المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌ذكر السجع: سجعي ومنتظمي قد أظهرا حكمي … وصرت كالعلم في - خزانة الأدب وغاية الأرب لابن حجة الحموي - جـ ٢

[الحموي، ابن حجة]

فهرس الكتاب

- ‌ذكر النوادر

- ‌ذكر المبالغة:

- ‌ذكر الإغراق:

- ‌ذكر الغلو:

- ‌ذكر ائتلاف المعنى مع المعنى:

- ‌ذكر نفي الشيء بإيجابه

- ‌ذكر الإيغال:

- ‌ذكر التهذيب والتأديب:

- ‌ذكر ما لا يستحيل بالانعكاس:

- ‌ذكر التورية:

- ‌ذكر المشاكلة:

- ‌ذكر الجمع مع التقسيم:

- ‌ذكر الجمع مع التفريق:

- ‌ذكر الإشارة:

- ‌ذكر التوليد:

- ‌ذكر الكناية:

- ‌ذكر الجمع:

- ‌ذكر السلب والإيجاب:

- ‌ذكر التقسيم:

- ‌ذكر الإيجاز:

- ‌ذكر المشاركة:

- ‌ذكر التصريع:

- ‌ذكر الاعتراض:

- ‌ذكر الرجوع:

- ‌ذكر الترتيب:

- ‌ذكر الاشتقاق:

- ‌ذكر الاتفاق:

- ‌ذكر الإبداع:

- ‌ذكر المماثلة:

- ‌ذكر حصر الجزئي وإلحاقه بالكلي:

- ‌ذكر الفرائد

- ‌ذكر الترشيح:

- ‌ذكر العنوان

- ‌ذكر التسهيم:

- ‌ذكر التطريز:

- ‌ذكر التنكيت:

- ‌ذكر الإرداف:

- ‌ذكر الإيداع:

- ‌ذكر التوهيم:

- ‌ذكر الألغاز:

- ‌ذكر سلامة الاختراع:

- ‌ذكر التفسير:

- ‌ذكر حسن الاتباع:

- ‌ذكر المواردة:

- ‌ذكر الإيضاح:

- ‌ذكر التفريع:

- ‌ذكر حسن النسق:

- ‌ذكر التعديد:

- ‌ذكر التعليل:

- ‌ذكر التعطف:

- ‌ذكر الاستتباع:

- ‌ذكر الطاعة والعصيان:

- ‌ذكر المدح في معرض الذم:

- ‌ذكر البسط:

- ‌ذكر الاتساع:

- ‌ذكر جمع المؤتلف والمختلف:

- ‌ذكر التعريض:

- ‌ذكر الترصيع:

- ‌ذكر السجع:

- ‌ذكر التسميط:

- ‌ذكر الالتزام:

- ‌ذكر المزاوجة:

- ‌ذكر التجزئة:

- ‌ذكر التجريد:

- ‌ذكر المجاز:

- ‌ذكر الائتلاف:

- ‌ذكر التمكين:

- ‌ذكر الحذف:

- ‌ذكر التدبيج:

- ‌ذكر الاقتباس:

- ‌ذكر السهولة:

- ‌ذكر حسن البيان:

- ‌ذكر الإدماج

- ‌ذكر الاحتراس:

- ‌ذكر براعة الطلب:

- ‌ذكر العقد:

- ‌ذكر المساواة:

- ‌ذكر حسن الختام

- ‌فهرس الموضوعات

الفصل: ‌ ‌ذكر السجع: سجعي ومنتظمي قد أظهرا حكمي … وصرت كالعلم في

‌ذكر السجع:

سجعي ومنتظمي قد أظهرا حكمي

وصرت كالعلم في العرب والعجم

السجع: مأخوذ من سجع الحمام، واختلف فيه، هل يقال في فواصل القرآن أسجاع أو لا؟ فمنهم من منعه ومنهم من أجازه، والذي منع تمسك بقوله تعالى:{كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} 1 فقال: قد سماه فواصل، وليس لنا أن نتجاوز ذلك.

والسجع ينقسم أربعة أقسام: المطرف، والموازي، والمشطر، والمرصع. القسم الأول: المطرف، وعلى منواله نسج نظام البديعيات، وهو أن يأتي المتكلم في أجزاء كلامه، أو في بعضها بأسجاع غير متزنة بزنة عروضية، ولا محصورة في عدد معين، بشرط أن يكون روي الأسجاع روي القافية، كقوله تعالى:{مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا، وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} 2 وكقولهم: جنابه محط الرحال، ومخيم الآمال. ومن الأمثلة الشعرية قوله أبي تمام:

تجلّى به رشدي وأثرت به يدي

وفاض به ثمدي وأورى به زندي3

الثاني: الموازي، وهو أن تتفق اللفظة الأخيرة من القرينة مع نظيرتها في الوزن والروي، كقوله تعالى:{سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ، وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ} 4. ومنه قول النبي، صلى الله عليه وسلم: "اللهم أعط منفقًا خلفًا، وأعط ممسكًا تلفًا". ومنه قول الحريري في المقامات: ألجأني

1 فصِّلت: 41/ 3.

2 نوح: 71/ 13، 14.

3 الثمد: الماء. وأورى: اشتعل. والزند: عود تقتدح به النار.

4 الغاشية: 88/ 13، 14.

ص: 411

حكم دهر قاسط، إلى أن أنتجع أرض واسط. وقوله: وأودى بي الناطق والصامت، ورثى لي الحاسد والشامت. ومن أمثلته الشعرية قول أبي الطيب المتنبي:

فنحن في جذل والروم في وجل

والبر في شغل والبحر في خجل

القسم الثالث: المشطر، وهو أن يكون لكل نصف من البيت قافيتان مغايرتان لقافيتي النصف الأخير، وهذا القسم مختص بالنظم، كقول أبي تمام:

تدبير معتصم بالله منتقم

لله مرتقب في الله مرتعب

الرابع: المرصع، وقد تقدم الكلام عليه.

قلت: وإذ كنت منشئ ديوان الإنشاء الشريف، أنشأت جميع ما يحتاجون إليه من الفوائد التي أخذتها عن علماء هذا الفن، فإن قصر الفقرات يدل على قوة المنشئ، وأقل ما يكون من كلمتين، كقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ، وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} 1 وأمثال ذلك كثيرة في القرآن العزيز، لكن الزائد على ذلك هو الأكثر وكان بديع الزمان يكثر من ذلك، كقوله: كميت نهد2، كأن راكبه في مهد، يلطم الأرض بزبر3، وينزل من السماء بخبر. لكن قالوا: التذاذ السامع بما زاد على ذلك أكثر، لتشوقه إلى ما ورد منه متزايدًا على سمعه. وأما الفقر المختلفة، فالأحسن أن تكون الثانية أزيد من الأولى بقدر غير كثير، لئلا يبعد على السامع وجود القافية فتذهب اللذة، وإن زادت القرائن على اثنتين، فلا يضر تساوي القرينتين الأوليين، وإن زادت الثانية على الأولى يسيرًا، والثالثة على الثانية، فلا بأس، ولا يكون أكثر من المثل. ولا بد من الزيادة في آخر القرائن.

مثاله في القرينتين: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا، لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدّا، تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّا} 4 فالثانية أطول من الأولى، ومثاله في الثالثة قوله تعالى:{وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا، إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا، وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا} 5 ومن قواعد الإنشاء، أن تكون كل فاصلة مخالفة لنظيرتها في المعنى؛ لأن اللفظ إذا كان

1 المدثر: 74/ 1-4.

2 الكميت: الأحمر الذي يميل إلى السواد. والنهد: السريع.

3 الزبر: الحديد وهي قطع توضع في أسفل حافر الحصان "النضوة".

4 مريم: 19/ 88- 90.

5 الفرقان: 25/ 11- 13.

ص: 412

من القرينة بمعنى نظيره من الأخرى كان معيبًا، كقول الصاحب بن عباد يصف منهزمين: طاروا واقين بظهورهم صدورهم، وبأصلابهم نحورهم. فالظهور بمعنى الأصلاب والصدور بمعنى النحور، ومنه قول الصابي: يسافر رأيه وهو لا يبرح، ويسير وهو ثاوٍ لا ينزح. ويبرح وينزح بمعنى واحد، ويسافر ويسير كذلك.

ومن فوائد الإنشاء التي يطول بها باع المنشئ، أن السجع مبني على الوقف، وكلمات الأشجاع بين القرائن ويزاوج، ولا يتم له ذلك إلا بالوقف، إذ لو ظهر الإعراب، لفات ذلك الغرض، وضاق ذلك المجال على قاصده، ألا ترى أنهم لو بينوا الإعراب، مثل قولك: ما أبعد ما فاتَ، وما أقرب ما هو آتٍ، للزم أن تكون التاء الأولى مفتوحة، والثانية مكسورة منونة فيفوت غرض الاتفاق؟ ومن ذلك أن السجع مبني على التغيير، فيجوز أن تغير لفظة الفاصلة لتوافق أختها، فيجوز فيها حالة الازدواج ما لا يجوز فيها حالة الانفراد. فمن ذلك: الإمالة، فقد يكون في الفواصل ما هو من ذوات الياء وما هو من ذوت الواو، فتمال التي هي من ذوات الواو وتكتب بالياء حملًا على ما هو من ذوات الياء، لأجل الموافقة، نحو قوله تعالى:{وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} 1. أميلت والضحى وكتبت بالياء حملًا على ما هي من ذوات الياء، لأجل الموافقة، وكذلك: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} 2 أميلت فيها ذوات الواو وكتبت بالياء حملًا على ما هي من ذوات الياء. ومن ذلك، حذف المفعول، نحو قوله تعالى:{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} 3. الأصل وما قلاك. حذفت الكاف لتوافق الفواصل. ومن ذلك، صرف ما لا ينصرف، كقوله تعالى:{قَوَارِيرَا، قَوَارِيرَا} 4 صرفه بعض القراء السبعة، ليوافق فواصل السورة الكريمة. ولو تتبع المتأمل ذلك في الكتاب العزيز، لوجده كثيرًا.

ومما جاء من الحديث5، قوله صلى الله عليه وسلم:"أعيذه من الهامة والسامة، ومن كل عين لامة". والأصل: عين ملمة؛ لأنه من ألم، ولكنه لأجل الموافقة قيل: لامة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:"ارجعن مأزورات غير مأجورات". الأصل: موزورات بالواو؛ لأنه من الوزر، ولكن ليوافق مأجورات. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:"دعوا الحبشة ما ودعوكم، واتركوا الترك ما تركوكم". الأصل: ما وادعوكم، ولكن حذف الألف ليحصل الاتفاق مع تركوكم.

1 الضحى: 93/ 1، 2.

2 الشمس: 91/ 1.

3 الضحى: 93/ 3.

4 الإنسان: 76/ 15، 16.

5 أي من السجع.

ص: 413

وسمعت أن بعض علماء الإنشاء صنع مؤلفًا في أحكام الفواصل. ومن ذلك أن المراد من علم الإنشاء: البلاغة في المقاصد. والبلاغة هي أن يبلغ المتكلم بعبارته كنه مراده، مع إيجاز بلا إخلال، وإطالة من غير إملال. والفصاحة خلوص الكلام من التعقيد. وقيل: البلاغة في المعاني والفصاحة في الألفاظ، فيقال: لفظ فصيح ومعنى بليغ. والفصاحة خاصة تقع في المفرد، يقال كلمة فصيحة ولا يقال كلمة بليغة، وأنت تريد المفرد، فإنه يقال للقصيدة كلمة، كما قالوا: كلمة لبيد. ففصاحة المفرد خلوصه من تنافر الحروف، والفصاحة أعم من البلاغة؛ لأن الفصاحة تكون صفة للكلمة والكلام، يقال: كلمة فصيحة وكلام فصيح. والبلاغة لا يوصف بها إلا الكلام، فيقال: كلام بليغ، ولا يقال: كلمة بليغة. واشتركا في وصف المتكلم بهما فيقال: متكلم فصيح بليغ.

فمن الإنشاء الفصيح البليغ، قول ابن عباد، وقد قيل له: ما أحسن السجع! فقال: ما خف على السمع. فقيل: مثل ماذا؟ قال: مثل هذا ومنه، ما كتب به عبد الحميد، عند ظهور الخراسانية بشعار السواد: فاثبتوا ريثما تنجلي به هذه الغمرة، وتصحو هذه السكرة، فينصب السيل وتمحى آية الليل. ومنه قول أبي نصر العتبي: دب الفشل في تضاعيف أحشائهم، وسرى الوشل1 في تفاريق أعضائهم، فجيوب الأقطار عنهم مزرورة2، وذيول الخذلان عليهم مجرورة. ومنه قول الصابي: نزغ به شيطانه، وامتدت في الغي أشطانه3. ومنه قول بديع الزمان: كتابي إلى البحر وإن لم أره، فقد سمعت خبره، والليث وإن لم ألقه، فقد تصورت خلقه، ومن رأى من السيف أثره، فقد رأى أكثره. ومنه قول القاضي الفاضل رحمه الله: ووافينا قلعة نجم وهي نجم في سحاب، وعقاب في عقاب، وهامة لها الغمامة عمامه، وأنملة إذا خضبتها أيدي الأصيل كان الهلال لها قلامة.

ويعجبني في هذا الباب، من إنشاء الشهاب محمود قوله في وصف مقدم سرية: لا زال في مقاصده أخف من وطأة ضيف، وفي مطالبه أخفى من زورة طيف، وفي تنقله أسرع من سحابة صيف، وأروع للعدا من سلة سيف. ومثله في الحسن قوله في صدر مثال شريف سلطاني: أصدرناها والسيوف قد أنفت من الغمود ونفرت من قربها، والأسنة قد ظمئت إلى موارد القلوب وتشوقت إلى الارتواء من قلبها، والسيوف قد أضرمت الحمية.

1 الوشل: الوهن والضعف.

2 مزرورة: مقفلة.

3 الأشطان: جمع شطن وهو الحبل.

ص: 414

للدين نار غضبها، وعداها حر الإشفاق على ثغور المسلمين فأعرضت عن برد الثغور وطيب شنبها، والحماة ما منهم إلا من استظهر بإمكان قوته وقوة إمكانه، والأبطال ما فيهم من يسأل عن عدد العدو بل عن مكانه.

قلت: ما أوردت كثيرًا من الإنشاء ههنا إلا لأن يطيب للتأمل تنقله من شطوط البحور، إلى التنزه في رياض المنثور. فمن ذلك ما أنشأته في تقليد مولانا المقر الأشرف المرحومي القاضوي الناصري، محمد بن البارزي الشافعي، بصحابة دواوين الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية المحروسة، وهو قولي: وقد أوصلناه إلى رتبة استحقاقه من رتب المعالي، ورقيناه إلى درجات الكمال، علمًا أن الكمال ما خرج عن بيته العالي، فإنه المنشئ الذي ما للصاحب دخول إلى ديوانه، ولا لابن عبد الظاهر بلاغته وقوة سلطانه، ولا للشهاب محمود أن يباهي كماله في طارفه وتليده، ولا للقاضي الفاضل شرف البارزي وتمييزه ولو بالغ في كثرة شهوده، ما نثر في كمام طرسه1 زهره إلا وأرانا ذيول زهر المنثور، ولا قرع أبواب المصطلح إلا فتحت ودخل بيتها بغير دستور، ولا تسنم منبرًا إلا أجاد بألفاظ كان مزاجها من تسنيم، وقالت البلغاء للفصاحة المحمدية ما ثم إلا الرضا والتسليم.

ومنه ما أنشأته في تقليد ولده، وهو مولانا المقر الأشرف الكمالي عظم الله شأنه، بصحابة دواوين الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية المحروسة، وهو قولي: فإنه من البيت الذي وهبه الله شرف العلم ورحم منه كل ميت، فقل لكل من مشايخ الإسلام ناشدتك الله هل تنكر هبة الله لهذا البيت، وما خفي أن إمامكم الأعظم أول من راعى حقوقه وبادر إلى رفع مثاله، وشرع في رفع قواعده وتشييد كماله، ولهم هذا الفرع الذي زكت أصوله وسقيناه ماء القرب فأتمر، وقد أنبته الله نباتًا حسنًا والنبات الحموي حسنه لا ينكر. غاب نيره الأكبر فأبدر بعده وهذا البدر في كماله ما أبهاه، ولجأ إلى الله ثم إلينا فزاده الله كمالًا وعلمنا أن الكمال لله، وسلكناه في حياة والده فكان لمشيختنا الشريفة نعم المريد، وأخذ عنا الأدب فجاد نظمه وها هو في البيوت البارزية بيت القصيد، والكتابة دون كماله ومحاسنه تجل أن تقابل بمثال، وإن كان الكمال زها بحاشيته فحاشيتنا زهت بهذا الكمال، وكان والده عقدًا فرط فيه الزمان ولكن استدرك فارطه، وقد نظمناه في عقد سلكنا الشريف إلى أن صار به نعم الواسطه. وامتدت ألسن الأقلام إلى ثغور المحابر فقبلتها، وانشرحت صدور الأوراق وعلق فيها عنابر سطور فحملتها، وقالت لحمر أقلامه: أهلًا بالعربيات التي ليس لها إلا الأيدي الجهينية غرر، ومرحبًا بعد النوبة بقهوة الإنشاء

1 الطرس: ما يكتب عليه.

ص: 415

فإن شباب الزمان قد عاد وزهر المنثور قد زهر، وجاء الإمام الذي إن كتب تقليدًا قالت البلغاء هذا الإمام الذي يجب تقليده، وهذا هو الخليفة على السر الشريف وأمينه ومأمونه ورشيده. إن تحمس في إنشائه قال الجبان لا أقعد الجبن عن الهيجا، أو استطرد إلى وصف روض ممرج زاد هرجًا ومرجا، أو ترسل غراميًا فما حديقة زهير عند زهر منثوره، أو كتب عنا تهديدًا سال جامد الصخر، ولو سمعت الجوزاء حديثه لسقطت مع الحصى عند خريره فإنه المنشئ الذي ما اعتقل رمح فمه بيمينه وهزه هزه، إلا قال كل منشئ دخلت أصبع قلمي. من دواتي تحت رزه1. ولا حرك من دوح أقلامه فرعًا إلا تساقط بين الأوراق ثمرات شهيه، فلو أدركها الصاحب لقدمها وأخر الفواكه البدرية، ولو ناسبه الفتح لقابله المؤمنون بالقتال، وكان والده قد اعترف بكماله وهذا هو التقليد لثبوت ذلك الاعتراف أسجال2، فإنه الأمين الذي إن تصرف في مزررتنا3، الشريفة، فقد ثبت أن توثيق العرا4 لبيته العالي، أو أملى في ديواننا الشريف كانت أماليه أمالي المحب لا أمالي القالي5 ولولا خشية الإطالة، لأوردت هذا التقليد الشريف بكماله؛ لأنه في صناعة الإنشاء لنسيج وحده.

ومنه ما أنشأته عن ملانا السلطان الملك المؤيد، سقى الله ثراه من غيث الرحمة جوابًا عن مكاتبة الملك الناصر صاحب اليمن، وهو: لا زال جناس مجده سعيد الحركة بين اليمن واليمن، وسيفه اليماني لم يرض بمجانسة سيف بن ذي يزن، والأمة بأحمدها تهنأ بجنات عدنٍ6 في عدن، ولا برحت صنائعه بصنعاء محبرة حتى في سطور الطروس، وأقلام الثناء سود اللمم بمدحه ولو تركت لاعتراها شيب الرءوس، وتحياته المكرمة مخصوصة منا بشرف التسليم، وبدور مودته سافرة في ليالي سطورها بين بديعي التكميل والتتميم، أصدرناها وشاهد المودّة قد وضع رسم شهادته وكتب، وأثبت مقدمات الإخلاص فحكم له قاضي المحبة بالموجب، وأودعناها من السلام ما تعمه رحمة الله وبركاته، ومن طيب الثناء ما يتأرج بين إدراك ذلك المندل7 الرطب نفحاته، ومن خالص المودة ما يضم به بعد حسن المخلص من طيب أعرافه حسن الختام، ومن سجعات

1 رزه: ورقه الصقيل.

2 أسجال: إثباتات.

3 المزررة: مكان الأزرار.

4 العرا: جمع عروة وهو فتحة الزر.

5 القالي: أبو علي صاحب الأمالي المشهورة، والقالي: الهاجر الكاره.

6 عدْنٍ: خلد ونعيم. وعَدَن بالمكان أقام فيه.

7 المندل: بفتح الميم: عود طيب الرائحة.

ص: 416

الأشواق كل مصونة ليس لها غير سواد النقس لثام. وتبدى لعلمه ورود المثال العالي بطيب تلك المعادن التي ود النسيم أن يقيدها ويحتبس، ولقد رافقها الاكتساب اللطيف ولكن سرق من طيب عرفها وتكلم بنفس، فأكرم به مثالًا أرانا خفر الملك على كل قرينة لها من حجب البلاغة ستور، وخدامها من سود سطورها وبيض طروسها عنبر وكافور، ورد صحف الصفاء صقيلة فتمثل فيها، وأظهر من أوراقه ثمرات المودة ونحن بيد القبول نجنيها، وقدم من ذلك الحرم الأحمدي فكان أكرم وافد قوبل منا بالإكرام، وفتح أبواب الدخول إلى السلام فسلمنا وقلنا لخواصنا ادخلوها بسلام. ولقد ثملنا بكأس إنشائه وهو بحضرتنا الشريفة دائر، وعلمنا أن هذا الإنشاء لا يصدر إلا من فاضل والفاضل لا ينسب إلا إلى الناصر، وتغزلنا في محاسنه بحيرة اليمن بعد تغزلنا بحيرة العلم، وراعنا تحمس بلاغته فقلنا هذا لا يصدر إلا من رب سيف وقلم، وود كل دوح أن يملأ طروس أوراقه بريحان سطوره، وتطفل كل روض أريض1 عند وروده على زهر منثوره، وقالت فصاحته وتلك البلاغة التي جاءت بسحر البيان، هل يفتى لنا بصدق المحبة فقال لهما القلب: قضي الأمر الذي فيه تستفتيان، فهذا نفس طيب عرفنا معدن طيبه فلم نقل من أين، وهذه سلافة إنشاء دارت سلطانياتها فأنشأت أهل الخافقين2، وهذا سحر صدقت عزائمه في العطف والقبول بين الملكين، وأبطل هذا السحر الحلال ما حرم ببابل من سحر الملكين3، واشتمل على نظم ونثر رأينا شعار السلطنة عليهما عيانا4، كأن البلاغة قالت لهما قديمًا سنجعل لكما سلطانا5، فيا له من مثال تدرع زرد ميماته فقلنا لا طعن فيك لطاعن، وتشرع طباق بديعه فكانت على أكناف النيل من أثره مساكن، وأطرب بأنفاس علمنا أنها من يراع ما برح بالسعادة موصولًا، وطاف في حضرتنا الشريفة بكاس يمانية كان مزاجها زنجبيلا6. ولقد أكثر هذا المقال في كتابه المبين من إيناس الخطاب، وقضت به الوحشة أجلها فقلنا لكل أجل كتاب.

وهذا الجواب أيضًا، لولا خشية الإطالة لاستوعبته بكماله، فإن اليمن ما دخل إليها من الديار المصرية نظيره، والله أعلم.

1 الأريض: والأروض: الروض الذي كسى الأرض بالنبات.

2 الخافقين: المشرق والمغرب.

3 الملكين: هما هاروت وماروت اللذان ورد ذكرهما في قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ....... يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} البقرة: 2/ 102.

4 العيان: الظاهر للعين، الواضح.

5 السلطان: السلطة والقوة.

6 الزنجبيل: نوع من الشراب كالخمرة أو هو الخمرة ذاتها.

ص: 417

ومنه ما أنشأته عن مولانا السلطان الملك المؤيد -سقى الله ثراه- جوابًا عن مكاتبة وردت من صاحب تونس، وهو المتوكل على الله أبو فارس عبد العزيز رحمه الله وهو: لا زالت سيوف عزائمه في الجهاد ماضية الضرب، ولا برح جوده وإقدامه متطابقين في السلم والحرب، تخصه بسلام هو لنا والشوق برد وسلام، وسقاية وداد ماء زمزم تسنيم قبولها إلا تعالى ذلك المقام، وتحيات تنطق بها عن مواظبة الخمس1 ألسنة الأقلام، وثناء يقلد بخالص عقوده جيد الزمان، وينسى قلائد العقيان، ومحبة يقمر صدقها في ذلك الأفق الغربي ويشمس، وتزيل وحشة من سلا عن غيرها في المغرب وتونس

واستطردت مفاوضتكم إلى الوصية بحاج المغرب فبادرنا إلى قبول ذلك، فإن هذا قد يتبرك من النجب السائرة به بالمبارك، وقد أعدناه مصحوبًا بالسلامة وحداته2 تطرب بنغمتها الحجازية، وتهيم اشتياقًا عند تشبيبها بذكرالطلعة المتوكلية، وأعدنا جواب ذلك على يد رسولكم الذي لم يقابل منا بغير القبول، ليكون خالص ودنا متمسكًا بالكتاب والرسول.

ومنه ما كتبته جوابًا عن مكاتبة وردت من الجناب العالي، الناصري محمد بن أبي يزيد بن عثمان، وهو: لا زالت تحياته مخصوصة منا بشرف التسليم، وسيره العثماني محفوظًا في بيعة المودة بالتقديم، وشعراء الإخلاص في كل بيت من معاني محبته تهيم، وفروض الجهاد بسيوفه المسنونة في كل وقت تقام، وبلاده الإسلامية محروسة بالجناب المحمدي عليه السلام، وهمزات عوامله بصدور الكفار موصوله، وألسن سيوفه بثغور بلادهم من رشف أرياق دمائهم مبلولة، ولا برح يجاهد في سبيل الله برًّا ويتخذ في البحر سبيله، فإنه من الذي علا بمحمد مقامه، وانسجم بالخلف العثماني نظامه، واقتدى بمشيختنا المؤيدية والنجح في هذا الاقتداء له شريك، وساعدته تورية السعادة لما تمسك بقول من قال: ولا بد من شيخ يريك، ولم يبق بعد الاقتداء بهذه المشيخة إلا الفتوحات المقبوله، والمشاركة في القبول على ما يرضي الله ورسوله، صدرت هذه المفاوضة إلى الجناب المحمدي تأرّج بطيب السلام عليه، وتنسم نسيمات القبول من أخبارها الطيبة ما تنقله إليه، وحملناها ثناء أطلقنا عنان كميت القلم وهو غرة في جبهته، وتوجهت رءوس الأقلام قبل ركوعها إلى قبلته، "ومن الإنشاء الملوكي ما أطلق به فصيح القلم لسانه وخضر الشباب على عوارض نفسه ومحاسن سجعاته، وقال الفاضل الناصر هذا الإنشاء الذي ما خرس لسانه قلمه ولا شابت لمة دواته" وتبدى لعلمه الكريم ورود ما أهداه من

1 الخمس: يعني الصلوات الخمس: الصبح والظهرين والمساءين.

2 الحداة: جمع حادي، وهو الذي يسوق الإبل بالحداء وهو نوع من الغناء.

ص: 418

ثمرات المودة يانعًا في أوراقه، مختالًا في شعار الإخلاص فعلمنا أنه عنوان لعهده وميثاقه، وقد أتحف من نبات الإيناس ما غرس بأكناف النيل فحلا نباته، ودنت قطوف أنسه وظهر في فروع المحبة ثمراته، فاقتطفنا زهر المنثور من رياضه عند الورود1، وتغزلنا في رقم سطوره على بياض طروسه بين العوارض2 والخدود. وطالعنا مجموع محاسنه الذي لم ينس فعلمنا أنه للملوك تذكرة، وتبصرنا فيما أدهش من حكمه فرأينا المدهش في التبصرة، وقلنا هذه لمعة لو أدركها السراج لقصر لسانه وقال: سراج الملوك حرمته قوية، أو القاضي السعيد لقال: ما لسناء الملك بهجة عند هذه الأنوار المحمدية

وقد تيقظت عيون عزمنا الشريف للجهاد وعن قريب تهدر مقل السيوف أجفانها، وتتجرد لقتال المشركين وقد تكنى لها النصر بأبيه فأيد سلطانها، وإذا قدحت سيوف الدولتين في عباب البحر على الكفار نارًا، تلا لسان النصر:{لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} 3. "ومن إنشاء الفاضل عن الناصر هنا ما يحسن أن يشنف به سمعه الكريم، فإنه عن أبي الفتوحات الذي مشى على هذا الصراط المستقيم" وهو: إذا كان الله قد أعطانا البلاد وهي آلة المقيم الراتب4. وأعطاهم المراكب وهي آلة الظاعن5 الهارب، فقد علمنا لمن عقبى الدار، ومن ينقله الله تعالى انتقال قوم نوح من الماء إلى النار. فالجناب يوطن نفسه على حسن المآل في الحالين، ويعلم أنه من المكرمين في الدارين6، وقد تلمظت7 ألسن سيوفنا شوقًا لحلاوة نصره، وتحركت عيدان رماحنا طربًا عند سماع ذكره، ونفضت جوارح سهامنا ريش أجنتها لاقتناص تلك الغربان، وهامت فرساننا المؤيدية إلى منازل الأحباب لتريه من أعدائه مقاتل الفرسان، فإنه المجاهد الذي حظ بني الأصفر في البحر الأزرق من بيض سيوفه أسود، وكم أذاقهم الموت الأحمر، وكمال التدبيج يقول أهلًا بعيش أخضر يتجدد، وتتولد نصرتنا عنده برفع راية الفرح في كل وقت عليه مبارك، ويتأيد بعز نصرنا المؤيدي حتى يقول له لسان الحال: أعز الله أنصارك، فتقديمه العثماني من جهة الاستحقاق قد ثبت عندنا وتقرر، وهو اليوم إمام المجاهدين الذي ما صلت سيوفه في محراب القتال إلا قال مرقي النصر الله أكبر. والله

1 الورود: المجيء.

2 العوارض: جمع عارض وهو صفحة الخد.

3 نوح: 71/ 26.

4 الراتب: الدائم الثابت، وعند المحدثين: ما يأخذه الموظف من أجر شهري لقاء عمله.

5 الظاعن: الراحل.

6 الدارين: الدنيا والآخرة.

تلمظ: السيف: خرج واهتز.

ص: 419

يجريه على أجمل العوائد من هذا النصر، ليصير الكافرون في زلزلة من قارعة سيوفه بهذا العصر.

ومنه ما كتبته جوابًا عن مولانا السلطان الملك المؤيد -سقى الله عهده- عن مثال كريم ورد من قرى يوسف صاحب العراقين، وهو: أعز الله أنصار المقر الكريم العالي الجمالي اليوسفي، لا زالت زوراء العراق في أيامه القويمة مستقيمة الجانبين، وحلتها الفيحاء عالية المنار وشمل الدين بها مجتمعًا في الجامعين، وعراق العرب والعجم بارزين من محاسنه اليوسفية في حلتين، فلامية العرب تقول:

ولولا اجتناب الذم لم يلف مشرب

يعاش به إلا لديّ ومأكل

ولامية العجم تقول:

حلو الفكاهة مر الجد قد مزجت

بشدة البأس منه رقة الغزل

فأكرم بهما لامين دارا على وجنات الطروس لكمال المحاسن اليوسفية، وفتحت لها الميمات أفواه الشكر؛ لأنها من الأحرف المؤيدية، أصدرناها إلى المقر وسواجعها تغرد بالثناء بين أوراقها، وألسن الأقلام قد أودعت صدور طروسها سر أشواقنا عند انطلاقها، فإنها الصدور التي تعرب من نفثاتها عن ضمائر الأشواق، وإذا أطلقت من فض الختم خففت أجنحتها بذلك الثناء على الإطلاق، ونبدي لكريم علمه ورود البشير بالقرب اليوسفي، وقد حل بالأسماع قبل رؤيته تشنف، وهبت نسمات قبوله فأطفأت ما في القلوب من التلهف، وضاع نشرها1 اليوسفي، فقال شوقنا اليعقوبي: إني لأجد ريح يوسف، وتأملنا كريم مثاله فوجدناه قد مد أطناب المحبة وخيم على معاني المودة، وحام عليه صادي الأشواق فوجده منها قد أعذب الله في مناهل الصفاء ورده، وأومض البرق في الظلمات من رقم سطوره فما شككنا أنه نظم برده، فهو مثال يوسفي ولكن ظهر السر الداودي من فصل خطابه، وصدقنا رسوله لما جاءنا بكريم كتابه، والتفتت من كناس سطوره آرام الإيناس فاقتنصنا منها ما هو عن العين شارد، وألفت القلوب على الولاء فضربت الأعداء من جماد الجسد في حديد بارد، وأمست الدجلة والنيل لامتزاجهما بسلاف المحبة كالماء الراكد، وهذه ألفة خولتنا في نعم الله وزمام الأخوة منقاد إلينا، وقد تعين على المقر أن يقول: أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا، وسرتنا الإشارة الكريمة بالتمكين من أرض الأعداء ومطابقة الطول بالعرض، وعلمنا أن هذا الاسم الكريم قد

1 ضاع نشرها: انتشر ريحها الطيب.

ص: 420

شملته العناية قديمًا بقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ} 1 وأما قرا عثمان فمقل سيوفنا ما غمضت عنه في أجفانها، وأنامل أسنتنا، ما ذكرت نوبته إلا شرعت في جس عيدانها، وجوارح سهامنا ما برحت تنفض ريش أجنحتها للطيران إليه، وإن كان معنى سافلًا فلا بد لأجل الغرض اليوسفي أن نخيم عليه، وننزل سلطان قهرنا بأرضه، ونغرس فيها عوامل المران2، وإن كانت من الأسماء التي ما أنزل الله بها من سلطان، ولم يهمل إلا لاشتغال الدولتين بالدخول في تطهير الأرض من الخوارج، وإيقاع الضرب الداخل بعد جس العيدان في كل خارج، وقد آن سله لئلا يكون بين المحب والمحبوب رقيبًا، ولا بد أن يجانسه العكس ويرى ذلك قريبًا، ويدهمه من أبي النصر أبناء حرب شرف في أنساب الوقائع جدهم، ورد الجموع الصحيحة إلى التكسير فردهم، وإذا كثرت الخدود وتوردت بالدماء غردت بورق الحديد الأخضر مردهم3، وإذا امتدوا إلى أمد تلالهم حصنهم سورة الفتح قبل القتال، فإنهم مريدون ولهم شيخ منحه الله بكثرة الفتوح والإقبال، وإذا صرفوا الهمم المؤيدية لم تكن لهم حصونهم عند ذلك الصرف مانعة، ولم يسمع لساكنها مجادلة إذا صدموا بالحديد وتلت تلك الحصون الواقعة4، وإن كانت المنايا غابت عنه مدة، كلمته ألسنة سيوفهم وقالت حصرت، وإذا طرق بروجه منهم طارق رأى سماء تلك البروج قد انفطرت، وما خفي عن كريم علمه ما جمعه الناصر من الجموع التي مزقها الله أيدى سبأ، وكم سائل سأل وقد رآهم في النازعات عن ذلك النبأ.

وقد أشار بعض شعراء دولتنا الشريفة إلى ذلك بقصيدة كامل بحرها مديد، ولكن القصد هنا من أبيات تلك القصيدة:

يا حامي الحرمين والأقصى ومن

لولاه لم يسمر بمكة سامر

والله إن الله نحوك ناظر

هذا وما في العالمين مناظر

فرج على اللجون نظم عسكرا

وأطاعه في النظم بحر وافر5

فانبت منه زحافه في وقعة

يا من بأحوال الوقائع شاعر6

وجميع هاتيك البغاة بأسرهم

دارت عليهم من سطاك دوائر

وعى ظهور الخيل ماتوا خيفة

فكأن هاتيك السروج مقابر

1 يوسف: 12/ 21.

2 المران: جمع مرانة وهي الرمح اللدن في صلابة.

3 المرد: جمع أمرد وهو الشاب لم تنبت لحيته بعد.

4 الواقعة: القتال، المجادلة، الحديد، الطارق، النازعات، النبأ: أسماء لسور من القرآن الكريم.

5 اللجون: البطيء الثقيل المشي، أو الورق اللزج: الملجون. وقد وردت في ما سبق "الملجون".

6 انبت: انقطع. الزحاف: من علل الشعر، وهو تغيير يلحق ثاني السبب من التفعيلة.

ص: 421

وما خفي عن علمه الكريم أمر الذين نقضوا بيعتنا بعد الناصر فاشتروا الضلالة بالهدى، ودعوا سيوفهم الصقيلة لما حاق1 بهم المكر السيئ فأجابهم الصدا، ولم يكن لحرارة عزمنا الشريف عند عصيانهم البارد فترة2، حتى أظهرنا تلون الشام من دمائهم على تدبيج الدروع ألوان النصرة، وأخذوا سريعًا شبان حرب ما شابت عوارضهم إلا بغبار الوقائع، وحكم برشدهم ولم يخرجوا من تحت حجر المقامع3، وقد أسبع الله ظلال الملك وخيم به على الدولتين، ولم يظهرلمحراب بهجة إلا بهاتين القبيلتين، ولو صلت السيوف لغيرهما ما قبلت، أو صرفت العوامل4 للإعراب عن سواهما ما عملت، وقد فهمنا كريم الالتفات إلى أن تدار كئوس الإنشاء بيننا ممزوجة بصافي المودة، وعلمنا أنها أحكام صحيحة في شرع الأخوة. وهذه الأحكام عندنا عمدة، وتالله لقد سابق القصد اليوسفي بسهام مراده إلى الغرض، وقضى حاجة في نفس يعقوب لي عنها عوض، ولم يبق إلا اتصال شمل الأوصال بكل رسالة سطور الأخوة في رقاعها محققة، وتصديق ما يقصه في الجواب فإن القصة اليوسفية ما برحت مصدقة، والله تعالى يمتع الأسماع والأبصار بمشاهدة مثلته وطيب أخباره، ويفكهنا من بين أوراقها بشهي ثماره.

ومما أنشأته بالديار المصرية، وحصل إجماع الأمة على أنه من الأفراد، تقليد مولانا قاضي القضاة جلال الدين شيخ الإسلام البلقيني -نور الله ضريحه- بعد عزل الهروي، ويوم قراءته بالجامع المؤيدي أرخه المؤرخون، وذكروا أنه لم يتفق بملك مصر يوم نظيره، وهو: الحمد لله الذي أبان فضل العرب على العجم في الكتاب والسنة، وأظهر جلال سراجهم المنير فأوضح بحسن تدريبه طريق الجنة، وأزال ظلم الجهل بنور هذا الجلال فله الحمد على هذه المنة، ونكرر حمده على نصرة أصحاب الشافعي وعود جيرته إلى منازلها العالية، ونشكره على نيل الغرض بسهام ابن إدريس فمن جهل أحكام القضاء أمست عليه قاضية، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نستعين بحسن أدائها على القضاء والقدر، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي من قابل شريعته المطهرة بدنس الجهل فقد كفر، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين أزالوا بفصاحتهم

1 حاق: أحاط وطوّق.

2 فترة: وهن وضعف.

3 المقامع: جمع مِقمعة وهي خشبة أو حديدة في طرفها سلك معدني أو خيط يضرب بها الحيوان والإنسان ليُقْمَع ويذل.

4 العوامل: مصطلح نحوي يعني الكلام الذي يسبب رفعًا أو نصبًا أو جرًّا في غيره من الكلام، كالفعل مثلًا يعمل الرفع في الفاعل والنصب في المفعول به، والمبتدأ يعمل الرفع في الخبر، بينما الإبتداء يعمل الرفع في المبتدأ

إلخ.

ص: 422

العربية كل عجمة، وتميزوا على العجم بقوله تعالى:{إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} وهذا التمييز نصبه مرفوع على كل أمة، صلاة نسن بها سيوف السنة على من تسربل بدروع ضلاله، ونقيم حدودها على من بدل حديث النبي صلى الله عليه وسلم وجهل أسماء رجاله، وسلم تسليمًا كثيرًا. أما بعد، فالهناء بنصرة هذا الدين القيم بين هذه الأمة مشترك، وكيف لا وقد ظهر جلاله مقمرًا وأنشدوا:

يا ليل طل أو لا تطل

فليس نرعى قمرك

وقد حلا مكرر الحمد بنشر الأعلام المؤيدية على أئمتنا الأعلام2، وحلت أيضًا مواقع التورية بنصرة شيخ الإسلام، فهو الليث الذي كان لظما العلماء إلى إمامهم نعم الغوث والغيث، حتى تأيدوا بمؤيدهم وأعز الله أنصارهم بالشافعي والليث، حجبناه عن غيوم العزل، وقلنا وقد ساعدنا رأينا الشريف في إظهاره:

أصالة الرأي صانتني عن الخطل

وحلية الفضل زانتني لدى العطل3

وولى غيره فأنشد كل عالم أظلم ضوء نهاره:

ما كنت أوثر أن يمتد بي زمني

حتى أرى دولة الأنذال والسفل

واعتلت كتب العلم فقالت وعيون سطورها باكية:

لعل إلمامة بالجذع ثانية

يدب منها نسيم البرء في عللي

وأنشد لسان حال شيخ الإسلام وقطوف قربه دانية:

تقدمتني رجال كان شوطهم

وراء خطوي لو أمشي على مهل

وأشار إلينا وقال وخواطرنا الشريفة بإشارته راضية:

لعله إن بدا فضلي ونقصهم

لعينه نام عنهم أو تنبّه لي

فتنبهنا له وقلنا لضده وقد أهبطناه من تلك الرتبة العالية:

فإن جنحت إليه فاتخذ نفقًا

في الأرض أو سلمًا في الجو فاعتزل

وكيف يطلب من نار خامدة هدى، أو يجعل السراب ماء، وإذا دعونا الري جاوبنا الصدى، ويأبى الله أن يطابق سحبان بباقل، أو يجاري فارس العلم براجل:

ومن يقل للمسك أين الشذى

كذبه في الحال من شما

1 الزخرف: 43/ 3.

2 الأعلام: الفطاحل الهداة.

3 العطل: عدم التزين. والخطل: خطأ الرأي.

ص: 423

وتالله لقد زادنا بحجبه في غيوم العزل علمًا بعلو مقداره، وكان عزلًا أظلمت بسببه الدنيا إلى أن من الله على المسلمين بإبداره، وقالت الأمة ذلك ما كنا نبغي، واستوفى كل عالم شروط المحبة واستوعب، وعلمنا أن الحكم العدل حكم بتقديم هذا الإمام بالموجب، أنلنا وظيفته غيره فزلزلت الأرض زلزالها، وقلنا يخف على قلبنا فأخرجت الأرض أثقالها، وأظهرنا جلال العرب فأطلقوا أعنة بلاغتهم في ميادين الفصاحة، وما أحقهم هنا بقول الفاضل: وتناجدت أهل نجد فكل صاح يا صباحه، وعلمنا أن هذا فضل رفل به أبناء العرب في حلل التقديم، وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، وامتلأ صحن جامع القلعة بحلاوة هذه البشرى، وهلل مؤذنوه وذكروا طلعته الجلالية فكبروا وأنشدوا:

لو أن مشتاقًا تكلف فوق ما

في وسعه لسعى إليك المنبر

وأزهرت هذه البشرى في ربيع ولكنه ربيع الأبرار الذي نزه الله روحه وريحانه عن كل نمام، وصان فيه المسلمين ممن يأكل أموال الناس بالباطل ويدلي بها إلى الحكام. ونشر الله أعلام كتب العلم وزاد الله بالسيف المؤيدي إسعافها. وكانت ستور الجهل قد أسبلت على التفاسير فأظهر السر للآي كشافها، أما القراءات فهي في قرى1 شيخ الإسلام وفضله فيها عاصم من الجهل ونافع2 وأما الحديث فهو مجلي مبهماته بنور جلاله الساطع. وأما العربية فقد ظهر بعد وعر العجم تسهيلها، وشرعت بيوت العرب لشواهدها وأكرم نزيلها. وأما المعاني فقد أظهر الله بيانها وجليت بها عروس الأفراح واهتدينا بنور جلالها ففتحت لنا أبوابها بغير مفتاح. وأما المنطق فمقدمات منطقه العذب أرتنا نتائجه يقينًا، وأما العقليات فما رأينا لمن ناظره فيها في هذه المدة عقلًا ولولا الحياء لقلنا ولا دينا، وها هو قد نبه الفقه من سنة الغفلة بعدما أمرض الجهل عيونه وأرمد، والحاوي أظهر ما حواه من العلم بعدما كان هلك أسى وتجلد، والروضة أزهرت في حدائق هذه المسرة بين أوراقها فأينعت، ومدة الشافعية أصول دوحتها فتفرعت، وظهرت رفعة الرافعي في أفق كماله، ونور الله ضريح الشافعي بنور سراجه وبهجة جلاله.

"ولما كان" الجناب الكريم الجلالي هو الذي ناظرناه بغيره فقال نور الشريعة وهو أشهر من نار على علم:

1 قِرى: طعام الضيف أو قراءة.

2 عاصم ونافع: من المقرئين الأفذاذ.

ص: 424

وما انتفاع أخي الدنيا بناظره

إذا استوت عنده الأنوار والظلم

فعلمنا أنه حجة للشافعي الذي منه الاستقاء وإليه منتهى السؤال، وما أبدر في أفق درس لا أزال ظلم الشك بأنواره وأسفر أبداره عن التتمة والإكمال، وهو أبو العلماء الذي ولد من الأم أفراحهم، وأبو المهمات الذي شهر من العدة الكاملة في ميدان الفرسان سلاحهم، وإليه انتهت الغاية فإنه ما برح يأتينا في وجيز تقريبه بالعجاب، ويغنينا عن موضح القشيري فإنه يغذينا في إبانته باللباب.

اقتضت آراؤنا الشريفة أن نعيده إلى منال شرفه بعد التحجب وها هو قد ظهر، ويتسلسل في أيامنا الشريفة عند الرواة حديث ابن عمر، فلذلك رسم بالأمر الشريف العالي المولوي السلطاني الملكي المؤيدي السيفي، لا زالت الشافعية في أيامه الشريفة بجلالهم في ترشيح بهجة وابتهاج، وثبت الله القواعد وأقامها في ملكه عي التحرير ومشى الرعية فيها على أوضح منهاج، أن تفوض إلى الجناب المشار إليه وظيفة كذا وكذا. وقد وقع التمويه في الفروق بينه وبين غيره عند أهل التبصرة والهداية وهو نهاية المطلب، وعيون المسائل وتاج رءوسها والمذهب الذي تهذيبه في أدب القاضي كفاية، وهو البحر الذي ما دخلنا بسيطه المبسوط، إلا قالت التورية إنه في البسيط كامل، ولا نظرنا إلى حليته الجلالية إلا غنينا عن المصباح بنوره الشامل، وقد ميزناه على مناظريه لما أقروا له بالتعجيز، وقرت عيون ابن البارزي -نور الله ضريحه- بهذا التمييز، وألغينا ذكر علوم يجل قدره عن نسبتها إليه، ولكن ثغور سيناتها تبسم عند ذكره وأفواه ميماتها تكثر الثناء عليه، فليتلق ذلك فإنه العزيز عندنا والمنتقى لهذا التشريف الذي هو ديباجة رقمه، وإذا ذكرنا الأصول فأصوله محفوظة، وهو المعتمد عليه في التمهيد والمستصفى ببديع عمله، ولو عاشن ابن الحاجب ما تغزل في رفع حاجبه وخفض له جانبه، وعلم أن جلالنا عين الإسلام فلم نرفع على العين حاجبه، والوصايا كثيرة ولكن جواهر ذخائرنا تلتقط من إملائه وأماليه، وهو جامع مختصراتها ومظهر زوائدها ببيانه ومعانيه، لا زال حديث فضله يتسلسل مع الرواة ويسند، ولا برح أجل من أوضح الرسالة في مسند محمد وأحمد.

"ورسم" لي في الأيام الشريفة المؤيدية، سنة تسع عشرة وثمانمائة، أن أنشئ رسالة بوفاء النيل المبارك لم أسبق إليها، ولا حام طائر فكر عليها، وأحضر مولانا المقر الأشرف القاضوي الناصر محمد بن البارزي الجهني الشافعي، صاحب دواوين الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية -تغمده الله بالرحمة والرضوان- قطعة من إنشاء القاضي الفاضل بوفاء النيل وقرئت على المسامع الشريفة المؤيدية، وحذرت من التعرض إلى شيء من ألفاظها ومعانيها فأنشأت رسالة حكم لأبي بكر بها على كل فاضل بالتقديم، وإن

ص: 425

كان لسان القلم قد طال فأنا أقطه1 ههنا تأدبًا مع عبد الرحيم، وقد وصلنا ههنا شمل القطعتين، ليتفكه المتأمل في جنى الجنتين، ويتنزه نظره في حدائق الروضتين، ويطرب لسجع حمام الدوحتين.

"قال القاضي الفاضل": نعم الله سبحانه وتعالى من أصوبها بزوغًا، وأضفاها سبوغًا، وأصفاها ينبوعًا، وأسناها منفوعًا، وأمدها بحر مواهب، وأضمنها حسن عواقب، النعمة بالنيل المصري الذي يبسط الآمال ويقبضها مده وجزره، ويربي النبات حجره، ويجري على سواد الأرض بفضته البيضا، ويهنأ بيده الخصيبة نقب الجرب من الحربي، ويحيي مطلعه أنواع الحيوان، ويجني ثمرات الأرض صنوان وغير صنوان، وينشر مطوي حريرها وينشر مواتها، ويوضح معنى قوله تعالى:{وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} ، وكان وفاء النيل المبارك في تاريخ كذا وكذا، فأسفر وجه الأرض وإن كان قد تنقب، وأمن يوم بشراه من كان خائفًا يترقب فرأينا الإبانة عن لطائف الله سبحانه وتعالى وقد حققت الظنون، ووفت بالرزق المضمون، إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون، وقد أعلمناك لتوفي حقه من الإذاعة، وتبعده من الإضاعة، وتتصرف فيه على ما يصرفك من الطاعة، وتشهر ما أورده البشير من البشرى بإبانته، وتمده بإيصال رسمه إليه على عادته.

"فقلت بعد الفاضل": ونبدي لعلمه ظهور آية النيل المبارك الذي عاملنا الله فيه بالحسنى وزيادة، وأجراه لنا في طرق الوفاء على أجمل عادة، وحلق أصابعه ليزيل الإبهام فأعلن المسلمون بالشهادة، كسر بمسرى فأصبح كل قلب بهذا الكسر مجبورًا، وأتبعناه بنوروز2 ما برح هذا الاسم بالسعد المؤيدي مسكوًّا، دق قفا السودان فالراية البيضاء من كل قلع3 عليه، وقبل ثغور الإسلام وأرشفها ريقه الحلو فمالت بأعطاف غصونها إليه وشبب خريره في الصعيد بالقصب، ومد سبائكه الذهبية إلى جزيرة الذهب، فضرب الناصرية واتصل بأم دينار، وقلنا إنه صبغ بقوة لما جاء وعليه الاحمرار، وأطال الله عمر زيادته فتردد الناس على الآثار، وعمته البركة فأجرى سواقي مكة إلى أن غدت جنة تجري من تحتها الأنهار، وحصن مشتهى الروضة في صدره وحنى عليه حنوّ المرضعات على الفطيم.

وأرشفه على ظمأ زلالا

ألذ من المدامة للنديم4

1 قطّ: قصّ وقصّرَ.

2 النوروز: والنيروز: عيد الربيع عند الفرس وهو رأس السنة الفارسية.

3 القِلْع: الصدرية والرجل الذي لا يثبت على ظهر الخيل. وبفتح القاف وكسر العين: الذي لا يثبت في البطش ولا على السرج، والرجل البليد.

4 الزلال: الماء الصافي. وأرشف: سقى.

ص: 426

وراق مديد بحره لما انتظمت عليه تلك الأبيات، وسقى الأرض سلافته الخمرية فخدمته بحلو النبات وأدخله إلى جنات النخيل والأعناب فالق النوى والحب، فأرضع جنين النبت وأحيا لها أمهات العصف والأب1، وصافحته كفوف الموز فختمها بخواتيمه العقيقية، ولبس الورد تشريفه وقال أرجو أن تكون شوكتي في أيامه قوية، ونسي الزهري بحلاوة لقائه مرارة النوى، وهامت به الشقراء فأرخت ضفائر فروعها عليه من شدة الهوا، واستوفت الأشجار ما كان لها في ذمة الري من الديون، ومازج الحوامض بحلاوته فهام الناس بالسكّر والليمون، وانجذب إليه الكباد2 وامتد ولكن قوي قوسه لما حظي منه بنصيب سهم لا يرد، ولبس شربوش الأترج3 وترفع إلى أن لبس بعده التاج، وفتح منشور الأرض لعلامته بسعة الرزق وقد نفذ أمره وراج. فتناول معالم الشنبر4 وعلم بأقلامها ورسم لمحبوس كل سد بالإفراج، وسرح بطائق السفن فخفقت بمخلق بشائره، وأشار بأصابعه إلى قتل المحل فبادر الخصب إلى امتثال أوامره، وحظي بالمعشوق وبلغ من كل أمنية مناه، فلا سكن على البحر إلا تحرك ساكنه للمطالعة بعدما تفقه وأتقن باب المياه، ومد شفاه أمواجه إلى تقبيل فم الحور، وزاد بسرعته فاستحلى المصريون زائده على الفور. ونزل بركة الحبش فدخل التكرور5 تحت طاعته، وحمل على الجهات البحرية فكسر المنصورة وعلا على الطويلة بشهامته، وأظهر في مسجد الخضر عين الحياة فأقر الله عينه، وصار أهل دمياط في برزخ بين المالح وبينه، وطلب المالح رده بالصدر وطعن في حلاوة شمائله، فما شعر إلا وقد ركب عليه ونزل في ساحله، وأمست واوات دوائره على وجنات الأرض عاطفة، وثقلت أردافه على خصور الجواري فاضطربت كالخائفة، ومال إليه باسق النخل فلثم طلعه وقبل سوالفه، وأمست سود السفن كالحسنات في حمرة وجناته، وكلما زاد زاد الله في حسناته، فلا فقير سد إلا وحصل له من فيض نعمائه الفتوح، ولا ميت خليج إلا عاش به ودبت فيه الروح.

ولكنه احمرت عيونه على الناس بزيادة وترفع، فقال له المقياس عندي قبالة كل عين أصبع، فنشر النيل أعلام قلوعه وحمل وله من ذلك الخرير زمجره، ورام أن يهجم

1 الأب: ورد ذكره في قوله تعالى، في سورة عبس:{فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا،.... وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} 80/ 27-30. وهو "المرعى لأنه يؤب أي يؤم أو الفاكهة اليابسة تؤب أي تعد للشتاء" "تفسير الزمخشري، ص549".

2 الكبّاد: عامية معناها الأترج ويقال له أيضًا الترنج وهو ثمر شبيه بالليمون.

3 الشربوش: لغة في الطربوش، والأترج: الكبّاد.

4 الشنبر: لم نعثر على هذه اللفظة في ما بين أيدينا وربما كانت بمعنى "القصب"

5 التكرور: لقب حاكم الحبشة في ذلك الوقت.

ص: 427

على عير بلاده فبادر إليه عزمنا المؤيدي وكسره، وقد أثرنا المقر بهذه البشرى التي عم فضلها برًّا وبحرًا، وحدثناه عن البحر ولا حرج وشرحنا له حالًا وصدرًا، ليأخذ حظه من هذه البشرى البحرية بالزيادة الوافرة وينشق من طيها نشرًا، فقد حملت له من طيبات ذلك النسيم أنفاسًا عاطره، والله تعالى يوصل بشائرنا الشريفة لسمعه الكريم ليصير بها في كل وقت مشنفًا، ولا برح من نيلنا المبارك وإنعامنا الشريف على كلا الحالين في وفا.

ومما انفردت بإنشائه: رسالة السكين، فإن الشيخ جمال الدين بن نباته سبق إلى رسالة السيف والقلم، وتقدمه أبو طاهر إسماعيل بن عبد الرزاق الأصفهاني إلى رسالة القوس. وكتاب الإنشاء لا بد لهم من سكين فقلت: وينهى وصول السكين التي قطع المملوك بها أوصال الجفاء، وأضافها إلى الأدوية فحصل بها البرء والشفاء، وتالله ما غابت إلا وصلت الآلام من تعثرها إلى الجفاء زرقاء1، كم ظهر للبيض منها ألوان، خرساء ومن العجائب أنها لسان كل عنوان، ما شاهدها موسى إلا سجد في محراب النصاب، وذل بعد أن خضعت له الرءوس والرقاب. كم أيقظت طرف القلم بعدما خط، وعلى الحقيقة ما رؤي مثلها قط، وكم وجد بها الصاحب في المضائق نفعًا، وحكم بحسن صحبتها قطعًا، ماضية العزم قاطعة السن فيها حدة الشباب من وجهين؛ لأنها بالناب والنصاب معلمة الطرفين، وأنملة صبح تقمعت بسواد الدجى، فعوذتها بالضحى والليل إذا سجى، ولسان برق امتد في ظلمات الليل، فتنكرت الأشعة الأنجم وما عرف منها سهيل2، هذا وتقطيعها موزون إذ لم يتجاوز في عروض ضربها الحد، ومعلوم أن السيف والرمح لم يعرفا غير الجزر والمد.

من أجل ذا تدخل في مضائق ليس فيها قط مدخل، وكلما تفعله ترجزه والرمح في تعقيده مطول. إن هجعت بجفنها كانت أمضى من الطيف، وكم لها من خاصة جازت بها الحد على السيف. تنسى حلاوة العسال3 فلا يظهر لطوله طائل، ويغني عن آله الحرب بإيقاع ضربها الداخل. إن مرت بكلها المحلى تركت المعادن عاطلة، ولم يسمع للحديد في هذه الواقعة مجادلة. شهد الرمح بعدالته أنها أقرب منه إلى الصواب، وحكم لها بصحة ذلك قبل أن يستكمل النصاب. ما طال في رأس القلم شعرة إلا سرحتها بإحسان، ولا طالعت كتابًا إلا أزالت غلطه بالكشط من رأس اللسان.

1 رزقاء: نافعة.

2 سهيل: نجم يظهر في أواخر شهر تموز يقولون إن خروجه دليل على نضوج الفواكه وانقضاء القيظ، وفي المثل: إذا طلع سهيل رفع كيل، ووضع كيل يضرب في تبدل الأحكام.

3 العسّال: الرمح. وهو في الأصل الذي يستخرج العسل.

ص: 428

تعقد عليها الخناصر لأنها عِدَة، وتالله ما وقعت في قبضة إلا أطالت لسانها وتكلمت بحدّة. إن أدخلت إلى القراب كانت قد سبكت1 على الدخول، أو أبرزت من غيمه كان على طلعتها قبول. تطرف بأشعتها الباهرة عين الشمس، وبإقامتها الحد حافظت الأقلام على مواظبة الخمس2. وكم لها من عجائب صار بها جدول السيف في بحر غمده كالغريق، ولو سمع بها قبل ضربه ما حمل التطريق، فلو عارضها أبو طاهر لعراك من قوسه الأذنين، وقال له جحدت رسالتك يا ذا القرنين. فإن جذبت إلى مقاومتها وكان لك يد تمتد، وصلت السكين إلى العظم وصار عليك قطع وانتهى أمرك إلى هذا الحد. وهل تعاند السكين صورة ليس لها من تركيب النظم، إلا ما حملت ظهورها أو الحوايا أو ما اختلط بعظم. ولو لمحها الفاضل لحقق قوله إن خاطر سكينه كل، أو أدركها ابن نباتة ما أقر برسالة السيف وفل، وقال لقلم رسالته أطلق لسانك بشكر مواليك، وأخلص الطاعة لباريك، وما قصد المملوك الإيجاز في رسالة السكين ونظمها، إلا لتكون مختصرة كحجمها، لا زالت صدقات مهديها تنحف بما يذبح نحر فقري، وتأتي بما يشفي وإيهام التورية يقول ويبري.

قلت: الذي أوردته ههنا من إنشائي وإنشاء غيري، كان من الواجب؛ لأن الباب الذي تحتم عليّ شرحه وبيانه وإيضاحه، باب التسجيع، وهو عبارة عن علم الإنشاء، وقد تقدم تقرير السجع وأقسامه، وعلم أنها أربعة أقسام، وهي المطرّف والموازي والمشطر والمرصع، وذكرت فيه الفوائد التي منها أحكام الفواصل، وأوردت المباحث في الإنشاء الذي فيه نظر بالنسبة إلى الحالة التي هي المطلوب، وأوردت من بديع الإنشاء وغريبه، هذه النبذة التي هي من إنشائي وإنشاء غيري، ولولا خشية الإطالة لأوردت من ذلك ما يذبل عنده زهر المنثور، ويقرط3 في قلائد النحور، ومن أراد البحث عن صحة ذلك فعليه بمصنفي المسمى:"بقهوة الإنشاء"، فإنه خمسة مجلدات، منها مجلد أنشأته بالبلاد الشامية، قبل أن أستقر منشئ دواوين الإنشاء الشريف بالديار المصرية والممالك الإسلامية، وثلاثة مجلدات أنشأتها عن مولانا السطان الملك المؤيد -سقى الله ثراه- ومجلد أنشأته عن الملك المظفر والملك الظاهر والملك الصالح، وعن مولانا السلطان الملك الأشرف، وعن مولانا أمير المؤمنين المعتضد بالله -زاده الله شرفًا وتعظيمًا. انتهى.

1 سبكت: جبلت عليه وفُطِرت فهو خُلق منها.

2 الخمس: يعني الصلوات اليومية، والمواظبة عليها: المداومة.

3 يُقرَّط: يجعل أقراطًا. القلائد: جمع قلادة وهي الحلية تلبسها المرأة في عنقها. والنحر: موضع القلادة "العنق وما يليه من الصدر".

ص: 429

والفرق بين التسجيع والتجزئة، اختلاف زنة أجزائه ومجيئه على قافية واحدة، من غير عدد معين محصور. وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته على التسجيع قوله:

فعال منتظم الأحوال مقتحم

الأهوال ملتزم بالله معتصم

وبيت العميان:

من لي بمستلم لليد معتصم

بالعيش لا مسئم يومًا ولا سئم1

وبيت الشيخ عز الدين الموصلي قوله:

كم قاتل بصحيح الجمع مقتحم

وقائل لنظيم السجع ملتزم

قلت: الذي يظهر لي أن الشيخ عز الدين لم يمش في نظم بديعيته مشي محقق، لأنه تقرر عنده وعند الجماعة في شروحهم: أن التسجيع هو أن يأتي المتكلم في أجزاء بيته أو كلامه أو في بعضها، بأسجاع غير متزنه، والشيخ أتى في شطر بيته الأول بأسجاع قابل كلًّا منها في الشطر الثاني بوزنه، مثل: قاتل وقائل، وصميم ونظيم، وجمع وسجع، ومقتحم وملتزم، وهذا هو الترصيع بعينه. فإن الترصيع من شرطه أن تقابل كل لفظة من البيت بوزنها ورويها وليته نقل هذا البيت إلى الترصيع فإن بيته في الترصيع ناقص بالذي أظهره، مع قصر باعه فيه من الحشو، وهو:

كم رصعوا كلِمًا من درّ لفظهم

كم أبدعوا حِكمًا في سر علمهم

مع أنه نظر في بيت الشيخ صفي الدين الحلي، وهو:

فعال منتظم الأحوال مقتحم

الأهوال ملتزم بالله معتصم

ورأى اختلاف الوزن بين ملتزم ومعتصم.

وبيت بديعيتي أقول فيه:

سجعي ومنتظمي قد أظهرا حكمي

وصرت كالعلم في العرب والعجم

1 المسئم: العمل المتعب. والسئم: الملول التعِب.

ص: 430