المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌مقدِّمة جَامِعَة في أصول الفقه والتَّفسِيْر

- ‌القولُ في الأسماءِ المُفْرَدَةِ

- ‌القولُ في البَيِّنِ والمُشْكِلِ

- ‌فصل (المُشْكِلُ)

- ‌وأَمَّا المركَّباتُ، فيأتي على وُجوهٍ -أيضاً

- ‌منها: الاشتراكُ بين الأمرِ والخَبَر:

- ‌ومنها: الاشتراك بين السؤال والتَّنْبيهِ:

- ‌ومنها: الاشتراك بينَ السؤالِ والدُّعاء

- ‌ومنها: الاشتراك في المَفْعولِ إذا تنازعَه فِعلان يَقْتضيانِ مُقْتَضًى واحداً:

- ‌ومنها: الاشتراك في الإبهام:

- ‌واختلفَ علماؤنا في مسائلَ:

- ‌القَولُ في العَامِّ والخَاصِّ

- ‌الفصل الأول في الألفاظ

- ‌الفصل الثاني في كيفيةِ استعمالِ العرب للعامِّ واتِّساعها فيه

- ‌الفصلُ الثالِثُ في الخَاصِّ

- ‌الفصلُ الرابُع في ترتيبِ العامِّ على الخاص

- ‌القولُ في المُطْلَقِ والمُقَيَّدِ

- ‌القول في الحقيقة والمجاز

- ‌ الأول: الاستعارةُ:

- ‌الثاني: التّشبيهُ:

- ‌الثالثُ: الزيادَةُ:

- ‌الرابع: النّقصان:

- ‌الخامس: التقديمُ والتأخيرُ:

- ‌السادس: المحاذاةُ والمُقابَلَةُ للشيءِ بمثلِ لَفْظِهِ معَ اختِلاف المعنى:

- ‌الثامنُ: أَنْ يُسَمَّى الشيءُ بما كانَ عليهِ:

- ‌التاسع: تسميتُهم الشيءَ بما يَستحيلُ وُجودُه:

- ‌القول في الأمر والنهي

- ‌الفصلُ الأولُ وفيه أربعُ مسائلَ:

- ‌ الأولى: الأمر هَلْ يقْتَضي الوُجوبَ

- ‌ الثانية: إذا وردَ لفظُ الأمرِ، وفي الصيغةِ ما يدلُّ على التكْرارِ

- ‌ الثالثةُ: الأَمْرُ هَلْ تقتَضي الفِعْلَ على الفَوْرِ، أوْ لا

- ‌ الرابعةُ: إذا وَرَدَ الأمْرُ بعدَ الحَظْرِ والمنعِ، فهل يقْتَضي الوُجوبَ؟ فيه مذهبان:

- ‌الفصل الثاني في تَصَرُّفِ العَرَبِ بِصيغَةِ الأمرِ

- ‌ الأولُ: أن يكون أمرًا ومعناهُ الوجوبُ

- ‌الثاني: أمرٌ ومعناه الاسْتِحْبابُ

- ‌الثالث: أمرٌ ومعناه الإرشاد

- ‌الرابع: أمرٌ ومعناهُ التأديبُ

- ‌الخامس: أمرٌ ومعناهُ التخييرُ

- ‌السادس: أمر ومعناهُ الإباحَةُ

- ‌السابع: أمرٌ ومعناهُ التَّسخيرُ، وبعضُهم يقولُ:

- ‌الثامنُ: أمر ومعناهُ التَّحْقيرُ

- ‌التاسع: أمر ومعناهُ التَّعْجيزُ

- ‌العاشرُ: أمرٌ ومعناهُ التَّكوينُ

- ‌الحادي عَشَرَ: أمر ومعناهُ الوَعيدُ والتَّهديدُ

- ‌الثاني عَشَرَ: أمر ومعناهُ التَّفَكرُ والاعْتِبارُ

- ‌الثالثَ عَشَرَ: أمرٌ ومعناهُ الصَّيْرورَةُ

- ‌الرابعَ عَشَرَ: أمرٌ ومعناهُ الدُّعاء

- ‌الخامسَ عَشَرَ: أمر ومعناه التَّفْويضُ والتَّسليمُ

- ‌السادِسَ عَشَرَ: أمرٌ ومعناه التعجُّبُ

- ‌السابعَ عَشَرَ: أمرٌ ومعناهُ الإِنْعامُ

- ‌الثامِنَ عَشَرَ: أمرٌ ومعناهُ التَّمَنِّي

- ‌التاسِعَ عَشَرَ: أمر ومعناه التَّلَهُّفُ

- ‌العِشرونَ: أمرٌ ومعناهُ الخَبَرُ

- ‌فصل

- ‌إحداهُما: النَّهْيُ يقْتَضي التَّحْريم

- ‌المسألة الثانية: النَّهْيُ هل تقْتَضي الفَساد؟ فيه أقوالٌ:

- ‌القول في الخبر

- ‌القول في القرائن

- ‌القولُ في مَعرفة المُتشابه والمُتعارض

- ‌(القول في الناسخ والمنسوخ)

- ‌الفصل الأول في معنى النسخ وحقيقته

- ‌الفصل الثَّاني في أقسام النسخ والناسخ والمنسوخ

- ‌الفصلُ الثالث فيما يَجوزُ نسخُه وما لا يجوزُ

- ‌الفصلُ الرابعُ فيما يجوزُ أن يكونَ ناسخاً، وما لا يجوز

- ‌الأولُ: نسخُ القرآنِ بالقرآنِ:

- ‌الثَّاني: نسخ السُّنَّةِ بالسُّنَّةِ:

- ‌الثالث: نسخُ القرآنِ بالسُّنَّةِ:

- ‌الرابع: نسخُ القرآنِ بالإجماعِ:

- ‌الخامس: نسخُ السُّنَّةِ بالقُرآنِ

- ‌السادس والسابع: نسخُ الإجماع بالقرآنِ، ونسخُ الإجماعِ بالسُّنَّةِ: مستحيلٌ وغيرُ جائزٍ اتّفاقاً

- ‌الفصل الخامس في الطَّريق إلى معرفة الناسخ والمنسوخ

- ‌القول في السُّنَّة وأنواعها وترتيبها وتقديم بعضها على بعض

- ‌الفصلُ الأولُ في السُّنَّة

- ‌الفصل الثَّاني في بيانِ أنواعِ السُّنَّةِ

- ‌الفصلُ الثالثُ في ترتيبِ بعضِها على بعضٍ

- ‌الفصلُ الرابعُ تقديمُ بعضِها على بعضٍ

- ‌(القول في القياس)

- ‌(خاتمة المقدِّمة)

- ‌سُوْرَةُ البَقَرَةِ

- ‌(من أحكام الصَّلاة)

- ‌(من أحكام الحج)

- ‌(من أحكام الأطعمة)

- ‌(من أحكام القصاص)

- ‌(أحكام الوصايا)

- ‌(من أحكام الصِّيام)

- ‌(من أحكام القضاء)

- ‌(من أحكام الجهاد)

- ‌(من أحكام الجهاد)

- ‌(من أحكام الحج)

- ‌(من أحكام النفقة)

- ‌(من أحكام الجهاد)

- ‌(تحريم شرب الخمر)

- ‌(معاملة اليتامي)

- ‌(حكم نكاح المشركات والكتابيات)

- ‌(من أحكام الحيض)

- ‌(من أحكام النكاح)

الفصل: ‌(من أحكام الحج)

(من أحكام الحج)

18 -

(18) قوله عز وجل: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [البقرة: 196].

أقول: اشتملت هذه الآية على جُمَلٍ من الأحكام والمناسك.

الجملة الأولى: أمرنا اللهُ سبحانه بإتمامِ الحَجِّ والعُمْرَةِ.

فيحتملُ أن يكونَ المرادُ بإتمامهما أداؤهما (1)؛ بدليل ما روي من قراءة ابنِ عمرَ وابنِ عباسٍ رضي الله عنهم: أنهما كانا يقرأان: (وأقيموا الحَجَّ والعمرة لله)(2).

فتدلُّ الجملة -حينئذٍ - على وجوبِ الحَجِّ والعمرةِ.

(1) انظر ما ذكر في معنى قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا} : "تفسير الطبري"(2/ 206)، و"معالم التنزيل" للبغوي (1/ 241)، و"أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 167)، و"زاد المسير" لابن الجوزي (1/ 185)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (1/ 2/ 340).

(2)

أخرج الطبري هذه القراءة عن ابن عباس وعلقمة وإبراهيم. انظر: "تفسير الطبري"(2/ 206).

ص: 305

وقد قالَ بوجوبِ العُمْرَةِ: عبدُ اللهِ بنُ عباسٍ، وعبدُ اللهِ بنُ عمر، وجابرٌ، وعطاءٌ، وابنُ المسيب، وسعيدُ بنُ جُبَيْرٍ، والشافعيُّ في الجديد وأحمدُ، والثَّورِيُّ، والأوزاعِيُّ (1).

واستدلُوا بالحديثِ الثابتِ عنْ عمرَ بنِ الخَطابِ رضي الله عنه: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم سُئِل عن الإسلام فقال: "أن تشهدَ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ، وأنَّ مُحَمَّدًا رسولُ اللهِ، وأن تُقيمَ الصلاةَ، وتُؤتيَ الزكاةَ، وتحجَّ البيتَ، وتَعْتَمِرَ، وتَغْتَسِلَ من الجَنابةِ، وتُتِمَّ الوُضوءَ"(2)، وبما رويناهُ في "سُنَنِ البيهقيِّ" عن أبي رَزينٍ العُقَيْلى، قال: سألتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقلت: إن (3) أبي شيخ كبيرٌ لا يستطيعُ الحجَّ والعُمْرَةَ ولا الظَّعنَ (4)، قال:"حُجَّ عن أبيكَ واعتمرْ عنه"(5).

(1) انظر: "تفسير الطبري"(2/ 209)، و"معالم التنزيل" للبغوي (1/ 241)، و"زاد المسير" لابن الجوزي (1/ 185 - 186)، و"أحكام القرآن" للجصاص (1/ 328)، و"مغني المحتاج" للشربيني (2/ 206)، و "الإنصاف" للمرداوي (3/ 387).

(2)

رواه ابن خزيمة في "صحيحه"(1)، وابن حبان في "صحيحه"(173)، والدارقطني في "سننه"(2/ 282)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(4/ 349)، وفي "شعب الإيمان" (3973). قال الدارقطني: إسناده صحيح ثابت، أخرجه مسلم بهذا الإسناد، انتهى.

قلت: ليس هذا اللفظ موجودًا على هذا الوجه في "صحيح مسلم" فتنبه. وانظر: "المجموع" للنووي (7/ 5).

(3)

"إن": ليست في "أ".

(4)

الظَّعْنُ: سيرُ البادية لنُجعةٍ أو حضور ماء، أو طلب مربع، أو تحوّل من ماء إلى ماء، أو من بلد إلى بلد، وقد يقال لكل شاخصٍ لسفر في حج أو عزوٍ أو مسير من مدينة إلى أخرى: ظاعنٌ. انظر: "اللسان"(مادة: ظعن)(13/ 271).

(5)

رواه البيهقي في "السنن الكبرى"(2/ 324)، وأبو داود (1810)، كتاب: =

ص: 306

قال البيهقيُّ: وقد روينا (1) عن أحمدَ بنِ حنبلٍ: أنه قال: لا أعلمُ في إيجاب العُمْرَةِ حديثاً أجودَ من هذا، ولا أصحَّ منه (2).

واستأنس الشافعيُّ بأن الله - سبحانه - قرنَها مع الحَجِّ، وتَبِعَ في الاستئناس قولَ ابنِ عبَّاس: والذي نفسي بيده! إنها لَقَرِيْنَتُها في كتابِ اللهِ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (3)[البقرة: 196].

- ويحتملُ أن يكون المراد بإتمام الحجِّ والعمرة إتمامُ ما دخلنا فيه وعقدناه على أنفسنا من حَجٍّ أو عُمْرَةٍ، وهو الظاهرُ؛ لأن اللهَ - سبحانه - ذكرَ بعده حُكْمَ (4) المُحْصَرِ الذي لم يُتِمَّ الحجَّ والعمرةَ.

فلا يكونُ فيها دليلُ وجوبِ الحجِّ والعمرةِ (5)، فقد تكونُ العبادة غيرَ

= الحج، باب: الرجل يحج مع غيره، والنسائي (2637)، كتاب: الحج، باب: العمرة عن الرجل الذي لا يستطيع، والترمذي (930)، كتاب: الحج، باب: الحج عن الشيخ الكبير، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه (2906)، كتاب المناسك، باب: الحج عن الحي إذا لم يستطع.

(1)

في "ب": "رويناه".

(2)

انظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (4/ 350).

(3)

رواه الإمام الشافعي في "الأم"(2/ 132)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(4/ 351)، وفي "معرفة السنن والآثار"(278)، وعلَّقه البخاري في "صحيحه"(2/ 629).

قال الحافظ في "الفتح"(3/ 598): والضمير في قوله: "لقرينتها" للفريضة، وكأن أصل الكلام أن يقول: لقرينته؛ لأن المراد الحج.

(4)

"المحصر" ليس في "ب".

(5)

قلت: فالآية واردة حينئذ على وجوب قضاء الحج والعمرة للمحصر بعد الشروع فيهما، ولا دلالة فيها على فرضية الحج والعمرة، وإنما تؤخذ الفرضية من أدلة أخرى واردة في هذا الباب.

ص: 307

واجِبَةٍ، فإذا عقدَها الرجلُ، وجبَ عليه إتمامُها؛ بدليلِ وجوبِ إتمام حَجِّ التطوُّعِ.

وبهذا قال أبو حنيفةَ ومالكٌ والشعبيُّ (1)، والشافعيُّ في قولِه القديمِ (2).

واستدلوا بقولِه صلى الله عليه وسلم: "بُني الإسلامُ على خمس: شهادةِ أن لا إلهَ إلا اللهُ، وأنَّ محمداً رسولُ اللهِ، وإقامِ الصلاةِ، وإيتاءِ الزكاةِ، وصومِ رمضانَ، والحَج"(3).

وبما روى جابرُ بنُ عبدِ الله -رضيَ الله تعالى عنهما -: أنَّ رجُلاً سألَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عنِ العُمْرَةِ أهي واجبة؟ قال: "لا، وأنْ تعتمرَ خيرٌ لكَ"(4)، ولكن اتفق الحُفّاظُ على ضعفه (5).

(1) وهو قول ابن مسعود، وجابر بن عبد الله، والنخعي، وسعيد بن جبير. انظر:"تفسير الطبري"(2/ 210)، و"زاد المسير" لابن الجوزي (1/ 186)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (1/ 2/ 343)، و"أحكام القرآن" للجصاص (1/ 328). وانظر:"رد المحتار" لابن عابدين (3/ 421)، و"التفريع" لابن الجلاب (1/ 352).

(2)

قلت: الصحيح عند الشافعية في العمرة هو القول الجديد بوجوبها. انظر: "المجموع" للنووي (7/ 11).

(3)

رواه البخاري (8)، كتاب: الإيمان، باب: دعاؤكم إيمانكم، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:"بني الإسلام على خمس"، ومسلم (16)، كتاب: الإيمان، باب: بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام، عن ابن عمر.

(4)

رواه الإمام أحمد في "المسند"(3/ 316)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(13646)، وأبو يعلى الموصلي في "مسنده"(1938)، والطبراني في "المعجم الصغير"(1015)، وفي "المعجم الأوسط"(6572)، والدارقطني في "سننه"(2/ 285)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(4/ 348)، والخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد"(80/ 33).

(5)

قال الحافظ في "الفتح"(3/ 597): ولا يثبت في هذا الباب عن جابر شيء.

ص: 308

* فإن قيل: فقد أوجبَ الله - تعالى - علينا (1) إتمامَ الحجِّ والعمرةِ إذا دخَلْنا فيهما، ولا يجوزُ لنا الخروجُ منهُما؛ كما وردَ في كتابِ الله جل جلاله، وقد ثَبَتَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أمرَ أصحابَه الَّذينَ لم يكنْ معهم هَدْيٌ بِفَسْخِ الحَجِّ إلى العُمرةِ (2)، فما الحكمُ في ذلكَ، وكيفَ الجمعُ بين الآيةِ والحديث؟

قلت: ذهبَ بعضُ أهل المعاني والتفسير إلى أَنَّ هذه الآيةَ ناسخةٌ (3)؛ لِما رُوي أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم (4) أمرَ أَصحابه بعد أن أحرموا بالحجِّ أن يفسخوهُ في عمرة (5)، فالآية محكمةٌ مستمرةٌ على عمومها.

ودعوى هذا القائل بالنسِخ باطلةٌ؛ فإن المتقدِّمَ لا ينسخُ المتأخِّرَ، فَحَجُّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأمرُه أصحابَهُ كان في سنةِ عَشْرٍ، والآيةُ نزلتْ في سنة سِتٍّ عامَ الحُدَيبية حينَ صدَّه كفارُ قريشٍ عن البيتِ الحرامِ.

وكأنّ (6) هذا القائل سمعَ قولَ عمرَ رضي الله عنه فتوهَّمَهُ يدلُّ على النسخ، وليس كذلك.

وذلك أن عمر رضي الله عنه كان ينهى عن هذه المتعةِ (7)، ويضربُ

(1)"علينا" ليس في "أ".

(2)

رواه البخاري (1696)، كتاب: العمرة، باب: المعتمر إذا طاف طواف العمرة ثم خرج، هل يجزئه من طواف الوداع؟ ومسلم (1211)، كتاب: الحج، باب: بيان وجوه الإحرام، عن عائشة.

(3)

انظر: "قلائد المرجان"(ص: 79).

(4)

في "ب": "عن النبي أنه".

(5)

انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 289).

(6)

في "أ" زيادة "وقد"، وهو خطأ.

(7)

يعني: أن يحرم بالتمتع.

ص: 309

الناس عليها، وقال:"إن الله يُحِلُّ لرسوله ما شاءَ بما شاء، وإن القرآن قد نزل منازلَه، فأتِمُّوا الحجَّ والعمرةَ كما أمركم اللهُ - تَعالى -، فافْصِلوا حجَّكم عن عُمْرتكم؛ فإنه أَتَمُّ لحِجِّكُمْ، وأتَمُّ لعمرتكم"(1).

فتوهَّمَ نزول القرآن منازله ناسخاً للسنَّةِ، وليسَ كذلك.

وإنما أرادَ عمر -رضي اللهُ تعالى عنه - أنَّ اللهَ - سبحانه - أباحَ ذلك لنبيِّهِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم لأجلِ مخالَفَةِ الجاهليَّةِ من تحريمِهم العمرةَ في أشهرِ الحَجِّ، وَجَعْلَهم ذلكَ من أفجر الفجور، فأمَر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أصحابَه بفَسْخ الحَجِّ إلى العمرة؛ ليعلموا جَوازَ ذلك، ففِعْلُهُ صلى الله عليه وسلم لعِلَّةٍ، وقد زالتِ العِلَّةُ، فزال هذا الحكمُ لزوالها، وبقي ظاهرُ القرآن على إطلاقه ومقتضاهُ، فلا يجوزُ لمن بعدهم أن يفسخَ الحجَّ إلى العمرةِ.

- وقد منعَ فسخَ الحجِّ إلى العمرةِ: أبو بكرٍ وعثمانُ وعليٌّ -رضي الله تعالى عنهم -، وتبعَهم جماهيرُ أهلِ العلم من السلف والخلف.

وبه قالَ مالكٌ والشافعيُّ وأبو حنيفةَ (2).

ولهم من الدليل: حديثُ أبي ذَرٍّ رضي الله عنه: كانت المتعةُ في الحجِّ لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصَّةً. وفي رواية: "رُخْصَةً"، يعني: فسخ الحج إلى العمرة (3).

وفي النسائي، عن الحارث بن بلالٍ، عن أبيه قال: قلت:

(1) رواه مسلم (1217)، كتاب: الحج، باب: في المتعة بالحج والعمرة.

(2)

انظر: "شرح مسلم" للنووي (8/ 169)، و"المجموع" له أيضاً (7/ 162)، وانظر:"التمهيد" لابن عبد البر (8/ 358)، و"المغني" لابن قدامة (5/ 252).

(3)

رواه مسلم (1224)، كتاب: الحج، باب: جواز التمتع.

ص: 310

يا رسول الله! فسخ الحج لنا خاصَّةً أم للناسِ عامَّةً؟ فقال: "بل لنا خاصَةً"(1).

- وقال أحمد وطائفةٌ من أهلِ الظاهر (2): ليس خاصًّا بالصحابة، بل هو باقٍ إلى يوم القيامة، فيجوزُ لكلِّ من أحرم بحجٍّ، وليس معه هَدْيٌ، أن يقلبَ إحرامَهُ عمرةً، ويتحلَّل بأعمالها.

وقال أحمدُ: لا أردُّ تلكَ الآثار الواردةَ المتواترةَ الصِّحاحَ في فسخِ الحَجِّ إلى العمرةِ بحديثِ الحارثِ بنِ بلالٍ عن أبيهِ، وبقولِ أبي ذزٍّ، ولم يُجْمِعوا على ما قال أبو ذَرٍّ، ولو أجمعوا لكان حُجَّةً، وقد خالف ابنُ عباسٍ أبا ذرٍّ -رضيَ الله تعالى عنهما -، ولم يجعلْه خصوصاً (3).

الجملة الثانية: قوله عز وجل: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196].

* أباحَ الله - سبحانه - لنا الخروجَ من هذا النسك الذي أوجبَ علينا إتمامَهُ بعذرِ الإحصار.

(1) رواه أبو داود (1808)، كتاب: الحج، باب: الرجل يهل بالحج ثم يجعلها عمرة، والنسائي (2808)، كتاب: المناسك، باب: إباحة فسخ الحج بعمرة لمن لم يسق الهدي، وابن ماجه (2984)، كتاب: المناسك، باب: من قال: كان فسخ الحج لهم خاصة، والإمام أحمد في "المسند"(3/ 469)، والدارمي في "سننه"(1855)، والطبراني في "المعجم الكبير"(1138)، والحاكم في "المستدرك"(6201)، عن بلال بن الحارث المزني.

(2)

وهو قول الحسن ومجاهد. انظر: "المحلى" لابن حزم (7/ 99)، و"المغني" لابن قدامة (5/ 251)، و"المجموع" للنووي (7/ 162).

(3)

وانظر هذا الكلام وما ذكر من خلاف العلماء في: "التمهيد" لابن عبد البر (8/ 358)، وانظر سؤال الإمام أحمد عن ذلك وجوابه في "المغني"(5/ 253).

ص: 311

والإحصارُ هو المنعُ، وهو اسمٌ مشترَكٌ يقع على المنعِ من العدوِّ، وعلى المنع بغيره.

فقال الأزهريُّ: قال أهل اللغة: يقالُ لمنْ منعهُ خوفٌ أو مرضٌ من التصرفِ: أُحْصِرَ، فَهُو مُحْصَرٌ، ولمن حُبِسَ: حُصِرَ، فهو مَحْصورٌ (1).

وكذا قاله الزَّجّاجُ عن أهل اللغة (2).

وقال - أيضاً - هو وثعلبٌ والفَرَّاءُ: أُحْصِرَ وحُصِرَ، لغتان (3).

والمرادُ بهِ في هذه الآيةِ حَصْر العَدُوِّ؛ لقوله تعالى: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} [البقرة: 196]، ولذكْر المرضِ بعده.

قال الشافعيُّ -رضي الله تعالى عنه -: لم أسمعْ ممَّنْ حفظتُ عنهُ من أهلِ العلمِ في التفسيرِ مُخالفاً أَنَّ هذه الآيةَ نزلتَ بالحديبيةِ حين أُحْصِرَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالحديبية، وحلقَ ورجعَ ولم يَصِلْ إلى البيتِ، ولا أصحابُه، إلا عثمانَ بنَ عفانَ رضيَ الله تعالى عنهم (4).

وزعم قومٌ أنَّ المرادَ به حَصْرُ المرضِ، وزعموا أنه لا يُقال: أُحْصِر، في العدوِّ، وإنما يقالُ ذلك في المرضِ، فيقال: أَحْصَرَهُ المرضُ، وحَصَرَهُ العدوُّ، وهذا قولُ الأخفشِ وابنِ السِّكِّيتِ من علماءِ اللغة (5).

(1) انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (4/ 232).

(2)

انظر: "معاني القرآن" للزجاج (1/ 267).

(3)

انظر: "معاني القرآن" للفراء (1/ 117)، وانظر ما ذكر في معاني الإحصار:"تفسير الطبري"(2/ 213)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 395)، و"لسان العرب" لابن منظور (4/ 193) (مادة: حصر).

(4)

انظر: "الأم" للإمام الشافعي (2/ 158)، و "السنن الكبرى" للبيهقي (5/ 214).

(5)

انظر: "إصلاح المنطق" لابن السكيت (ص: 230). وانظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (4/ 133)، و "تاج العروس" للزبيدي (11/ 25).

ص: 312

وأجابوا عن ذكرِ المرضِ بأنه يتنوَّعُ إلى مرضٍ مُحْصرٍ، ومرضٍ غيرِ مُحْصِرٍ، وأن المرادَ بالأَمانُ: الأمانُ من المرضِ.

وهذا تكلُّفٌ واعتسافٌ، وقد قدَّمْتُ عن أهلِ اللغةِ ما يَدْفَعُ دعواهُم.

والجوابُ عَمّا ادَّعَوْهُ من اللغةِ سَهْلٌ، فيجوزُ استعمالُ (أفعلَ) في غيرِ بابه مَجازاً للعلاقةِ التي بينَهُما، وهي المنع؛ لأنَّ (فُعِلَ به) إذا أوقع به الفِعْلُ، ويجوز أن يقال:(أُفْعِلَ به)(1)، ويكون معناه أنُه عَرَّضَهُ للفعل، ولم يوقعْه به، ويقال (قَتَله) إذا أوقِع به القتل، و (أَقْتَلَهُ) إذا عَرَّضَهُ للقتل (2)، فاستعمال أَحْصَرَهُ في العدوِّ الذي عَرَّضَهُ للمنعِ أحسنُ منهُ في حَصر المرض الذي أوقع به المنع.

* إذا تقرر هذا، فإنَّ الله - سبحانه - قد أحلَّ تركَ إتمامِ الحجِّ والعمرةِ لعذرِ إحصار العدوِّ بهذهِ الآية، وبيَّنه النبيُّ صلى الله عليه وسلم عام الحُدَيبية، وكان مُحْرِماً بعمرةٍ.

والحجُّ في مَعْنى العُمرةِ؛ بدليلِ أنَّ ابنَ عُمَرَ -رضي الله تعالى عنهما - لمّا أحرمَ عامَ الفِتْنَةِ بالعُمرةِ، وقالَ: إن صُدِدْتُ عنِ البيتِ، صنعتُ كما صنعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ومشى ثم قال: ما أرى شأنَ الحَجِّ والعُمرة إلا واحداً، فَأَهَلَّ بالحَجِّ (3)، وعلى هذا أجمع أهلُ العلم (4).

(1) في "أ": "له".

(2)

قال الجصاص في "أحكام القرآن"(1/ 334) نقلاً عن المبرد والزجاج: إنما هذا كقولهم: حبسه، إذا جعله في الحبس، وأحبسه؛ أي: عرضه للحبس، وقتله: أوقع به القتل، وأقتله؛ أي: عرضه للقتل، وقبره: دفنه في القبر، وأقبره: عرضه للدفن في القبر، وكذلك حصره وحبسه، وأوقع به الحصر، وأحصره، عرضه للحصر.

(3)

رواه البخاري (1712، 1713)، كتاب: الإحصار، باب: المحصر وجزاء الصيد، ومسلم (1230)، كتاب: الحج، باب: بيان جواز التحلل بالإحصار وجواز القران. عن ابن عمر.

(4)

وخالف في ذلك ابن سيرين، فقال: لا إحصار في العمرة. انظر: "أحكام =

ص: 313

* واتففوا - أيضاً - على أنه يتحلَّلُ متى أحْصِر، ولم يخالفْ إلا الثوريُّ والحسنُ بنُ صالح؛ فإنهما قالا: لا يتحلَّلُ إلَّا يومَ النَّحْرِ (1). وهذا خَطَأٌ مخالِفٌ لإطلاقِ الكتابِ العزيز، ولأنَّ تحللَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم كان في ذي القعدة.

* واختلفوا في إلحاقِ الإحصارِ بالمرضِ بإحصار العدو، وإن لم يكنْ مَقْصوداً ومراداً بالحكم، فألحقه أهلُ العراق بإحصار العدو.

وهو مذهبُ ابن مسعود رضي اللهُ تعالى عنه (2).

وقالوا: يُرْسِلُ هَدْيَهُ، وَيُقَدِّرُ يومَ نَحْرِه، ويُحِلُّ في يوم ميعادِهِ (3).

واستدلُوا بحديثِ الحَجَّاج بن عمرو الأنصاريِّ قال: سمعت رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول: "منْ كُسِرَ أو عَرِجَ، فقدْ حَلَّ، وعليه حَجَّةٌ أخرى"(4).

= القرآن" لابن العربي (1/ 173)، و "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (1/ 2/ 351)، و "أحكام القرآن" للجصاص (1/ 338).

(1)

وهو قول محمد وأبي يوسف. انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 176)، و "أحكام القرآن" للجصاص (1/ 342)، و "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (1/ 2/ 348). وانظر:"الاستذكار" لابن عبد البر (12/ 98 - 100).

(2)

وهو قول عطاء ومجاهد وقتادة وأبي ثور، وروي عن زيد بن ثابت وابن عباس، وهو قول جمهور العلماء.

انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (12/ 96)، و "أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 170)، و "أحكام القرآن" للجصاص (1/ 334)، و "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (1/ 348/2).

(3)

وهو أن يقدر المدة التي يبقى فيها الهدي حتى يصل إلى الحرم، فإذا انتهت المدة حلَّ من إحرامه. قال ابن مسعود رضي الله عنه: المحصر يمرض. إذا بعث بهدي وواعد صاحبه، ثم يوم ينحره جاز له أن يحل وهو بموضعه. انظر:"الاستذكار" لابن عبد البر (12/ 96).

(4)

رواه أبو داود (1862)، كتاب: المناسك، باب: الإحصار، والنسائي (2861)، كتاب: المناسك، باب: فيمن أحصر بعدو، والترمذي (940)، =

ص: 314

ومنع أهلُ الحجاز إلحاقه بالمُحْصَر، ولا يتحللُ إلا بعمرةٍ (1).

وبه قالَ الشافعيُّ ومالكٌ وأحمدُ (2).

واحتجوا بما روى عمرُو بنُ دينارٍ، عنِ ابنِ عباسٍ: أنه قال: لا حَصْرَ إلَّا حَصْرُ العَدُوِّ (3). وبما رُوي عن عائشةَ وابنِ عمر: أنهما قالا: لا يحل المريضُ دونَ البيتِ (4)، وحملوا الحديثَ -إن صَحَّ على من شرطَ ذلكَ في إحرامه؛ بدليل حديث ضُباعَةَ بنتِ الزبيرِ بنِ عبدِ المطلب المخرَّجِ في "صحيح مسلم"، وهو أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني امرأةٌ ثقيلةٌ، وإني أريدُ الحجَّ، فما تأمرني؟ قال:"أَهِلِّي بالحَجِّ، واشترطي أَن محلِّي حيثُ حَبَسْتَني"(5).

وإيَّاه أختارُ؛ فإنه لو كان حصرُ المرضِ مُبيحاً للتحليل، لما أمرها النبيُّ صلى الله عليه وسلم باشتراط التحليل دون لقاء البيت.

= كتاب: الحج، باب: ما جاء في الذي يهل بالحج فيكسر أو يعرج، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه (3077)، كتاب: المناسك، باب: المحصر.

(1)

في "ب": "بعمل عمرة".

(2)

وهو قول أكثر الصحابة. انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (12/ 96)، و"معالم التنزيل" للبغوي (1/ 246)، و "أحكام القرآن" للجصاص (1/ 334)، و "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (1/ 2/ 348). وانظر:"التفريع" لابن الجلاب (1/ 352)، و "مغني المحتاج" للشربيني (2/ 315)، و "المغني" لابن قدامة (5/ 203).

(3)

رواه الإمام الشافعي في "مسنده"(367)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(5/ 219).

(4)

رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره"(2/ 225)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(5/ 219)، عن ابن عمر.

(5)

رواه مسلم (1208)، كتاب الحج، باب: جواز اشتراط المحرم التحلل بعذر المرض ونحوه، عن ابن عباس.

ص: 315

فإن قيل: فإذا تحلَّلَ المُحْصَرُ كما أباحَ اللهُ - سبحانه - له، فهل يجبُ عليه القضاءُ، أولا يجبُ إلَّا قضاءُ حجَّةِ الإسلامِ؟

قلت: الظاهرُ من الآية أنه لا قضاءَ عليه؛ لأن الله - سبحانه - لم يذكر قضاءً، والقضاءُ لا يجبُ إلا بأمر ثانٍ عند الأكثرينَ من أهلِ العلمِ بالنظرِ وشرائِط الاستدلال.

قال الشافعيُّ: والذي عُقِلَ في أخبار أهل المغازي شبيهٌ بما ذكرتُ من ظاهر الآية، وذلك أَنّا قد علمْنا في متُواطئ أحاديثِهم أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) عام الحُدَيبيةِ رجالٌ معروفونَ بأسمائهم، ثم اعتمرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عمرةَ القضية، وتخلَّف بعضُهم بالمدينة من غير ضرورةِ نفسٍ ولا مالٍ علمتُه، ولو لزمهم القضاءُ لأمرهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إن شاء الله تعالى - ألاّ (2) يتخلفوا عنه (3).

وأيضاً (4) لم نعلم أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أمرَ أحداً ممَّن كان معه أن يقضيَ شيئاً، ولو كانَ لنقِلَ وعُلم.

وهذا مذهبُ ابنِ عبّاس وابن عمرَ -رضي الله تعالى عنهم - وبه قالَ مالكٌ (5).

وهو أحبُّ إليَّ؛ لما قدمتُه، ولكونه أشبهَ بالأصول؛ فإنه من دخل في

(1) في "ب" زيادة "في".

(2)

في "ب": "بألاّ".

(3)

انظر: "الأم" للإمام الشافعي (2/ 159)، و "السنن الكبرى" للبيهقي (5/ 218).

(4)

"أيضاً" زيادة من "ب".

(5)

وهو قول الحنابلة. انظر: "حاشية الدسوقي"(2/ 148)، و "المجموع" للنووي (8/ 296)، و "المغني" لابن قدامة (5/ 200). وانظر:"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (1/ 2/ 350).

ص: 316

عبادةٍ، ثم مُنِعَ من إتمامها، لا يجب عليه قضاؤها، إلا أن تكونَ واجبةً، ولا يجب إلا قضاءٌ واحدٌ لذلك الواجب؛ كالصلاة والصوم، ولكونه أَوْفَقَ لقوله صلى الله عليه وسلم:"رُفِعَ عن أمتي الخَطَأ والنِّسيانُ وما استكرِهوا عليه"(1).

وذهبَ أبو حنيفةَ إلى وجوبِ القضاء، فإن كانَ مُحْرِماً بالحجِّ، فعليهِ حجةٌ وعمرةٌ؛ لأنه فسخَ حجَّهُ إلى عُمْرةٍ، ولم يتمَّ واحداً منهما، وإن كانَ محرماً بعمرة، قضى عمرتَه، وإن كانَ قارناً، قضى حجةً وعمرتين (2).

واحتجوا بحديث الحجاج بن عمرو الأنصاري (3) بأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم اعتمرَ في العام المُقْبل (4)، ولذلكَ قيلَ لها: عمرةُ القضاءِ، وبالقياس على المُحْصَر بالمَرضِ؛ فإنه يجبُ عليه القضاءُ إجماعاً.

وأجابَ الآخرون بأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يقضِ، وإنما سُميت عمرة القَضاءِ وعمرةَ القضية؛ لأنَّ الله - سبحانه - اقتصَّ لرسوله صلى الله عليه وسلم، فدخل عليهم كما منعوه.

وروي عن ابن عمرَ -رضي الله تعالى عنهما - قال: لم تكن هذه العمرةُ قضاءً، ولكن كان شرطاً على المسلمين إن اعتَمروا من قابلٍ أن يكون في الشهر الذي صَدَّهم المشركون فيه (5).

(1) تقدم تخريجه.

(2)

وهو قول سعيد بن جبير، ومجاهد، وعلقمة، والحسن، والنخعي، وابن سيرين، وروي عن ابن عباس وابن مسعود. انظر:"معالم التنزيل" للبغوي (1/ 247)، و "أحكام القرآن" للجصاص (1/ 345)، و "اللباب في شرح الكتاب" للغنيمي (1/ 1/ 191).

(3)

"بن عمرو الأنصاري" ليس في "ب".

(4)

تقدم تخريجه.

(5)

رواه البيهقي في "السنن الكبرى"(5/ 219)، من طريق الواقدي.

ص: 317

* ولما أحلَّ الله - سبحانه - لنا تركَ إتمام الحجِّ لعذر الإحصار، أوجبَ علينا ما استيسرَ من الهَدْي.

وقد نحر النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه هديَهم بالحُدَيبية.

وعلى هذا اتفقَ أهلُ العلمِ (1)، ولم يخالفْ في وجوبِ الهَدْيِ - فيما علمت - إلا مالكٌ؛ فإنه قال: لا يجبُ (2)، وكان يقول: إن الهديَ في قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] هو بعينِه الذي في قوله سبحانه: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (3)[البقرة: 196]. وفيه بُعْدٌ بالتأويل.

ويلزمه أن يمنع المتمتع من الحلق قبل الذبح، وهو لم يمنعه.

وأجاب موافقوه عن ذبح الهدي يوم الحُدَيبية بأنه ليسَ بهديِ تَحلُّلٍ، بل هو هدي سيق لله - تعالى - ابتداءً من غيرِ سبب.

* والمُسْتَيْسِرُ من الهَدْي إما بَدَنَةٌ، أو سُبْعُها، أو بقرةٌ أو سُبْعُها، أو شاةٌ (4).

(5)

قال جابرُ بن عبد الله (6) -رضي الله تعالى عنه - أُحْصِرْنا مع

(1) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (1/ 2/ 348).

(2)

انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 171)، و "التفريع" لابن الجلاب (1/ 351)، و "القوانين الفقهية" لابن جزي (ص: 138).

(3)

وهو قول جمهور العلماء، وعليه جماعة أهل الفتوى بالأمصار؛ منهم الأئمة الأربعة.

(4)

انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (12/ 87)، و "زاد المسير" لابن الجوزي (1/ 186)، و "المغني" لابن قدامة (5/ 447).

(5)

في "ب" زيادة "و".

(6)

"بن عبد الله" ليس في "أ".

ص: 318

رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية، فنحرنا البَدَنَةَ عن سبعة، والبقرةَ عن سبعةٍ (1).

وأمرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم كَعْبَ بنَ عُجْرَةَ أن يذبحَ شاةً، أو يطعم ستةَ مساكين، أو يصوم ثلاثة أيام (2).

وكان ابنُ عمرَ وعائشةُ وابنُ الزبير يقولون: ما استيسر من الهَدْي: بعير أو بقرة، أي: بعير دون بعير، وبقرة دون بقرة، وأَبَوْا أن يقعَ اسمُ الهدي على الشاةِ (3).

هذا الحكمُ ورد في الحصر من الكفار، وكذا إذا صدر من المسلمين، والحكمُ واحدٌ لا افتراقَ بينهما؛ إذ العبرةُ بعمومِ الخِطاب لا بخصوصِ السبب، ويدلُّ عليه ما قدمته من فعلِ ابنِ عمرَ، ولا أعلمُ مخالفاً في ذلك، والله أعلم (4).

الجملة الثالثة: قوله عز وجل: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196].

* حرم الله - سبحانه - فيها على المحرم حلقَ شعرِ رأسِه تحريماً مطلقاً

(1) رواه مسلم (1318)، كتاب: الحج، باب: الاشتراك في الهدي، وإجزاء البقرة والبدنة كل منهما عن سبعة. لكن بلفظ "نحرنا" بدل "أحصرنا".

(2)

رواه البخاري (1719)، كتاب: الإحصار وجزاء الصيد، باب: قول الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ

}، ومسلم (1201)، كتاب: الحج، باب: جواز حلق الرأس للمحرم إن كان به أذى.

(3)

انظر الآثار المنقولة عنهم في: "تفسير الطبري"(2/ 218)، و "الاستذكار" لابن عبد البر (12/ 87)، و "زاد المسير" لابن الجوزي (1/ 186)، و "الدر المنثور" للسيوطي (1/ 512 - 513).

(4)

انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 174)، و "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (1/ 2/ 351). وانظر:"المغني" لابن قدامة (5/ 194)، و "المجموع" للنووي (8/ 286).

ص: 319

حتى يبلغ الهديُ محلَّه، سواء كانَ محصَراً أو غير محصَر، واجداً للهدي أو عادماً له، ساقَ معه هديًا أو لم يَسُقْ. وهنا أربع مسائل:

الأولى: المحصر الواجد للهدي، فيذبحُ هديه، ثم يحلق رأسه.

وللشافعيِّ قولٌ أنه يجوز أن يحلق ثم يذبح، وكأنه قائم على تقديم الحلق على الذبح في يوم النحر.

والراجحُ عندي عدمُ الجواز (1)؛ لظاهر القرآن، وإن كان الراجحُ عند متأخري أصحابه الجوازُ (2).

المسألة (3) الثانية: المحصر العادم للهدي: اتفقوا على أنه يجوزُ له أن يحلق ويتحلل، وإن لم يبلغ الهدي محله، ويقيد إطلاق الآية بما عداه؛ لقوله تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]؛ فقد يستمر العدم أبداً.

ثم اختلفوا هل يبقى الهديُ في ذمته إلى أن يجده؛ لأن اللهَ سبحانه لم يذكر له بدلاً، ولو (4) كان له بَدَلٌ لبينه كما فعل في التمتعِ وكفارةِ اليمينِ والقَتْلِ والظِّهارِ، أو له بدلٌ قياساً على المتمتع؟

(1) وهذا هو المعتمد عند الشافعية. انظر: "المجموع" للنووي (8/ 295)، و "مغني المحتاج" للشربيني (2/ 316).

وهو مذهب المالكية والحنابلة. انظر: "حاشية الدسوقي"(2/ 147)، و "الكافي" لابن قدامة (1/ 503).

(2)

أما الحنفية فلم يشترطوا الحلق للتحلل، فقالوا: يتحلل بذبح الهدي ولو لم يحلق ولم يقصر. انظر: "رد المحتار" لابن عابدين (4/ 7).

(3)

"المسألة" ليست في "أ".

(4)

في "ب": "فلو".

ص: 320

وبالأول قال أبو حنيفة (1).

بالثاني قال أحمد (2).

وللشافعيِّ قولان، والراجحُ (3) منهما عندي عدمُ الوجوب؛ لأنه لو كان واجباً عليه، لبيَّنَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم؛ لِما فرض الله - سبحانه - عليه من بيان كتابه الذي أنزله عليه، والعلم يحيط بأن أكثرَ أصحابه الذين كانوا معه - وكان عددهم معه أربع عشرة مئة - أن فيهم المُعْسِرَ العادمَ للهديِ، بل أكثرُهم عادمون، ولم ينقل أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقتِ، ولا في الوقت الثاني، بيَّنَ وجوبَ هديٍ عليهم.

وأما القياس في الكفارات والمناسك، فضعيف عند أهل النظر.

المسألة الثالثة: غير المحصر إذا لم يسق الهدي.

ولا يخفى على أحد أن حلقَ شعرِ رأسه حرامٌ إلى الوقتِ الذي يبلغُ الهدي منه (4) مَحِلَّهُ، وهو وقتُ التحلُّل، وهذا إجماع (5)، وإنما اختلفوا في المعنى الذي لأجله مُنع من حلق شعره، فمنهم من رأى منعَه لما فيه من النَّظافَةِ والتزيُّنِ والاستراحة، فعُفي عن اليسير من الشعر، وإليه ذهبَ مالكٌ

(1) فيبقى محرماً حتى يجد الهدي. انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (1/ 349)، و "رد المحتار" لابن عابدين (4/ 6).

(2)

قلت: وعدم بقاء الهدي في الذمة هو المعتمد عند الشافعية، ويقام ببدله وهو: طعام بقيمة الشاة؛ فإذا عجز صام عن كل مدٍّ يوماً. انظر: "مغني المحتاج" للشربيني (2/ 316).

(3)

في "ب": "والصحيح".

(4)

في "ب": "فيه".

(5)

انظر: "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (1/ 2/ 358). وانظر: "المجموع" للنووي (7/ 262)، و "المغني" لابن قدامة (5/ 145).

ص: 321

رحمه الله تعالى (1)، ومنهم من رأى المنعَ تعبُّداً، فمنع قليلَ الشعر وكثيرَه، وإليه ذهبَ الشافعيُّ رحمه الله تعالى (2).

المسألة الرابعة: غير المُحْصَرِ إذا ساق الهديَ: -فإن أحرم بحجٍّ: فلا يحلُّ حتى يبلغ الهديُ محلَّه (3)، وليس (4) له فَسْخُ الحجِّ إلى العمرةِ بالاتِّفاق؛ للآية (5)، ولقولهِ صلى الله عليه وسلم:"لو استقبلتُ من أمري ما اسْتدْبَرْتُ، ما أهديت، ولولا أن معي الهَدْيَ، لأَحْلَلْتُ"(6)، ولقوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه:"اجعلوا إهلالَكُم بالحجِّ عمرةً، إلَّا من قَلَّدَ الهَدْيَ؛ فإنَّهُ لا يحلُّ حتى يبلغَ الهديُ مَحِلَّهُ"(7).

- وإن أحرم بعمرة، فكذلك لا يحلُّ حتى ينحرَ هديَهُ يومَ النحرِ عندَ أبي حنيفةَ وأحمدَ رضي الله عنهما، ولهم من الحُجّةِ قولُه تعالى: {وَلَا

(1) وعليه عند المالكية أن يطعم شيئاً، والعفو عن قليل الشعر بما دون الربع هو مذهب الحنفية، ويلزمه عندهم صدقة. انظر:"اللباب" للغنيمي (1/ 1/ 182)، و "مواهب الجليل" للحطاب (4/ 225)، و "حاشية الدسوقي"(2/ 95).

(2)

والقليل عند الشافعية والحنابلة هو دون ثلاث شعرات. انظر: "المغني" لابن قدامة (5/ 382)، و "مغني المحتاج" للشربيني (2/ 297).

(3)

قلت: لعل المراد بالهدي هو هدي القِران؛ لأن ما ساقه المفرد من الهدي هو تطوع لا يمنع شيئاً، كما قال ابن عبد البر، ولذلك قال: وهدي القران يمنع من الإحلال عند جماعة فقهاء الأمصار وجمهور أهل العلم. انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (13/ 88).

(4)

في "ب": "فليس".

(5)

تقدمت هذه المسألة قريباً.

(6)

رواه البخاري (1568)، كتاب: الحج، باب: تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت، عن جابر بن عبد الله.

(7)

رواه البخاري (1497)، كتاب: الحج، باب: قول الله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} ، عن ابن عباس.

ص: 322

تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196]، وقوله صلى الله عليه وسلم:"من أحرم بعمرةٍ ولم يُهْدِ فليحللْ (1)، ومَنْ أحرمَ بعُمْرَةٍ وأهدى فلا يحللْ (2) حتى ينحرَ هديَهُ يومَ النحر"(3).

وقال مالكٌ والشافعيُّ رضي الله عنهما: إذا طافَ وسعى، حَلَّ من عمرته (4).

واحتجوا بالقياس على من لَمْ يَسُقِ الهديَ.

وأجابوا عن الحديثِ بأن فيه محذوفاً، والمراد: من أحرم بعمرة وأهدى، فليهلَّ بالحجِّ، ولا يحل حتى ينحرَ هديَه؛ بدليل حديث عائشةَ -رضي الله تعالى عنها - قالت: خرجنا مع رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم عام حجَّة الوداعِ، فأهللنا بعمرة، ثم قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"من كان معه هديٌ فليهللْ بالحجِّ معَ العُمْرَةِ، ثم لا يحلّ حتى يحلَّ منهما جميعاً"(5).

والقول الظاهر عندي قولُ أبي حنيفةَ وأحمدَ؛ لعموم الآية، ولقوله صلى الله عليه وسلم:"لو استقبلْتُ من أمري ما استدبرتُ، ما أهديتُ، ولولا أن معي الهدي لأَحللت"(6)، ولم يقل: ولولا أني أحرمت بالحجِّ وسقت الهدي

(1) في "ب": "فيلتحلل".

(2)

في "ب": "يحل".

(3)

رواه البخاري (313)، كتاب: الحيض، باب: كيف تهل الحائض بالحج والعمرة؟، ومسلم (1211)، كتاب: الحج، باب: بيان وجوه الإحرام، عن عائشة.

(4)

انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (13/ 86)، و "شرح مسلم" للنووي (8/ 142)، و "فتح الباري" لابن حجر (3/ 544).

(5)

رواه البخاري (1481)، كتاب: الحج، باب: كيف تهل الحائض والنفساء؟، ومسلم (1211)، كتاب: الحج، باب: بيان وجوه الإحرام.

(6)

تقدم تخريجه.

ص: 323

لأحللتُ، فدلَّ على أن سوقَ الهديِ وحدَهُ سببٌ لمصابرة الإحرام، سواءٌ كانَ بحجٍّ كفعله صلى الله عليه وسلم، أو بعمرة كفعلِ بعضِ أصحابه -رضيَ الله تعالى عنهم أجمعين - الذين أرشدهم إلى الإهلالِ بالحج مع العمرة؛ ليحصِّلوا النسُكين المُعَظَّمينِ (1): الحجَّ والعمرة، ولو لم يرشدْهم إلى الإهلالِ بالحج، واقتصروا على العمرةِ، لصحَّتْ لهم دون الحج، ولكان لا يصحُّ لهم الحجُّ الذي هو النسكُ الأعظمُ إلا منْ عام قابل (2).

وقوله صلى الله عليه وسلم في حديثِ عائشةَ رضي الله عنها: "فليهللْ بالحَجِّ معَ العمرةِ" أمرُ إرشادٍ ليحوزوا فضيلة النُّسكين؛ لأن إحرامه (3) بالحجِّ علةٌ لمصابرة الإحرامِ؛ بدليل سياق كلامه صلى الله عليه وسلم: "من كانَ معه هَدْيٌ فَلْيُهْلِلْ بالحَجِّ معَ العمرةِ"، فلو لم يكنِ الهديُ شَرْطاً، لما علق عليه الجواب (4).

* والمَحِلُّ يقعُ على المكانِ الذي ينزل فيه، ويقعُ على الزمانِ الذي ينزل فيه أيضاً.

1 -

فيحتمل أن يكون المرادُ به اسمَ المكان.

بدليلِ قوله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33]، وقوله تعالى:{هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95].

(1) في "ب":"العظيمين".

(2)

قلت: إن النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في حجة الوداع كانوا على الإحرام بالحج، ثم أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يحلوا بعمرة حتى إذا كان يوم التروية لبَّوا بحجة، والنبي صلى الله عليه وسلم كان قارناً وسائقاً للهدي، فلم يحل، وهناك من أحرم كإحرام النبي صلى الله عليه وسلم؛ كعليٍّ رضي الله عنه. ولم يكن فيهم من أحرم بعمرة فقط ثم لم يهل بالحج، فكلام المصنف هنا محمول على أنه لو فرض أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم بالحج بعد العمرة حتى خرج وقت الحج، لرجعوا بعمرة فقط دون حج.

(3)

في "ب": "لا إن إحرامهم".

(4)

المراد به: سوق الهدي شرط للبقاء على الإحرام قارناً.

ص: 324

وسياقُ الخِطاب يقتضي بظاهره أن المحرمَ لا يحلُّ حتى يبلغ الهديُ محلَّهُ، ولو كانَ مُحْصَراً، بهذا قال أبو حنيفةَ، واستدلَّ بأن نحرَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عامَ الحُدَيبية وقعَ في الحَرَم، على ما قاله ابنُ إسحاق.

وذهبَ الشافعيُّ إلى أنه ينحرُ هديَهُ حيثُ حَلَّ، وتقديرُ الآية:{وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] إن قدرتم على إيصاله محله.

واستدلَّ بقوله تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25].

قال: ونحرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الحِلِّ، وقد قيل: نحرَ في الحَرَم، وحكاه عن عطاء.

ثم قال: وإنما ذهبنا إلى أنه نحرَ في الحِلِّ، وبعضُ الحديبيةِ في الحِلِّ، وبعضُها في الحَرَم؛ لأن اللهَ تعالى يقول:{وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25]، والحرم كلُّه مَحِلُّه عند أهلِ العلم (1).

ويدلُّ عليه - أيضاً (2) - النظر والقياسُ، وإن كانَ ضعيفاً في هذا المقام، فإنه كما يجوز له ذبحُ الهَدْي قبلَ وقتِه للعذر، يجوز ذبحه قبل مكانِه - أيضاً -، ولأنه يشقُّ عليه مصابرة الإحرام، وربَّما وقف أبداً لا يقدر على إيصال الهدي إلى الحَرَمِ، ولم يجعلِ الله عليه في الدِّين حرجاً، فجاز نحرُه قبلَ مكانه لعذرِ المشقة (3).

(1) انظر: "الأم" للإمام الشافعي (2/ 218)، و (2/ 159)، و "أحكام القرآن" للكيا الهراسي (1/ 131)، و "السنن الكبرى" للبيهقي (5/ 217).

(2)

"أيضاً "ليست في "أ".

(3)

تقدمت هذه المسألة سابقاً.

وانظر وجه الاحتجاج للقولين في "أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 175)، و "أحكام القرآن" للجصاص (1/ 340)، و "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (1/ 2/ 353).

ص: 325

وسيأتي مزيدُ كلامِ على بيان المَحِلِّ (1) في "سورة المائدة"، إنْ شاءَ اللهُ تعالى.

2 -

ويحتمل أن يكونَ المرادُ بالمَحِلِّ اسمَ الزمانِ، إمَّا وَحْدَهُ، وإمَّا مع المكانِ إذا أوقعنا المشترَكَ على جميعِ معانيه.

بدليل ما روى ابنُ عباسٍ -: رضي الله عنهما أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قيل له في الذبحِ والحلقِ والرمي، والتقديم والتأخيرِ، فقال:"لا حَرَجَ"(2)، ولعلَّ هذا هو سببُ الشبهةِ التيَ ألجأتِ الثوريَّ، والحسنَ بنَ صالحٍ إلى أن قالا: المُحْصَرُ لا يحلُّ إلا في يومِ النحر (3).

* وقد ذهبَ إلى جوازِ تقديم الحلقِ على الذبحِ مالكٌ والشافعيُّ وداودُ وأبو ثور وأحمدُ -في إحدى الروايتين عنه- في العامد (4). إلا أن مالكاً قالَ: إن قدم الحلقَ على الرمي، لزمه الدمُ (5)؛ لأنه حلق قبلَ الشروعِ في

(1) في "ب": "محل الهدي".

(2)

رواه البخاري (1647)، كتاب: الحج، باب: إذا رمى بعدما أمسى، أو حلق قبل أن يذبح، ناسياً أو جاهلاً، ومسلم (1307)، كتاب: الحج، باب: من حلق قبل النحر، أو نحر قبل الرمي.

(3)

انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 176).

(4)

انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (13/ 322)، و "التفريع" لابن الجلاب (1/ 343)، و "مغني المحتاج" للشربيني (2/ 271)، و "الإنصاف" للمرداوي (4/ 42).

وقد خالف في ذلك الحنفية فقالوا: إن قدَّم الحلق على الذبح فعليه دم. انظر: "اللباب" للغنيمي (1/ 1/ 186).

وما ذكره المصنف رواية عن الإمام أحمد هي المعتمدة عند الحنابلة. انظر: "الإنصاف" للمرداوي (4/ 42).

(5)

انظر: "التفريع" لابن الجلاب (1/ 343)، و "حاشية الدسوقي"(2/ 73).

ص: 326

التحلُّل، مع أنه لم يأتِ ذكرُ تقديمهِ في السنَّة، فبقي على أصل ترتيبه.

ودعوى عدمِ ذكرهِ في السنَّةِ غيرُ مسلمةٍ، فقد أخرجه مسلمٌ في "صحيحه" عن عبد الله بن عمرِو بن العاص قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وأتاه رجلٌ يومَ النَّحْر وهو واقفٌ عند الجمرةِ، فقال: يارسولَ الله! إني حلقتُ قبلَ أن أرميَ، فقال:"ارم ولا حرج"، وأتاه آخرُ وقال: إني ذبحتُ قبلَ أن أرميَ، فقال:"ارمِ ولا حَرَج"، وأتاه آخرُ، فقال: إني أَفَضْتُ (1) إلى البيت قبل أن أرمي، فقال (2):"ارم ولا حَرَج"، فما رأيته سئل يومئذ عن شيءٍ إلا قالَ:"افعلوا (3) ولا حرج"(4).

وذهب قومٌ كالحسن وسعيدِ بنِ جبير والنخعيِّ وقتادةَ إلى وجوب الدمِ على من قَدَّم إحدى (5) الثلاثةِ التي هي الرميُ، ثم الذبحُ، ثم الحلقُ، بعضَها على بعضٍ (6).

(1) في "أ": "أفضيتُ"، وهو خطأ.

(2)

في "ب": "قال".

(3)

في "ب": "افعل".

(4)

رواه مسلم (1306)، كتاب: الحج، باب: من حلق قبل النحر، أو نحر قبل الرمي.

(5)

في "أ": "أحد".

(6)

قلت: هذا النقل بهذه الصورة فيه نظر؛ فقد ذكر ابن عبد البر: أن من قدم نسكاً على نسك لا حرج عليه عن: عطاء، وسعيد بن جبير، وطاوس، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة.

ومن حلف قبل أن يذبح نقل عن: عطاء، وطاوس، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ومجاهد، والحسن، وقتادة: أنه لا شيء عليه. إلا إبراهيم النخعي فإنه قال: من حلق قبل أن ينحر فعليه دم، وروي عن ابن عباس، ولا يصح. انظر:"الاستذكار"(13/ 323)، و "التمهيد"(7/ 277).

ص: 327

وحملوا الحديث على نفي الإثم عن الجاهلِ والناسي؛ بدليل ما رواه عبدُ الله بنُ عمرٍو -رضيَ الله تعالى عنهما - قال: وقفَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم للناس بِمِنًى، والناسُ يسألونه، فجاءه رجلٌ وقال: يا رسول الله! لم أكنْ أشعُرُ أن الرَّميَ قبلَ النحرِ، فنحرت قبلَ الرمي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ارمِ ولا حَرَجَ"، قال: وطفق آخر يقول: إني لم أشعرْ أن النحرَ قبل الحلق، فحلقتُ قبلَ أن أنحر، فقال:"انحَرْ ولا حَرَجَ" قال: فما سمعتُهُ سُئِل يومئذٍ عن أمرِ شيءٍ ممّا يَنْسى المرءُ ويجهلُ من تقديمِ بعض الأمورِ قبل بعضٍ وأشباهها إلا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "افعلوا ذلك ولا حرج"(1).

وذهب أبو حنيفةَ إلى أنه إن حلقَ قبلَ أن يذبحَ أو يرميَ، لزمَهُ دمٌ إنْ كانَ مُفْرِداً، و (2) دَمانِ إن كانَ قارِناً ومُتَمَتِّعاً (3).

والصحيحُ هو الأولُ؛ لأنه لو وجبَ الدمُ لبيَّنَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنه وقتُ الحاجةِ، وتأخيرُ البيانِ عن وقتِ الحاجةِ غيرُ جائزٍ.

وأما حديثُ عبد الله بنِ عَمرٍو، فإنه، وإن وردَ في الناسي والجاهل، فلا يدلُّ على منعِه في العامدِ، والله أعلم.

* وخص اللهُ سبحانه النهيَ بحلقِ الرأسِ:

فيحتمل أن يكونَ التخصيصُ للتقييد، فيدل الخطابُ بمفهومه على إباحة سائِرِ شعرِ البدنِ.

ويحتمل أن يكونَ للتعريفِ لا للتقييد، فيلحق بشعر الرأس سائرُ الشعور.

(1) رواه مسلم (1306)، كتاب: الحج، باب: من حلق قبل النحر، أو نحر قبل الرمي، بهذا اللفظ.

(2)

في "ب": "أو" بدل "و".

(3)

وهو المذهب. انظر: "اللباب" للغنيمي (1/ 1/ 186).

ص: 328

وفي ذلك خلافٌ بين العلماء، فمنهم من قال بالأول (1)، ومنهم من قال بالثاني (2).

الجملة (3) الرابعة: قوله عز وجل: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196].

* استثنى (4) الله سبحانه وتعالى بفضلهِ ورحمتهِ المريضَ، ومَنْ برأسِه الأذى منَ النَّهْيِ، فأباح له حلقَ رأسهِ، وأوجب عليه الفِديةَ من صيامٍ أو صدقةٍ أو نُسُكٍ، وخَيَّره بين أنواعِها، وأطلق الفِديَةَ في كتابه - سبحانه -، ووكَلَ بيانَها إلى نبيِّه صلى الله عليه وسلم.

روينا في "الصحيحين" عن عبدِ الله بنِ مَعْقِلٍ (5) قال: جلستُ إلى كَعْب بنِ عُجْرَةَ، فسألتُه عن الفِدية، فقال: نزلتْ فيَّ خاصَّةً، وهي لكم عامَّةً؛ حُمِلْتُ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، والقملُ يتناثرُ على وجهي، فقال:"ما كنتُ أرى الوجعَ بلغَ بكَ ما أرى، أو: ما كنتُ أرى الجهدَ بلغَ بكَ ما أرى، تجدُ شاةً؟ "، فقلتُ: لا، قال:"فصم ثلاثةَ أيام، أو أطعِمْ ستةَ مساكينَ، لكلِّ مسكينٍ نصْفُ صاع"(6).

(1) وهو قول داود الظاهري. انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (13/ 307)، و "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (1/ 2/ 359).

(2)

وهو قول جمهور الفقهاء الأربعة. انظر: "رد المحتار" لابن عابدين (3/ 441)، و "التفريع" لابن الجلاب (1/ 424)، و "مغني المحتاج" للشربيني (2/ 297)، و "الإنصاف" للمرداوي (3/ 455).

(3)

"الجملة" ليست في "أ".

(4)

في "ب": "فاستثنى".

(5)

في "ب": "مغفل"، وهو خطأ.

(6)

رواه البخاري (1721)، كتاب: الإحصار وجزاء الصيد، باب: الإطعام في =

ص: 329

وروينا (1) في "صحيح مسلم": "أو أَطْعِمْ ثلاثةَ آصُعٍ منْ تَمْرٍ على ستةِ مساكين"(2).

وحكي عن قوم أقوالٌ تخالف السنَّة وتنابذها.

فَحُكيَ عن أبي حنيفةَ والثوريِّ أن نصفَ الصاع لكلِّ مِسكينٍ إنَّما هو في الحنطةِ، فأما التمرُ والشعيرُ وغيرُها، فيجبُ صاعٌ لكلِّ مسكينٍ (3).

وحُكي عن الحسنِ البصريِّ وبعضِ السلفِ أنه يجبُ إطعامُ عشرةِ مساكينَ، أو صومُ عشرةِ أيامٍ (4).

* فإن قلتم (5): سمِّى اللهُ سبحانَه الدَّمَ في صدر هذه الآيةِ هَدْياً، وسمَّاهُ

= الفدية نصف صاع، ومسلم (1201)، كتاب: الحج، باب: جواز حلق الرأس للمحرم، وهذا لفظ البخاري.

(1)

في "ب": "ورويناه".

(2)

رواه مسلم (1201)، كتاب: الحج، باب: جواز حلق الرأس للمحرم، عن كعب بن عجرة.

(3)

انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (13/ 303).

قلت: الذي في كتب الحنفية النص على ثلاثة آصع من طعام؛ أي: لكل مسكين نصف صاع، والطعام هو الحنطة، وليس فيها ذكر أنه إن كان من غير الحنطة فيجب ستة آصع؛ يعني: لكل مسكين صاع.

انظر: "المبسوط"(4/ 74)، و "بدائع الصنائع" للكاساني (2/ 420)، و "فتح القدير" لابن الهمام (2/ 451)، و "رد المحتار" لابن عابدين (3/ 523).

ثم وجدت ما نقله المصنف هنا عن الحنفية في "أحكام القرآن" للجصاص (1/ 351). ولعل المصنف قد أخذه عنه، والله أعلم.

(4)

وروي ذلك عن عكرمة ونافع. انظر: "تفسير الطبري"(2/ 235)، و "الاستذكار" لابن عبد البر (13/ 303)، و "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (1/ 2/ 357)، و "فتح الباري" لابن حجر (4/ 19).

(5)

في "ب" زيادة "لِمَ".

ص: 330

هنا نسكاً، فهل بين التسميتين فرقٌ أو تأثيرٌ في الحُكْم، أو لا؟

قلنا: أما الهَدْي فيطلَقُ في عُرْفِ الشرعِ على ما ساقَهُ المُحْرِمُ إلى البيتِ من بهيمةِ الأنعامِ ابتداءً.

والنسكُ يطلق في العُرْفِ على الدَّمِ الذي يُذْبَحُ إمَّا كفارةً، وإما فديةً، وإما جُبراناً، وقد يطلَقُ عليه (1) اسمُ الهديِ أيضاً (2)، قال الله تعالى:{فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95].

وأما الحكمُ فواحدٌ عندَ الشافعيِّ وأبي حنيفة، فأوجبا الذبح بمكةَ كالهدي (3)، إما لوقوع اسم الهدي عليه عندهما، وإما لحمل المطلَقِ في الفديةِ على المقيَّدِ في هَدْيِ الإحصار عند الشافعي.

وقال مالكٌ في إحدى الروايات عنه (4): يذبحُ أين شاءَ، بمكة أو غيرها، وكأنَّ الشرعَ إنما خالف بين اسميهما لاختلافِ حُكْمَيْهما (5)، مع ذكرِه للبيانِ في إحداهما (6)، وتركه له في الأخرى (7).

(1) في "أ": "عليها".

(2)

انظر ما جاء في معاني النُّسُكِ: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 26)، و "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (3/ 340 - 341)، و "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 47)، و "لسان العرب" لابن منظور (10/ 498).

(3)

انظر: "مغني المحتاج" للشربيني (2/ 311)، و "رد المحتار" لابن عابدين (3/ 523).

(4)

وهذه الرواية هي المذهب. انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (13/ 307)، و "التفريع" لابن الجلاب (1/ 326)، و "حاشية الدسوقي"(2/ 106).

(5)

فعند الإمام مالك: الهدي لا يذبح إلا بمكة، أما غيره من النسك فيكون حيث شاء. انظر:"الاستذكار" لابن عبد البر (13/ 307)، و "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (1/ 2/ 359).

(6)

في "ب": "أحدهما".

(7)

في "ب": "الآخر".

ص: 331

وقد استنبطَ الأوزاعيُّ من إطلاق الفديةِ في الأذى، وترتُّبُ (1) الحلقِ على بُلوغِ الهدي محلَّه: أنه يجوزُ للمُحْرِم أن يكفرِ بالفِدْيَةِ قبل الحَلْقِ.

وله وجهٌ في القياسِ على كفارةِ اليمين، وأبى ذلك الجمهورُ، وقاسوه على المُحْصَر (2).

* ثم استنبطَ أهلُ العلمِ من ترخيصِ الله -سبحانَهُ - للمريضِ في حلقِ رأسه مع إيجاب الفدية وجوبَ الفديةِ على من حَلَقَ ناسياً؛ لأنه عذز في رَفْع الحرج، فلا يكونُ عذراً في ترك الفداءِ؛ كالمريض، وبه قالَ مالكٌ والشافعيُّ (3)، وداودُ وإسحاقُ (4).

ثم استنبطوا أن كلَّ ما يُضْطَرُّ إليه المُحْرِمُ بسبب المرضِ، أو دفعِ الأذى؛ كالطيبِ واللُّبْس والستر أنه كالحَلْقِ؛ لأنه (5) في معناه (6).

(1) في "ب": "ترتيب".

(2)

قلت: المراد بهذه المسألة: أنه إذا أصابه أذى في رأسه، هل يحلق ثم يفدي، أم يجوز له أن يفدي ثم يحلق؟ فالجمهور قالوا: يحلق ثم يفدي. ولم يظهر لي وجه القياس على المحصر عندهم.

وقال الأوزاعي: يجوز أن يفتدي ثم يحلق، قياساً على كفارة اليمين، فإنه يجوز أن يكفر، ثم يفعل ما حلف عليه. انظر:"تفسير الرازي"(3/ 165)، و "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (1/ 2/ 357).

(3)

وهو مذهب الحنفية، والمعتمد عند الحنابلة. انظر:"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (1/ 2/ 358). وانظر "رد المحتار" لابن عابدين (3/ 507)، و "الذخيرة" للقرافي (3/ 311)، و "مغني المحتاج" للشربيني (2/ 297)، و "المغني" لابن قدامة (5/ 381).

(4)

الذي نُقل عن إسحاق وداود: أنه لا فدية على من حلق ناسياً. انظر: "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (1/ 2/ 358)، و "المغنى" لابن قدامة (5/ 381).

(5)

في "ب": "إلا أنه".

(6)

انظر: "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (1/ 2/ 358). وانظر: "رد المحتار" =

ص: 332

الجملة (1) الخامسة: قوله جل جلاله: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196].

فأقول: أجمعَ أهلُ العلمِ على أنَّ وُجوهَ النسكِ ثلاثةٌ: الإفرادُ، والتَّمَتُعُّ، والقِرانُ، واتفقوا على أن فعلَ جميعِها جائز، فقد صحَّ وثبتَ جميعُ ذلكَ مِنْ بَيَانِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم من قولِه وفِعله (2).

روينا في "صحيح مسلم" عن عائشةَ -رضيَ الله تعالى عنها - قالت: خَرجْنا مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"مَنْ أرادَ منكُمْ أَنْ يُهِلَّ بِحَجٍّ وعُمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ، ومَنْ أرادَ أَنْ يُهلَّ بِحَجٍّ فليفعلْ، ومن أرادَ أن يهلَّ بعُمْرَةٍ فليفعل"، قالتْ عائشةُ: فأهلَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بحجٍّ، وأهلَّ بهِ ناسٌ معهُ، [وأهلَّ ناسٌ بالعُمرةِ والحجِّ، وأهلَّ ناسٌ](3) بعمرةٍ، وكنتُ فيمن أهلَّ بعُمْرَةٍ (4).

وقد روي: أنه صلى الله عليه وسلم كان مُفْرِداً، ورُوي أنهُ كانَ مُتَمَتِّعاً، ورُوي أنه كانَ قارِناً (5).

= لابن عابدين (3/ 439)، و "الذخيرة" للقرافي (3/ 307)، و "مغني المحتاج" للشربيني (2/ 292)، و "الإنصاف" للمرداوي (3/ 455).

(1)

"الجملة" ليست في "أ".

(2)

انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (11/ 139)، و "المغني" لابن قدامة (5/ 82)، و "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (1/ 2/ 360)، و "شرح مسلم" للنووي (8/ 134).

(3)

ما بين معكوفتين ليس في "أ".

(4)

رواه مسلم (1211)، كتاب: الحج، باب: بيان وجوه الإحرام.

(5)

تنظر روايات الإفراد والتمتع والقران في: "صحيح البخاري"(1/ 518)، كتاب: الحج، باب: التمتع والإقران والإفراد بالحج، وفسخ الحج لمن لم يكن معه هدي، و "صحيح مسلم"(2/ 870)، كتاب: الحج، باب: بيان وجوه الإحرام، وأنه يجوز إفراد الحج والتمتع والقران.

ص: 333

* وإنما اختلفوا في الأفضل منها:

- فقال أحمدُ (1)، والمَكِّيُّونَ (2)، والشافعيُّ في أَحَدِ قَوْليه: التمتعُّ أفضلُ (3).

قال أحمدُ: ولا شَكَّ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كانَ قارِناً، والتمتُّعٌ أَحَبُّ إليَّ، واحتجَّ بقوله صلى الله عليه وسلم:"لو استقبلتُ من أمري ما استدْبَرْتُ، ما سُقْتُ الهَدْيَ، ولجعلتُها عُمْرَةً"(4).

قال الشافعيُّ عندَ اختياره الإفراد: هذا وجهٌ لولا أنه يحتمل أنه قالَ هذا لِتكرُّهِ الناسِ الإحلالَ حينَ أمرهم به (5)، وإقامته مُفْرِداً صلى الله عليه وسلم، فلما احتملَ هذا، اخترتُ الإفراد، وهذان الوَجْهان أَحَبُّ إليَّ منَ القِران (6).

- وذهبَ مالكٌ (7)، والشافعيُّ في أحدِ قوليه (8)، وكثيرون (9)،

(1) انظر: "الإنصاف" للمرداوي (3/ 434).

(2)

وبه قال ابن عمر، وابن عباس، وعائشة، وابن الزبير، وعطاء، وطاوس، وعكرمة، وغيرهم. انظر:"الاستذكار" لابن عبد البر (11/ 129)، و "معرفة السنن والآثار" للبيهقي (7/ 79)، و "المغني" لابن قدامة (5/ 82).

(3)

إلا أن المعتمد في المذهب: أن الإفراد أفضل. انظر: "مغني المحتاج" للشربيني (2/ 287).

(4)

تقدم تخريجه.

(5)

يوضحه قول القرافي في "الذخيرة"(3/ 286): إنما قال ذلك لتطييب قلوب أصحابه لمَّا أمرهم بفسخ الحج من العمرة؛ ليظهر جواز العمرة في أشهر الحج، خلافاً للجاهلية.

(6)

نقله البيهقي في "معرفة السنن والآثار"(7/ 79).

(7)

انظر: "الذخيرة" للقرافي (3/ 285).

(8)

وهو المعتمد. انظر: "مغني المحتاج" للشربيني (2/ 287).

(9)

وهو قول ابن مسعود، وعمر، وعثمان، وعائشة، وجابر، وعبد العزيز بن أبي سلمة، والأوزاعي، وعبيد الله بن الحسن، وأبي ثور. انظر:"الاستذكار" =

ص: 334

إلى تفضيلِ الإفراد؛ لفعل رسولِ الله صلى الله عليه وسلم.

- وذهب أبو حنيفةَ إلى تفضيلِ القِران (1)، وهو قولُ الشافعيِّ - أيضاً -، واختار المُزَنِيُّ (2).

قال ابنُ عبدِ البَرِّ: ولا خِلافَ بينَ العلماءِ أنَّ التَّمَتعُّ المُرادَ بقولِ اللهِ -تعالى-: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] هو الاعتمار في أشهرِ الحجِّ، والحجُّ من عامِه (3).

وما أظنُّ (4) دعواهُ سالمةً، فقدْ كانَ ابنُ الزبير -رضي الله تعالى عنهما - يذهبُ إلى أنَّ التمتعُّ الذي ذكرهُ اللهُ - تعالى - هو تمتعٌّ المُحْصَرِ إذا حبسه العدوُّ حتى ذهبتْ أيامُ الحَجِّ، فيأتي بأفعالِ العُمرة، ثم يتمتعُ بحلِّه، إلى العامِ المقبلِ، ويهدي (5).

= لابن عبد البر (11/ 271)، و "معرفة السنن والآثار" للبيهقي (7/ 78)، و "المغني" لابن قدامة (5/ 83).

(1)

انظر: "رد المحتار" لابن عابدين (3/ 490). وهو قول الثوري، كما في "المغني" لابن قدامة (5/ 83). وقول علي بن أبي طالب وجماعة من التابعين، وإسحاق، والمزني، كما في "الاستذكار"(11/ 133).

(2)

قلت: الذي في "الحاوي الكبير" للماوردي (4/ 44) أن للشافعي في ذلك قولين فقط، وليس ثلاثة، وأن القول بتفضيل القران هو قول المزني، وإنما نقل المصنف هذا القول من "شرح مسلم" للنووي (8/ 135).

(3)

انظر: "الاستذكار"(4/ 93)، و "التمهيد"(8/ 342).

قلت: وكأن ابن عبد البر يقصد أن هذا النوع من التمتع المفهوم من هذه الآية متفق عليه بين العلماء، وهناك أنواع أخرى مختلف فيها، هل هي مرادة بالآية أم لا؟ أما هذا النوع فهم متفقون على أنه مراد منها، بدليل أنه ذكر أربعة أنواع للتمتع.

(4)

في "ب" زيادة "أن".

(5)

رواه الطبري في "تفسيره"(2/ 244)، وابن عبد البر في "التمهيد"(8/ 360).

ص: 335

فإن قلتُم: وقد (1) كان عمرُ وعثمانُ -رضيَ الله تعالى عنهما - ينهيان عن متعةِ الحَجِّ (2).

قلنا: اختلفَ أهلُ العلمِ في المتعةِ التي نَهَيا عنها، هلْ هيَ فسخُ الحَجِّ إلى العُمرة، أو التمتعُ في أشهرِ الحجِّ؟ فقال القاضي عياضٌ بعدَ ذكرِ أحاديث وآثار: الظاهرُ منها أنَّ المتعة التي اختلفوا فيها إنما هي فسخُ الحجِّ إلى العُمرة، قال: ولهذا كانَ عمرُ يضربُ الناسَ عليها، ولا يضربُهم إلَّا على ما اعتقدَهُ من اختصاصِ هذه المتعةِ بتلك السنة؛ لمخالفة الجاهلية، وأن ذلك غيرُ جائزٍ في غيرها، وذلكَ اعتقادُ أكثرِ الصحابةِ -رضي الله تعالى عنهم - (3).

واختار أبو زكريا النوويُّ أنه التمتعُ في أشهرِ الحجِّ، وإنما نهيا (4) عنه؛ لأن الإفرادَ أفضلُ، فنهيا عن (5) التمتع نهيَ تنْزيهٍ، وضربَ عليه عمرُ؛ لأنه مأمورٌ بصلاحِ رَعِيَّته، وكان يرى الأمرَ بالإفراد من جملةِ صلاحهم (6).

والمختارُ عندي: أَنَّ الذي نهى عنه عمرُ إنما هو فسخُ الحَجِّ إلى العُمرة لا التمتع (7)؛ لما روى أبو موسى رضي الله عنه قال: قدمتُ على

(1) في "ب": "فقد".

(2)

رواه مسلم (1217)، كتاب: الحج، باب: في المتعة بالحج والعمرة، عن عمر رضي الله عنه. ورواه مسلم (1223)، باب: جواز التمتع، عن عثمان رضي الله عنه.

(3)

انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 264). ونقله عنه النووي في "شرح مسلم"(8/ 169)، وعن النووي نقل المؤلف رحمه الله كلام القاضي.

(4)

أي: عمر وعثمان رضي الله عنهما.

(5)

في "أ": "فيها من التمتع".

(6)

انظر: "شرح المسلم" للنووي (8/ 202).

(7)

"لا التمتع" ليس في "أ".

ص: 336

رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بالبَطْحاءِ (1) فقال:"أحَجَجْتَ؟ " قلتُ: نعم، قال:"بم أهللتَ؟ " قلت: لبيكَ بإهلالٍ كإهلالِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، قال:"أحسنْتَ، انطلقْ فطفْ بالبيتِ وبالصفا والمَرْوَةِ"، ثم أتيتُ امرأة من نِساء بني قَيْسٍ، فَفَلَّتْ لي رأسي، ثم أهللتُ بالحجِّ، فكنتُ أُفتي بهِ الناسَ حتى خِلافةِ عمرَ، فذكرته له، فقال: إن نأخذْ بكتابِ الله، فهو يأمرُنا بالتَّمام، وإن نأخذْ بسنَّةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فإنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحلّ حتى يبلغَ الهديُ محلَّه (2).

وهذا صريحٌ في أن الذي منع منهُ إنما هو فسخُ الحَجِّ إلى العُمْرَةِ (3)، لا التَّمَتُّعُ المَعْروفُ؛ لأنه مذكورٌ في كتاب الله تعالى، وعمرُ أخذ بكتاب اللهِ، وبه احتجَّ على من خالفه، وقال (4): إن اللهَ -سبحانَه- يُحِلُّ لنبيِّهِ ما شاءَ، لما شاء، وإنَّ القرآنَ قد نزلَ منازِلَهُ، فأتموا الحجَّ والعمرةَ كما أمركمُ الله - تعالى -، وافْصِلوا حَجَّكُمْ من عُمْرَتِكُمْ؛ فإنه أَتمُّ لحجِّكم، وَأتَمُّ لعُمرتكم.

(1) البطحاء: مسيلٌ فيه دقاق الحصى، "اللسان" (مادة: بطح) (2/ 413).

(2)

رواه البخاري (1637)، كتاب: الحج، باب: الذبح قبل الحلق، ومسلم (1221)، كتاب: الحج، باب: في نسخ التحلل من الإحرام والأمر بالتمام.

(3)

قلت: لكن وقع التصريح من عمر رضي الله عنه بأن المراد بما نهى عنه هو التمتع المعروف، فقد روى مسلم في "صحيحه"(1221)، كتاب: الحج، باب: في نسخ التحلل من الإحرام والأمر بالتمام: أن أبا موسى كان يفتي بالمتعة، فقال له رجل: رويدك بعض فتياك، فإنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النسك بعد. حتى لقيه بعد فسأله، فقال عمر: قد علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد فعله وأصحابه، ولكن كرهت أن يظلوا مُعْرِسين بهنَّ في الأراك، ثم يروحون في الحج تقطر رؤوسهم.

(4)

في "ب": "فقال".

ص: 337

وأرشدَ الناسَ عمرُ في آخرِ (1) كلامهِ إلى أفضلِ مراتبِ النُّسُكِ، وهو الإفرادُ، فجمعَ بين الحَثِّ على المنعِ من المتعةِ، وبينَ الترغيبِ في الفضيلة (2)، ولقول عمر -رضي الله تعالى عنه -: متعتانِ كانَتا على عهدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وأنا أنهى عنهما، وأعاقبُ عليهما: متعةُ النساءِ، ومتعةُ الحجِّ (3).

وأما الذي نهى عنه عثمانُ -رضي الله تعالى عنه -، فالظاهر أنه التمتعُ والقِران (4)؛ لما روى مروان بن الحكم قال: شهدتُ عثمان وعَلِيًّا، وعثمانُ ينهى عن المتعة، وأن يُجْمَع بينَهُما، فلما رأى ذلك عليٌّ، أهلَّ بهما، وقال: لبيك بعمرةٍ وحجةٍ، وقال: ما كنتُ لأدعَ سنةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لقولِ أحدٍ (5).

* واتفق العلماءُ على وجوبِ الهَدْي على المُتَمَتِّعِ؛ للآية (6).

* وإنما اختلفوا في وقت وجوبه.

(1) في "ب": "بآخر".

(2)

في "أ": "الفضل".

(3)

رواه سعيد بن منصور في "سننه"(1/ 252)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار"(2/ 146)، وابن عبد البر في "التمهيد"(10/ 112 - 113).

(4)

قلت: وقد يقال: إنه كان ينهى عن التمتع مطلقاً، وقد ثبت هذا في "صحيح مسلم"(1223)، باب: جواز التمتع، عن عبد الله بن شقيق قال: كان عثمان ينهى عن المتعة، وعن سعيد بن المسيب قال: اجتمع علي وعثمان بعسفان، فكان عثمان ينهى عن المتعة.

(5)

رواه البخاري (1488)، كتاب: الحج، باب: التمتع والإقران والإفراد بالحج، وفسخ الحج لمن لم يكن معه هدي.

(6)

انظر: "المغني" لابن قدامة (5/ 351)، و "بدائع الصنائع" للكاساني (2/ 386).

ص: 338

فقال الشافعيُّ وأبو حنيفةَ: يجبُ بالإحرام بالحجِّ (1).

وقال مالكٌ: لا يجبُ حتى يرميَ جمرةَ العقبة، فاعتبرَ كمالَ الحجّ (2).

وقال عطاء: لا يجب حتى يقف بعرفة، فاعتبر معظم الحجِّ (3)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"الحَجُّ عَرَفَةُ"(4).

وقول الشافعيِّ أولى؛ لأن ما جُعِلَ غايةً، فأوله كآخره؛ كقوله تعالى:{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] وهذا يلفت إلى قاعدة، وهي: هل العبرةُ بأوائل الأسماء، أو بأواخرها؟

* وكذلكَ اختلفوا في صِفةِ التَّمَتُعِّ، فاشترطَ جمهورُهم وقوعَ العُمرةِ في أشهر الحجِّ، ثم اختلفوا.

- فمنهم من اشترطَ وقوعَ جميعِها تحلُّلاً وإحراماً، وهو قولُ أبي ثورٍ وأحمدَ وإسحاقَ والشافعيِّ في "الأم"(5)، وهو المشهورُ من قوله (6).

(1) انظر: "معرفة السنن والآثار" للبيهقي (7/ 86)، و "بدائع الصنائع" للكاساني (2/ 386)، وفيه أن هذا قول زفر من الحنفية.

ثم المعتمد عند الحنفية: أن ذلك يجوز من حين يحرم بالعمرة. انظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (2/ 386).

(2)

انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (11/ 222)، و "الذخيرة" للقرافي (3/ 352).

(3)

انظر: "معرفة السنن والآثار" للبيهقي (7/ 86). والمعتمد عند الحنابلة: أنه يلزم بطلوع فجر يوم النحر. انظر: "الإنصاف" للمرداوي (3/ 444).

(4)

رواه أبو داود (1949)، كتاب: الحج، باب: من لم يدرك عرفة، والنسائي (3016)، كتاب: المناسك، باب: فرض الوقوف بعرفة، والترمذي (889)، كتاب: الحج، باب: ما جاء فيمن أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج، وابن ماجه (3015)، كتاب: المناسك، باب: من أتى عرفة قبل الفجر ليلة جمع، عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي.

(5)

انظر: "الأم" للإمام الشافعي (7/ 253).

(6)

انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (11/ 222)، و "المغني" لابن قدامة =

ص: 339

- ومنهم من اكتفى بوقوعِ التحلُّلِ، وهو قولُ مالكٍ (1).

- ومنهم من اكتفى بحُصول الطَّواف في شَوَّال، وهو قولُ الثوريِّ والحَكَم وابنِ شُبْرُمَةَ (2)، والشافِعِيِّ في أَحَدِ قولَيْه (3).

- ومنهم منِ اكتفى بمُعْظَمِ الطَّوافِ، وقال: إن طافَ ثلاثةَ أشواطٍ في رمضانَ، وأربعةً في شَوّال، كانَ متمتِّعاً، وإنْ كانَ بالعَكْسِ لمْ يكُنْ متمتِّعاً، وهو قولُ أبي حَنيفَة (4).

- وحُكي عن طاوس: أنَّ من اعتمرَ في غيرِ أشهر الحَجِّ ثم أقامَ حتى أتى الحاجُّ، وحجَّ من عامِه أنه متمتِّعٌ (5).

وكلهم شرطوا أن الحجَّ من عامِهِ، إلا الحَسَنَ؛ فإنه روي عنه أنه متمتِّعٌ، وإن لم يحجَّ، وكان يقولُ: عمرةٌ في أشهر الحَجِّ متعةٌ (6). ويكون - على قوله -:

= (5/ 353)، و "المجموع" للنووي (7/ 174)، و "الإنصاف" للمرداوي (3/ 441).

(1)

انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (11/ 221)، و "الذخيرة" للقرافي (3/ 294). وبهذا قال عطاء؛ انظر:"المغني" لابن قدامة (5/ 353).

(2)

انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (11/ 221)، و "المغني" لابن قدامة (5/ 353)، و "المجموع" للنووي (7/ 182).

(3)

لكن الصحيح من المذهب: أنه لا بد أن تقع كلها في أشهر الحج. انظر: "المجموع" للنووي (7/ 174).

(4)

انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (11/ 221)، و "رد المحتار" لابن عابدين (3/ 498).

(5)

انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (11/ 221)، و "المغني" لابن قدامة (5/ 353).

(6)

انظر: "التمهيد"(8/ 345)، و "الاستذكار"(11/ 220)، و "المغني" لابن قدامة (5/ 353).

ص: 340

(إلى)(1)، بمعنى (في). وهو جائزٌ في اللِّسانِ، قال النابغة:[البحر الطويل]

فلا تَتْرُكَنِّي بالوَعيدِ كَأَنَّني

إلى الناس مَطْلِيٌّ بِهِ القارُ أجرَبُ (2)

وقال طَرَفَةُ: [البحر الطويل]

وإنْ يَلْتَقِ الحَيُّ الكريمُ تُلاقِني

إلى ذُرْوَةِ البَيْتِ الكَريمِ المُصَمَّدِ (3)

والمستيسر من الهدي إما بَدَنَةٌ، أو بقرةٌ، أو شاةٌ، أو يشتركُ (4) في دمٍ (5).

قال ابنُ عُمَر: بدنةٌ أو بقرةٌ (6).

* ومن (7) لم يجدِ الهَدْي في وقتهِ، جازَ له أن ينتقل إلى الصَّوم؛ كما بيَنَ اللهُ - سبحانه - ذلك.

ولم أعلمْ أحداً يخالِفُ (8) في ترتيبِ هذهِ الكفَّارة (9).

* وواجبُ الصيامِ ثلاثةُ أيامٍ في الحجِّ وسبعةٌ إذا رجع؛ كما ذكره الله -

(1)"إلى" ليست في "ب".

(2)

نظر: "ديوانه"(ق 6/ 23)، (ص: 78).

(3)

انظر: "الشعر والشعراء" لابن قتيبة (1/ 185)، و "طبقات فحول الشعراء" لابن سلَاّم (1/ 137)، و "خزانة الأدب" للبغدادي (1/ 412)، في معلقته، البيت (47). وروايته: وإن يلتق الحي الجميع

.

(4)

في "ب": "شرك".

(5)

انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 179)، و "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (1/ 2/ 352)، و "المغني" لابن قدامة (5/ 352)، و "المجموع" للنووي (7/ 185).

(6)

تقدم تخريجه.

(7)

في "ب": "فمن".

(8)

في "ب": "مخالفاً".

(9)

نقل الإجماع على ذلك النووي في "المجموع"(7/ 186)، ونفى الخلاف فيها ابن قدامة في "المغني"(5/ 360).

ص: 341

سبحانه وتعالى -، فلا يجوزُ للمتمتع صومُ ثلاثةِ الأيامِ في غير الحجِّ؛ لظاهر الآية، وبهذا قال ابنُ عمرَ وعائشةُ -رضي الله تعالى عنهم - (1).

وإليه ذهب الشافعيُّ (2).

وقال أبو حنيفةَ وعطاءٌ وأحمدُ بجوازه قبلَ الحجِّ (3)؛ قياساً على تكفيرِ اليمينِ قبلَ الحِنْثِ، وتأويلُ الآيةِ عندهم: فمنْ لم يجدْ، فصيامُ ثلاثةِ أيامٍ في وقت الحج.

* والأفضل أن يفرغَ من صِيامها قبلَ يومِ عرفةَ (4)؛ لأن الأفضل للحاجِّ الفطرُ يوَم عرفة اقتداءً برسولِ الله صلى الله عليه وسلم.

* فإن لم يَصُمِ الثلاثةَ قبلَ يومِ عرفةَ، فهل له أن يصومَ في أيامِ التشريق؟

اختلف فيه أهلُ العلم - أيضاً -، فقال أبو حنيفةَ والشافعيُّ في قولهِ الجديدِ: لا يجوزُ (5)، واختارَهُ ابنُ المنذرِ (6)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "أيامُ التَّشْريقِ أيامُ

(1) رواه البخاري (1895)، كتاب: الحج، باب: صيام أيام التشريق، عن عائشة وابن عمر رضي الله عنهما.

(2)

انظر: "المجموع" للنووي (7/ 185). وهو مذهب المالكية؛ انظر: "التفريع" لابن الجلاب (1/ 348).

(3)

انظر: "المغني" لابن قدامة (5/ 361)، و "رد المحتار" لابن عابدين (3/ 501).

(4)

وهذا مذهب الشافعية؛ انظر: "المجموع" للنووي (7/ 186).

وهناك من قال: يكون آخر الثلاثة يوم عرفة، وهو قول المالكية والحنفية والحنابلة؛ وقال به طاوس، والشعبي، ومجاهد، والحسن، والنخعي، وابن المسيب، وعلقمة، وعمرو بن دينار. انظر:"المغني" لابن قدامة (5/ 360)، و "التفريع" لابن الجلاب (1/ 348)، و "رد المحتار" لابن عابدين (3/ 495). وانظر:"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (1/ 2/ 370).

(5)

انظر: "رد المحتار" لابن عابدين (3/ 495). وما نقله عن الشافعي هو الصحيح في المذهب؛ انظر: "المجموع" للنووي (6/ 485).

(6)

انظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (3/ 303 - 304).

وانظر: =

ص: 342

أكلٍ وشربٍ وذكرٍ لله عز وجل (1) ".

وقال مالكٌ والأوزاعيُّ وإسحاقُ: يجوزُ صومُها للمتمتعِّ (2)؛ لما رُوي عن عائشةَ وابنِ عُمر -رضيَ الله تعالى عنهم -: أنهما قالا: لم يرخّصْ في أيامِ التشريقِ أَنْ يُصَمْنَ إلَّا لمنْ لَمْ يجدِ الهَدْيَ (3).

ويوافقهم النظرُ وظاهرُ القرآن.

أما النظرُ، فإنه لا يتحققُ عدمُ الهدي إلا يومَ النحر؛ لأنه محلُّه، فيتحقق وجوب الصوم لعدم الهدي.

وأما ظاهرُ القرآن، فإنَّ هذه الأيام من أيام الحج، وأفعالَها من أفعال الحج.

* وبيَّنَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ المرادَ بالرُّجوع في كتابِ الله عز وجل هو رجوعُ المسافرِ إلى أهله، فقال:"ومن لم يَجِدْ هَدْياً فَلْيَصُمْ ثلاثةَ أيامٍ في الحَجِّ، وسبعةً إذا رجعَ إلى أهلهِ"(4) وفي رواية: "وسبعةً إذا رجعتم إلى أمصارِكم"(5).

= "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (1/ 2/ 372).

(1)

رواه مسلم (1141)، كتاب: الصيام، باب: تحريم صوم أيام التشريق، عن نبيشة الهذلي.

(2)

وهذا قول عائشة، وابن عمر، وعروة والزهري وغيرهم، وقال به أحمد. انظر:"المغني" لابن قدامة (5/ 363)، و "التفريع" لابن الجلاب (1/ 348).

(3)

رواه البخاري (1894)، كتاب: الصيام، باب: صيام أيام التشريق. وانظر: "معالم التنزيل" للبغوي (1/ 249).

(4)

رواه البخاري (1606)، كتاب: الحج، باب: من ساق البدن معه، ومسلم (1227)، كتاب: الحج، باب: وجوب الدم على المتمتع، عن عبد الله بن عمر.

(5)

رواه البخاري (1497)، كتاب: الحج، باب: قول الله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ =

ص: 343

وقال أبو حنيفة وأحمد: إذا فرغَ من أعمالِ الحجِّ (1).

وقال مالكٌ: إذا سار (2).

وهما قولان للشافعيِّ -أيضاً- (3)، والأول أولى.

الجملة السادسة: قوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196].

وفيها ثلاثُ مسائل:

الأولى: اختلفوا في الحكم المُشار إليه بهذا التخصيص، هل هو صحة التمتُّع، أو وجوبُ الدم على المتمتِّع؟

فذهب أبو حنيفة بالإشارة إلى صحة التمتع المترتب عليه هذه الكفّارةُ، فلا يصحُّ لحاضِري المسجدِ الحَرام تمتُّعٌ، ولا قِرانٌ (4).

= أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}، عن ابن عباس.

(1)

انظر: "رد المحتار" لابن عابدين (3/ 495)، و "الإنصاف" للمرداوي (3/ 514).

(2)

قال الإمام مالك كما في "المدونة"(2/ 415) في قوله تعالى: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} قال: إذا رجع من منى، فلا أرى بأساً أن يصوم. قال ابن القاسم: يريد أقام بمكة أم لم يقم. وانظر: "الكافي" لابن عبد البر (ص: 150)، و "حاشية الدسوقي"(2/ 133).

(3)

قلت: قولا الإمام الشافعي اللذان ذكرهما النووي في "المجموع"(7/ 185 - 187) إنما هما: إذا رجع إلى أهله، وثانيهما: إذا فرغ من الحج وأخذ في المسير من مكة، والأول هو الأصح.

(4)

في هذه المسألة عند الحنفية كلام طويل؛ فمنهم من يقول: لا تمتع ولا قران لأهل مكة، ولا يصح منهم ذلك، ومنهم من يقول: يصح منهم وعليهم دم، ومنهم من يقول: لا يصح التمتع، ويصح القران. انظر:"رد المحتار" لابن عابدين (3/ 502)، و "اللباب" للغنيمي (1/ 1/ 179).

ص: 344

ويدلُّ له ما رواه البخاري في "صحيحه" عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما قال ابن عباس في آخر حديث رواه: فجمعوا نسكين في عام بينَ الحجِّ والعمرةِ؛ فإن اللهَ أنزلَهُ في كتابه وسنَّةِ نبيِّه صلى الله عليه وسلم، وأباحه للناس غير أهلِ مَكَّة، قال الله عز وجل:{ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (1)[البقرة: 196].

وقال مالكٌ والشافعيُّ: التخصيصُ يرجعُ إلى سقوطِ الدمِ عن المتمتَعِّ (2).

فدمِ المتمتعِّ عند أبي حنيفةَ دَمُ شُكْرٍ للهِ تَعالى على الجَمْعِ بين العبادَتيْنِ في سَفرٍ واحدٍ، وعندَ مُخالفيهِ دَمُ جُبْرانٍ؛ لتركِ الإِحرام بالحَجِّ من الميقات (3).

المسألة (4) الثانية: اختلفوا في {حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} :

- فقال ابن عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما -: من كانَ بالحَرمِ خاصَّةً، لا غير (5).

وبه قالَ أهلُ الظاهر (6).

- وقال الثوريُّ: هم أهلُ مكةَ (7).

(1) انظر تخريج الحديث السابق، إذ هو قطعة منه.

(2)

وهو مذهب الحنابلة أيضاً. انظر: "المجموع" للنووي (7/ 172)، و "المغني" لابن قدامة (5/ 355)، و "التفريع" لابن الجلاب (1/ 348).

(3)

نظر: "المجموع" للنووي (7/ 137).

(4)

"المسألة" ليست في "أ".

(5)

رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره"(2/ 255).

(6)

قلت: هو قول ابن حزم خاصة، انظر:"المحلى"(7/ 147).

(7)

وهو قول داود الظاهري، وبه قال نافع، والأعرج، وعطاء، وطاوس، انظر: =

ص: 345

- وقال مالكٌ: أهلُ مكةَ ومنْ كانَ بذي طُوىً (1)، وما كان (2) مِثْلَ ذلكَ من مكَّةَ (3).

- وقال أبو حنيفةَ ومكحولٌ: منْ كانَ دارُه دونَ الميقاتِ (4).

- وقال الشافعيُّ: مَنْ كان (5) بينَه وبينَ مكةَ مسافةٌ لا تُقصر فيها الصلاةُ (6)، وذلك أنه معروفٌ في لسانِ العربِ أنَّ من قَرُبَ من الشئِ يُسَمَّى حاضراً له، يقال: فلانٌ بحَضْرَةِ الماءِ: إذا كانَ قريباً منه (7).

ولما كانَ القربُ مُطْلَقاً، احتاجَ الشافعيُّ إلى تقديره، فلم يجدْ دليلاً يدلُّ عليه إلا القياسَ على المسافةِ التي اعتبرَها الشرعُ، وهي المسافةُ التي تُقْصَرُ فيها الصلاةُ وتُجْمعُ (8).

وقولُ غيرِ الشافعيِّ أقربُ إلى حقيقةِ الحضور، لكنْ لمّا كان هذا

= "تفسير الطبري"(2/ 255)، و "المحلى"(7/ 146).

(1)

موضع عند مكة. انظر: "معجم البلدان" لياقوت (4/ 51)، و "إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 319).

(2)

في "ب" زيادة "من".

(3)

انظر: "الذخيرة" للقرافي (3/ 291). وانظر "المحلى" لابن حزم (7/ 146)، و "تفسير الرازي"(3/ 173).

(4)

انظر: "رد المحتار" لابن عابدين (3/ 502)، وانظر:"تفسير الطبري"(2/ 256)، و "المحلى" لابن حزم (7/ 146).

(5)

"كان" ليست في "أ".

(6)

وهو قول الإمام أحمد. انظر: "المجموع" للنووي (7/ 182)، و "المغني" لابن قدامة (5/ 356)، و "فتح الباري" لابن حجر (3/ 553). وانظر ما نقله المصنف هنا من آثار عن ابن عباس والثوري ومكحول وغيره في:"الاستذكار"(4/ 97)، و "التمهيد"(8/ 343).

(7)

انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (3/ 329).

(8)

انظر ترجيح قول الشافعي في "تفسير الطبري"(2/ 256).

ص: 346

التخصيصُ عندهُ لأجلِ مجاورةِ البقْعَةِ الشريفةِ، عدلَ الشافعيُّ إلى المَجاز.

ويقوَّى ذلكَ عندَه بأنَّ أكثرَ المواقيتِ على مرحلتينِ (1) من مَكَّةَ، فَدَلَّ (2) على أن المرحلتينِ حَدٌّ بينَ القريبِ والبعيد، فهي غاية درجاتِ القريبِ، وأولُ درجاتِ البعيد.

ولفظُ الحضورِ يصلُح لكلٍّ مِنَ الأقوالِ، إلَّا قولَ أبي حنيفةَ؛ فإنَّ الحُضورَ لا يصلُحُ أن يُطْلَقَ على ميقات ذي الحُلَيْفَةِ؛ لبعدها؛ فإنَّ ذا الحليفة على تسعِ مراحلَ (3).

المسألة (4) الثالثة: قد بينتُ في كتابي هذا أنَّ المسجدَ الحرامَ يقع على مكَّةَ، ويقعُ على الحَرَمِ (5).

واختلفتِ الشافعيَّةُ هنا في المراد به، بحسْبِ اخْتِلافهم في اعتبار المرحلتين: مِنَ الحرمِ، أم من مكةَ؟ (6)

والراجحُ عندي اعتبارُ الحضورِ من مكةَ؛ لقربِ الحُضور من الحقيقةِ، والله أعلم.

* * *

(1) المرحلتان: هما مسيرة يوم وليلة معتدلَيْن بسير الأثقال، وهي ستة عشر فرسخاً، وهي أربعة بُرُد. انظر:"فتح الوهاب" للشيخ زكريا الأنصاري (1/ 125).

(2)

في "أ": "فَدَلَّهُ".

(3)

وانظر تعقب ابن حزم عليه في "المحلى"(7/ 146).

(4)

"المسألة" ليست في "أ".

(5)

وذلك (ص:).

(6)

حكى ذلك النووي في "المجموع"(7/ 172). وصحح كون المسافة من الحرم لا من مكة، ونسبه إلى الجمهور من الشافعية.

ص: 347

19 -

20 (19 - 20) قوله جل جلاله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ (197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} [البقرة: 197 - 198].

أقول: اشتملت هذه الآيةُ (1) على جُمَلٍ من المناسِك.

الجملة الأولى: قولُه تعالى {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} ، ومعلوم أن في الكلام حذفاً وإضماراً.

قال أبو زكريا الفرَّاءُ: معناه: وقتُ الحجِّ هذه الأشهُرُ (2).

قال ابنُ المنذرِ: وقالَ غيرُ الفراءِ: يريدُ أن الحجَّ في أشهرٍ معلوماتٍ (3).

* وقد خصَّ اللهُ -سبحانَه - في هذه الجملة الحجَّ بزمنٍ مخصوص كما خصَّ الصلاةَ والصيامَ بزمنٍ مخصوص.

وعلى هذا أجمع المسلمون.

* وإنما اختلفوا في تحديد أشهرِهِ المعلومةِ:

(1) في "ب" زيادة "أيضاً".

(2)

انظر: "معاني القرآن" له (1/ 119).

(3)

انظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (3/ 197). وانظر القولين معاً، وكيفية التقدير في ذلك في:"أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 187)، و "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (1/ 2/ 375)، و "تفسير الرازي"(3/ 174)، و "المغني" لابن قدامة (5/ 74)، و "المجموع" للنووي (7/ 129)، و "الذخيرة" للقرافي (3/ 204).

ص: 348

فقالَ جمهورُ العُلماء: أشهر الحج: شَوّالٌ، وذو القَعْدَةِ، وعَشْرٌ من ذي الحِجَّةِ. ورويَ عن عُمَر، وابن عمرَ، وابنِ عباسٍ، وابنِ مسعودٍ، وابنِ الزبير -رضي اللهُ تعالى عنهم -. وإليه ذهب الشافعيُّ وأبو حنيفة (1).

واختلفوا في يوم النحر، فعدَّهُ أبو حنيفة منها (2)، ولم يعدَّهُ الشافعيُّ (3).

وقال قومٌ (4): أشهُرُ الحَجِّ: شَوّالٌ، وذو القَعْدَةِ، وجميعُ ذي الحِجَّة، ورويَ (5) عن عَلِيٍّ رضيَ اللهُ تعالى عنه (6).

* واتفقوا على وجوب فِعْل الحجِّ في أشهُره.

* واختلفوا هل يجوزُ فرضُه قبلَ أشهُره؟

(1) انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (1/ 373)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (1/ 2/ 375)، و"زاد المسير" لابن الجوزي (1/ 190)، و"المجموع" للنووي (7/ 135)، و "رد المحتار" لابن عابدين (3/ 419). وهو قول الحنابلة؛ انظر:"المغني" لابن قدامة (5/ 110).

(2)

انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (1/ 376)، و"رد المحتار" لابن عابدين (3/ 419). وهو قول الحنابلة؛ انظر:"المغني" لابن قدامة (5/ 110 - 111).

(3)

انظر: "المجموع" للنووي (7/ 131، 136).

(4)

وهو قول الإمام مالك، وبه قال عطاء، وطاوس، ومجاهد، والزهري، والربيع، وروي عن عمر وابن عباس رضي الله عنهم. انظر:"تفسير الطبري"(2/ 258)، و"الإشراف" لابن المنذر (3/ 197)، و"أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 186)، و"زاد المسير" لابن الجوزي (1/ 190)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (1/ 2/ 375)، و"المغني" لابن قدامة (5/ 110)، و"المجموع" للنووي (7/ 136)، و"الذخيرة" للقرافي (3/ 203).

(5)

في "ب": "ويروى".

(6)

لم أقف عليه عن علي رضي الله عنه فيما بين يدي من المصادر، والله أعلم.

ص: 349

- فذهبَ الشافعيُّ إلى أنه لايجوز؛ كما لا تجوز الصلاةُ قبل وَقْتِها (1).

ولقولِ ابنِ عباس -رضيَ الله تعالى عنهما-: لا يُحْرِمُ بالحجِّ إلا في أشهر الحجِّ؛ فإنَّ من سُنَّةِ الحَجِّ أنْ يُحْرِمَ بالحجّ في أشهر الحج (2). ولقولِ جابرٍ: لا يُهِلُّ أحدٌ بالحجِّ؛ إلاّ في أشهُر الحجِّ (3).

وهوَ قولُ عطاءٍ وعِكْرمةَ، فعنْ عِكْرِمَةَ أنه قال: لا ينبغي لأحدٍ أن يحرم بالحجِّ إلاّ في أشهُر الحجِّ (4)؛ من أجلِ قولِ الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} (5)[البقرة: 197].

وللاستدلال بالآيةِ عندي وجهٌ قويٌّ:

فأما على تأويل الفَرّاءِ فظاهرٌ.

وفأما على تأويلِ غيرِه، فإنَّ الإحرامَ من جملةِ الحَجِّ، ولم يقعْ إلا في الأشهر المعلومات.

- وذهب مالكٌ والثوريُّ وأبو حنيفةَ إلى صِحَّةِ الإحرام بالحجِّ قبل أشْهُرِه (6).

(1) وبه قال عطاء، ومجاهد، وطاوس، وأبو ثور. انظر:"معرفة السنن والآثار" للبيهقي (7/ 43)، و"المجموع" للنووي (7/ 133)، و"المغني" لابن قدامة (5/ 74).

(2)

رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(14617)، وابن خزيمة في "صحيحه"(2596).

(3)

رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(14618)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(4/ 343).

(4)

رواه الإمام الشافعي في "الأم"(2/ 155).

(5)

انظر: "معرفة السنن والآثار" للبيهقي (7/ 44).

(6)

وهو مذهب الحنابلة أيضاً. انظر: "المغني" لابن قدامة (5/ 74)، و"المجموع" للنووي (7/ 133)، و"الذخيرة" للقرافي (3/ 203)، و"رد المحتار" لابن عابدين (3/ 420).

ص: 350

* وتخصيصُ الله - سبحانه - الحجَّ بالتوقيتِ يُفْهِمُ أَنَّ العُمْرَةَ ليستْ مثلَهُ، وليس لها وقتٌ مخصوصٌ.

وعلى هذا القولِ (1) اتفقَ أهلُ العلم، فأجازوها في جَميع السنة (2)؛ لأنها كانت في الجاهلية لا تصنع في أيام الحج، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم:"دَخَلَتِ العُمْرَةُ في الحَجِّ إلى يَوْمِ القِيامَة"(3).

وإنما اختلفوا في تكريرها في السَّنَةِ، فكرههُ مالكٌ (4)، واستحسنه الشافعيُّ وأبو حنيفة رحمهم الله تعالى (5).

* وبيَّن النبيُّ صلى الله عليه وسلم الميقاتَ المَكانيَّ، فروى ابنُ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما-: أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ لأهلِ المَدينةِ ذا الحُلَيْفَةِ، ولأهلِ الشامِ الجُحْفَةَ، ولأهل نجدٍ قَرْنَ المنازلِ، ولأهل اليمنِ يَلَمْلَمَ، هنَّ لَهُنَّ ولمنْ أَتى عَلَيْهِنَّ من غير أَهْلِهِنَّ مِمَّنْ أرادَ الحجَّ والعمرةَ، ومنْ كان من دونِ ذلك فمِنْ حيثُ أَنْشَأَ، حتى أهلُ مكةَ من مكةَ (6).

(1)"القول" ليس في "ب".

(2)

انظر: "بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 635)، و"المجموع" للنووي (7/ 139).

(3)

رواه مسلم (1241)، كتاب: الحج، باب: جواز العمرة في أشهر الحج، عن ابن عباس.

(4)

وهو قول الحسن، وابن سيرين، وابن جبير، والنخعي. انظر:"المحلى" لابن حزم (7/ 68)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 635)، و"المغني" لابن قدامة (5/ 16)، و"التفريع" لابن الجلاب (1/ 352)، و"المجموع" للنووي (7/ 140).

(5)

وهو قول الحنابلة، والجمهور من أهل العلم من السلف والخلف. انظر:"المحلى" لابن حزم (7/ 68)، و"المغني" لابن قدامة (5/ 16)، و"المجموع" للنووي (7/ 140)، و"رد المحتار" لابن عابدين (3/ 421).

(6)

رواه البخاري (1452)، كتاب: الحج، باب: مهل أهل مكة للحج والعمرة، ومسلم (1181)، كتاب: الحج، باب: مواقيت الحج والعمرة.

ص: 351

* وقد اتفق العلماء على اعتبارِها، وإنما اختلفوا في صفته، وموضعُ تفصيلِ ذلك كتبُ الفقهِ، والله أعلم.

الجملة الثانية: قوله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197].

* حرم الله - سبحانه - فيها الرَّفَثَ، وهو الجِماعُ؛ كما قالَه ابنُ عباسٍ رضي الله عنهما على من فرضَ الحَجَّ في أشهُره (1)، وقد أجمعت الأمةُ على تحريمِه، وعلى أنه مفسدٌ للحجِّ، وعلى وُجوبِ الكَفَّارة فيه، والمضيِّ في فاسدِه (2)؛ لقولِه تعالى:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196].

* وإنما اختلفوا في الوقتِ الذي يُفْسِدُهُ؟

فقال قوم: يفسد الحجَّ مطلقًا (3).

وقال قوم: لا يفسدُه إلا إذا وقعَ قبلَ التَّحَلُّل الأصغر (4).

(1) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره"(2/ 263)، وانظر:"معالم التنزيل" للبغوي (1/ 251)، و"المجموع" للنووي (7/ 129).

(2)

انظر: "بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 641، 713)، و"المغني" لابن قدامة (5/ 166)، و"المجموع" للنووي (7/ 305)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (1/ 2/ 377).

(3)

هذا قول ابن حزم؛ فقد قال في "المحلى"(7/ 186): كل من تعمد معصية، أي معصية كانت، وهو ذاكر لحجه مُذْ أن يتم طوافه بالبيت للإفاضة، ويرمي الجمرة، فقد بطل حجه.

(4)

وهو قول مالك والشافعي وأحمد. انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (12/ 294)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 713)، و "المجموع" للنووي (7/ 417)، و"المغني" لابن قدامة (5/ 372).

أما أبو حنيفة وأصحابه فقالوا: إن وطئ قبل عرفة فسد حجه، فإن وطئ بعد عرفة لم يفسد حجهُ وعليه بدنة. انظر:"رد المحتار" لابن عابدين (3/ 524).

ص: 352

* وبَيَّنَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن ما كانَ من أسبابِ الرفثِ ودواعيه، فهو حرامٌ، فقالَ:"لا يَنْكِحُ المُحْرِمُ، ولا يُنْكَحُ، ولا يَخْطِبُ"(1).

* ومفهومُ هذا الخِطاب يقتضي أنَّ من فرضَ الحجَّ في غيرِ أشهُره، فله أن يرفُثَ، وذلك يستلزمُ عدمَ صِحّةِ فرضِه، وبهذا قال بعضُهم (2).

وقال الشافعيُّ: لا يصحُّ فرضُه للحج، لكنه يكونُ عُمْرَةً (3)، وأقاسَهُ على الصَّلاةِ قبلَ وقتِها؛ فإن المكتوبةَ لا تصحُّ مكتوبةً، وتصحُّ نافلةً.

ويدلُّ له قولُه تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]؛ فإنَّ اللهَ تعالى أمر بإتمامِ الحجِّ، ولم يمكنْ إتمامه، فانقلبَ عُمْرَةً، وهيَ العبادةُ التي يمكنُ إتمامُها، فعارضَ هذا المفهومُ هذا العمومَ، وترجَّحَ العُمومُ بالقياسِ.

(1) رواه مسلم (1409)، كتاب: النكاح، باب: تحريم نكاح المحرم، وكراهة خطبته، عن عثمان بن عفان.

وهو قول مالك والشافعي وأحمد وجمهور أهل العلم. انظر: "بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 645)، و"المجموع" للنووي (7/ 296)، و"المغني" لابن قدامة (5/ 162)، و"الذخيرة" للقرافي (3/ 344).

وقال الثوري، والحكم، وأبو حنيفة، وصاحباه، وآخرون: يجوز أن يتزوج وأن يزوِّج، وإن تزوج فلا يدخل بها حتى يحل. انظر:"شرح معاني الآثار" للطحاوي (2/ 268)، و"المجموع" للنووي (7/ 302)، و"عمدة القاري" للعيني (10/ 195).

(2)

وهو قول داود وابن حزم. انظر: "المحلى"(7/ 65)، و"المجموع" للنووي (7/ 133).

(3)

وهو قول عطاء، ومجاهد، وطاوس، والأوزاعي، وأبي ثور. انظر:"معالم التنزيل" للبغوي (1/ 251)، و"أحكام القرآن" للجصاص (1/ 374)، و"المجموع" للنووي (7/ 133)، و"المغني" لابن قدامة (5/ 74).

ص: 353

ولا يخلو قياسُ الشافعيِّ من نِزاعٍ؛ فإنَّ الصحيحَ عندَ أصحابِه أَنَّ المكتوبةَ قبلَ وقتِها لا تنعقدُ أصلاً (1).

وقولُ مخالِفِهِ أصحُّ؛ للمفهوم المستنبَطِ من هذه الآية، ولقوله صلى الله عليه وسلم:"إنما الأَعْمالُ بالنِّيَّاتِ، وإنَّما لكل امْرِئٍ (2) ما نَوى"(3).

وأما الاستدلالُ بعموم قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، فباطلٌ؛ لأن الله - سبحانه - إنما أمرَ بإتمام ما دخل فيه، ولم يأمرْهُ أن يتم بغيره، والله أعلم

* والنهيُ عن الرفثِ مختصٌّ ببعضِ الأحوالِ؛ كالصومِ والاعتكافِ والحجِّ، وأما النهيُ عن الفُسوقِ والجِدالِ، فلا يختصُّ بحالٍ، وإنما خصَّه اللهُ -سبحانَهُ - بمن فرضَ الحجَّ؛ تعظيمًا وتفخيماً لشأنِ الحجِّ (4)؛ كما قالَ اللهُ تعالى:{مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36].

الجملة الثالثة: ينبغي للحاجِّ أن يتزوَّدَ؛ لأمرِ الله - سبحانه - بذلك.

فإنْ تركَ الزَّادَ واعتمدَ على المسألةِ؛ فإن كانَ غَنِيًّا، حَرُمَ عليهِ (5)، وإن كان فقيرًا، أو (6) لا كَسْبَ له، كُره له ذلك (7)، ولم يَحْرُمْ عليهِ فِعْلُه (8).

(1) وذلك إذا كان عالمًا أن الوقت لم يدخل، فإن كان جاهلاً انعقدت نفلاً. انظر:"المجموع" للنووي (7/ 130).

(2)

في "ب": "لامرئ".

(3)

تقدم تخريجه.

(4)

انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (1/ 384).

(5)

انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 191)، و"تفسير الرازي"(3/ 184).

(6)

في "ب": "و".

(7)

"ذلك" ليست في "ب".

(8)

انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 191).

ص: 354

قال ابنُ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما -: كانَ أهلُ اليمنِ يَحُجُّونَ، ولا يَتَزَوَّدونَ، ويقولون: نحنُ المُتَوَكِّلون، فإذا قَدِموا مَكَّةَ، سألوا الناسَ، فأنزلَ اللهُ سبحانه:{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} (1)[البقرة: 197].

* ويجوز للحاجِّ أن يحملَ معه مالَ التجارة، من غيرِ كراهةٍ (2)؛ لقوله تعالى:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198]، وقرأ ابن الزبير -رضي اللهُ تعالى عنهما -:(في مواسم الحج)(3)، ولقوله تعالى:{لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 28].

قال ابن عباسٍ - رضي الله تعالى عنهما -: كان ذو المَجاز وعُكاظٌ مَتْجَرَ الناسِ في الجاهليةِ، فلما جاءَ الإسلام، كأَنَّهم كرهوا ذلك حتى نزلت:(ليسَ عليكُمْ جُناحٌ أنْ تبتَغُوا فضلاً من رَبِّكُمْ في مَواسِمِ الحَجِّ)(4).

(1) رواه البخاري (1451)، كتاب: الحج، باب: قول الله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} .

(2)

انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 192)، و"أحكام القرآن" للجصاص (1/ 386)، و"المغني" لابن قدامة (5/ 174).

وقد روي عن سعيد بن جبير المنع من التجارة للحاج، وقد وُصف هذا القول بالشذوذ. انظر:"أحكام القرآن" للجصاص (1/ 386).

(3)

قرأ بها ابن الزبير، وابن عباس، وابن مسعود، وعكرمة، وطلحة بن عمرو، وعطاء، ووكيع. انظر:"تفسير الطبري"(4/ 165 - 169)، و"الكشاف" للزمخشري (1/ 123)، و"تفسير الرازي"(2/ 172)، و"البحر المحيط"(2/ 94)، وانظر:"معجم القراءات القرآنية"(1/ 154).

(4)

رواه البخاري (1681)، كتاب: الحج، باب: التجارة أيام المواسم، والبيع في أسواق الجاهلية.

ص: 355

الجملة الرابعة: قوله جل جلاله: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198].

قال جماهير المفسرين وأهل السِّيَرِ والحَديث: المشعرُ الحرامُ: جميعُ المُزْدَلِفَةِ (1).

* وذكرُ الله - سبحانه - يقعُ على التلبيةِ والصَّلاةِ والمبيتِ، وإن لم يصحبه ذِكْرٌ؛ لأنه من مناسكِ الحجِّ، والمناسكُ ذِكْرٌ؛ لأنها انقيادٌ وتسليمٌ لله - سبحانه -، قال الله تعالى:{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203]، والذكرُ في هذه الأيام هو الرميُ، وأما التلبيةُ، فهي مشروعةٌ في مواطنِ الحجِّ كلِّها، ولا تختصُّ بمكانٍ دونَ مكانٍ، وأما الصَّلاةُ والمبيتُ، فقد خَصَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم المَشْعَرَ الحرامَ بالصلاةِ والمبيتِ.

- أما الصلاةُ، فقد روينا في "الصحيحين" عن أسامةَ بنِ زيدٍ: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم دَفَعَ من عرفةَ، فنزلَ الشِّعْبَ، فبالَ، ثم توضأ، ولم يسبغ الوضوءَ، فقلت له: الصلاة؟ قال: "الصلاةُ أمامكَ"، فجاء المزدلفة، فتوضأَ، فأسبغ، ثم أقيمتِ الصَّلاةُ، فصلَّى المغربَ، ثم أناخَ (2) كلُّ إنسانٍ بَعيرَهُ في منزلِه، ثم أقيمتِ الصلاةُ، فصلَّى، ولم يُصَلِّ بينهما (3).

(1) انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (13/ 16)، و "أحكام القرآن" للجصاص (1/ 390). قال ابن عبد البر: المزدلفة عند العلماء مما يلي عرفة، إلا أن يأتي وادي مُحسِّر عن اليمين والشمال من تلك البطون والشعاب والجبال كلها، وليس المَأْزَمَانِ من المزدلفة، وأما وادي محسر فهو من المزدلفة.

(2)

أناخ: أَبْرك.

(3)

رواه البخاري (139)، كتاب: الوضوء، باب: إسباغ الوضوء، ومسلم (1280)، كتاب: الحج، باب: استحباب إدامة الحاج التلبية.

ص: 356

- وأما المبيتُ، فإن النبيَّ صلى الله عليه وسلم باتَ بِجَمْعٍ، وصَلَّى بِها الصُّبْحَ بِغَلَسٍ (1) ثم وقفَ حتى أَسْفَرَ (2)، ثم دَفَعَ قبل أن تطلُعَ الشمسُ إلى مِنًى.

قال الشافعيُّ: أخبرنا مسلمُ بنُ خالدٍ، عنِ ابنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ قَيْسِ بنِ مَخْرَمَةَ، قالَ: خطبَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فقالَ:"إن أهلَ الجاهليةِ كانوا يدفعون من عَرَفَةَ حين تكونُ الشمسُ كأنها عمائِمُ الرِّجالِ في وُجوههم، قبلَ أن تَغْرُبَ، ومنَ المُزْدَلِفَةِ بعدَ أن تطلُعَ الشمسُ حتى تكونَ كأنها عمائِمُ الرِّجالِ في وُجوههم (3)، وإنّا لا نَدْفَعُ من عَرَفَةَ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، ونَدْفَعُ منْ مزدلفةَ قبلَ أن تطلُعَ الشَّمسُ. هَدْيُنا مُخالِفٌ لِهَدْيِ أهلِ الأوثانِ والشِّرْكِ"(4).

وروى عروةُ بنُ مُضَرّسٍ حديثاً متَّفَقًا على صحته، قال: أتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بِجَمْعٍ، فقلتُ له: هل لي من حَجٍّ؟ فقال: "مَنْ صَلَّى هذهِ الصَّلاةَ مَعَنا، ووقفَ هذا المَوْقِفَ حتى يُفيضَ، وأفاضَ قبلَ ذلكَ من عَرَفاتٍ ليلاً أو نَهاراً، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ، وقَضى تَفَثَهُ"(5).

(1) الغَلَسُ: ظلمةُ آخر الليل. "القاموس"(مادة: غلس)(ص: 505).

(2)

سَفَرَ الصبحُ يَسْفِرُ، وأسفر يُسْفِرُ: أضاء وأشرق. "القاموس"(مادة: سفر)(ص: 368).

(3)

قال الطيبي رحمه الله: شبه ما يقع عليه من الضوء على الوجه طرفي النهار حينما دنت الشمس من الأفق بالعمامة؛ لأنه يلمع في وجهه لمعان بياض العمامة. انظر: "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" لعلي القاري (5/ 525).

(4)

رواه الإمام الشافعي في "مسنده"(ص: 369)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(5/ 125)، عن محمد بن قيس بن مخرمة مرسلاً.

(5)

رواه أبو داود (1950)، كتاب: المناسك، باب: من لم يدرك عرفة، والنسائي (3042)، كتاب: الحج، باب: فيمن لم يدرك صلاة الصبح مع الإمام =

ص: 357

* إذا تقررَ هذا، فقدِ اختلفَ أهلُ العلمِ في الصلاةِ بالمَشْعَرِ الحرامِ:

- فذهبَ أبو حنيفةَ وغيرُه من الكوفيينَ، وبعضُ الشافعيةِ إلى وجوبِ الصَّلاةِ به، وإن النبيَّ صلى الله عليه وسلم فعلَهُ نُسكاً، لا لأجل السفر، فيجبُ الجَمْعُ على الآفاقِيِّ والمَكِّيِّ، ولا يجمعُ بينَ الصلاتين إلا بالمُزْدَلِفَةِ (1).

- وذهب الشافعيُّ والأوزاعيُّ وأبو يوسفَ وأحمدُ وفقهاءُ أهلِ الحديثِ إلى استحبابِ الجمعِ بالمزدلفةِ، وأنه لا يجوزُ للمَكِّيِّ، ويجوزُ أن يصلي في غير المزدلفة، ورأوا أنَّ فعلَ النبي صلى الله عليه وسلم كانَ لأجلِ السفر (2).

وقولُ أبي حنيفةَ أَشْبَهُ بالقرآنِ والسُّنَّةِ، وأَوفَقُ للنظرِ.

وذلكَ أنه لم يُنْقَلْ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه جمعَ بينَ الصلاتينِ في سفره مثلما نُقِل هنا، إنما نُقِلَ عنهُ صلى الله عليه وسلم أنه إذا كان نازلاً، فَّقدمَ الثانيةَ إلى الأولى، وإذا كانَ سائراً أخَّرَ الأولى إلى الثانية، وهذا يدخلُه التأويل، وعلى تسليمه، فقد كانَ النبي صلى الله عليه وسلم نازلاً بعرفةَ في وقتِ المغرب.

- وقال مالك: لا يجوزُ أن يصلِّيَها قبل المزدلفة إلاّ مَنْ بهِ أو بِدائتِهِ

= بالمزدلفة، والترمذي (891)، كتاب: الحج، باب: ما جاء فيمن أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج، وابن ماجه (3015)، كتاب: الحج، باب: من أتى عرفة قبل الفجر.

والتَّفَثُ في المناسك: ما كان من نحو قصِّ الأظفار والشارب وحلق الرأس والعانة ورمي الجمار ونحر البدن وأشباه ذلك. انظر: "القاموس"(مادة: تفث)(ص:152).

(1)

انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (13/ 16)، و"المغني" لابن قدامة (5/ 282)، و"المجموع" للنووي (8/ 162)، و"رد المحتار" لابن عابدين (3/ 365).

(2)

وهو قول أكثر المالكية. انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (13/ 160)، و"المغني" لابن قدامة (5/ 281)، و"المجموع" للنووي (8/ 162)، و"الذخيرة" للقرافي (3/ 262).

ص: 358

عذرٌ، فلهُ أن يصليَها قبلَ المزدلفةِ، بشرط كونهِ بعدَ مغيبِ الشفقِ (1).

* وكذلك اختلفوا في المبيتِ بمزدلفة:

فقال الشعبيُّ والنَّخَعِيُّ والأَوزاعِيُّ والحسنُ البصريُّ وعَلْقَمَةُ والأسودُ: هو ركنٌ من أركانِ الحجِّ، لا يصحُّ الحجُّ إلَّا به؛ كالوقوفِ بعرفةَ، واختارَهُ أبو عبدِ الرحمن ابن بنتِ الشافعيِّ، وأبو بكر بنُ خزيمةَ من الشافعية.

- وقال أكثرُ أهلِ العلم: ليسَ بركْنٍ في الحجِّ (2).

* ثم اختلفوا هل هو واجب يجب بتركه الدمُ، أو سُنَّةٌ لا يجبُ فيه الدمُ؟

- فقال أصحابُ الحديثِ وأهلُ الكوفة: هو واجب، وفيه دم (3)، وهو الصحيحُ من قولِ الشافعيِّ (4).

- وقالت طائفة: هو سنة (5)، وهو قولٌ للشافعيِّ أيضاً (6).

- وحكي عن بعض السَّلَف أن المبيتَ ليس بِنُسُكٍ، وإنما هو مَنْزِلٌ، إن

(1) انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (13/ 159)، قال: قال مالك: لا يصليهما أحد قبل جمع إلا من عذر، فإن صلاهما من غير عذر، لم يجمع بينهما حتى يغيب الشفق. ومؤداه: أنه يجيز أن يليهما قبل المزدلفة.

(2)

انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (13/ 53)، و"أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 195)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (1/ 2/ 393)، و" المغني" لابن قدامة (5/ 284)، و"المجموع" للنووي (8/ 163).

(3)

في "ب": "الدم".

(4)

انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (13/ 53)، و "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (1/ 2/ 393)، و"المغني" لابن قدامة (5/ 284)، و"المجموع" للنووي (8/ 152).

(5)

وهو قول الحنفية. انظر: "فتح القدير" لابن الهمام (2/ 381)، و"رد المحتار" لابن عابدين (3/ 468).

(6)

الراجح عند الشافعية أنه واجب. انظر: "المجموع" للنووي (8/ 152).

ص: 359

شاءَ نزلَهُ، وإن شاءَ تركَه (1). وهذا ضعيفٌ جداً، بل غلط ظاهرٌ؛ لمخالفةِ الكِتابِ والسُّنَّةِ.

والقولُ الأولُ عندي أقوى دليلاً؛ لموافقتِه القرآنَ، ولحديثِ عروةَ بنِ مضرّسٍ -رضي الله تعالى عنه-.

وقد أجيب عنه بأنه صلى الله عليه وسلم علَّقَ تمامَ الحَجّ:

1 -

على الصَّلاةِ معه، وهي صلاةُ الصُّبْحِ.

2 -

وعلى وقوفِ هذا الموقفِ حتى يُفيضَ، ولم يُفِضْ إلا بعدَ صلاةِ الصبح بزمنٍ.

3 -

وعلى الإفاضة قبل ذلك من عرفاتٍ.

وقد أجمعَ العلماءُ على أن من وقفَ و (2) لم يصلِّ الصُّبْح، إما لعصيانٍ، أو نوم، أو نسيانٍ، فحجُّه تامٌ (3).

وقد ثبَّتَ أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أرسلَ بعضَ أزواجه للإفاضَةِ بِلَيْلٍ (4)، فدلَّ على أن التَّمامَ معلَّق على الإفاضة من عرفاتٍ.

وفي هذا الجوابِ نظرٌ؛ لأنَّ الأمرَ إذا عُلّقَ على أوصافٍ، وأمكنَ اعتبارُ

(1) قلت: حكى ابن المنذر في "الإشراف"(3/ 318 - 319) أربعة أقوال للعلماء في المبيت بمزدلفة، ليس فيها من قال أن المبيت ليس بنسك، ولم أعثر على قائل ذلك فيما بين يدي من المصادر، والله أعلم.

(2)

في "أ": "ولو".

(3)

انظر: "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (1/ 2/ 394).

(4)

رواه البخاري (1597)، كتاب: الحج، باب: من قدم ضعفة أهله بليل، فيقفون بالمزدلفة ويدعون، ومسلم (1290)، كتاب: الحج، باب: استحباب تقديم دفع الضعفة من النساء وغيرهن من مزدلفة إلى منى في أواخر الليالي قبل زحمة الناس، من حديث عائشة رضي الله عنها.

ص: 360

كلِّها، وجبَ اعتبارُها، ولا يخرجُ عن الاعتبارِ إلا ما أخرجَهُ الدليلُ (1).

1 -

فأمّا التعليقُ بالصلاةِ مَعَهُ، فقد دلَّ الدليلُ على عدم اعتبارِها؛ لأن العباداتِ لا تفسدُ بالمعاصي، ولأنّ الوقوفَ بعرفة كافٍ مع النومِ والنسيانِ، وليس هذا الموقفُ بِآكَدَ من عرفةَ، وهذا لا يمنعُ الوقوفَ برفةَ، فكذلكَ بالمزدلفة.

2 -

وأما التعليقُ بالإفاضة معهُ معَ عدمِ إفاضَتِه لبعضِ أزواجِه، فإنه يدلُّ على أن للإفاضةِ جوازاً وفضيلة (2)، فعمل بالأفضل، وعَمِلَ بعض أزواجه بغير الأفضل.

وأفعالُه وأقوالُه صلى الله عليه وسلم في البيان واحدٌ، فقدْ بيَّنَ هذا الموقف، كما بين صلى الله عليه وسلم في عرفات، فقال في حديث عروة:"وأفاض قبلَ ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تَمَّ حجُّه"(3): مع وقوفه صلى الله عليه وسلم إلى غروب الشمسِ وقوله صلى الله عليه وسلم: "وإنا لا ندفعُ من عرفة حتى تغرب الشمسُ "(4).

ولهم أن يقولوا -أيضاً-: جميعُ ما علّق عليه معتبر، والمعنى: من صلَّى هذه الصلاةَ معنا، أو وقفَ هذا الموقفَ حتى نفيض، وتكون الواو بمعنى (أو)، ويكون في الخِطاب إشارةٌ إلى حالةِ الكَمال في هذا الموقف (5)، وإلى حالةِ الإجزاء (6)، أو يكون فيهِ حينئذٍ دليل على وجوب هذين الوقوفين،

(1) لذلك ذهب ابن حزم إلى أن حج من فاتته الصبح ولو بنوم، باطلٌ. انظر:"المحلى"(7/ 192).

(2)

في "أ": "الإفاضة جواز أو فضيلة".

(3)

تقدم تخريجه.

(4)

تقدم تخريجه.

(5)

في "ب": "الوقوف".

(6)

في "أ": "الأمر".

ص: 361

إما جميع الليل، وإما وقت هذه الصلاةِ لمن ضاقَ وقتُ وقوفه؛ بدليل قوله صلى الله عليه وسلم:"فمن أدركَ عرفةَ قبلَ أن يطلعَ الفجرُ، فقدْ أدركَ الحَجَّ"(1)؛ إذ علَّق تمامَ الحَجِّ عليهما، وهذا تأويل حسن قوي -إن شاء الله تعالى-، والواو تُستعملُ بمعنى (أو) كثيراً في اللسان، قال الشاعر (2):[البحر الطويل]

وَقَالوا نَأَتْ فَاخْتَرْ مِنَ الصبْرِ والبُكَا

ومنه قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3].

* وقال قوم: المشعرُ الحرامُ اسمٌ لجبلٍ من جِبال المزدلفةِ خاصَّةً يُسَمى: قُزَحَ (3).

واحتجوا بقولِ جابر -رضيَ الله تعالى عنه- في حديثه: فلما أجاز رسولُ الله صلى الله عليه وسلم منَ المزدلفة بالمشعرِ الحرام، لم تشُكَّ قريشٌ أنهُ سيَقتصرُ عليه، ويكونُ منزلُه ثَم (4).

ولا شكَّ في استحبابِ الوقوفِ به (5)، وقد أجمع المسلمونَ على عدمِ

(1) تقدم تخريجه في حديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي: "الحج عرفة".

(2)

هو كثير عزّة، كما في "ديوانه"(ق 4/ 42)، (ص: 114).

وتمام البيت:

فقلتُ البُكا أشفى إذاً لغليلي

(3)

قال النووي: المراد به -أي: المشعر الحرام- هنا هو: قُزَح -بضم القاف وفتح الزاي وبحاء مهملة-، وهو جبل معروف في المزدلفة، وهذا الحديث حجة الفقهاء في أن المشعر الحرام هو قزح. انظر:"شرح مسلم"(8/ 189)، و"المجموع"(8/ 157).

(4)

رواه مسلم (1218)، كتاب: الحج، باب: حجة النبي صلى الله عليه وسلم.

(5)

انظر: "معرفة السنن والآثار" للبيهقي (7/ 301)، و "المغني" لابن قدامة (5/ 282)، و"شرح مسلم"(8/ 189)، و"المجموع" كلاهما للنووي (8/ 163).

ص: 362

وجوبِ تعيينهِ (1)، وأنه لا يجب بتركه دم؛ كما نقله القاضي أبو الطَّيِّبِ الطبريُّ من الشافعية (2).

* * *

21 -

(21) قوله جل جلاله: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 199].

أقول: الوقوف بعرفةَ أعظمُ أركانِ الحَجِّ؛ لقوله جل جلاله: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198].

ولما رَوى عبدُ الله بنُ عمرو الديليُّ قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: "الحَجُّ عَرَفات، فمن أدركَ عرفةَ قبلَ أن يَطْلُعَ الفَجْرُ فقدْ أدركَ الحَجَّ"(3).

وهذا الحديث، وإن انفرد بروايته هذا الصحابيُّ من بين الصحابةِ، فهو متَّفَقٌ عليهِ.

وهذه الآيةُ أصرحُ وأبيَنُ في الدلالةِ على الوجوبِ من التي قبلَها؛ فإنَّ اللهَ -سبحانه- أمرَنا (4) بالإفاضَةِ منْ حيثُ أفاضَ الناسُ، فأوجبَ (5) الحصولَ في مكان ابتداءِ الإفاضَةِ الذي (6) يفيضُ منهُ الناسُ، وهو عَرَفاتُ (7).

(1) ذكر القرطبي في "المفهم"(3/ 339) عن أبي عبيد القول بوجوبه.

(2)

انظر: "المجموع" للنووي (8/ 158).

(3)

تقدم تخريجه، وهذا لفظ الترمذي.

(4)

في "ب": "أمر".

(5)

في "ب": "وأوجب".

(6)

في "ب": "التي".

(7)

القول بأن الإفاضة المذكورة في الآية المصدَّر بها البحث هي الإفاضة من عرفات هو قول جماهير المفسرين، بل حكى فيه الطبري الإجماع، ولم يخالف فيه إلا=

ص: 363

وكانَ الناسُ، وهم العربُ ما خلا قُرَيْشاً، تتجاوزُ المزدلفة، وتَقِفُ بعرفات، وتفُيض منها، وكانت الحُمْسُ، وهم قريشٌ، تقفُ عندَ المشعرِ الحَرام، وتفُيض منهُ، ولا تتجاوزُه؛ لأن المزدلفةَ من الحَرَمِ، وتَقولُ: نحن أهلُ حَرَمِ الله، فلا نَخْرُجُ منهُ، فأمر اللهُ نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يُفيض من حيثُ أفاضِ الناسُ، وكانتْ قريش تظنُّ أن يقفَ بالمَشْعَرِ الحَرام على عادتهم، فتجاوَزهُ لأمرِ اللهِ سبحانه.

فإن قلتم: (ثُمَّ) كلمة موضوعة للترتيب في لسانِ العرب، وذَكرَ اللهُ -سبحانه- الإفاضة من حيثُ أفاضَ الناسُ بعدَ الذّكْرِ عندَ المشعرِ الحَرام، والذكْرُ عندَ المَشْعَرِ الحَرامِ لا يكونُ إلا بعدَ الإفاضة.

قلت: هي هُنا لترتيبِ الذّكْرِ، لا لِترتيبِ الحُكْمِ، فلم تخرج (ثم) عن موضوعها (1)؛ لقوله تعالى:{خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الزمر: 6]، ولذلك نظائرُ في القرآنِ واللُّغَةِ يطولُ ذكرُها (2).

= الضحاك، وهو محجوج بالإجماع. انظر:"تفسير الطبري"(2/ 293)، و"معالم التنزيل" للبغوي (1/ 256)، و"أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 196)، و"زاد المسير" لابن الجوزي (1/ 195)، و"أحكام القرآن" للجصاص (1/ 387).

(1)

وقد ذكر هذا الاعتراض ابن العربي في "أحكام القرآن"(1/ 196)، وأجاب عنه بأجوبة، منها قوله: أن معناه: ثم ذكرنا لكم: أفيضوا من حيث أفاض الناس، فيرجع التعقيب إلى ذكر وجود الشيء إلى نفس الوجود؛ كقوله تعالى:{ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} ، المعنى: ثم أخبرناكم: آتينا موسى الكتاب؛ فيكون التعقيب في الإخبار لا في الإيتاء"، انتهى. وانظر: "أحكام القرآن" للجصاص (1/ 387)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (1/ 2/ 395).

(2)

انظر أمثلة أخرى في: "مغني اللبيب" لابن هشام (ص: 159).

ص: 364

22 -

(22) قوله جلَّ ثناؤه: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [البقرة: 203].

* اتفق العلماءُ على أن الأيام المَعْدوداتِ ثلاثةُ أيامٍ بعدَ يوم النَّحْرِ (1)، وتُسَمَّى أيامَ التَّشريقِ، وأيامَ مِنًى (2)، وفيها تتمُّ مناسِكُ الحَجِّ، وأمرَ اللهُ جل جلاله بذكرِه فيها لِشَرَفِها، وأجمع السَّلَف على شَرْعيَّةِ التكبيرِ فيها (3)، وعلى شرعيَّةِ التقرُّبِ فيها بالدَّمِ للحاجِّ وغيره، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"أيام التشريقِ أيامُ أَكْلٍ وشُرْب وذِكْرٍ للهِ عز وجل "(4).

* وشرعَ اللهُ لنا فيها رَمْيَ الجِمارِ، ورَخَّصَ لنا في التعجُّلِ (5) في يومين من غَيْرِ إِثْمٍ؛ رِفقاً منهُ بعباده، والظاهرُ أنه لم يَخُصَّ بهذهِ الرَّحْمَةِ ناساً دونَ ناسٍ، وبهذا قالَ جمهورُ أهلِ العلم (6).

وقال مالكٌ: إن كانَ للمَكِّىِّ عُذْر، فَلَهُ أن يتعجَّل، وإن كانَ يريدُ التّخفيف عن نفسِه، فليس له (7).

(1) انظر: "تفسير الطبري"(2/ 302)، و"أحكام القرآن" للجصاص (1/ 393)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (2/ 1/ 3).

(2)

وهناك من قال بأن المعدودات هي أيام العشر، وبه قال ابن جبير، والنخعي، وروي عن علي وابن عمر: أنها يوم النحر ويومان بعده. انظر: "زاد المسير" لابن الجوزي (1/ 198).

(3)

انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 199)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 1/2).

(4)

تقدم تخريجه.

(5)

في "ب": "فيها التعجيل".

(6)

انظر: "المغني" لابن قدامة (5/ 331)، و"المجموع" للنووي (8/ 227)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (2/ 1/ 13).

(7)

في ذلك روايتان عن مالك، المعتمد منهما: أنه يجوز للمكي أن يتعجل كغيره=

ص: 365

وهو غيرُ سديدٍ؛ لأن الله -سبحانه- صَرحَ برفعِ الإثم، ولا يكونُ الإثمُ إلا عندَ عدمِ العُذْرِ، وأَمّا مع العُذْرِ، فلا إثمَ.

ولأنَّ اللهَ -سبحانَهُ- أبطل بهذا ما كانتْ عليهِ العربُ من الاخْتلافِ في الدم للتعجيلِ، والدَّمِ للتأخيرِ، فَسَوّى اللهُ سبحانَهُ بين القِسمين، ولا فرقَ في هذا بينَ المَكِّيّ وغيره.

* وبيَّنَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَرْعَهُ، فَبيَّنَ صِفَةَ الرَّمْيِ وكيفيتَه (1)، ووقتَه (2)، وأن المَبيتَ في مِنًى مشروع، ورخصَ في تركِهِ لأهلِ السِّقايةِ (3).

* وقد أجمعَ المسلمونَ على مشروعيةِ الرمْي والمبيتِ.

* واتفقوا على وجوب الرمْي (4).

* واختلفوا في وجوبِ المبيت:

- فقال ابنُ عباسٍ والحسنُ وأبو حنيفةَ، والشافعيُّ في أحدِ قوليه: هو سُنَّةٌ لا يَجِبُ بتركِهِ الدَّمُ.

= مطلقاً. انظر: "التفريع" لابن الجلاب (1/ 347)، و"حاشية الدسوقي"(2/ 77).

(1)

انظر: "المغني" لابن قدامة (5/ 329)، و"المجموع" للنووي (8/ 212)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (2/ 1/ 12 - 13).

(2)

انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 198)، و"المغني" لابن قدامة (5/ 326)، و"المجموع" للنووي (8/ 209)، و "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (7/ 1/2).

(3)

انظر: "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (2/ 1/ 8)، و"شرح مسلم" للنووي (9/ 63).

(4)

انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (13/ 223)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 739).

ص: 366

- والصحيحُ من قوليه أنه واجِبٌ، وبه قالَ مالكٌ وأحمدُ.

لما روى ابنُ عمرَ -رضي اللهُ تَعالى عنهما- أن العباسَ -رضي الله تعالى عنه- استأذَنَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ليبيتَ بمَكَّةَ لياليَ مِنًى منْ أَجْلِ سقايته، فأذنَ لهُ (1)، ولا يستأذنه إلَّا في واجب، ولَأنَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بات بها.

* ولا يجوز التعجيلُ لمن أراده حتى يرميَ في اليوم الثاني؛ لقوله تعالى: {لِمَنِ اَتَّقَى} [البقرة: 203] والرمْيُ من عملِ التقوى، وكذا من تأخرَ إلى اليومِ الثالثِ لا يجوزُ له السفرُ حتى يرمي رميه؛ لقوله سبحانه:{لِمَنِ اَتَّقَى} [البقرة: 203]، والله أعلم (2).

* * *

(1) رواه البخاري (1553)، كتاب: الحج، باب: سقاية الحاج، ومسلم (1315)، كتاب: الحج، باب: وجوب المبيت بمنى ليالي أيام التشريق.

(2)

انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (1/ 395).

ص: 367