الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المجلد الثاني
ذكر النوادر
نوادر المدح في أوصافه نشقت
…
منه الصبا فأتتنا وهي في شمم
هذا النوع، أعني النوادر، سماه قوم الإغراب والطرفة، وهو أن يأتي الشاعر بمعنى يستغرب، لقلة استعماله، لا لأنه لم يسمع بمثله. وهذا مما اختاره قدامة دون غيره، ولكن غالب علماء البديع اختاروا غير رأي قدامة في هذا النوع، فإنهم قالوا: لا يكون المعنى غريبًا إلا إذا لم يسمع بمثله.
وأورد زكي الدين بن أبي الأصبع، في كتابه المسمّى:"بتحرير التحبير" لنوع النوادر حدًّا أقرب إليه من اختيار قدامة، وأبلغ وأوقع في النفوس، وهو أن يعمد الشاعر إلى معنى مشهور، ليس بغريب في بابه، فيغرب فيه بزيادة لم تقع لغيره، ليصير بها ذلك المعنى المشهور غريبًا، وينفرد به دون كل من نطق به. وبيان ذلك أن تشبيه الحسان بالشمس والبدر مبذول معروف، قد ذهبت طلاوته لكثرة ابتذاله، وكان سابق المتقدمين وقبلة المتأخرين، القاضي الفاضل، أنفت نفسه من المثابرة على هذا الابتذال، وكثرة تشبيه الحسان بالبدور، فقال:
تراءى ومرآة السماء صقيلة
…
فأثر فيها وجهه صورة البدر
سبحان المانح حاصل كلامه تشبيه محسوبه بالبدر، ولكن زيادة هذه النادرة اللطيفة لا تخفى إلا على أكمه1 لا يعرف القمر، وعلى هذا المنوال نسجت بيت بديعيتي.
1 الأكمه: الأعمى.
ويعجبني في باب النوادر، قول القائل:
عرض المشيب بعارضنيه فأعرضوا
…
وتقوضت خيم الشباب فقوّضوا1
ولقد سمعت وما سمعت بمثله
…
بين غراب البين فيه أبيض
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته يقول فيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم:
كأنما قلب معن ملء فيه فلم
…
يقل لسائله يومًا سوى نعم
هذا البيت، ذكر الشيخ صفي الدين في شرحه أن النادرة فيه، قلب معن بنعم. قلت: قلب معن بنعم لم يعد من نوع النوادر، بل من أنواع الجناس المسمى بالقلب والعكس، وجناس القلب وغيره من أنواع الجناس ليس فيه غير خدمة الألفاظ، فإنه نوع لفظي والذي قرره قدامة وغيره، في هذا النوع، أن الغرابة تكون في المعنى، بحيث يعد ذلك المعنى من النوادر.
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته "هو":
نوادر من جناني كالجنان زهت
…
أم هل بدت واضحات الحسن من إرم
قلت: إن بيت الشيخ صفي الدين الحلي، مع ما فيه من النقد والمؤاخذة، معدود من النوادر بالنسبة إلى هذا البيت. وما أشبهه بالبيت الذي أخبر عن الحريري في مقاماته، وقال إنه أخرج من التابوت، وأوهن من بيت العنكبوت. وما ذاك إلا أنني كررت النظر في أركان هذا البيت، فلم أجد فيه مقرًّا لنادرة من النوادر التي تقدم تقريرها، لم يسعني غير النظر في شرحه، فوجدته قال: إن جناني ظهر منه محاسن مدهشة، أم بدت محاسن إرم ذات العماد، التي لم يخلق مثلها في البلاد، ويحكى أنها جنة بناها عاد. قلت وما أحق اختراع الخراع بهذه العبارة، وهي، بشهادة الله، عبارته بنصها. والذي أعده من النوادر، إبراز الشيخ عز الدين مثل هذا البيت في بديعيته، ورضاه به، وتنزيل مثل هذه العبارة عليه. انتهى.
وبيت بديعيتي أقول فيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم:
نوادر المدح في أوصافه نشقت
…
منها الصبا فأتتنا وهي في شمم
النادرة في معنى هذا البيت عرفها ضائع لمن شمه من أهل الأدب، وما ذاك إلا أن
1 قوض: خرّب.
النسيم أكثر الشعراء من استعماله في تحمل الرسائل. وغاية ما أغربوا فيه أنه ينشق منه عرف الأحبة، إذا هب من نحوهم. والنادرة التي أغربت بها هذا المعنى: أن نسيم الصبا لما نشقت عرف مديح النبي صلى الله عليه وسلم وتعرفت به تزايد شممها. والشمم للنسيم نادرة، بل نكتة لم أسبق إليها. فإن النسيم أحق باشتراك هذه التورية من غيره، لأن الشمم لائق به وهذا الذي أشار إليه ابن أبي الأصبع، في أن الشاعر يعمد إلى معنى مبذول معروف ليس بغريب في بابه، فيغربه، بزيادة لم تقع لغيره، ويصير بها ذلك المعنى المعروف غريبًا ومثل ذلك، حتى يزداد نوع النوادر إيضاحًا، قول أبي نواس:
هبت لنا ريح شمالية
…
متت إلى القلب بأسباب
أدت رسالات الهوى بيننا
…
عرفتها من بين أصحابي
قوله: عرفتها من بين أصحابي، نادرة لم يسبق إليها. وقد جاراه مجير الدين الخياط، في بديع هذا النوع. ونادرة هذا المعنى لولا الحياء لقلت إنه أحرز قصبات السبق عليه، بقوله:
يا نسيم الصبا الولوع بوجدى
…
حبذا أنت لو مررت بهند
ولقد رابني شذاك فبالله
…
متى عهده بأطلال نجد1
بين ولقد رابني شذاك، في بيت مجير الدين، وبين عرفتها من بين أصحابي معرك ذوقي، ما يدركه إلا من صفت مرآة ذوقه في علم الأدب. ولعمري إن النادرتين يتجمل بهما هذا النوع ومثله قول القائل، ويعجبني إلى الغاية:
ويد الشمال عشية مذ أرعشت
…
دلت على ضعف النسيم بخطها
كتبت سقيمًا في صحيفة جدول
…
فيد الغمامة صححته بنقطها2
النوادر في هذين البيتين، لم يحتج برهانها إلى إقامة دليل، وقد فهمت الزيادات في غرابة المعاني المبتذلة.
ومثله، ولم يخرج عما نحن فيه من لطف النسيم ونوادر النوع، قول القائل:
هبت صبا من قاسيون فسكنت
…
بهبوبها وصب الفؤاد البالي3
خاضت مياه النيرين عشية
…
وأتتك وهي بليلة الأذيال4
1 رابني: حيرني، وجعلني أرتاب أي أشك.
2 النقط: وضع النقاط على الحروف.
3 قاسيون: جبل يشف على دمشق -الوصب: المرض والوجع.
4 النيرين: دجلة والفرات، وهما من أسماء الشمس والقمر. والله أعلم.
ويعجبني في هذا الباب قول ناصر الدين بن المشد:
مسكية الأنفاس تملي الصبا
…
عنها حديثًا قط لم يملل
جننت لما أن سرى عرفها
…
وما نرى من جن بالمندل1
وألطف منه وأكثر نوادر، قول بدر الدين حسن الغزي، الشهير بالزغاري:
سرت من بعيد الدار لي نسمة الصبا
…
وقد أصبحت حسرى من السير ضائعهْ
ومن عرق مبلولة الجيب بالندى
…
ومن تعب أنفاسها متتابعهْ
ومن العجائب في هذا النوع:
حبذا ليلة رأيت دجاها
…
زاهيًا عطفه بحلة فجر
بشرت باللقاء وهي غراب
…
ونفي الفجر حسنها وهي قمري2
ومن النوادر اللطيفة، في هذا الباب، قول علاء الدين الجويني، صاحب الديوان ببغداد، من دو بيت:
مذ صار مبيتنا بضوء القمر
…
والحب نديمنا وصوت الوتر
نادى بفراقنا نسيم سحرًا
…
ما أبرد ما جاءت نسيم السحر
ومن نادر ما اتفق لي قولي من قصيدة رائية:
ومذ سرت نسمات الثغر باردة
…
بدار بأعضاء ذاك الجفن تكسير
قد تقدم تقرير حد ابن أبي الأصبع، في نوع النوادر وتكرر، وهو أن يعمد الشاعر إلى معنى مشهور كثير الاستعمال، فيغرب فيه بزيادة نكتة لم تقع لغيره، ليصير المعنى المستعمل بها غريبًا. وقد فهم ما أوردته هنا من تلاعب الشعراء بالنسيم، وما أظهروا فيه من النوادر التي تركت رخيصه غاليًا. وتكسير الجفن أيضًا ونسبة التكسير إليه أكثر أهل الأدب استعماله في تغزلهم ونسيبهم، ولكن استعارة النسمات الباردة للثغر، وهبوبها على أعضاء ذاك الجفن السقيم، حتى ظهر فيه التكسير، نادرة النوادر في هذا النوع. والله أعلم.
1 العَرف: الرائحة الطيبة -المندل: العود الطيب الرائحة.
2 القمري: نوع من الحمام.