الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر التفسير:
وصحبه بالوجوه البيض يوم وغى
…
كم فسروا من بدور في دجى الظلم
هذا النوع، أعني التفسير، من مستخرجات قدامة، وسماه قوم التبيين، وهو أن يأتي المتكلم أو الشاعر في بيت بمعنى لا يستقل الفهم بمعرفة فحواه دون تفسيره، إما في البيت الآخر، أو في بقية البيت، إن كان الكلام يحتاج إلى التفسير في أوله. والتفسير يأتي بعد الشرط وما هو في معناه، وبعد الجار والمجرور، وبعد المبتدأ الذي يكون تفسيره خبره، بشرط أن يكون المفسَّر مجملًا والمفسر مفصلًا. فمن بديع التفسير الذي وقع في بيت واحد قول بعض المغاربة:
صالوا وجادوا وضاءوا واحتبوا فهم
…
أسد ومزن وأقمار وأجبال
فإنه أحسن الترتيب في عجز البيت كله، وجعل المفسَّر في الصدر، بحيث أتى كل قسم مستقلًا بنفسه.
ومثال ما وقع من التفسير بعد الحروف المتضمنة معنى الشرط، قول الفرزدق:
لقد جئت قومًا لو لجأت إليهم
…
طريد دم أو حاملًا ثقل مغرم
لألفيت منهم معطيًا ومطاعنًا
…
وراءك شزرًا بالوشيج المقوّم1
والفرزدق ما راعى حسن الترتيب في بيته، فإن عندهم عدم الترتيب مع حسن الجوار، وقرب الملائم، لا ينقص حسن الكلام البليغ. ألا ترى إلى قوله تعالى:
1 ألفيت وجدت. الشزر: النظر بطرف العين. الوشيج المقوم: الرمح المستقيم.
{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} 1. ثم قال سبحانه وتعالى بعد ذلك: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ} 2.
ومن الأمثلة الواقعة بعد الجار والمجرور في باب التفسير، قول شرف الدين القيرواني:
لمختلفي الحاجات جمع ببابه
…
فهذا له فن وهذا له فن
فللخامل العليا وللمعدم الغنى
…
وللمذنب العقبى وللخائف الأمن
ومما جاء من التفسير بعد المبتدأ، قول ابن الرومي:
آراؤكم ووجوهكم وسيوفكم
…
في الحادثات إذا دجون نجوم
منها معالم للهدى ومصابح
…
تجلو الدجى والأخريات رجوم3
قالوا إن هذا أبلغ ما وقع في التفسير من الأمثلة الشعرية، فإنه راعى فيه الترتيب أحسن مراعاة.
ومن بديع هذا النوع قول محمد بن وهيب في المعتصم:
ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها
…
شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر
ومثله في الحسن قول محمد بن شمس الخلافة:
شيئان حدِّثْ بالقساوة عنهما
…
قلب الذي يهواه قلبي والحجر
وثلاثة بالجود حدث عنهم
…
البحر والملك المعظم والمطر
ومن معجز التفسير، ما جاء في الكتاب العزيز، وهو قوله تعالى:{وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} 4 فذكر سبحانه الجنس الأعلى أولًا، حيث قال: كل دابة فاستغرق أجناس كل ما دب ودرج، ثم فسر سبحانه هذا الجنس، بعد ذلك، بالأجناس المتوسطة والأنواع، حيث قال: فمنهم ومنهم ومنهم، مراعيًا للترتيب، وذلك أنه قدم ما يمشي على غير آلة لكون الآية سيقت لبيان القدرة وتعجب السامع، وما يمشي بغير آلة أعجب مما يمشي
1 آل عمران: 3/ 106.
2 آل عمران: 3/ 107.
3 رجوم: ظنون لا دليل على صحتها.
4 النور: 24/ 45.
بآلة، فلذلك كان تقديمه ملائمًا لمقصود الآية الشريفة، ثم ثنى بالأفضل فأتى بما يمشي على رجلين وهو الآدمي والطير لتمام خلق الإنسان وكمال صورته ولما في الطير من عجب الطيران الدال على الخفة مع ما فيه من الكثافة الأرضية، وثلّث بما يمشي على أربع؛ لأنه أحسن الحيوان البهيمي وأقواه، فتضمنت هذه الكلمات، التي هي بعض آية، عدة من المحاسن، وهي صحة التفسير وصحة التقسيم مع مراعاة الترتيب والإشارة وائتلاف اللفظ مع المعنى وحسن النسق. والفرق بين التفسير والإيضاح: أن التفسير تفصيل الإجمال، والإيضاح رفع الإشكال؛ لأن المفسر من الكلام لا يكون فيه إشكال.
وبيت صفي الدين على التفسير قوله:
هم النجوم بهم يهدى الأنام
…
وينجاب الظلام ويهمي صيب الديم1
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين الموصلي قوله:
ذكر الإمام وابنيه يفسره
…
عليّ والحسنان أكرم بذكرهم
الشيخ عز الدين ما أفادنا في التفسير هنا شيئًا
وبيت بديعيتي أقول فيه، عن الصحابة، رضي الله عنهم أجمعين:
وصحبه بالوجوه البيض يوم وغى
…
كم فسروا من بدور في دجى الظلم
هذا هو التفسير الذي لا يستقل الفهم بمعرفة فحواه، في الشطر الأول من البيت، إلا بتفسيره من الشطر الثاني على الترتيب. وأما ذكر الإمام عليّ -كرّم الله وجهه- وذكر ولديه رضي الله عنهما في بيت الشيخ عز الدين رحمه الله فإنه غير محتاج إلى تفسير والله أعلم.
1 انجاب: انكشف. يهمي: يمطر بغزارة. الديم: الغيوم.