الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر التفريع:
ما العود إن فاح نشرًا أو شدا طربًا
…
يومًا بأطرب من تفريع وصفهم
هذا النوع، أعني التفريع، وهو ضد التأصيل، هو أن يصدّر الشاعر أو المتكلم كلامه باسم منفي، بما خاصة، ثم يصف ذلك الاسم المنفي بأحسن أوصافه المناسبة للمقام، إما في الحسن وإما في القبح، ثم يجعله أصلًا يفرع منه جملة، من جار ومجرور، متعلقة به تعلق مدح أو هجاء أو فخر أو نسيب أو غير ذلك، ثم يخبر عن ذلك الاسم بأفعل التفضيل، فتحصل المساواة بين الاسم المجرور بمن وبين الاسم الداخل عليه ما النافية؛ لأن حرف النفي قد نفى الأفضلية. فتبقى المساواة بين ذلك أن تقول: ما الزهر إذا بكى الغمام فضحك، بأحسن من أخلاق زيد. فالمساواة بين الزهر والأخلاق ههنا ثابتة، بالشروط المذكورة، ومن الأمثلة الشعرية قول الأعشى:
ما روضة من رياض الحسن معشبة
…
غناء جاد عليها مسبل هطل1
يضاحك الزهر منها كوكب شرق2
…
مؤزر بعميم النبت مكتهل
يومًا بأطيب منها طيب رائحة
…
ولا بأحسن منها إذ دنا الأصل3
1 غناء: ملتفة الشجر. جاد: هطل. المسيل: من المطر: الناز من السحاب بغزارة. هطِل: صيغة مبالغة من هطل.
2 شرِق: واضح الإشراق. مؤزر: يلبس الإزار. مكتهل: كبير السن.
3 الأصل: الأصيل أو وقت الغروب.
وقد يجيء الفرع والأصل في بيت واحد، كقول أبي تمام:
ما ربع مية معمورًا يطيف به
…
غيلان أبهى ربا من ربعها الخرب1
ولا الخدود وإن أدمين من خجل
…
أشهى إلى ناظري من خدها الترب
فذكر في البيت الأول الأصل والفرع، وكذلك في البيت الثاني، فالأصل هو الاسم المنفي مع ما ذكر من أوصافه، والفرع هو أفعل التفضيل مع ما يتعلق به.
ويعجبني في هذا الباب قول إبراهيم بن سهل الأشبيلي، من قصيدة، وهو:
وما وَجْدُ أعرابية بان دارها
…
وحنت إلى بان الحجاز ورنده2
إذا آنست ركبًا تكفل شوقها
…
بنار قراه والدموع بورده
وأن أوقدوا المصباح ظنوه بارقًا
…
يحيي فهشت للسلام ورده
بأعظم من وجدي بموسى وإنما
…
يرى أنني أذنبت ذنبًا لوده
ومن إنشاء القاضي شهاب الدين محمود، في هذا الباب، قوله: وما أم طفل قذفها الزمن العنيد، في بعض البيد، في أرض موحشة المسالك، قليلة السالك، قد لمع صوابها، وتوقدت هضابها، وصرخ بومها، ونفر ظليمها3، وحضر سمومها4، وغاب نسيمها، فلما خافت على ولدها من الظمأ الهلاك، أجلسته إلى جنب كثيب هناك، ثم ذهبت في طلب الماء للغلام، لئلا يقضي عليه الأوام5، فانتهى بها المسير إلى روضة وغدير، وآثار مطي بوارك، تدل على أن الطريق هنالك، فعادت إلى ولدها مسرعة، وكل أعضائها إليه عيون متطلعة، فلما شارفت جنب الكثيب، رأت ولدها في فم الذيب:
بأكثر مني حسرة وتلهفًا
…
وأعظم مني حرقة وتأسفًا
وأغزر دمعًا عندما قيل لي الذي
…
كلفت به أضحى على البعد مزمعًا
وذكر صاحب الإيضاح، للتفريع، قسمًا ثانيًا لم يذكره غيره، ولا نسج على منواله أصحاب البديعيات فألغيته أيضًا، والشيخ زكي الدين بن أبي الأصبع اخترع قسمًا ثالثًا،
1 غيلان: اسم ذي الرمة الشاعر.
2 بان: بَعُد. البان: شجر طيب الرائحة طويل الأغصان طريها. الرند: شجر طيب الرائحة يشبه الآس وينبت في البادية.
3 الظليم: ذكر النعام.
4 السموم: الريح الحارة.
5 الأوام: شدة العطش.
ولكن وجدت هذا النوع الذي نحن بصدده أحلى في الأذواق، وأوقع في القلوب، وعلى سننه مشى أصحاب البديعيات، فألغيت أيضًا ما اخترعه ابن أبي الأصبع، رحمه الله.
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي على هذا النوع في وصف الصحابة، رضي الله عنهم أجمعين:
ما روضة وشع الوسمي بردتها
…
يومًا بأحسن من آثار سعيهم1
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين في بديعيته قوله:
ما الدوح تفريعه بالزهر متسق
…
نظمًا بأطيب من تعريف ذكرهم
وبيت بديعيتي أقول فيه عن الصحابة، رضي الله عنهم أجمعين:
ما العود إن فاح نشرًا أو شدا طربًا
…
يومًا بأطيب من تفريع وصفهم
هذا البيت فيه نوع التفريع، الذي هو القصد هنا، والتورية بتسميته، والاستخدام، ومرعاة النظير، وفيه الانسجام، والتمكين، والله أعلم.
1 وشّح: زين وزخرف. الوسمي: مطر الربيع.