الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر الألغاز:
وكل ما ألغزوه حله لسن
…
مذ طال تعقيده أزري بفهمهم
هذا النوع، أعني الألغاز: يسمى المحاجاة والتعمية، وهي أعم أسمائه، وهو أن يأتي المتكلم بعدة ألفاظ مشتركة، من غير ذكر الموصوف، ويأتي بعبارات يدل ظاهرها على غيره، وباطنها عليه، وأبدع ما فيه أنه لم يسفر في أفق الحلى غير وجه التورية، وأما تعسف الفرقة التي ليس لها إلمام بالتورية في الألغاز، فأمرهم مسلم إليهم، وأما علماء هذا الفن فإنهم ما قرروا غير ما قررناه، فمن ذلك قول أبي العلاء في إبرة:
سعت ذات سم في قميصي فغادرت
…
به أثرًا والله شاف من السم1
كست قيصرًا ثوب الجمال وتبعًا
…
وكسرى وعادت وهي عارية الجسم
وقول ابن حراز في خيمة:
ومضروبة من غير ذنب أتت به
…
إذا ما هدى الله الأنام أظلت2
قلت: لغز أبي العلاء ولغز محيي الدين، لم تسفر فيهما الوجوه الحسان إلا من وراء ستور التورية، ومنه قول ابن حراز فيمن اسمه عثمان:
حروفه معدودة خمسة
…
إذا مضى حرف تبقى ثمان
ومن ألطف الألغاز في القلم:
وذي خضوع راكع ساجد
…
ودمعه من جفنه جاري
مواظب الخمس لأوقاتها
…
منقطع في خدمة الباري
1 السم: الثقب، وذات السم: الإبرة. والسم: مادة تسبب الموت.
2 المضروبة: التي ضربت من الحيوانات فشارفت على الموت، والخيمة.
وقول ابن عبد الظاهر في شربه في كوز الوزير:
وذي أذن بلا سمع
…
له قلب بلا قلب
إذا استولى على حب
…
فقل ما شئت في الصب
ومن لطائف ما وقع في باب الألغاز أن شيخ الشيوخ بحماة كتب إلى والده ملغزًا في باب، بقوله:
ما واقف بالمخرج
…
يذهب طورًا ويجي
لست أخاف شره ما لم يكن بمرتج1
…
فكتب إليه والده في الكتاب
ذهاب ومجيء وخوف وشر، هذا باب خصومة والسلام.
وقال القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر ملغزًا في باب:
أي شيء تراه في الدور والكتـ
…
ـب مجازًا هذا وذاك محقق
هو زوج وتارة هو فرد
…
وهو في أكثر الأحايين يطرق
وطليق في نشأتيه ولكن
…
بحديد من بعد ذلك يوثق2
وهو في القلب يستوي وتراه
…
بان تصحيفه لمن يترمق3
فأجبني عنه بقيت مطاعًا
…
نست في حلبة الفضائل تسبق
وقال الشيخ برهان الدين القيراطي في باذهنج، وأجاد:
أهواؤنا المختلفة
…
قد أصبحت مؤتلفه
في شامخ بأنفه
…
على العوالي أنفه
وذي جناح لم يطر
…
وكل طير ألفه
جناحه طول المدى
…
يبدي علينا رفرفه
في الريح ضاع قول من
…
على هواه عنّفه
عليله الصحيح كم
…
شفى قلوبًا دنفه
وروحه لطيفة
…
وذاته منحرفه
1 أرتج: الباب، أقفله.
2 يوقف: يربط، ويقيد.
3 التصحيف: تغيير نقط الحروف. المترمق: المحد النظر.
عن قبلة الدين أرى
…
حب الهوا قد صرفه
ولم تكن مع الهوا
…
أعطافه منعطفه
هواه تحت طوعه
…
كيف يشاء صرفه
ما زال غير شاكر
…
ساكنه مذ ألفه
وكلما أسرف في
…
بذل شكرنا سرفه
أنفاسه كم أودعت
…
مجلسنا تلطفه
كم رنحت من غصن
…
وقامة مهفهفه1
معتله هو الصحيـ
…
ـح عند من قد عرفه
وقال محيي الدين ملغزًا في قمري:
ما معمى ورأسه
…
في عداد المطير
كم له من مترجم
…
كم له من مسحر
كم خواف له بدت
…
لالتماع المبصر2
كله معجم وإن
…
زال بعض اسمه قري
وقال المقر المرحومي الأميني، صاحب دواوين الإنشاء الشريف بدمشق المحروسة، ملغزًا في فاختة3:
وما طائرًا يهوى الرياض تنزهًا
…
ويسرح في أفنانها ويغرد
هجاء اسمه خمس حروف تعدها
…
وخمساه حرف إن تأملت مفرد
وبعدهما تصحيف باقية إن ترد
…
بيانًا له أفعى تبين وتشهد
وفيه أخ إن تهت عنه فأخته
…
تدل على ما قد عنيت وترشد
هذا اللغز ورد إلى الديار المصرية، وحله بقية السلف الشيخ زين الدين بن العجمي، وأجاب عنه بقوله:
أيا من له مجد أثيل وسودد
…
غدا دون مرقاه سماك وفرقد4
تفيد يسار المقترين يمينه
…
ويسراه من يمنى الغمامة أجود
1 رنح: أسكر، وأمال.
2 الخوافي: أربع ريشات في جناح الطائر تختفي إذا ضم الطائر جناحه، واحدتها خافية.
3 الفاختة: نوع من الحمام المطوق، يباعد بين جناحيه وإبطيه ويتمايل في مشيه.
4 الأثيل: الأصيل المتجذر. السؤدد: الرفعة. مرقاه: ارتقاؤه. السماك والفرقد: نجمان، وهنالك سماكان وفرقدان.
ونقل الشيخ جمال الدين الدميري في كتابه "حياة الحيوان" لغزًا في بجع:
ما طائر في قلبه
…
يلوح للناس عجب
منقاره في وسطه
…
والعين منه في الذنب
وكتب علامة العصر الشيخ بدر الدين الدماميني، إلى المجدي فضل الله بن مكانس، ملغزًا في قدح، فقال: ما اسم حبيب إلى النفوس، شبيه بالبدر حليق للشموس، إن قلب كان لقلبه من العين مكان المناسبه، أو سقط قلبه مع الفعل كان ضدًّا للأقوال الكاذبه، وإن صحف بعد العكس أنبأ عن الذكاء وهذا غاية الشرح، وإن غير ثانيًا علم رب الكلام المحرر أنه دال على الطرح، حاشيتاه مع التصحيف آلة للصيد، معينة على المكر والكيد، وإن قطع طرفه كان صراح باقيه قوامًا، وإن عكس على الطرف صار بتصحيفه مدامًا، وإن زال أوله كان العكس عقابًا بالمتعاطي إثمه، أو صحف اشتاقت الشفاه إلى تقبيله ولثمه، وربما كان الحد عند تصحيفه الآخر منافيًا لاسمه، مبيانًا في الحقيقة لحده ورسمه.
فكتب الجناب المجدي الجواب وألغز فيه ورد بقوله: يقبل الأرض التي أطالت بالجفاء حرمانه، وتداركته بعد إجراء دموعه فعظمت في الحالين شانه، وانتهى المملوك إلى اللغز الذي تمتع بملحه، وشرب بقدحه، فابتهل شكرًا، ومالت أعطافه بالقدح الفارغ سكرًا، فوجده كما قال مولانا حبيبًا إلى النفوس، مجتهدًا في التوصل بما حازه إلى الرءوس، وكتب في الجواب لغزًا، وخالف نفسه إذ قالت لا ينبغي مجاراة هذا الجواد لزًّا1. "وهو" ما عاطل يتحلى به المجالس، ويتفكه به في المجالس، تحمر وجناته من الشرب، وتحمد آثاره في البعد والقرب، إن قلبته وجدته تاجًا، وإن تركته على حاله زادك ابتهاجًا، يعذب بالنار وغيره الجاني، ويريك إن بدلت أوله برد الأماني، يستخرج وهو داخل، ويرى دمعه من نار قلبه هاطل، لا تبرح به في غبطة، ولا تجد فيه مع انهماله نقطة، فإن حذفت أوله وحرفت باقيه وجدته أمرًا بالشراب، وإن فعلت كذا في ثانيه رأيت ما بقي مولدًا للمحبة بين الأحباب، وورّ إن حذفت آخره كمن وري، وغص في بحر الفكر على عكس ثلثيه لتستخرج درًا، والمملوك يسأل الصفح فإنه لولا المحبة ما أجاب، ولا طرق بعد فقد أبيه هذا الباب.
فكتب إليه الشيخ بدر الدين الجواب: يقبل الأرض وينهي ورود الجواب، الذي شفى القلوب بوروده، واللغز الذي نسي بوروده، بان الحمى وطيب وروده، فوجده روض
1 اللز: الإلتصاق، والسرعة.
سؤالك عن أنثى طروب ولم تزل
…
على عودها في الروض تشدو وتنشد
وتجذبني بالطوق عند نشيدها
…
لنحو التصابي لا أطيق أفند
ومذ بان منها الطرف أمست لعكسها
…
تخاف الردى ممن لها يترصد
وإن حذفت ثاني الأخير فإنه
…
على العكس خاف بل يلوح ويشهد
فأولها مع ما يليه وحرفها
…
لنا فاه بالمعنى الذي فيه يقصد
وحرفان منها فرد حرف لناطق
…
واف لمن بالعكس في ذاك يجحد
بقيت بقاء الدهر عزك باذخ
…
وفي مفرق الجوزا لواؤك يعقد1
وقال ملغزًا في درة:
أي شيء من الجمادات يلفى
…
وتراه من بعد ذا حيوانا
وترى ذلك الجماد عزيزًا
…
غاليًا منه رصعوا تيجانا2
وترى الروح منه في حيوان
…
ذي جناح ويألف الطيرانا
وإذا ما شدا على العود يومًا
…
فوق دف يحرك الأغصانا
أو بدا في مقفص فابن برد
…
عند أسجاعه يصير مهانا
كله طائر وفي ثلثيه
…
لك ذو أربع مع العكس بانا
كله عاطل به تتحلى
…
كل خود وتستقل الجمانا3
وتراه عند الملوك عظيمًا
…
وبتصحيفه حقيرًا مهانا
عكسه في تصحيفه زد بنقص
…
فالمعمى هنا فكن يقظانا
وإذا لم تدر التصاحيف ذره
…
للذي فيه فهو يدري البيانا
وبتحريفه تؤدب من شئـ
…
ـت إذا كان يجهل العرفانا
ثلثاه در نفيس وفي فيـ
…
ـه إذا جاء يصحب المرجانا
لكن الثلث عنده نصف وحش
…
ذب عنا تصحيفه ما اعترانا
وهو في البر نافر وإذا ما
…
حضروه قد يألف الإنسانا
فافترسه بالحل إن كنت ليثًا
…
فهو لغز عن فضله قد أبانا
وعلى ذكر القمري والفاختة، أوردت هنا ما ألغزته في القفص، وهو قولي:
أي مغنى أعواده بيت شدو
…
مرقص مطرب وبالقلب صفق
ولمجموعه النباتي حسن
…
فزت من بعضه بسجع المطوق
1 الباذخ: عظيم الشأن. اللواء: الراية.
2 عزيزًا: عزيز الوجود: نادره. رصّع: زخرف وزين.
3 العاطل: الذي لا حلي له. الخود: الحسناء. استقل: رأى الشيء قليلًا. الحجان: اللؤلؤ.
بلاغة عدم العاتب والعائب، وترعرع زهره حيث أمطرته من الأنامل المجدية خمس سحائب، فلو شاهده ابن الوردي لاحمرّ خجلًا، أو صاحب زهر الأدب لتلوّن وجلًا، ثم تأمل حل اللغز فوجده قد كشف المشكل وجلى، واعترف أنه لم يمر بذوقه أطيب من ذلك الحل ولا أحلى، وتحقق أن مولانا أوسع المملوك في مقام الأدب بفضله إيناسًا، وتناول منه قدحًا أعاده بألفاظه المسكرة كاسًا، وانتهى المملوك إلى اللغز المخدومي، فقال:
مولاي مجد الله يا من فضله
…
يروي وجود كفوفه يروي الصدى
ألغزت في اسم عاطل حليته
…
فينا بدرّ اللفظ أو قطر الندى1
إن أورد التحريف في أثنائه
…
قد كان للشاني هلاكًا أو ردى2
وقال مجيبًا له أيضًا عن الورد:
لله لغزك يا مولى فضائله
…
قد عطر الكون منها طيب أنفاس
أتى بورد فحياني على قدحي
…
به وأبهجني ما بين جلاسي
وقد أسا جرح كسرى حين أقبل لي
…
روحي الفداء لذكر الورد والآس
فاستحلى المملوك بالتحريف ورده، وود لو اقتطف من أغصان حروفه ورده، ورده إلى ذل القصور عاريًا عن ملابس عزه، وأنشد قول ابن قلاقس وقد تقلى بنار عجزه:
إذا منعتك أشجار المعالي
…
جناها الغض فاقنع بالشميم3
فراح على بهرج هذا الرأي الكاسد، واقتنع بالشميم على رغم أنف الحاسد، وعلم أن تلك الورود لا تخرج إلا من تلك الخضرة، وأن هذه الفاكهة لا تخرجها إلا أغصان أقلام لها باليد المخدومية بهجة ونضرة، وتمشى المملوك من هذا اللغز في بساتين الوزير على الحقيقة، ورأى كل ورقة فاحمرت الوجنات الحمر فتحير أهي وردة أم شقيقة4، وتفكه به معجبًا بثمار غرسه، منشدًا لمن كرر النظر في صحيفتي طرسه:
إن كنت تزعم ما في خده عجبًا
…
فانظر إلى الورد في خديه منثورًا
فلقد ظفرت من نفسه الوردي بالعنبر الورد، وعودته عند تبديل الثلاثة بالواحد
1 العاطل: الذي لا حلي له.
2 الشاني: الشانئ: المبغض. الهلاك: الموت. الردى: الموت.
3 الشميم: ما يشتم من الرائحة.
4 الشقيقة: واحدة الشقائق، وهي أزهار حمراء قانية فيها بقع سوداء تعرف بشقائق النعمان.
الفرد، وتأملت بقصور راحتي نكتة برد الأماني، فانعقد لسحر البيان لساني، وتيقنت أنه لا يقوى على فهم هذا البرد إلا كل حديد النظر، ووجدت تصحيف هذه الكلمة، يا شمس الفضائل للعقول قمر، وعلمت أن الفكر لا يجاري من بديهته من بحر الفضائل رويه، وأن الخاطر لا يقوى على سلطان هذا اللغز؛ لأن شوكته قوية، وقلت للذهن رد1 بعضه لتنتهل شرابًا سائغًا، وزد تصحيفه ليكون في التعريف بمعناه مبالغًا، وتمتعت من ورده بالمشموم، ثم تذكرت البعد عن جناب المخدوم، فاستقطر البين ماء الورد من حدقي ولمولانا الصفح عن مقابلة هذا الدر بالسقط2، وتمر هجر بهذا الحشف الملتقط3.
قلت وعلى ذكر القدح والورد، حسن أن نورد هنا لغزًا في المدام وقفت عليه، للشيخ صلاح الدين الصفدي بخطه:
وما شيء حشاه فيه داء
…
وأوله وآخره سواء
إذا ما زال آخره فجمع
…
يكون الحد فيه والمضاء4
وإن أهملت أوله ففعل
…
له بالرفع والنصب اعتناء
قلت: لا بد للمدام من ماء من حيث الممازجة:
ووقفت بالديار المصرية على لغز للشيخ زين الدين بن العجمي، ألغزه في الماء فأعجبني، وهو قوله: سألتك أعزك الله عن سائل لا حظ له في الصدقة، ولم يكن متصل النسب بالأشراف، وتراه كثير الرجفان. من غير أن يخاف، كم رد سائله نهرًا، وعفر وجه قائده في التراب قسرًا، مذكر كثير الحيض، لطيف الانبساط سريع الفيض، مطلق التصرف وعليه الحجر5، وطال ما قبل العشاء أبدى لنا الفجر، يتشعب ويتكسر، ويتعوج ويتدور، وتبدو له خمسون عينًا وأكثر، يحمل القناطير المقنطرة، ويعجز عن حمل إبرة، سرع الاستحالة، قل أن يثبت على حاله، بعيد الغوص ليس له قرار، ويعاجل صفاء وراده بالأكدار، ويسكن في تخوم الغبرا6، وينم على أحوال السماء نثرًا، بعيد الغوص رقيق القلب على كل عديم، وكيف لا وهو المولى الحميم، يجود بأفخر الحلى، ولا يردّ
1 رِدْ: أمر من وَرَدَ.
2 السقط: من كل شيء الرديء.
3 الحشف: التمر الرديء، وتمر هجر أحسن أنواع التمر، وهجر مدينة اشتهرت بتمرها.
4 الحدّ: قصاص مفروض من الله سبحانه وتعالى مقابل جنايات معينة. والمضاء: التنفيذ.
5 الْحَجْر: المنع من التصرف والحركة.
6 الغبرا: الأرض.
من نداه مؤملًا، كم عمر سبيلًا، وقطع طريقًا وأخاف سبيلًا، وكم طغى واحترق، وأظهر الجفاء وهو كثير الملق1، صقيل يجلو الصدى، ويظهر على شدة البرد تجلدا، قد جمع فيه الخوف والرجا، والكدر والصفا، فسبحان من جمع فيه هذه الأصداد، وأرسله رحمة للعباد.
ويعجبني فيه قول أبي الفضل بن الخازن:
وخل صفاء زرته بعد هجعة
…
فألفيت شخصي في حشاه مصورا2
وأودعته سري فأفشاه للورى
…
فيا حسن ما أفشى الغداة وأظهرا3
أبوه حليف للثريا وأمه
…
به حامل في بطن منخفض الثرى
سطيح له جسم بغير جوارح
…
يباري الرياح الذريات إذا جرى
تزر عليه الريح ثوبًا موردًا
…
وتكسوه شهب الليل ثوبًا مدثرًا4
قلت: وعلى ذكر الماء يحسن أن نورد هنا لغزًا في القربة. كتب الشيخ بدر الدين الدماميني إلى المقر الأميني، أمين الدين الحمصي، كاتم السر بدمشق صاحب، ديوان الإنشاء بالشام لغزًا في قربة تزاحم سرب الأدب على الشرب منها، ولو عاش صريع الدلاء ودّ أن يكون راوية عنها، وهو قوله:
أكاتب سر الملك والفاضل الذي
…
ثناه على الأفكار فرض مرتب
يحدث عن سهل رواة كلامه
…
إذا ما أتاه اللغز يرويه مصعب
فديتك ما ذات أطالعكم بها
…
ويبحث في الأسفار عنها وتطلب
تشدوكم في الأرض قارٍ أمالها
…
وصدق إذا ما قيل تملى وتكتب5
وما هي في التحقيق راوية وكم
…
لها خبر في الذوق يحلو ويعذب
مليحة شكل يألف الحب صبها
…
زمانًا وفي وقت لها يتجنب
وتبلغ منها للحياض حقيقة
…
ولكن رأينا قلبها وهو طيب
يزيد مريدوها إذا ما تصوفت
…
ويشكرها أهل الزوايا ويطنبوا6
1 الملق: الكذب والمراءاة.
2 الهجعة: سكون الليل وهدوؤه. الحشا: الجوف والداخل.
3 أفشى السر: كشفه وأذاع به. الورى: الناس.
4 تزر عليه: تلبسه. المدثر: الذي رسمت على أطرافه الدنانير.
5 القاري: مطعم الضيوف. تملى: تملأ. تكتب: يقال كتبت القربة إذا ربطت بابها وشددتها بالوكاء.
6 الزوايا: أماكن العبادة التي اشتهرت في تونس في فترة من الفترات وكان أشهرها الزوايا السنوسية. أطنب: زاد وتوسّع.
لها أربع لكن بساق رأيتها
…
على السعي في الأحياء بالنفع تدأب1
وما نال إثْمًا في تعاطيه بعدما
…
رأيناه من تلك العتيقة يشرب
وشم فما المفتوح كم راح سائلًا
…
وما نطقت حرفًا عن القصد يعرب
وترضع أحيانًا وما حان رضعها
…
وكم من فتى في حملها راح يرغب
وتحمل ما فيه الحياة لربها
…
فيا حبذا منها البسيط المركب2
وترسله فاعجب له من مسلسل
…
غدا مرسلًا عن الرواية تعجب3
وكم من خليع شمته إذ تعتقت
…
يمد إليها الراح لهوًا ويطرب
وكم قد تعبدنا بتحريف لفظها
…
ولم أر بالتحريف من يتقرب
وتصحيفها يا جبهة الدهر بلدة
…
حواها من الأقطار شرق ومغرب
وتوجد في الأفلاك عالية لها
…
ويألفها بعض الجواري ويصحب
ويا من لرق الفضل أصبح مالكًا
…
فما لي إلا نحو علياه مذهب
تلفت للغز نحو بابك قد أتى
…
وكل غدا من ظرفه يتعجب
وقال بعضهم ملغزًا في قربة السباحة:
وذات فم طورًا تسبح ربها
…
ولم تكتسب أجرًا بتسبيحها قط
معانقة الصبيان مضمرة الهوى
…
كأن بقايا قوم لوط لها رهط
قلت: أما لغز الشيخ بدر الدين في القرية فنسيج وحده، وما ذاك إلا أنه لم يحتج فيه إلى عقادة من تمذهب بغير مذهبنا، ولم يسبكه في غير قوالب التورية، وقد أذكرني لغزًا ألغزته في قصب السكر بطرابلس المحروسة، وقد أنشدني بعض المخاديم وهو المقر المرحوم الشهابي الدنيسري لغزًا في قصب السكر أيضًا، وهو:
وحاملة درًا حكى الخمر لذة
…
ونشرًا يروي شربه ويقوت
تعيش إذا لم يبد منها فإن بدا
…
فمهجتها في إثر ذاك تفوت
فلم تر عيني مرضعًا في مثالها
…
من الخلق تسقي درها وتموت
وقال بعد الإنشاد: ولا أعلم في هذا الباب مثل هذا اللغز؛ لأنه سالم من التعقيد
1 أربع: أي أربع سوقٍ.
2 ربها: صاحبها.
3 المرسل من الحديث: ما سقط من إسناده الصحابي ويرويه التابعي بقوله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم دون ذكر الصحابي الذي أخذه عنه.
والتصحيف والتحريف والعكس والحذف والإبدال، فنظمت هذا اللغز في يوم الإنشاد وهو:
وعسالة تبدو بغير أسنة
…
ولا طعن فيها وهي داخلة الصدر1
ممشقة هيفاء حلو مذاقها
…
به يطرح في المهمة القفر2
منعمة لقاء مهضومة الحشا
…
تكاد بأن تنقد من رقة الخصر
وتحلو على البيض الرشاق شمائلًا
…
إذا ما تثنت في غلائلها الخضر
يلذ قبيل العصر في الظهر رشفها
…
وبرد لماها من أليم الجوى يبري
وإن سقيت ماء سقتك سلافة
…
بطيب مزاج وهي طيبة النشر4
وينبت حلو الثغر حلو نباتها
…
فيرشف أرياقا ألذ من الخمر
وإن لمعت في ثغرها وتبلجت
…
دع ابن جلا يقرع ثناياه في الثغر5
على عودها كم للرباب مواقع
…
وموصولها يغني عن الناي والزمر
وإن قطعوا موصولها شببت به
…
ألو الذوق تشبيبًا شفى غلة الصدر
وترفع بعد النصب والكسر جرها
…
فتجزم ما للفارسي من الذكر
وهمزاتها همزات وصل وقطعها
…
إذا ما أميلت جائز لك يا مقري6
وفي أول الأعراف تروي من الظما
…
وتضرم نيران الجوى وهي في العصر
ومن حلها إن أفرغت في قوالب
…
يقول الورى هذا هو السكر المصري
ومن أجل ذا عنها ابن سكرة روى
…
وأما النباتي قال من ههنا قطري
كذا ابن الجلاوي قلبه معها يرى
…
كسيرًا وكم قد أوردته لظى الجمر
فيا من حلا ذوقًا وحل بدائعي
…
وفي عقد عقد الألغاز يا نافت السحر
تأملت بعد الحل كيف تنوعت
…
حلاوتها حتى رقت منبر الشكر
بنية فكر من حماة تغربت
…
وغربتها والله قد أشغلت فكري
1 العسّالة: الخلية والجعبة التي توضع فيها السهام.
2 المرّان: الرماح اللدنة الصلبة واحدتها مرانة. المهمة: الأرض الواسعة.
3 الغلائل: واحدتها غلالة وهي الرقيق من الثياب.
4 السلافة: الخمرة. النشر: الرائحة التي تنتشر منها.
5 تبلج: بان ووضح. ابن جلا: الحجاج بن يوسف لقب به لقوله:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا
…
متى أضع العمامة تعرفوني
6 المقري: المقرئ وهو علم تقريبًا على قارئ القرآن. والإمالة: تقريب الفتحة والألف في اللفظ من الكسرة والياء.
ومن شط ذاك النهر يا بحر قد أتت
…
فلا تنهروها فهي في جيرة البحر
سعت من أبي بكر لأحمد خدمة
…
وأحمد من أولى الورى بأبي بكر
فلا زلت في حل وظعن مؤملًا
…
لكل غريب جاء حتى من الشعر
قلت: وبعد قصب السكر يحلو أن نورد هنا شيئًا مما ألغزوه في العسل، فمن ذلك ما كتب به الشيخ شرف الدين عيسى العالية، إلى سيدنا الشيخ الإمام العالم العلامة بدر الدين بن الدماميني، وهو:
يا أيها المولى الرئيس ومن له
…
ألّفت مدحًا كالجواهر نظمه
اسمع سمعت الخير أمرًا محكمًا
…
يمضي على الألغاز جمعًا حكمه
قالوا من الأطيار حقًّا أصله
…
أكرم به لغزًا يروقك طعمه
لكنه ما حاز منقارًا ولا
…
ريشًا وأجنحة ولست أذمه
من أين يعرف ما اسم شيء ربما
…
أكلته في بعض المجاعة أمه
فأجابه الشيخ بدر الدين بقوله:
يا فاضلًا نثر المحاسن نظمه
…
يوللغزه قد ذل عجزًا خصمه
وتطرزت حلل البديع بمنطق
…
منه علا بين الأفاضل رسمه
شرف لأعراض البدائع سابق
…
ومن الفضائل قد توفر قسمه
ألغزت في اسم عاطل حليته
…
بنفيس در صح فينا يتمه1
فإذا أضفت القلب منه لأصله
…
قلنا بهذا الفعل قد وضح اسمه
وإذا عكست الأصل منه فهو إن
…
أعربت لحنًا ليس يجهل حكمه
قد كانت الأذهان منه خلية
…
فحوت به شهدًا لذيذًا طعمه
ورأى ابن سكرة حلاوة طعمه
…
فقضى بتقطير المرارة وهمه
ورأى بعين لغزك الحلو الجنى
…
حلو المذاق فحار فيه فهمه
وأعاذه بعلي أمير النحل إذ
…
أضحى عليًّا في الفصاحة نظمه
فاصفح بفضلك عن جواب سافل
…
يا طالعًا في خير أفق نجمه
قلت: وعلى ذكر العسل يحلو أيضًا أن نورد هنا ما ألغزه مولانا المقر المرحومي القاضي الناصري محمد بن البارزي الجهني الشافعي في سكر نبات، وكتب به إلَيّ، وهو:
1 العاطل: الذي لا حلي له. النفيس: الثمين. اليتيم: من الدر، الذي لا ثاني له.
يا قاضي الأدب احكم لي فذا أدبي
…
حلا مذاقًا ووقع لي بتحسين
واقبل شهادة ما أهديته تر من
…
تصحيف معكوسه ثانٍ يزكيني
ورسم لي بحل اللغز والجواب فألغزت مع الحل لغزًا زائد الحلاوة في قطر، وهو:
أهديت لغزًا حلا ذوقًا مكرره
…
فانحل مذ حل في قلبي بتمكين
وفزت منه بشكر في مصحفه
…
وجاء منه بثانٍ قلت يكفيني
تصحيف معكوسه من غير تزكية
…
وحكمه ثابت عندي بتبيين
حماة منبته لكن بمصر له
…
مزية تزدري نبت الرياحين
فحل منه لنا لغزًا مجانسيه
…
يحل أحشاء أرضينا فيرضيني
يرادف اسم رباب فهو يطربني
…
هذا وتصحيفه في العيد يأتيني
حلو رقيق بلا حشو لذائقه
…
لأن قطر النباتي عنه ينسيني
فلا برحت برغم الكسر تجبرني
…
وكلما مرّ لي عيش تحليني
قلت: وعلى ذكر القطر، يحلو أن نورد هنا شيئًا من بديع ما ألغزوه، في الكنافة والقطائف، فمن ذلك ما ألغزه الشيخ برهان الدين إبراهيم القيراطي في النوعين وهو قوله:
هذان لغزان قد حلا ببابك يا
…
قاضي البرية ما هذان خصمان
اسمان كل خماسي إذا كتبت
…
حروفه فهما لا شك حرفان
تباينا في الورى شكلًا إذا نظرا
…
وصورة وهما في الأصل مثلان
هما إلى الصين منسوب مقرهما
…
أن أحضرا في مكان بين أخوان
لذا كنى وهو بين الناس ليس له
…
من كنية ما انتحى في ذلك اثنان
في البر يلقى وإن فتشت عنه تجد
…
في لجة البحر ملقى خمسه الثاني
نبت أرى النار قد أبدت له ورقًا
…
فأعجب له ورقًا ينمو بنيران
يحيا إذا ما سقاه القطر وابله
…
وجاده بسحاب منه هتان1
ذو رقة فإذا صحفته ظهرت
…
كثافة منه فاستره بكتمان
هذا وكم من بدور فيه قد طلعت
…
في آخر الشهر لم تمحق بنقصان2
فقدها خيط فجر أبيض عجل
…
بالبرق يسطو عليها سطوة الجاني
1 الهتان: الشديد المطر متتابعة.
2 محق: البدر صار في المحاق وهي المنزلة التي ينزلها القمر قبل أن يبدأ بالإثارة، أو الهلال قبل رؤيته.
واللغز الآخر في اسم ذات ألسنة
…
لم يبد منها لنا بالنطق حرفان
يا حسنها ألسنا أضحت حلاوتها
…
يحلو المديح لها من كل ملسان1
بالطي والنشر في حال قد اتصفت
…
والطي والنشر فيما قيل ضدان
كم سكرت ففتحنا بالدخول بها
…
أبوابها فتلقتنا بإحسان
حسناء أجمع أهل العقد كلهم
…
والحل منها عليها بعد عرفان
وصالها حل بالإجماع في زمن
…
فيه الوصال حرام عند أعيان
ثلثا ثلاثة أخماس لها وجدا
…
شيئا يجيء بإيضاح وتبيان
وما ذكرت من الأخماس قد نطقت
…
صدقًا بذكر اسمها من غير بهتان2
وخمسها جبل لكن بقيتها
…
في مكرة يرتجى فوزًا بغفران
ما ملَّ راوٍ من القالي أماليه
…
عنها وما خاطر القالي لها شاني3
في الجوف منها قلوب جمة جمعت
…
ولا يكون بجوف الشخص قلبان
كم ظل يطرحها من ليس ذا شرف
…
جهرًا ويوصف مع هذا بإتقان
بالحل أنعم سقى القطر المواطئ من
…
إقدام سعيك من إرواء ظمآن
وكتب مولانا قاضي القضاة، صدر الدين بن الآدمي الحنفي رحمه الله إلى علامة العصر سيدنا ومولانا الشيخ بدر الدين بن الدماميني رحمه الله ملغزًا في لوزينج وأجاد إلى الغاية، وهو:
يا من له في علوم النظم أي يد
…
فاق الخليل بها فضلًا وتمكينا
ما اسم دوائره في نظمها ائتلفت
…
والثلم في صدرها مستعمل حينًا
أجزاؤه من زحاف الحشو قد سلمت
…
هذا ويقطع مطويًّا ومخبونا
تصحيف معكوسه لفظ يرادفه
…
يا فرد يا رحلة قوم مقيمونا
والعيد منتظر من حله فرجًا
…
لا زال سعدك بالإقبال مقرونًا4
فحله المشار إليه رحمه الله وأجاد إلى الغاية، والجواب:
يا مرسلًا من شهي النظم لي كلمًا
…
منها ابن سكرة قد راح مغبونًا
لله درك صدرًا من حلاوته
…
وجوهر النظم لم يبرح يحلينا
1 الملسان: الفصيح.
2 البهتان: الافتراء والكذب.
3 شاني: شانئ مبغض. والقالي. صاحب الأمالي والمبغض أيضًا.
4 السعد: الحظ. مقرونًا: مقترنًا ملازمًا.
حليت لغزك إذ أبهمته فلذا
…
يا فاتني رحت بالإعجاب مفتونا
هذا وكم قد رأينا في دوائره
…
للكف قبضًا يزيد العقل تمكينا
وليس إضماره مستحسنًا فأين
…
بالكشف عنه لمن وافاك تحسينا
وكن لنا هاديًا صوب الصواب ودم
…
فينا أمينًا رشيد العقل مأمونا
والله تعالى يمن على أفواه شاكريه بما هو أشهى من اللوزينج وأحلى، ويحلي أعناق المتأدبين من كلمه بما هو أنفس من الدر وأغلى.
وكتب الشيخ بدر الدين، المشار إليه، أيضًا لغزًا في دواة وجهزه إلى المقر المرحومي الأميني المقدم ذكره، وهو هذا:
كتبت وأعذاري إليك تقرر
…
ونظمي بها يا كاتب السر يجهر
أتتك بأبيات المعاني فرضتها
…
وحكت حبير اللفظ وهو محرر1
وحليت أهل العصر إذ كنت خاتمًا
…
لهم فعليك الآن يعقد خنصر
وما أنت إلا البحر جاش عبابه
…
ولكن رأينا منك علمًا يجسر2
فما كلمة أفديك دام اعتلالها
…
وفيها دواء إن عراها تغير
ويحفظها ذو السر وهي التي وشت
…
وذلك من عاداتها ليس يترك
وما مسها إلا وجادت بنفسها
…
وصحف ترى المقصود بالنفس يظهر
وتحمل سمر الخط رايات ملكها
…
على الرأس عباسية حين تخطر
كحيلة طرف تعشق العين شكلها
…
ويحسن مرآها إذا ما تحبر
مؤنثة كم ذكرتنا بلونها
…
عهود الصبا والشيء بالشيء يذكر
وكم قد أرانا ريقها من مسلسل
…
يلذ به في الذوق ورد ومصدر
وكم لاقت الأحبار منها محاسنًا
…
فعادت لها الجهال بالعي تحصر3
مسودة إن ترض فالعيش أخضر
…
وإن غضبت فالموت لا شك أحمر
ويعذب للسمر الرقاق رضابها
…
فتنهل منها موردًا لا يكدر
لقد أحكمت والنسخ ما زال دأبها
…
بذلك قد جاء الكتاب المسطر
وما هي إلا ذت متربة غدت
…
وكم ذي غنى عن قصدها ليس يفتر4
1 حبير اللفظ: المحبر، المكتوب.
2 جاش: هاج واضطرب. عبابه: وسطه ولجته.
3 الأحبار: مفردها حبر وهو الرئيس الديني للنصارى. العي: عدم القدرة على التكلم. تحصر: تمنع من الكلام.
4 المتربة: الحاجة والفقر. يفتر: يضعف.
ولسنا نراها غير سائلة ولم
…
تفه بسؤال فاعترانا التحير1
فانعم بحل اللغز يا خير منعم
…
فأنت به والله أجدى وأجدر
فلا زالت الأقلام تسعى لشكركم
…
على رأسها طول المدى لا تقصر
فكتب المقر المرحومي الأميني الجواب بعد أيام، وهو قوله:
مواقع أقلام لها الفضل ينشر
…
وروضة آداب بها القلب يجبر
تحرر معنى حسنه نسيج وحده
…
فيا حبذا الإسكندري المحرر
تشق على الأفهام شقة شأوها
…
فكم من بليغ عن مداها يقصر2
أتت سهلة الألفاظ ممنوعة الذرا
…
حماها من العلياء لا يتسوّر3
تشير إلى الحبلى التي عز وضعها
…
فأحشاؤها فيها الأجنة تقبر
ينامون لا تغشاهم سنة الكرى
…
فإن هب فرد ظل يسعى ويحضر
وإن أرشفته من زلال رضابها
…
تهادى بها نشوان يمشي ويعثر
وأما إذا اعتموا السواد فكلهم
…
خطيب له فوق الأنامل منبر
وينطق عن علم وطول نباهة
…
وعما رآه في المنام يعبر
تطاول سمر الخط أنى تشامخت
…
سموًا ومع هذا على الطول تقصر
وكل بني الآداب تلفى بيوتهم
…
تقام بها بين الأنام وتعمر
فأكرم بما قد ولدته وأنشأت
…
وربت ويكفيها بذلك مفخر
نجية وجهي إن جلست ووجهها
…
تجاهي وجاهي عندها ليس يحقر4
وقد فتحت فاها فقالت وقصرت
…
وأنى استقالت فهي في ذاك تعذر
فلا زلتم أهل الجمال وخيركم
…
لدى النقص مثلي فهو حظ موفر
بمدحكم الأقلام يضحك سنها
…
بحق وأفواه الدواة تقطر
ويعجبني من الألغاز، في التورية، قول شهاب الدين الغزاوي، في قوس، وهو:
ما عجوز كبيرة بلغت سنًا
…
طويلًا وتتقيها الرجال
ولها في البنين سهم وقسم
…
وبنوها كبار قدر نبال
ومن غريب ما أعجبني في هذا الباب قول القائل في كمون وهو:
1 سائلة: من الأجسام التي تشبه الماء، والتي تطلب العطاء، فاه: تكلم، نطق.
2 شق: صعب وصار شاقًّا. الشأو: المدى والغاية.
3 تسوّر: تسلق، الذرا: القمم والأعالي.
4 النجية: التي تحادث وجهًا لوجه ولكن عن بعد.
يا أيها العطار أعرب لنا
…
عن اسم شيء قل في سومك1
تنظره بالعين في يقظة
…
كما ترى بالقلب في نومك
ومثله قول شمس الدين الهيتي في ورق، وهو:
وشيء بلا جرم يصلب تارة
…
ويقطع حينًا في حضور وأسفار2
ومن قدم قد بيض الله وجهه
…
على أنه ما انفك يومًا عن القار3
ومن لطائف الشيخ شمس الدين بن الصاحب في هذا الباب قوله في سهم:
لله مملوك إذا
…
ما قام في الشغل اعترض
لكنه في لحظة
…
محصل لك الغرض
وقال الشيخ جمال الدين بن نباتة رحمه الله ملغزًا في قلم:
مولاي ما اسم لنا حل دنف
…
وما به علة ولا سقم
لسان قوم فإن حذفت وإن
…
صحفت بعض الحروف فهو فم
وقال ملغزًا في علي:
أمولاي ما اسم جلي إذا
…
تعوض عن حرفه الأوّل
لك الوصف من شخصه سالِمًا
…
وإن قلعت عينه فهو لي
ويعجبني في هذا الباب قول ابن المرجاني ملغزًا في مشط وهو:
يا إمامًا سألته حل لغز
…
شط منه مزار أهل الذكاء4
أهمل الثلث باعتناء وقلب
…
تره جاء قائد الشعراء
ويعجبني قول الشيخ صلاح الدين ملغزًا في قريشة:
أي شيء يروق الناس أكلًا
…
ذو بياض وأصله من حشيشه
خمسة أثقل الجمادات وزنًا
…
فتعجب له وباقيه ريشه
1 السوم: التثمين والتسعير.
2 الجرم: الجسم والجسد.
3 القار: الزفت وبزيادة الياء: مطعم الضيوف.
4 شط المزار: بعد المسكن والمقام.
ويعجبني لغز ابن منقذ في الضرس، وهو:
وصاحب لا أملُّ الدهر صحبته
…
يسعى لنفعي ويسعى سعي مجتهد
لم ألقه مذ تصاحبنا فمذ وقعت
…
عيني عليه تفارقنا إلى الأبد
ومن الغايات التي لم تدرك، في هذا الباب، قول القاضي صدر الدين بن الآدمي رحمه الله ملغزًا في كشتوان:
ما رفيق وصاحب لك تلقاه
…
معينًا على بلوغ المرام
هو للعين واضح وجلي
…
وتراه في غاية الإبهام1
واستظرف قول بعض مواليا ملغزًا في بدرة:
محبوبتي وجهها يغني عن المقباس
…
واسمها ينقذ العاشق من الإفلاس2
إن تعكسوا تجدوا ضدين في الأجناس
…
هذا نفور وهذا يقبل الإيناس
وسألني جماعة من فضلاء أهل الأدب بالديار المصرية أن أنظم لهم لغزًا في كرمة، وأطلق لهم عنان القلم في ذلك فقلت:
أخبروني عن فاضل بأصولٍ
…
وفروع يسمو على كل فاضل
أسبغ الله ظله فهو ظل
…
سابغ وافر مديد وكامل
وأبو محجن يقول ادفنوني
…
تحته إن أتاني الموت عاجل
كم إلينا قد مد كفًا نديًّا
…
فصير العيش أخضرًا في المنازل
نقط الطل فوقه وضحته
…
عند توقيعها به وهو عاطل3
ما تبدى لنا بعين ولكن
…
حرفته وصحفته الأفاضل
فرأينا للترك فيه اسم عين
…
بفتور الأجفان جاءت تغازل
إن تذكره أحرف الكل تبدي
…
كرمًا والندى من الكف هاطل
أو تؤنثه يقبل الهاء في الحا
…
ل ومن بعد ذا يرى وهو حامل
ويقل شطره لمن عابه مه
…
لك هم بالعكس عندي حاصل4
هو حلو وفيه مرّك يبدو
…
عند تحريف عكسه المتماثل
1 الإبهام: الغموض، والأصبع الكبرى لليد.
2 المقباس: الذي ينار به الضوء ويؤخذ منه القبس من النور.
3 الوضحة: الجبهة من الوضوح. عاطل: غير محلى.
4 مه: اسم فعل أمر بمعنى اكفف، للزجر.
وبلا أول يرى فعل أمر
…
واقلب الفعل منه فالأمر حاصل
وهو خشب مسندات ولكن
…
حاز نجلًا يبدو رقيق الغلائل1
ومن العز جسمه الغض يدمى
…
وتراه من بعد ذا وهو ذابل
وإذا ما فرطت فيه تراه
…
لم يحل عنك وهو نعم الخصائل
ذو بياض وحمرة ولّدا لي
…
فرحًا راح ساريًا في المفاصل
فتراه يومًا عقود بلخش
…
نظمت سلكها بغير أنامل2
وتراه يبدو عقود جمان
…
ما لها غير ثغر حبي مماثل
وتراه طورًا سلافة راح
…
ولدر الحباب فيه حواصل3
وعلى عوده يغني علينا
…
أعجمي به تهيج البلابل
لك منه فواكه وشراب
…
كل غض إليك تلقاه واصل
وحلاواته بها كل قلب
…
كسروه والكسر للقلب حامل
وترى وصله بمصر قليلًا
…
وهو بالشام لا يزال يواصل
وتراه بذات عرق مقيمًا
…
في نعيم وظله غير زائل
وإذا قلت في المخيم بالغور
…
رأيناك فيه أصدق قائل
ولقد جاءنا بعتب لطيف
…
عند تصحيفه لمن هو هازل
كيف لا والكتاب عن جنتيه
…
قد أتى مخبرًا بكل الفصائل
فتفكه من حله بقطوف
…
دانيات لكل آت وراحل4
وأقم تحت ظله فهو لغز
…
ظله ظاهر على كل قائل
ثم دم للألغاز في الحل والعقـ
…
ـد غني إذا أتى اللغز سائل
قلت: ومما ألحقوه بالألغاز، ما حكي عن بعض ولاة الطوف ببغداد: جاءوا إليه بغلامين غلب عليهما السكر، فقال لأحدهما من أبوك؟ فقال:
أنا ابن الذي لا ينزل الدهر قِدْرُه
…
وإن نزلت يومًا فسوف تعود 5
ترى الناس أفواجًا إلى ضوء ناره
…
فمنهم قيام حولها وقعود
1 النجل: الابن. الغلائل: الثياب الرقيقة الناعمة.
2 اللخش: لم نعثر لها على معنى وربما كانت اسْمًا للخرز أو الجواهر.
3 الحباب: فقاقيع الماء. الحواصل: جمع حوصلة وهي بالنسبة للطائر كالمعدة بالنسبة للإنسان.
4 الحل: الحلال. القطوف الدانية: القريبة المتدلية.
5 القِدر: وعاء يستعمل للطبخ.
فأطلقه وعظم في عينه، وقال: هذا أبوه من بيت كبير، وقال للآخر: من أبوك؟ فقال:
أنا ابن من دانت الرقاب له
…
ما بين مخزومها وهاشمها1
تأتيه بالرغم وهي صاغرة
…
يأخذ من مالها ومن دمها
فقال الوالي: ما أشك أن هذا أبوه كان ملكًا شجاعًا، فأمر بإطلاقهما فلما انصرفا كان في المجلس رجل نبيه فقال للوالي: الشاب الأول كان أبوه فوّالًا، والثاني كان أبوه حجامًا. فأعجب الوالي منه ذلك، فقال:
كان ابن من شئت واكتسب أدبًا
…
يغنيك مضمونه عن النسب2
إن الفتى من يقول ها أنا ذا
…
ليس الفتى من يقول كان أبي
وبيت الشيخ صفي الدين على الألغاز في بديعيته:
حرّان ينقع حر الكر غلته
…
حتى إذا ضمه برد المقيل ظمي3
الشيخ صفي الدين ألغز هنا في السيف فإنه يروي في حر الكر بالدماء، وإذا أدخل القراب الذي كنى به عن برد المقبل، كان ظامئًا.
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته:
إن المنافق لغز قلبه زغل
…
وهو المعمى كمثل الأرزة الرزم4
قلت: الشيخ عز الدين -غفر الله له- لم يأت في بيته بغير الجناس المقلوب، في لغز وزغل، وأما التعمية بالأرزة الرزم، فما علمت ما المراد منهما حتى نظرت في شرحه، فوجدته قد قال: الرزم القائم والأرزة شجرة الصنوبر، فما ازددت في التعمية غير تعمية.
وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي، صلى الله عليه وسلم:
وكلما ألغزوه حله لَسِنٌ
…
مذ طال تعقيده أزرى بفهمهم
1 دان: خضع.
2 مضمونه: معناه ويروى: محموده.
3 الحرّان: الشديد العطش. نقع: روى. الكر: المعركة. الغلة: شدة العطش. ظمي: ظمئ، عطش.
4 الزغل: الخبث والانطواء عليه. الأرزة: شجرة من فصيلة الصنوبريات وهي شعار اللبنانيين وتتوسط علمهم. من الناس الأرزة: المنقبض. الرزم: الثابت القائم على الأرض.
قد تقدم، وتقرر أن أحسن التعمية في اللغز ما أسفر بعد الحل عن تورية بديعة في بابها، وهذا البيت أيضًا بديع في هذا الباب، فإن اللغز في الرمح والتورية في لسن؛ لأن لسان الرمح لسان القائل في التورية للتكليم، وفي التعقيد المشترك بين تعقيد اللغز وتعقيد الرمح، وأما المناسبة بين الحل والتعقيد، والإزراء بالفهم بعد ذكر الألغاز، فمحاسنها لا تخفى على حذاق الأدب. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.