرآنِ:

- ‌الثَّاني: نسخ السُّنَّةِ بالسُّنَّةِ:

- ‌الثالث: نسخُ القرآنِ بالسُّنَّةِ:

- ‌الرابع: نسخُ القرآنِ بالإجماعِ:

- ‌الخامس: نسخُ السُّنَّةِ بالقُرآنِ

- ‌السادس والسابع: نسخُ الإجماع بالقرآنِ، ونسخُ الإجماعِ بالسُّنَّةِ: مستحيلٌ وغيرُ جائزٍ اتّفاقاً

- ‌الفصل الخامس في الطَّريق إلى معرفة الناسخ والمنسوخ

- ‌القول في السُّنَّة وأنواعها وترتيبها وتقديم بعضها على بعض

- ‌الفصلُ الأولُ في السُّنَّة

- ‌الفصل الثَّاني في بيانِ أنواعِ السُّنَّةِ

- ‌الفصلُ الثالثُ في ترتيبِ بعضِها على بعضٍ

- ‌الفصلُ الرابعُ تقديمُ بعضِها على بعضٍ

- ‌(القول في القياس)

- ‌(خاتمة المقدِّمة)

- ‌سُوْرَةُ البَقَرَةِ

- ‌(من أحكام الصَّلاة)

- ‌(من أحكام الحج)

- ‌(من أحكام الأطعمة)

- ‌(من أحكام القصاص)

- ‌(أحكام الوصايا)

- ‌(من أحكام الصِّيام)

- ‌(من أحكام القضاء)

- ‌(من أحكام الجهاد)

- ‌(من أحكام الجهاد)

- ‌(من أحكام الحج)

- ‌(من أحكام النفقة)

- ‌(من أحكام الجهاد)

- ‌(تحريم شرب الخمر)

- ‌(معاملة اليتامي)

- ‌(حكم نكاح المشركات والكتابيات)

- ‌(من أحكام الحيض)

- ‌(من أحكام النكاح)

الفصل: ‌(من أحكام الجهاد)

(من أحكام الجهاد)

12 -

(12) قوله جل جلاله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190].

* أحسنُ القولِ في هذه الآيةِ قولُ ابن عباسٍ ومجاهدٍ وعمرَ بنِ عبد العزيزِ -رضيَ الله تعالى عنهم-، وهو أن اللهَ سبحانه وتعالى أوجبَ على المؤمنين قِتَال المُخالفين لهم في الدِّين الذين فيهم مقدرةٌ على القِتال، ونهاهم عن الاعتداء بقتلِ الذينَ لا قِتالَ فيهم؛ كالصبيانِ والنساءِ والشيخِ الكبير. وقد بيَّنه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فنهى عن قتل النِّساء والولدان لمَّا بعثَ إلى ابنِ أبي الحُقَيقِ (1).

فالآيةُ على هذا القول محكَمَة لا نسخَ فيها.

وقال قومٌ: هذه الآية (2) أولُ آيةٍ نزلتْ في القتال، أبيح لهم أن يُقاتلوا مَنْ قاتلهم، ولا يَعْتَدوا فيقاتلوا من لم يقاتلْهم، ثم نُسِخَ النهيُ عن

(1) رواه أبو عوانة في "مسنده"(6587)، والطبراني في "مسند الشاميين"(1760)، وابن عبد البر في "التمهيد" (11/ 66) عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك. وانظر:"تفسير الطبري"(2/ 189)، و"معالم التنزيل" للبغوي (1/ 236)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (1/ 2/ 323).

(2)

"الآية" ليست في "أ".

ص: 279

قتالِ من لم يقاتلهم بالأمرِ بالقتل والقتال (1).

والقولُ بالنسخِ مع وجودِ التأويلِ ضعيفٌ لا يُصارُ إليه إلا بتوقيفٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (2).

وتحتملُ الآيةُ عندي تأويلًا حسنًا ظاهرًا، وهو أن يكونَ أمرَهُم اللهُ تبارك وتعالى بقتالِ الذين يُقاتلونهم عند المسجِد الحَرام إذا قاتلوهم فيه، ولا يعتدوا فيقتلوا (3) من لم يقاتلْهم ابتداءً.

ويشهد لهذا التأويلِ ويقوِّيه قولُه سبحانه وتعالى: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 191]، وقولهُ عز وجل:{وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]. ويكون المرادُ بـ "سبيلِ الله": المسجدَ الحرام؛ كقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 217].

ثم وجدتُ -بعد وضعي لهذا الكتابِ بأحوال- بعضَ المفسرينَ الحُفَّاظ قدْ جعلَ هذا التأويلَ تفسيرًا، وقال: نزلت هذه الآيةُ في عُمْرَةِ القَضاء لمّا خاف المسلمون غَدْر الكُفار لمَّا شَرَطوا أن يُخْلوا لهم مكةَ في العامِ القابل

(1) وهو قول الربيع بن أنس، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم. انظر:"تفسير الطبري"(2/ 189)، و "معالم التنزيل" للبغوي (1/ 236)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (1/ 2/ 323)، و "تفسير ابن كثير"(1/ 400).

(2)

قال أبو جعفر الطبري في "تفسيره"(2/ 190): دعوى المدَّعي نسخ آية، يحتمل أن تكون غير منسوخة، بغير دلالة على صحة دعواه، تحكُّمٌ والتحكُّم لا يعجز عنه أحد.

(3)

في "ب": "فيقاتلوا".

ص: 280

بعد عام الحُدَيْبيَةِ، وكرهوا (1) القتالَ في الشهر الحرام. ولكنه لم يسنِدهُ ولم يَعْزُ إلى أحَدٍ (2).

* * *

13 -

14 (13 - 14) قوله عز وجل: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 191، 192].

-: {حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} : حيثُ وجدتموهم.

- {وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} يعني: مكة المشرَّفةَ، شرفَها اللهُ الكريمُ وعظَّمها.

{والفتنة} هنا هي الشرك، مُقْتصٌّ من قوله تعالى:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193]، وقوله تعالى:{وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 217].

* ثم اعلموا -يرحمكم اللهُ الكريم وإياي-: أنَّ القولَ في هذه الآية من أشدِّ الأمورِ وأصعبِها وأكربها. وها أنا أحكي أقوال أهل العلم، وأتكلمُ على منتهى فَهْمي، وأستعين اللهَ الكريَم وأستهديه؛ إنه وليُّ ذلك، والقادر عليه.

فأقول: اعلموا أنَّ العرب كانت تحرم القتل والقتال في المسجد

(1) في "ب": "فكرهوا".

(2)

قد ذكر هذا كلٌّ من الواحدي، والبغوي، وابن الجوزي، والقرطبي. فعزوه جميعًا إلا القرطبي إلى ابن عباس رضي الله عنهما. انظر:"أسباب النزول"(ص: 49)، و"معالم التنزيل"(1/ 237)، و"زاد المسير"(1/ 179)، و"الجامع لأحكام القرآن"(1/ 2/ 323).

ص: 281

الحرام، وفي الأشهر الحُرُمِ، وكان ذلك مِمَّا تَمَسَّكوا به، وبَقُوا عليه من دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام.

وكان الأمرُ كذلكَ في صدرِ الإسلامِ بشرعٍ من الله جل جلاله فقال سبحانه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة: 217]، وقال سبحانه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [المائدة: 2].

ثم أمر الله سبحانه المؤمنين بقتل المشركين حيث ثَقِفوهم (1)، وذلك عامٌّ في جميع الأمكنة؛ المسجدِ الحرامِ وغيرِه، وأمرهم بإخراجهم من حيثُ أخرجوهم، وذلك نصٌّ في مكان مكة المعظمة -شرَّفَها الله العظيمُ وعظَّمها- ولكن الأمر بالقتل والإخراج مطلَقٌ في الأزمان والأحوال.

ثم بيَنَ اللهُ سبحانَه للمؤمنين هذا الإطلاق، فقال:{وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 191]، فحرم الابتداء بقتالهم عند المسجد الحرام حتى يقُاتِلوا فيه ويَهْتِكوا حُرْمَته، فيُقتصُّ منهم فَتُهتك حُرْمَتُهم فيه؛ كما قال سبحانه:{الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194].

* فإن قلتم: فما الحكم في القتال في المسجد الحرام مع الكفار والبغاة -حرسه اللهُ الكريمُ وطهَّره- فهل (2) يجوز الآن إذا تغلبوا، أو لا يجوز كما كان في صدر الإسلام؟

قلت: اختلفَ أهلُ العلمِ في ذلكَ:

(1) في "ب": "ثقفتموهم".

(2)

في "ب": "هل".

ص: 282

- فقال مجاهدٌ وطاوسٌ وقومٌ من الفقهاء: لا يجوزُ قتالُهم في الحَرَم (1).

وبهِ قالَ القَفَّال شارحُ "التلخيص" من الشافعيّة (2).

وحَكى الماورديُّ من الشافعيَّةِ أَنَّ من خصائصِ الحَرَم ألّا يحارَبَ أهلُهُ، وإن بَغَوْا على أهل العدل، فقد قال بعضُهم: يحرُمُ قتالُهم، بل يُضَيَّقُ عليهم حَتَّى يرجِعوا إلى الطاعة، ويدخلوا في أحكام أهل العدل (3).

ولهم من الدليل: هذه الآية، وما في معناها، ومن السنَّةِ ما رويناه (4) في "الصحيحين" عن أبي شريح العَدَويِّ -رضيَ اللهُ تعالى عنه- أنه قال لعمروِ بنِ سعيدِ بنِ العاص، وهو يبعثُ البُعوثَ إلى مكة-: اِئْذَنْ لي أيُّها الأمير أن أُحدِّثَكَ قولًا قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم الغدَ من يومِ الفتحِ، فسمعته أُذنايَ، ووعاهُ قلبي، وأَبْصَرَتْهُ عيناي حينَ تكَلَّمَ به؛ إنه حَمِد اللهَ وأثنى عليه، ثم قال: "إن مَكَّةَ حَرَّمَها اللهُ ولم يُحَرِّمْها الناسُ، فلا يحلُّ لامرئٍ يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ أن يَسْفِكَ فيها (5) دمًا، ولا يَعْضِدَ (6) بها شجرةً، فإنْ

(1) انظر: "تفسير الطبري"(2/ 192)، و"أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 151)، و"زاد المسير" لابن الجوزي (1/ 181)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (1/ 2/ 327).

(2)

نقله عن القفال: النووي في "المجموع"(7/ 467).

(3)

انظر: "الأحكام السلطانية" للماوردي (ص: 260). وانظر: "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 24 - 25).

(4)

في "ب": "روينا".

(5)

في "ب": "بها".

(6)

يعضد: عَضَدَ يعضِدُ من باب ضرب يضرب: معناها: قطع يقطع. انظر: "القاموس"(مادة: عضد)(ص: 271).

ص: 283

أحدٌ تَرَّخص لقتالِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فقولوا (1): إن الله قد (2) أَذِنَ لرسوله، ولم يأذنْ لكم، وإنما أَذِنَ لي ساعةً (3) من نَهارٍ، وقد عادتْ حرمتُها اليومَ كحرمتِها بالأمسِ، فَلْيُبلِّغِ الشاهدُ (4) الغائبَ" فقيل لأبي شريح: ما قال لك؟ قال: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح! إن الحرمَ لا يُعيذُ عاصيًا ولا فارًّا بدم، ولا بخربة (5).

وهذا نصٌّ مكررٌ مؤكَدٌ في هذا الحديث الصحيح يدلُّ على تحريمِ قتالِ أهلِ مكَّةَ، وقتالُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم إنما كان مع المشركين.

وأما قولُ عمرٍو: أنا أعلمُ بذلك منك، إن الحرَم لا يعيذُ عاصِيًا ولا فارًّا بدمٍ، ولا بخربة، فمن كلامه (6).

(1) في "ب" زيادة "له".

(2)

"قد" ليست في "أ".

(3)

في "ب" زيادة "واحدة".

(4)

في "ب" زيادة "منكم".

(5)

رواه البخاري (104)، كتاب: العلم، باب: ليبلغ العلم الشاهد الغائب، ومسلم (1354)، كتاب: الحج، باب: تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها ولقطتها.

والخربة: الجناية والبلية. وانظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (2/ 17).

(6)

قال ابن القيم رحمه الله في "زاد المعاد"(3/ 446): يردُّ -يعني: عمرو بن سعيد الأشدق- به حديثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين روى له أبو شريح الكعبي هذا الحديث، كما جاء مبيَّنًا في "الصحيح".

قال ابن حزم في "المحلى"(10/ 498)؛ ولا كرامة للطيم الشيطان، يريد أن يكون أعلم من صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بما سَمعِه ذلك الصاحبُ رضي الله عنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنا لله وإنا إليه راجعون على عظيم المُصاب في الإسلام.

ص: 284

- وقال أكثرُ أهلِ العلم: يقاتَلون (1) ، وأجابوا عن الآية الكريمة بأنها منسوخةٌ.

واختلفوا في الناسخ لها: (2)

فقال قَتَادَةُ: هي منسوخةٌ بقوله تعالى: [{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} (3) [البقرة: 193].

وقال قوم (4)، هي منسوخة بقوله تعالى] (5):{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} (6)[التوبة: 5]، و (براءة) نزلتْ بعدَ البقرةِ بِمدَّةٍ طويلةٍ.

(1) انظر: "الأحكام السلطانية" للماوردي (ص: 260)، و"المجموع" للنووي (7/ 467).

(2)

انظر: "الناسخ والمنسوخ"(ص: 33 - 34)، و"المصفى بأكف أهل الرسوخ" (ص: 19 - 20)، و"ناسخ القرآن العزيز ومنسوخه" (ص: 26)، و"قلائد المرجان" (ص: 78 - 79).

(3)

انظر: "معالم التنزيل" للبغوي (1/ 37). وقد نقل ابن الجوزي عنه في "زاد المسير"(1/ 181) أنه قال: هي منسوخة بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} . وانظر: "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (1/ 2/ 327).

(4)

النسخ بهذه الآية قد نسب إلى قتادة كما تقدم. أما النسخ بقوله تعالى: {حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} ، فقد نسبه ابن الجوزي في "زاد المسير"(1/ 181) إلى الربيع بن أنس وابن زيد. وقد ذكر القولان عن قتادة الطبريُّ في "تفسيره"(2/ 192).

(5)

ما بين معكوفتين ليس في "أ".

(6)

رواه ابن أبي شيبة في "تفسيره"، وعبد بن حميد في "تفسيره"، وأبو داود والنحاس معًا في "الناسخ والمنسوخ". انظر:"الدر المنثور" للسيوطي (1/ 495).

ص: 285

وما ذكر هؤلاءِ من النسخِ بآية (براءة) غيرُ مستقيم، لوجوهٍ:

أحدها: أنَّ قولَ الله سبحانه في سورةِ المائدة: {لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} [المائدة: 2] يوافق آيةَ البقرة، والمائدة (1) نزلت بعد (براءة) في قولِ أكثر أهل العلم بالقرآن.

وثانيها: أن آيةَ (براءة) تدلُّ على تعظيم الأشهر الحرم، فقال:{فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]، وما شأن الشهرِ الحرامِ والبلدِ الحرام إلا واحد.

وثالثها: أن (حَيْثُ) كلمةٌ تدلُّ على المكان، ولكنها عامةٌ في أفراد الأمكنة، فتكونُ على عمومها، وآية البقرة نَصٌّ في النهي عن القتال في مكانٍ مخصوص، وهو المسجدُ الحرام، فيقضى بخصوصها على عموم آية (براءة)، وإن تأخر نزول (براءة) عن سورة البقرة، فلا تعارضَ بين الآيتين، فلا نسخَ، بل كل آية منهما حكمها في حالٍ غيرِ الحالِ الذي فيه حكمُ الآية الأخرى، ويكونُ التقدير: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم، إلا أن يكونوا في المسجد الحرام، فلا تقاتلوهم (2) فيه حتى يقاتلوكم فيه. ألم يرَ هؤلاء إلى صدرِ آية البقرةِ كيفَ يوافقُ لفظُها لفظَ آية (براءة)، ويزيد عليه في التصريح والبيان قوله -سبحانه-:{وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} [البقرة: 191]، ولم يكنْ أولُ الآيةِ مُناقِضًا لآخرها، فلا يجوز أن تكون آيةُ (براءة) ناسخةً لهذه الآية.

- وأما قولُ قتادة، فإن صحَّ له النقلُ عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنها ناسخةٌ له (3)،

(1) في "ب": "يوافق آية المائدة، والبقرة"، وهو خطأ.

(2)

في "ب": "تقتلوهم".

(3)

في "ب": "لها".

ص: 286

فهو المعتمَدُ، ولا يصحُّ ذلكَ مع قوله صلى الله عليه وسلم:"فهو حَرامٌ بحُرْمَةِ اللهِ إلى يومِ القيامةِ"(1)، إلَّا على قولِ بعضِ أهل العلم بالنظرِ والاستدلَال (2).

- وأما الجمعُ بين الآيتين فظاهرٌ، وذلك أنَّ قولَه تعالى:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193] مطلق في الأمكنة والأزمنة والأحوال، وآية (3) البقرة مقيَّدَةٌ ببعضِ الأمكنةِ، فيقضى بالمُقَيَّدِ على المُطْلَقِ، ويكون التقدير: فقاتلوهم في غيرِ المسجدِ الحرامِ حتى لا تكونَ فتنة. وإذا أمكن الجمعُ فلا نسخ.

- وأما الجوابُ عن حديث أبي شريحٍ -رضي الله تعالى عنه- فقيل: إنَّ الشافعيَّ -رحمه اللهُ تعالى- أجابَ عنه وعن مثله بأنَّ معناهُ تحريمُ قِتالهم بما يَعُمُّ؛ كالمنجنيقِ، وغيره، إذا لم يكنْ إصلاح الحال إلا (4) بذلك، بخلاف ما إذا اتحصَّن (5) الكفارُ في بلدٍ آخرَ؛ فإنه يجوزُ قتالُهم على كلِّ وجهٍ و (6) بكلِّ شيء (7).

(1) رواه البخاري (1737)، كتاب: الإحصار وجزاء الصيد، ومسلم (1353)، كتاب: الحج، باب: تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها ولقطتها، عن ابن عباس.

(2)

قلت: يعني بذلك أن في الحديث مذكورٌ قولُه: "

. إلى يوم القيامة"، فكيف يجوز نسخه مع هذا؟! وهي مسألة مشابهة لقولهم: إذا قرن الحكم بلفظ التأبيد، هل يجوز نسخه؟ فالجمهور على جوازه، وخالف فيه بعض العلماء؛ كالجصاص، وحكاه عن أصحاب أبي حنيفة. انظر: "المحصول" للرازي (3/ 328)، و"البحر المحيط" للزركشي (4/ 98).

(3)

في " أ": "وأن".

(4)

"إلا" ليس في "أ".

(5)

في "أ": "انحصر".

(6)

الواو ليست في "أ".

(7)

هذا الجواب ذكره النووي في "المجموع"(7/ 468).

ص: 287

وهذا التأويلُ فاسدٌ؛ لمعارضةِ النصِّ الصَّريحِ في بيانِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم الخصوصية (1) بإحلالها لهُ ساعةً من نَهار، وتحريم ذلكَ على غيرهِ تحريمًا مطلقًا. فقال:"وإن أحدٌ ترخَّصَ لقِتال رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقولوا: إن اللهَ أذِنَ لرسولهِ، ولم يأذنْ لكمْ"(2)، والذي أذن فيه للرسول صلى الله عليه وسلم إنَّما هو مطلقُ القتال لا القِتالُ المخصوص بالذي يَعُمُّ.

وأيضًا لم يكنْ قتالُهُ صلى الله عليه وسلم لأهل مكة بما يَعُمُّ. وليس له في تأويله دليلٌ على تخصيص الحديث بما ذكر، بل الحديثُ نصٌّ في أنّ لمكَّةَ المعظَّمَةِ -عظَّمها اللهُ سبحانه- حرمةً مطلقة لا تقييد فيها، وبعيدٌ أن يصحَّ مثلُ هذا عن الإمامِ أبي عبدِ اللهِ الشافعي -رحمَهُ اللهُ تعالى-، وفي ظَنِّي أنه أجابَ عن الأحاديثِ في قتله للملتجئ إلى الحرم: بأن الذي نُهِيَ عنهُ القِتالُ العامُّ، لا القَتْلُ الخاصُّ بِحَقٍّ، فنُقِل مِن ثَمَّ إلى هُنا بالمعنى، ونُسِب إليه، والله -سبحانه- أعلم بذلك.

ثمَّ بعد كتبي (3) لهذا الكتاب بثلاثة أحوال وجدْتُ قولَ الشافعيِّ كما ظننتُهُ، وبخلافِ ما نُقِلَ عنه، قال الربيعُ: قالَ الشافعيُّ: فلو أن قومًا من أهل دار الحرب لجؤوا إلى الحرم، أخِذوا كما يؤخَذون في غير الحرم، يُحْكم فيهم من القتلِ أو غيرِه كما يُحْكَم فيمن كان في غيرِ الحرم.

فإن قال قائل: فكيفَ زعمتَ أنَّ الحرم بحالي لا يمنعُهم، وقدْ قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في مكة:"هي حرامٌ بحرمة الله، لم تَحِلَّ لأَحدٍ قبلي، ولا تحلُّ لأحدٍ بعدي، ولم تحلَّ لي إلا ساعةً من نهار، وهي ساعتنا هذه"؟ (4)

(1) في "أ": "لخصوصه".

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

"كتبي" زيادة من "أ".

(4)

تقدم تخريجه.

ص: 288

قيل: إنما معنى ذلك -والله أعلم- أنها لم تحلَّ (1) أن ينصب عليها الحرب حتى تكونَ كغيرها.

فإن قيل (2): ما دلَّ على ما وصفتَ؟

قيل: أمرُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عندما قُتِل عاصمُ بنُ ثابتٍ وخُبْيبٌ رضي الله عنهما بقتل أبي سفيان في داره بمكة، إنْ قُدِرَ عليه، وهذا في الوقت الذي كانت فيه مُحَرَّمَةً يدلُّ (3) على أنها لا تمنعُ أحدًا من شيء وجبَ عليه، وإنما تمنعُ من أن يُنْصَب عليها الحربُ كما ينصَبُ على غيرها (4).

فقد بان لنا من كلامِ أبي عبد الله أَنَّ مذهَبُه تحريمُ نَصْبِ الحربِ والقتالِ على مكةَ المشرَّفةِ -شَرَّفَها اللهُ تعالى-.

فالحمدُ لله الذي بَرَّأَ أبا عبدِ الله مِمّا نسبوه إليه، فهم قومٌ لم يفرِّقوا بين المُتَغَلِّبِ والملتجئ، وأما كلامُ أبي عبدِ الله في هذه الآية، فإنه (5) يدلُّ على خِلافِ هذا، وذلك أنه قال -رحمه الله تعالى-: يُقال: نزل هذا في أهل مكة، وكانوا أشدَّ العدوِّ على المسلمين، ففرضَ اللهُ في قِتالهم ما ذكر سبحانه.

ثم قال: يقال نزل نسخُ هذا كلِّه، والنهيُ عن القِتال حتى يقاتِلوا، والنهيُ عن القتالِ في الشهرِ الحرامِ بقوله تعالى:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193]، انتهى (6).

(1) في "أ": "يحتمل".

(2)

في "ب": "قال".

(3)

في "ب": "فدلّ".

(4)

انظر: "الأم" للإمام الشافعي (4/ 309).

(5)

في "ب": "لا يدل".

(6)

انظر: "الأم"(4/ 160 - 161).

ص: 289

وقد دللت قريبًا على ضعف هذا القول، والله أعلم.

فإن قلتم: فما اختيارُك في ذلك؟

قلتُ: الذي أَختاره وأقوله وأدين الله -سبحانه- تحريمَ المسجدِ الحرامِ كما حَرَّمَهُ اللهُ جل جلاله فلا يجوزُ فيه القتال حتى يَبْدَأَ أهلُه بالقِتال، فيقاتَلون (1)؛ للنصِّ الصريح في الآية المذكورة، وفي حديث أبي شريح، ولما روي عن (2) ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يومَ فَتْحِ مَكَةِ: "إن هذا البلد حرّمه الله يومَ خلقَ السمواتِ والأرضَ، فهو حرامٌ بحُرْمَةِ الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتالُ فيه لأحدٍ قبلي، ولم يحلَّ لَي (3) إلا ساعةً من نهارٍ، فهو حرامٌ بحرمة اللهِ إلى يوم القيامة، لا يُعْضَدُ شَوْكُهُ، ولا يُنَفَّرُ صيدُهُ، ولا يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إلَّا مَنْ عَرَّفَها، ولا يُخْتَلى خَلَاها"، فقال العباسُ: يا رسول الله! إلا الإذْخِرَ (4)؛ فإنه لِقَيْنهم (5) وبُيوتهم (6)، فقال:"إلا الإذْخِرَ"(7)، فهذا -أيضًا- نصٌّ صريح في حرمتِها كما حرمها الله

(1) في "ب": "فيقتلون".

(2)

"عن" ليست في "ب".

(3)

"لي" ليست في "أ".

(4)

الإذْخِر: الحشيش الأخضر، وحشيشٌ طيِّبُ الريح. انظر:"القاموس"(مادة ذخر)(ص: 357). "اللسان"(مادة: ذخر)(4/ 303).

(5)

القينُ: العبدُ، جمعُه قِيان، انظر:"اللسان"(13/ 352)، "القاموس" (ص: 1105) (مادة قين).

(6)

قال النووي في "شرح مسلم"(9/ 127): قينهم -بفتح القاف-: هو الحداد والصانع، ومعناه: يحتاج إليه القين في وقود النار، ويحتاج إليه في القبور لِتُسَدَّ به فُرَج اللَّحد المتخللة بين اللَّبنَات، ويحتاج إليه في سقوف البيوت، تجعل فوق الخشب.

(7)

تقدم تخريجه.

ص: 290

-تعالى-، وأنَّ حرمتَها مُؤَبَّدَةٌ إلى يومِ القيامة.

وأما استدلالُ مَنْ أباحَ القِتال بالمعنى: بأنَّ قتالَ الكفارِ والبُغاةِ من حُقوقِ اللهِ -سبحانه-، فيجب حفظُها، ولا يجوز إضاعتُها، وحفظُها في المسجدِ الحرامِ أولى، ولأنه إذا جازَ قتلُ الفواسِقِ الخَمْسِ لفسقها، وهي لا تكليف عليها، فقتلُ الفاسقِ المُكَلَّفِ أَوْلى، فلا حُجَّةَ فيه مَعَ وجودِ نَصِّ الكتاب والسُّنَّةِ.

وأما حفظُ حقِّ اللهِ -سبحانَهُ- في المسجدِ الحَرامِ، فَمُمْكِنٌ، وهو أن نقاتِلَهُم إنْ وجدناهم خارجَ المسجدِ الحَرامِ، ونأخذَهُم بالأسر من المَسْجدِ الحَرامِ من غيرِ قتلٍ ولا سفكِ دمٍ إنْ أمكنَ، وإلا فَنُضيِّقُ (1) عليهم حتى يبدؤوا بالقتال، فحينئذٍ نَقتلهم؛ كما أحلَّ اللهُ -سبحانه- ذلك، ثم نطَهِّرُ المسجدَ الحرامَ منهم، ونحرسُه فلا يقربونه؛ كما قالَ جل جلاله [{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة: 5].

وَكما قال جل جلاله] (2) -: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28].

وأما قتلُ الفواسقِ الخمس، فإنَّ قتلَها مباح في الأصلِ؛ لأنها غيرُ صيدٍ، وكذلك يجوزُ قتلُ غيرِها مِمَّا ليس بصيد، ما لم يُنْهَ عنه. وتخصيصُ الفواسِقِ بالذكر؛ لفِسقها، فقتلُها مستحبٌّ، وليس بواجب، وغيرها مِمّا لا فسق فيه قتلُهُ جائز، وليس بمستحبٍّ، فهذا فائدةُ

(1) في "ب": "فيضيق".

(2)

ما بين معكوفتين ليس في "أ".

ص: 291

التخصيص بالفسق (1)، وهذا ما انتهى إليه فَهْمي.

وقد ظهر لكم ممّا ألحقته في كتابي من قول أبي عبدِ الله الشافعي أنه يوافق ما ذهبتُ إليه. وإن كانَ جميعُ منْ لقيتهُ من متفقهة الشافعية يعتقدُ خِلافَ ذلك عنه استحسانًا من نفسِه بغيرِ نَقْلٍ ولا دَليلٍ، كما اعتقده ابنُ خوازمنداد المالكي، وادَّعى ما ليسَ له عليه برهانٌ ولا دليل، فقال: الآيةُ منسوخةٌ؛ لأن الإجماعَ قد تقررَ بأن عدوًّا لو استولى على مكة، وقال: لا أُقَاتلكم، وأمنعكم من الحج، ولا أبرح (2) من مكة، لوجب قتالُهُ، وإن لم يبدأْ بالقتال، فهي وغيرها من البلاد سواء، وإنما قيلَ فيها هي حرامٌ؛ تعظيمًا لها، ألا ترى أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بعثَ خالدَ بنَ الوليدِ يومَ الفتحِ فقالَ:"احْصُدْهُمْ (3) بالشَّيفِ حَتى تَلْقاني على الصَّفا"، حتى جاء العباس فقال: يا رسول الله! هلكت قريش، فلا قريش بعد اليوم (4).

ألا ترى أنه قال في تعظيمها: "فلا يلتقطُ لُقَطَتَها إلا منشدٌ"(5)؟ (6) اللُّقَطَةُ

(1) قال ابن قدامة في "المغني"(12/ 412): والقياس على الكلب العقور غير صحيح، فإن ذلك طبعه الأذى، فلم يحرمه الحرم ليدفع أذاه عن أهله، وأما الأذى فالأصل فيه الحرمة، وحرمته عظيمة، وإنما أبيحَ لعارض، فأشبه الصائل من الحيوانات المباحة من المأكولات، فإن الحرم يعصمها.

(2)

في "أ": "أخرج".

(3)

في "ب": "اجهدهم".

(4)

رواه مسلم (1780)، كتاب: الجهاد والسير، باب: فتح مكة، عن أبي هريرة في حديث طويل. وقد ذكره المؤلف هاهنا بالمعنى.

(5)

رواه البخاري (2301)، كتاب: اللقطة، باب: كيف تعرف لقطة أهل مكة، عن ابن عباس. وعنده "ولا تحل لقطتها إلا لمنشد".

(6)

في "ب" زيادة "و".

ص: 292

بها وبغيرها سواء، ويجوز أن تكون منسوخةً بقوله تعالى:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} (1)[البقرة: 193].

فانظر كيفَ ادَّعى الإجماع في موضع الخلاف! وهذا مجاهدٌ وطاوس من كبارِ التابعينَ، والشافعيُّ من راسخي العلماءِ يُخالفون في ذلك معَ معارضَةِ نَصِّ الكِتابِ والسُّنَّةِ، وادّعى مُساواتَها لسائِرِ البلادِ، وجَعل لفظ الشارعِ في تعظيمها وتخصيصها مهملًا فارغًا من المعنى. فحينئذٍ لا يُوثَقُ بجميع خطابه، وهذا فساد في الدين.

وأمَّا إذنُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لخالدٍ، فإنما كان في الساعة التي حَلَّت لهُ، فاستدلَّ بموضع التحليل على موضع التحريم.

وأما تحليلُه لِلُقَطَتِها، فليس بِمُجْمَعٍ عليه، فكيف يستدلُّ بموضعِ الخلافِ على موضعِ الإجماع؟ فانظر إليه كيف جعل النسخ في كتاب الله بالتجويز والإمكان من غير دليل.

وإنما أوردتُ مقالتهُ وأوضَحْتُ فسادَها، وإنْ كانتْ مُسْتَحِقَّةً لعدمِ الالتفاتِ إليها؛ لئلا يَغْتَرَّ بها الضعفاءُ. والحمد الله رب العالمين.

* ثم اختلفت الفقهاءُ أيضًا في الملتجئ إلى الحرم.

- فمنهم من قال: لا يُقتلُ (2)، واستدلَّ بقراءة من قرأ:(لا تقتلوهم)(3)، وبعُمومِ الحديث.

(1) نقله عنه القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن"(1/ 2/ 327).

(2)

وهو قول ابن عباس، وعطاء، والزهري، ومجاهد، والشعبي، وإسحاق، وأبي حنيفة وأصحابه، وهو ظاهر مذهب الحنابلة. انظر:"أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 152)، و"تأويلات أهل السنة" للماتريدي (1/ 143)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (1/ 2/ 328)، و"المغني" لابن قدامة (12/ 409 - 412).

(3)

قرأ بها حمزة والكسائي والأعمش. انظر: "تفسير الطبري"(3/ 568)، =

ص: 293

- وقال الشافعيُّ: يُقتل (1)؛ لما ذكرتُه عنهُ من التخصيصِ.

ويجاب عن هذه القراءة بأنه عَبَّرَ بالقتلِ عن القِتال؛ لأنه مسببُه، فهو من باب التعبير بالمسبَّبِ عن السَبَبِ (2).

فإن قيل: فما معنى قوله تعالى: {فَإِنِ انْتَهَوْا} ؟ قلنا: معناه -والله أعلم- انتهوا بتركِ الكفر (3)، لا بتركِ القتالِ، استدلالًا بوعدِه بالمغفرة والرحمة، ولا يكونانِ إلا بتركِ الكفر، واقتصاصًا من قوله تعالى:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38]، واستدلالًا بقوله تعالى:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193]، وبقوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28]، ولأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يقرَّ أحدًا من قريش على الكفر بعدما انتهوا عن القتال.

* * *

15 -

(15) قوله جل جلاله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة: 193].

= و"إعراب القرآن" للنحاس (1/ 243)، و "التيسير" للداني (80)، و"الكشاف" للزمخشري (1/ 118)، و"معاني القرآن" للفراء (1/ 116)، و"النشر" لابن الجزري (2/ 226). وانظر:"معجم القراءات القرآنية"(1/ 149).

(1)

وهو مذهب الإمام مالك. انظر: "الأم" للإمام الشافعي (4/ 309)، و "المغني" لابن قدامة (12/ 410)، و"التفريع" لابن الجلاب (2/ 217).

(2)

في "أ": "بالسبب من المسبب".

(3)

انظر: "معالم التنزيل" للبغوي (1/ 138)، و"أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 153)، و"أحكام القرآن" للجصاص (1/ 324)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (1/ 329/2).

ص: 294

أمر الله سبحانه في هذه الآية وفي غيرِها بقتالِ المشركين حتى لا تكونَ فتنةٌ، ويكونَ الدينُ لله.

- والفتنَةُ هنا تَحْتملُ أن يكونَ المرادُ بها فتنةَ الرجلِ في دينِه، ويدلُّ عليه ما رويناه في "صحيح البخاري" عن نافعٍ: أنَّ رجلًا أتى ابن عمرَ (1) وقال: يا أبا عبد الرحمن! ما حملك على أن تَحُجَّ عامًا وتعتَمِرَ عامًا، وتتركَ الجِهَاد في سبيلِ الله عز وجل وقد علمتَ ما رَغَّبَ اللهُ فيه؟ قال: يابن أخي! بُنِي الإسلامُ على خمس: إيمان بالله ورسوله، والصلواتُ الخمس، وصيامُ رمضان، وأداءُ الزكاة، وحَجُّ البيت. قال: يا أبا عبد الرحمن! ألا تسمعُ ما ذكرَ اللهُ في كتابهِ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9]{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193]؟ قال: قد فعلْنا على عهدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وكان الإسلام قليلًا، وكان الرجلُ يُفْتَنُ في دينه؛ إما قتلوه أو عذبوه، حتى كثر الإسلامُ، فلم تكنْ فتنةٌ (2)، الحديث.

- ويحتملُ أن يكونَ المرادُ بالفتنةِ الشِّرْكَ (3)، ويدلُّ عليه قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم "لا أزالُ أقاتلُ الناسَ حتَّى يقولوا: لا إلهَ إلا اللهُ، فإذا قالوها، فقد عَصموا

(1) في "أ": "أتى عمر" وهو خطأ. وذلك في فتنة ابن الزبير. انظر: "معالم التنزيل" للبغوي (1/ 238).

(2)

رواه البخاري (4243)، كتاب: التفسير، باب: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ

}.

(3)

وهو قول ابن عباس، وقتادة، ومجاهد، والربيع بن أنس، والسدي.

انظر: "تفسير الطبري"(2/ 194)، و"أحكام القرآن" للجصاص (1/ 324)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (1/ 2/ 329)، و"تفسير ابن كثير"(1/ 402).

ص: 295

مِنِّي دِماءهم وأموالَهم إلا بِحَقِّها، وحسابُهُمْ على الله" (1).

* فإن قلتُم: فقد وردَ في كتاب الله عز وجل وسنَّةِ رسولهِ صلى الله عليه وسلم آيةٌ وسنةٌ تناقِضُ هذه الآية، وهذه السنةَ.

- أما الآيةُ، فقولُ اللهِ سبحانَهُ:{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29].

- وأما السنَّةُ، فما روى علقمةُ بن مَرْثَدٍ، عن سُليمانَ بنِ بُرَيْدَةَ، عن أبيهِ: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أَمَّرَ أميرًا على جيشٍ أو سريَّةٍ، أوصاه في خاصَّته بتقوى الله، وبمَنْ معهُ من المسلمين خيرًا، ثم قال: "اغزوا بسم الله، و (2) في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا فلا (3) تَغُلُّوا، ولا تعتدوا (4)، ولا تُمَثِّلوا، ولا تقتلوا وَليدًا، وإذا لقيتَ عَدُوَّكَ من المُشْركين، فادْعُهم إلى ثلاثِ خِلال -أو ثلاثِ خِصال- شَك عَلْقَمَةُ. ادعُهم إلى الإسلامِ، فإن أجابوك، فاقْبَلْ منهم، وكُفَّ عنهم، ثم ادْعُهم إلى التَّحَوّلِ من دارِهم إلى دارِ المُهاجرين، وأَخْبِرْهُمْ، إنْ فَعَلُوا أَنَّ لهم ما لِلْمُهاجرين، وأن عليهم ما عليهم، فإن اختاروا المُقامَ في دارهم، فأَخْبرهم أَنهم كأعرابِ المسلمين، يجري عليهم حُكْمُ الله كما يَجْري على المسلمين، ليسَ لهم في

(1) رواه الإمام الشافعي في "مسنده"(1/ 169)، والإمام أحمد في "مسنده"(2/ 314)، وغيرهما عن أبي هريرة بهذا اللفظ. وقد رواه البخاري (25)، كتاب: الإيمان، باب:{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} ، ومسلم (22)، كتاب: الإيمان، باب: الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، عن عبد الله بن عمر.

(2)

الواو ليست في "ب".

(3)

في "ب": "ولا".

(4)

في "ب": "ولا تغدروا".

ص: 296

الفَيءِ شَيءٌ إلا أَنْ يجاهدوا معَ المسلمين، فإنْ لم يجيبوك إلى الإسلام، فادعُهُم إلى أن يُعْطُوا الجِزْيةَ، فإن فَعلوا، فاقبلْ منهم ودَعْهُم، فإن أَبَوا، فاستعِن باللهِ وقاتِلْهم" (1).

قلت: ليسَ واحدٌ من الحديثينِ ولا من الآيتين معارضًا للآخر، بل آيةُ البقرة من العامِّ الذي أُريد (2) به الخاصُّ، وذلك أن لفظَهُ عامٌّ في المشركين، والمرادُ به المشركونَ من أهلِ الأوثان، وهم أكثر من قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكذلك الحديثُ مثلُه، فالأمرُ خاصٌّ ببعضِ المشركينَ، وهم عَبَدَةُ الأوثان.

وآيةُ (براءة) خاصَّةٌ ببعضِ المُشركينَ، وهم أهلُ الكتاب.

وكذلك حديثُ ابنِ بُرَيْدَةَ مثلُه.

فالفرضُ في قتال مَنْ كانَ هو أو أبوه (3) من أهل الأوثان: أن يقاتَلُوا حتى يُسْلِموا، ولا يحلُّ لنا أن نقبل منهم جِزْيَةً (4)، لما وردَ في سورة

(1) رواه مسلم (1731)، كتاب: الجهاد والسير، باب: تأمير الإمام الأمراء على البعوث، ووصيته إياهم بآداب الغزو وغيرها.

(2)

في "ب": "يراد".

(3)

في "ب": "آباؤه".

(4)

اختلف العلماء في أخذ الجزية من المشركين؛ فقال مالك والأوزاعي: إنها تقبل، وتؤخذ من كل عابد وثن، أو نار، أو جامد، أو مكذب.

وقال جمهور العلماء: إنها لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب أو المجوس.

وقال أبو حنيفة: تؤخذ من جميع الأعاجم ولو كانوا مشركين.

انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (4/ 283)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (4/ 2/ 45)، و"رد المحتار" لابن عابدين (6/ 241)، و"التفريع" لابن الجلاب (1/ 363)، و"مغني المحتاج" للشربيني (6/ 62)، و"المغني" لابن قدامة (13/ 31).

ص: 297

البقرة، ولما رواه أبو هريرة (1) والفرضُ في أهل الكتابِ ومَنْ دانَ دينهم قبل نُزول الفرقان (2) أن يقاتَلوا حتى يُسلموا، أو يُعْطوا الجِزْيَةَ؛ لِما ورد في سورة (براءة)، ولحديث ابنِ بريدة.

فإن قلتم: حديثُ ابنِ بريدةَ كانَ قبلَ الفتحِ؛ بدليل قولهِ صلى الله عليه وسلم: "ثم ادعُهُمْ إلى التَّحَوُّلِ من دارِهِمْ إلى دار المُهاجرين"، فهل يجوزُ أن يكونَ منسوخًا بحديث أبي هريرة، وأنه لا يقبل منهم إلا الإسلام؛ لكون إسلام أبي هريرة بعد الهجرة؟

قلت: قد أجمع المسلمون على قبول الجزية كما ورد في كتاب الله -سبحانه-، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي عمل الصحابة -رضي الله تعالى عنهم -، فلا يجوز نسخُهُ، ولأنه يؤدي إلى إبطال آية (براءة)، ولا دليل على نسخها.

وأما تأخر إسلام أحد الراويين، فلا يكون دليلًا على النسخ؛ لجواز أن يكونَ رواهُ عمَّن قَدُم إسلامُه، ثم أرسله عنه.

فإن قلتم: فهل يجوز لقائل أن يقولَ: يجوزُ أخذُ الجزيةِ من عبدَةِ الأوثان بحديثِ ابنِ بُريدةَ؛ بدليل أنَّ الذين كانَ يبعثُ إليهمُ السرايا كانوا أهلَ أوثانٍ، لا أهلَ كتابٍ، ويجوزُ أخذُها من أهلِ الكِتاب بآية (براءة)؟

قلت: لا يجوزُ -والله أعلم- القولُ بذلك (3)؛ لما فيه من إبطالِ قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193] من غير دليل يدُّل على

(1) وهو قوله صلى الله عليه وسلم السالف: "لا أزال أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله

" الحديث.

(2)

أي: من اتبع دين النصارى قبل النسخ ونزول القرآن، أو دين اليهود قبل نسخه بالإنجيل، والله أعلم. انظر:"مغني المحتاج" للشربيني (6/ 63).

(3)

تقدم أن هذا هو قول الإمامين مالك والأوزاعي.

ص: 298

النسخ لها، ودعوى كونِ الَّذينَ يبعثُ إليهم أهلَ أوثانٍ، باطِلَةٌ لا بُرهانَ لها، فقدْ كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يبعثُ الأُمراءَ إلى أهلِ الكتابِ، فبعثَ معاذًا وأبا موسى وعليًا إلى اليمن، وكانوا أهل كتاب. وبعثَ خالدًا إلى دُومَةِ الجَنْدَلِ، وكانوا أهلَ كتابٍ. والله أعلم.

* * *

16 -

(16) قوله جل ثناؤه: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 194].

* حرَّمَ اللهُ -سبحانه- علينا في غيرِ هذهِ الآيةِ القِتالَ في الشَّهرِ الحرام، فقال تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة: 217]، وقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} [المائدة: 2]، وسيأتي الكلام عليه -إن شاء الله تعالى- قريبًا.

وأباح لنا في هذه الآية أن نقاتلهم (1) في الشهرِ الحرامِ إنْ قاتلونا (2) في الشهرِ الحرام، كما أباحَ لنا مُجازاتَهم بذلك في المسجدِ الحرام، فقال:{الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 194].

قال ابن عباسٍ -رضيَ اللهُ تعالى عنهما-في روايةِ عَطاء: يريد: إن قاتلوكم في الشهر الحرام، فقاتلوهم في مثله. ثم عقبه الله سبحانه بلفظٍ يشملُ المسجدَ الحرامَ والشهرَ الحرام، فقال:{وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} [البقرة: 194].

* ثم بيَّنَ ذلكَ القِصاصَ بيانًا عامًا، فقالَ:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]، ويندرج في هذا العموم جملة من المسائل:

(1) في "ب": "نقتلهم".

(2)

في "ب": "قتلونا".

ص: 299

الأولى: اعتبار المماثلة في القصاص، وفي الآلة التي يُقْتَصُّ بها، وقد قال بهذا عامة أهل العلم (1)؛ لهذه الآية، ولقوله تعالى:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126]؛ وبفعلِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في اليهوديِّ الذي قتلَ الجاريَة (2)، وإن اختلفوا في التفاصيل.

الثانية: إيجابُ القِصاصِ في القَتْل بالمثقلِ.

وقد قال به مالكٌ والشافعيُّ وغيرُهما من أهلِ العلمِ.

ومنعه أبو حنيفةَ والشعبيُّ والنَّخَعِيُّ (3).

وهم محجوجون بهذه الآية، وبقتل النبيِّ صلى الله عليه وسلم اليهوديَّ بالحَجَر، ولقوله تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179]، ولأنَّ في تركِ القِصاص بالمثقلِ ذريعةً إلى إزهاقِ الأرواح، فيؤدي إلى فَسادٍ عظيمٍ.

الثالثة: فيها دلالة على أن للرجل أن يقْتل منِ اعتدى عليه متى شاءَ، لكن عارضَهُ الإجماعُ على أنه لا يجوزُ إلّا بحَضْرةِ السلطانِ، لكن اختلفوا فيما إذا لم يمكنْهُ الاستيفاءُ بالسلطان؛ لعدمِ البيِّنَةِ، هل له أن يقتصَّ حَقَّهُ في (4) مالٍ أو دم؟

فذهب الشافعيُّ إلى أنَّ له ذلكَ (5)، وروي عن مالك، وأجازهُ (6) ابنُ

(1) انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (1/ 326)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (1/ 2/ 333).

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

تقدم التحقيق في هذه المسألة.

(4)

في "ب": "من".

(5)

انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 158)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (1/ 2/ 330).

(6)

في "ب": "واختاره".

ص: 300

المنذرِ، ويدلُّ لهُ قولهُ صلى الله عليه وسلم لِهنْدٍ بنتِ عُتبةَ لمّا قالتْ لهُ: إن أبا سفيان رجلٌ شحيحٌ لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ووَلَدي، إلا ما أخذتُ من مالِه (1) بغيرِ علمِه، فهل عليَّ من جُناح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"خُذي ما يكْفيكِ وَوَلَدَكِ بالمَعْروف"(2).

والمشهورُ عن مالكٍ المنعُ، وبه قالَ أبو حنيفةَ -رحمه الله تعالى- (3).

* * *

(1) في "ب" زيادة "بيدي".

(2)

رواه البخاري (5049)، كتاب: النفقات، باب: إذا لم ينفق الرجل، فللمرأة أن تأخذ بغير علمه ما يكفيها وولدها بالمعروف، عن عائشة.

قلت: وجه دلالة الحديث: أن من وجد ماله عند غيره، فله أخذه؛ لأنه حقه، وكذلك هنا، فحقٌّ على الزوج أن ينفق على زوجه وأولاده، وإلا أخذت منه النفقة دون علمه، لأن ذلك حقها.

(3)

انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 165)، و"أحكام القرآن" للجصاص (1/ 327)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (1/ 2/ 338).

ص: 301