الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر الإيداع:
وأودعوا للثرى أجسامهم فشكت
…
شكوى الجريح إلى العقبان والرخم1
هذا النوع أعني الإيداع، يغلب عليه التضمين، والتضمين غيره، فإنه معدود
من العيوب، والعيب المسمى بالتضمين هو أن يكون البيت متوقفًا في معناه على البيت الذي بعده، كقول النابغة:
وهم وردوا الجفار على تميم
…
وهم أصحاب يوم عكاظ إني
شهدت لهم مواطن صادقات
…
أنبئهم بود الصدر مني
والإيداع الذي نحن بصدده: هو أن يودع الناظم شعره بيتًا من شعر غيره، أو نصف بيت أو ربع بيت، بعد أن يوطئ له توطئة تناسبه بروابط متلائمة، بحيث يظن السامع أن البيت بأجمعه له. وأحسن الإيداع ما صرف عن معنى غرض الناظم الأول، ويجوز عكس البيت المضمن، بأن يجعل عجزه صدرًا أو صدره عجزًا، وقد تحذف صدور قصيدة بكمالها وينظم لها المودع صدورًا، لغرض اختاره وبالعكس. وقد تقدم وتقرر أن الأحسن، في هذا الباب، أن يصرف الشاعر ما أودعه في شعره عن معناه الذي قصد صاحبه الأول، ويجوز تضمين البيتين بشرط أن ينقلهما من معناهما الأول إلى صيغة أخرى، كما حكي أن الحيص بيص قتل جرو كلب وهو سكران، فأخذ بعض الشعراء كلبة وعلق في رقبتها قصة وأطلقها عند باب الوزير، فإذا فيها مكتوب:
يا أهل بغداد إن الحيص بيص أتى
…
بخزية ألبسته العار في البلد
1 العقبان والرخم: من الطيور الجوارح.
أبدى شجاعته بالليل مجترئًا
…
على جريّ ضعيف البطش والجلد1
فأنشدت أمه من بعد ما احتسبت
…
دم الأبليق عند الواحد الأحد2
أقول للنفس تأساء وتعزية
…
إحدى يدي أصابتني ولم ترد
كلاهما خلف من بعد صاحبه
…
هذا أخي حين أدعوه وذا ولدي
البيتان الأخيران لامرأة من العرب قتل أخوها ابنها، فقالت ذلك تسلية. ومنهم من أودع شعره بيتين، وكل بيت منهما لشاعر، كقول القاضي شهاب الدين محمود:
وبتنا على حكم الصبابة مطعمي
…
زفيري وأشجاني وشربي المدامع
وخلي يعاطيني كئوس ملامة
…
وينشدني والهم للقلب صادع
أتطمع من ليلى بوصل وإنما
…
تقطع أعناق الرجال المطامع
فبت كأني ساورتني ضئيلة
…
من الرقش في أنيابها السم ناقع
البيت الأخير للنابغة، قلت غاية الأوائل أن ينقلوا المعنى الأول في الإيداع إلى معنى آخر، إن كان في بيتين أو بيت واحد أو نصف بيت، ولكن الفرقة التي مشت تحت العلم الفاضلي، وتحلت بالقطر النباتي وهلم جرًا، لم يرضوا بنقله مجردًا من التورية أو ما يناسبها من أنواع البديع، ومما يؤيد قولي هذا قول القاضي جلال الدين القزويني، في التلخيص وأحسنه ما زاد على الأصل بنكتة، كالتورية والتشبيه، وممن أبدع في نقله إلى التورية علامة هذا الفن، الشيخ جمال الدين بن نباتة -رحمه الله تعالى- بقوله:
أتاني على البانياسيّ منشدًا
…
فيا لك من شعر ثقيل مطوّل
مكر مفر مقبل مدبر معًا
…
كجلمود صخر حطه السيل من عل
ومثله قوله في مليح اسمه حبيب وهو:
حبيب حبيب القلب أخلى منيزلًا
…
به كان في عرس المسرة ينجلي
فيا صاحبي الذكر قد لذ بالبكا
…
قفا نبك من ذكري حبيب ومنزل
وما يشك من عنده ذوق أن المقطوعين في الإيداع تميز المحاسن التورية، وغريب النقل إلى غرض كل من الناظمين وكذلك تقطيع أعناق الرجال، في إيداع الشهاب محمود، فإنهم نقلوه إلى الصفع، وجاءت توريته في غاية الحسن، وهذا هو المذهب
1 جريّ: تصغير جرو وهو ولد الكلب.
2 الأبليق: هكذا في الأصل ونظنها من الأخطاء الطباعية والأصح: الأبيلق: وهو تصغير الأبلق الذي في لونه الأسود بقع بيضاء، وكان قد صغر جرو في البيت الذي قبله. فيصير جُرَيٌّ أبيلق، والله أعلم.
الذي انتهت غايات المتأخرين إليه، ومن ذلك قول الشيخ جمال الدين بن نباتة أيضًا وهو:
أقول لمعشر جلدوا ولاطوا
…
وباتوا عاكفين على الملاح
ألستم خير من ركب المطايا
…
وأندى العالمين بطون راح
وقولي:
ومذ كلمت قلبي سيوف لحاظها
…
شكوت إليها قصتي وهي تبسم
فلم أر بدرًا ضاحكًا قبل وجهها
…
ولم تر قبلي ميتًا يتكلم
وقال الشيخ جمال الدين بن نباتة:
دنوت إليها وهو كالفرخ راقد
…
فيا خجلتي لما دنوت وإذلالي
فقلت امعكيه بالأنامل فالتقى
…
لدى وكرها العناب والحشف البالي1
وقولي طاول الليل بالذؤابة قبس
…
وتثنى عجبًا بلطف وكيس2
فحلا لي السهاد مذ طال ليلي
…
يا خليليّ من ذؤابة قيس
وقال الشيخ جمال الدين بن نباتة:
تصدى إلى أيري فقلت له اتئد
…
وحقك لو عاينته وهو ثائر3
رأيت الذي لاكله أنت قادر
…
عليه ولا عن بعضه أن صابر
وأنشدني، من لفظه لنفسه الكريمة، مولانا المقر الأشرف المرحومي القاضوي الناصري محمد بن البارزي الجهني الشافعي، صاحب دواوين الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية المحروسة، كان، تغمده الله برحمته، ما اختلف هو والشيخ جمال الدين بن نباتة في إيداعه واتفقا في معناه، والمعنى في البيتين المذكورين قبل. وأما الترشيح فعندي أن التورية في بيتي المقر الناصري أرجح، وهما قوله:
أقول وقد أبى عن أخذ أيري
…
وسالت من محاجره دموع
إذا لم تستطع شيئًا فدعه
…
وجاوزه إلى ما تستطيع
1 امعكيه: ادلكيه. وكرها: فرجها، شبهه بوكر الطير. العناب: البظر: شبهه بالعناب: الثمر المعروف. الحشف: التمر أو التمرة من قضيب الرجل على التشبيه.
2 الكيس: اللباقة.
3 اتئد: تمهل. ثائر: منتصب.
الذي ترجع عندي أن قوله: وجاوزه أعقد من قول الشيخ جمال الدين: لا كله، والذي أقوله: إن كلًّا منهما في بابه بديع وغريب، وقال الشيخ جمال الدين بن نباتة:
لم أنس موقفنا بكاظمة
…
والعيش مثل الدار مسود
والدمع ينشد في مسائله
…
هل بالطلول لسائل ردّ
ومثله قولي:
قف واستمع طربًا فليلى في الدجى
…
باتت معانقتي ولكن في الكرى
وجرى لدمعي رقصة بخيالها
…
أترى دري ذاك الرقيب بما جرى
ومن إيداعاتي الغريبة قولي من إعجاز الملحة:
تنكر الحال علينا عندما
…
سال عليه العارض المسلسل
فعنه سلني إن ترد تعريفه
…
فإنه منكر يا رجل
ومما انفرد به الشيخ جمال الدين بن نباتة -رحمه الله تعالى- تضمين أعجاز الملحة، والذي يؤيد انفراده حسن تخلصه من الغزل، وهو ماش على التضمين، إلى مدح قاضي القضاة، ولم يزل مستمرًا على غرر المدائح اللائقة بالقاضي إلى حسن الختام.
وضمن الشيخ زين الدين بن الوردي نبذة من أعجاز الملحة، ولم يفرغها في غير قوالب الغزل، فإن التخلص من الغزل إلى المدح من المستحيلات في هذا الباب، ولكن الشيخ جمال الدين بن نباتة كان في ذلك العصر نسيج وحده، ومن المعلوم أن الجماعة مثل الشيخ زين الدين بن الوردي، والشيخ صلاح الدين الصفدي، والشيخ برهان الدين القيراطي، وغيرهم ممن عاصره، ما منهم إلا من تطفل على موائد حلاواته النباتية. وقد عنَّ لي أن أورد هنا نبذة من التضمين للشيخين، وأجعل كلًّا من أبيات الشيخين وقفًا محبسًا على أصحاب الذوق السليم. قال الشيخ جمال الدين في المطلع:
صرفت فعلي في الأسى وقولي
…
بحمد ذي الطول الشديد الحول1
وقال الشيخ زين الدين رحمه الله تعالي- في المطلع:
يا سائلي عن الكلام المنتظم
…
هو الذي في لفظ من أهوى قسم
هذا المطلع من إيداع الذي قصر فيه باع الشيخ زين الدين بن الوردي، فإنه صدر
1 الْحَوْل: القوة.
مطلعه بالصدر وهو جائز، ولكنه غير المراد، فإن الشيخ جمال الدين تقدمه بتضمين الإعجاز ونسج إبداعه على هذا المنوال، ومن أغزال الشيخ جمال الدين البديعة في هذا الباب قوله:
أفدي غزالًا مثلوا جماله
…
في مثل قد أقبلت الغزاله
ما قال مذ ملك قلبي واسترق
…
كقولهم رب غلام لي أبق1
للقمرين وجهه مطالع
…
فهي ثلاث ما لهن رابع
لأحرف الحسن على خديه خط
…
وقال قوم إنها اللام فقط
منفرد بالوصل في دار الهنا
…
مثاله الدار وزيد وأنا
لا يختشي تلاعب الظنون
…
والأمر مبني على السكون
في خده التبري هان نشبي
…
وقيمة الفضة دون الذهب2
فاصرف عليه ثروة تسام
…
فما على صارفها ملام
وإن رأيت قدّه العالي فصف
…
وقف على المنصوب منه بالألف
والعارض النوني ما أنصفته
…
وإن تكن باللام قد عرّفته
واهاله من حرف نون قد عرف
…
كمثل ما تكتبه لا يختلف
يأتي بنقط الخال في الإعجام
…
وتارة يأتي بمعنى اللام
للحظه المسكر فعل يطرب
…
مفعوله نحو سقى ويشرب
ولا تلم فيه عويشقًا تلف
…
ولا سكيران الذي لا ينصرف
جسمي وذاك الخصر والجفن الدنف
…
هن حروف الاعتلال المكتنف2
فيا مليحًا عنه أخرت القمر
…
أما لا هوان وإما لصغر
كرر فما أحلى بسمعي السامي
…
قولك يا غلام يا غلامي
وارفق بمضناك فما سوى اسمه
…
ولا تغير ما بقي من رسمه
وقد حكى العذار في الوقوف
…
فاعطف على سائلك الضعيف
وافخر بمعنى لحظك المعشوق
…
في كل ما تأنيثه حقيقي
يا لك لحظًا بسعاد أزرى
…
وجاء في الوزن مثال سكرى
يا ناصبًا أوصاف ذياك الصبي
…
تم الكلام عنده فلتنصب
هيهات بل دع عنك ما أضنى وما
…
وعاص أسباب الهوى لتسلما
1 استرقّ: استعبد. أبق: هرب.
2 التبر: الذهب. نَشَبي: مالي، الثابت والمنقول.
3 الدنِف: المريض. المكتنف: الذي أصاب المصيب.
وكرر الأمداح في علي
…
قاضي القضاة الطاهر النقي
بكل معنى قد تناهى واستوى
…
في كلم شتى رواها من روى
بادر بنا ذاك الحمى العالي وصف
…
إذا اندرجت قائلًا ولا تقف
دونك والمدح زكيًا معجبًا
…
نحو لقيت القاضي المهذبا
فالجود والعلم عليه أرسي
…
وهكذا أصبح ثم أمسي
واهرع إلى قارٍ قراه نافع
…
وافزع إلى حام حماه مانع1
يقول للضيف نداه جب وجل
…
ومثله ادخل وانبسط واشرب وكل
وإن ظفرت عنده بموعد
…
تقول كم مال أفادته يدي
لله ما ألينه عند العطا
…
وما أحد سيفه إذا سطا
إن قال قولًا بين الغرائبا
…
وقام قس في عكاظ خاطبًا
وإن سخا أتى على ذي العدد
…
والكيل والوزن ومذروع اليد
معطل السمع عن العذال
…
فما له مغير بحال
الفضل جنس بيته المهنا
…
ونوعه الذي عليه يبنى
سام به أهل العلا جميعًا
…
وارفع ولا رد ولا تقريعًا2
وإن ذكرت أفق بيت قد نما
…
فانصب وقل كم كوكب تحوي السما
بيت عظيم المجد والعلاء
…
عند جميع العرب العرباء3
إذا اجتليت في العطا جبينه
…
أو استثرت للرجا يمينه
منها والبيت مضمن بكماله:
تقول قد خلت الهلال لائحًا
…
وقد وجدت المستشار ناصحًا
كم بالغنى عنه تولى راجل
…
وواقف بالباب أضحى سائل
قال له الشرع امض ما تحاوله
…
واقض قضاء لا يرد قائله
وأنت يا قاصده سر في جدد
…
واسع إلى الخيرات لقيت الرشد4
ولا تقل كان غمامًا ورحل
…
كان وما انفك الفتى ولم يزل
باب سواه اهجر عداك عيب
…
وصغر الباب وقل بويب
أود به أنسى أحاديث المطر
…
فليس يحتاج لها إلى خبر
1 قارٍ: الذي يقري الضيوف أي يطعمهم. والقِرى: إطعام الضيف.
2 التقريع: اللوم والتوبيخ.
3 العرب العرباء: العرب الخلص، الأقحاح.
4 الجدد: نوع من السير السريع ويكون في الأرض المستوية.
خذ بحر شعر جبته للذكر
…
وغصت في البحر ابتغاء الدر
حتى ملا عيني نداه عينًا
…
وطبت نفسًا إذ قضيت الدينا
دونكها معسولة الآداب
…
ممزوجة بملحة الإعراب1
مضى بها الليل مضيّ الأنجم
…
وبات زيد ساهرًا لم ينم
فافتح لها باب القبول تجتلى
…
وإن تجد عيبًا فسد الخللا
لا زلت مسموع الثنا ذا منن
…
جائلة دائرة في الألسن
ما لعداك راية تقام
…
فليس إلا الكسر والسلام
وقال الشيخ زين الدين بن الوردي:
في صدغه للحسن آيات تخط
…
وقال قوم إنها اللام فقط
قلت: الشيخ جمال الدين تقدمه في هذا البيت بالإيداع، وهنا بحث لطيف أبحثه مع حذاق الأدب، قال الشيخ جمال الدين بن نباتة:"لأحرف الحسن على خديه خط" ومراده بذكر الأحرف هنا مخالفة القوم له، على أنها ليست بأحرف وإنما هي حرف اللام فقط. وقال الشيخ زين الدين:"في خده للحسن آيات تخط" فلم يبق لقول من خالفه بقوله. وقال قوم إنها اللام فقط موضع ولا محل، وأين الآيات التي تخط من اللام، ولعمري إن هذا الإيداع، على هذا التقدير، يصير بينه وبين العجز من بيت الملحة بعض مباينة، وكان الأليق للشيخ زين الدين الإعراض عن إيداع هذا البيت بعد الشيخ جمال الدين، فإنه لم يترك لغيره مجالًا فيه، والله أعلم. وقال الشيخ زين الدين بن الوردي، رحمه الله تعالى:
زمانه غض فلا يخشى فرط
…
إذ أَلِفُ الوصل متى يدرج سقط
بسيف حفنه قتلت نفسي
…
فإنه ماض بغير لبس2
فيا غزال إن أبنت ما اعتدى
…
فأسقط الحرف الأخير أبدا
قلت لمذكر لحي خلّ الفند
…
واسع إلى الخيرات لقيت الرشد
وهذا الإيداع أيضًا نسخه الشيخ زين الدين من قول الشيخ جمال الدين، وسبكه في غير قالبه، وأين هذا من قول الشيخ جمال الدين في إشاراته إلى قاصد ممدوحه:
وأنت يا قاصده سر في جدد
…
واسع إلى الخيرات لقيت الرشد
1 معسولة الآداب: حلوة الآداب. وكأن آدابها مزجت بالعسل لحلاوتها.
2 ماضٍ: قاطع. اللبس: الشك والريبة.
قال الشيخ زين الدين:
وإن يكن عدلك في المؤنث
…
فقل لها خافي رجال العبث
منها وأجاد إلى الغاية:
قوامه أشبه شيء بالألف
…
كمثل ما تكتبه لا يختلف
ومثله في الحسن قوله:
يا خصره من ردفه بالمنح
…
ولا تسل أخف وزنًا أم رجح
تركيب هذا البيت غاية في هذا الباب؛ لأنه قدم ذكر الألف في الأول، وقال في عجز بيت الملحة كمثل ما تكتبه لا يختلف، بخلاف قوله في ذلك البيت آيات، وقوله في عجز بيت الملحة. وقال قوم إنها اللام فقط وقال:
عذاره الرقيم فز بلثمه
…
ولا تغير ما بقي من رسمه1
ولكن مرسوم الشيخ جمال الدين أمثل، وأين قول الشيخ جمال الدين:"وارفق بمضناك فما سوى اسمه" حتى يقول بعد التوطئة: "ولا تغير ما بقي من رسمه". من قول الشيخ زين الدين: "عذاره الرقيم فز بلثمه". وقال الشيخ زين الدين بعد بيته الأول:
تقول فيه خضرة يسيره
…
كما تقول ناره منيره
دينار وجهه به شححت
…
وكم دنينير به سمحت2
يا ليته يعطف بالوصال
…
والعطف قد يدخل في الأفعال
لا ما حلا لي في هواه العذل
…
لشبهه الفعل الذي يستقبل
منها وأجاد:
عيناه أفنت أكثر العشاق
…
وهكذا تفعل في البواقي
في ثغره جواهر غوالي
…
جلوتها منظومة اللآلي
صورته كالبدر فوق الغصن
…
فانظر إليها نظر المستحسن
وخل عنك يا عذول العذلا
…
وإن تجد عيبًا فسد الخللا
وهذا البيت أيضًا منسوخ من إيداع الشيخ جمال الدين، والبون بينهما بعيد، فإن
1 الرقيم: المنقش. والرقيم، الكتاب أو اللوح نقش فيه.
2 شح: بخل.
الشيخ جمال الدين اعتذر للممدوح في آخر القصيدة، عن التقصير، كما جرت عادة الشعراء بقوله:
فافتح لها باب القبول تجتلى
…
وإن تجد عيبًا فسد الخللا
هذا، مع مطابقة الفتح بالسد في هذا الباب، وهذا غاية، وأما اعتذار الشيخ زين الدين للعاذل، وقوله له عن محبوبه:"وإن تجد عيبًا فسد الخللا" فالمحبوب عند محبه أجل من هذا القدر، والله أعلم، وختام الشيخ زين الدين بن الوردي رحمه الله قوله:
حتى رثى لي وألان القولا
…
والحمد لله على ما أولى
ولعمري إني اختصرت من إيداع الشيخ زين الدين بن الوردي جانبًا لم أرضه له.
ومن الإيداعات التي برز فيها الشيخ زين الدين بن الوردي، قصيدته التي امتدح بها النبي صلى الله عليه وسلم وضمن فيها أعجاز قصيدة أبي العلاء المعري وبعض صدورها، وهي القصيدة الرائية التي امتدح بها أبو العلاء المعري ابن القصيصي، ونقلها الشيخ زين الدين بن الوردي إلى مستحقها صلى الله عليه وسلم، وقد عنَّ لي أن أجمع هنا بين الأصل والفرع، لتظهر مزية الشيخ زين الدين، فإنه أظهر في إيداعه العجائب وأتى بالغرائب، ومطلع الشيخ زين الدين خال من الإيداع، وهو:
أدر أحاديث سلع والحمى أدر
…
والهج بذكر اللوى أو بانة العطر1
ومطلع الشيخ أبي العلاء المعري:
يا ساهر البرق أيقظ راقد السمر
…
لعل بالجزع أعوانًا على السهر
قال الشيخ زين الدين بعد المطلع:
وقف على الجزع واذكرني لساكنه
…
لعل بالجزع أعوانًا على السهر
وقال في إيداع صدر مطلع أبي العلاء:
إذا تبسم ليلًا قل لمبسمه
…
يا ساهر البرق أيقظ راقد السمر
قال أبو العلاء يخاطب البرق:
وإن بخلت على الأحياء كلهم
…
فاسق المواطرَ حيًّا من بني مطر
1 سلع والحمى واللوى وبانة العطر: أسماء أماكن في الجزيرة العربية.
وقال أبو العلاء، في قصر الليل على العاشق ليلة الوصل:
يود أن ظلام الليل دام له
…
وزيد فيه سواد القلب والبصر
نقله الشيخ زين الدين إلى المديح، وأجاد إلى الغاية، بقوله عن النبي صلى الله عليه وسلم:
تشرف الركن إذا قبلت أسوده
…
وزيد فيه سواد القلب والبصر
قال أبو العلاء:
لو اختصرتم من الإحسان زرتكم
…
والعذب يهجر للإفراط في الخصر
فنقله الشيخ زين الدين إلى المديح النبوي، فقال يخاطب النبي، صلى الله عليه وسلم:
عذبت وردًا فلم تهجر على خصر
…
والعذب يهجر للإفراط في الخصر1
قال أبو العلاء يخاطب محبوبته:
قلدت كل مهاة عقد غانية
…
وفزت بالشكر في الآرام والعفر2
نقله الشيخ زين الدين إلى المديح النبوي، وما أحق المادح والممدوح به، فقال:
إن الغزالة لما أن شفعت نجت
…
وفزت بالشكر في الأرآم والعفر
قال الشيخ أبو العلاء:
أقول والوحش ترميني بأعينها
…
والطير تعجب مني كيف لم أطر
نقله الشيخ زين الدين وقال:
ضمنت مدح رسول الله مبتهجًا
…
والطير تعجب مني كيف لم أطر
قال أبو العلاء:
في بلدة مثل ظهر الضب بت بها
…
كأنني فوق روق الظبي من حذر3
نقله الشيخ زين الدين وقال:
ولي ذنوب متى أذكر سوالفها
…
كأنني فوق روق الظبي من حذر
1 الإفراط: الزيادة. الخصر: الاختصار.
2 المهاة: البقرة الوحشية. الغانية: الفتاة الحسناء. الأرآم: جمع رئم وهو الظبي الأبيض. العفر: جمع أعافر وهو نوع من الظباء الضعيفة العدو.
3 الضب: من الزواحف شبيه بالحرذون. الروق: القرن. الظبي: الغزال.
قال أبو العلاء يخاطب صاحبيه:
لا تطويا السير عني يوم نائبة
…
فإن ذلك ذنب غير مغتفر
قال الشيخ زين الدين بعد قوله: ولي ذنوب:
ومطمعي أنها لا شراك "إلا" بشركها
…
فإن ذلك ذنب غير مغتفر
قال أبو العلاء:
يا روع الله سوطي كم أروع به
…
فؤاد وجناء مثل الطائر الحذر1
نقله الشيخ زين الدين وقال:
ولي فؤاد متى تفخر سوى مضر
…
فؤاد وجناء مثل الطائر الحذر
قال أبو العلاء في المخلص، بعد روع الوجناء:
باهت بمهرة عدنانا فقلت لها
…
لولا القصيصيّ كان المجد في مضر
قال الشيخ زين الدين لله دره:
والله لو أن أهل الأرض قاطبة
…
مثل القصيصيّ كان المجد في مضر
قال أبو العلاء مشيرًا إلى ممدوحه، وأساء الأدب:
وقد تبين قدري أن معرفتي
…
من تعلمين سيرضيني عن القدر
نقله الشيخ زين الدين بن الوردي إلى المديح النبوي، وقال بحق:
يا نفس لا تيأسي يوم المعاد فلي
…
من تعلمين سيرضيني عن القدر
قال أبو العلاء، وكذب عن القصيصي في قوله:
ولو تقدم في عصر مضى نزلت
…
في وصفه معجز الآيات والسور
نقله الشيخ زين الدين إلى المديح النبوي، وقال رحمه الله حيث قال:
وأين شعري من الهادي الذي نزلت
…
في وصفه معجزات الآي والسور
1 السوط: الكرباج، قطعة من الجلد تستعمل للضرب. راع: أخاف. الوجناء: من النوق: الشديدة القوية.
قال الشيخ أبو العلاء يخاطب ممدوحه:
وافقتهم في اختلاف من زمانكم
…
والبدر في الوهن مثل البدر في السحر1
نقله الشيخ زين الدين إلى المديح النبوي، وقال يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم وسبى العقول بقوله:
وأنت في القبر حي ما اعتراك بلى
…
والبدر في الوهن مثل البدر في السحر
قال أبو العلاء يخاطب ممدوحه:
أعاذ مجدك عبد الله خالقه
…
من أعين الشهب لا من أعين البشر
والبيت نقله الشيخ زين الدين إلى المديح النبوي بكماله، ولكن كان فارس ميدانه وقائد عنانه، وكأنه كان معدًّا لقصيدته حتي يبرزه في محله من مديح النبي صلى الله عليه وسلم وهو:
لله قولي لعبد الله والده
…
قولًا إلى فص علياه على قدر2
أعاذ مجدك عبد الله خالقه
…
من أعين الشهب لا من أعين البشر
قال أبو العلاء يخاطب ممدوحه:
سافرت عنا فظل الناس كلهم
…
يراقبون إياب العيد من سفر3
نقله الشيخ زين الدين إلى المديح، فقال يخاطب النبي، صلى الله عليه وسلم:
كم راقبت أمم منك القدوم كما
…
يراقبون إياب العيد من سفر
قال أبو العلاء يخاطب الممدوح:
لو غبت شهرك موصولًا بتابعه
…
وأُبت لانتقل الأضحى إلى صفر4
قال الشيخ زين الدين يخاطب النبي، صلى الله عليه وسلم:
سل تعط واشفع تشفع ما ترده يكن
…
لو شئت لانتقل الأضحى إلى صفر
1 الوهن: من الليل بُعَيد منتصف الليل. السحر: قبيل الفجر.
2 إلى فص علياه: إلى أصلها.
3 الإياب: الرجوع.
4 الأضحى: عيد الأضحى عند المسلمين. وهو العيد الذي يقدم فيه الحجيج الأضحيات قربة إلى الله تعالى.
قال أبو العلاء في ختام قصيدته:
ولا تزال بك الأيام ممتعة
…
بالآل والحال والعلياء والعمر1
قال الشيخ زين الدين في ختامه:
وارتجي بك من ذي العرض عافية
…
في الآل والحال والعلياء والعمر
رحم الله الشيخ زين الدين، هذه القصيدة معدودة من محاسنه، ولولا خشية الإطالة لاستوعبتها بكمالها، فإنها بديعة في باب الإيداع. انتهى.
وأما أعجاز قصيدة امرئ القيس اللامية المعلقة، فإن جماعة من أهل الأدب ثابروا على تضمينها وتضمين البعض منها، وسبكوها في قوالب مختلفة الأنواع.
كتب إلَيّ مولانا قاضي القضاة، صدر الدين بن الآدمي الحنفي -سقى الله ثراه- من دمشق المحروسة إلى حماة المحروسة، في صدر رسالته:
أحن إلى تلك السجايا وإن نأت
…
حنين أخي ذكرى حبيب ومنزل
وأهدي إليها من سلامي معطرًا
…
بمسكٍ سحيق لا بريّا القرنفل2
وأذكر ليلات بكم قد تصرّمت
…
بدار حبيب لا بدارة جلجل3
شكوت إلى صبري اشتياقي فقال لي
…
ترفق ولا تهلك أسى وتجمل
وقلت له إني عليك معول
…
وهل عند رسم دارس من معول4
فأجبته وصدرت الرسالة بقولي:
سرت نسمة منكم إلَيّ كأنها
…
نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل
فقلت لليلي مذ بدا صبح طرسها
…
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلِ
جنت ما حلا ذوقًا فقلت تقربي
…
ولا تبعدينا عن جناكِ المعلل
ورقت فأشعار امرئ القيس عندها
…
كجلمود صخر حطه السيل من علِ
فقلت قفا نضحك لرقتها على
…
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
1 الآل: الأهل والعشيرة.
2 ريا القرنفل: رائحة القرنفل وهو نبات طيب الرائحة.
3 تصرّم: انقضى.
4 الرسم: الأثر. الدارس: الممحو، غير الواضح. معول: فائدة.
وتطارح الشيخ جمال الدين، والشيخ صلاح الدين قبلنا، في جانب كثير منها، ولكن الشيخ جمال الدين تنازل فيها إلى الغاية فقال:
رأى فرسي إصطبل عيسى فقال لي
…
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
وأما الشيخ صلاح الدين فإنه كتب إلى الشيخ جمال الدين، في معنى العتب المفرط:
أفي كل يوم منك عتب يسوؤني
…
كجلمود صخر حطه السيل من عل
وترمي على طول المدى متجنيًا
…
بسهميك في أعشار قلب مقتل1
فأمسى بليل طال جنح ظلامه
…
عليّ بأنواع الهموم ليبتلي
وأغدو كأن القلب من وقدة الجوى
…
إذا جاش فيه حميه غلي مرجل2
تطير شظاياه بصدري كأنها
…
بأرجائه القصوى أنابيش عنصل3
وسالت دموعي من همومي ولوعتي
…
على النحر حتى بل دمعي محملي
إذا عاين الأخوان ما بي من الأسى
…
يقولون لا تهلك أسى وتجمل
ترفق ولا تجزع على فائت الوفا
…
فما عند رسم دارس من معول
ولي فيك ود طال ما قد شددته
…
بأمراس كتان إلى صم جندل4
ولي خطرات فيك منها جوانحي
…
صبحن سلافًا من رحيق مفلفل
كأن أمانيها كئوس مدامة
…
غذاها نمير الماء غير محلل5
سلوت غوايات الشبيبة والصبا
…
وليس فؤادي عن هواها بمنسلي
وأجلو محيا الودّ فيك لأهله
…
متي ما ترق العين فيه يسهل
فكر على جيش الجناية عائدًا
…
بمنجرد قيد الأوابد هيكل6
تجد خفرات الأنس منها كواعبًا
…
ترائبها مصقولة كالسجنجل7
1 لمتجني: الذي يبدأ الجناية. السهمان: هما النظرتان. الأعشار: الأجزاء
2 جاش: تحرّك صعودًا وهبوطًا، ثار. الْمِرجل: القدر يطبخ فيها.
3 الشظايا: القطع. الأنابيش: جذور الأشجار وبقاياها. العنصل: نبات معمر من الفصيلة الزنبقية له ورق كورق الكراث.
4 الصم: الصلاب. الجندل: الصخور.
5 نمير الماء: الصافي منه والعذب.
6 المنجرد: الحصان القصير الشعر. قيد الأوابد: كناية عن السرعة، الأوابد: الوحوش. الهيكل: الضخم.
7 خفرات: شديدات الحياء. الكواعب: جمع كاعب وهي الفتاة نهد ثدياها. الترائب: عظام الصدر. السجنجل: المرآة. رومية معربة.
وخل الجفا وارجع إلى معهد الوفا
…
وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجمل1
حلا ودك الماضي وإن لم تعد أعد
…
لدى سمرات الحي ناقف حنظل2
فأجابه الشيخ جمال الدين متهكمًا في المطلع، والتهكم فيه غاية لا تكاد تخفى على حذاق الأدب، بقوله:
فطمت ولائي ثم أقبلت عاتبًا
…
أفاطم مهلًا بعض هذا التدلل
بروحي ألفاظ تعرض عتبها
…
تعرض أثناء الوشاح المفصل
فأحييت ودًّا كان كالرسم عافيًا
…
بسقط اللوى بين الدخول فحومل3
تعفي رياح العذر منك رقومه
…
لما نسجتها من جنوب وشمأل4
نعم قوّضت منك المودة وانقضت
…
فيا عجبًا من رحلها المتحمل
أمولاي لا تسلك من الظلم والجفا
…
بنا بطن خبت ذي قفاف عقنقل5
ولا تنس مني صحبة تصدع الدجى
…
بصبح وما الإصباح مني بأمثل
صحبتك لا ألوي على صاحب عطا
…
بجيد معم في العشيرة مخول6
وحاولت من إدناء ودك ما نأى
…
فأنزلت فيه العصم في كل منزل
يقلب لي وجدي به سوط سائق
…
وإرخاء سرحان وتقريب تتفل7
وكم خدمة عجلتها ومحبة
…
تمتعت من لهو بها غير معجل
وكم أسطر مني ومنك كأنها
…
عذاري دراري في ملاء مذيل8
وقلب خليل ينشد الودّ همه
…
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلِ
1 الصرم: القطيعة. أزمع: نوى وعزم على الأمر.
2 سمرات: جمع سمرة وهي شجرة الطلح. الحنظل: نبات شديد الحرارة. الناقف: الذي يكسر الحنظل، وناقف الحنظل يبقى سائل الأنف، كثير الدمع لشدة حرارة الحنظل.
3 العافي: الممحو غير الواضح. الرسم: الأثر. سقط اللوى والدخول وحومل: أسماء أماكن في الصحراء العربية.
4 الرقوم: النقوش. الجنوب والشمأل: الريح.
5 الخبت: الوادي العميق المحدود. القفاف: التلال والوهدات ويروى: حقاف وهي الرمال المرتفعة. العقنقل: الوادي العظيم المتسع والكثيب من الرمل.
6 المعم: ذي الأعمام. المخول: ذي الأخوال.
7 الإرخاء: السير السريع. السرحان: الذئب. التقريب: السير البطيء. التتفل: ولد الثعلب أو الثعلب عينه.
8 الملاء: الثوب الفضفاض تلتف به المرأة من قمة رأسها إلى أخمص قدميها. المذيل: المطرزة أذياله.
وكم ناصح كذبت دعواه إذ غدت
…
عليّ وآلت حلفة لم تحلل1
ولحية لاح غاظها ضحكي على
…
أثيث كقنو النخلة المعثكل2
ترى بعر الآرام في عرصاتها
…
وقيعانها كأنه حب فلفل
نزعت لسكري ساحبًا من صبابتي
…
على إثرها أذيال مرط مرحل3
إلى أن تبدى عذره متمطيًا
…
وأردف أعجازًا وناء بكلكل4
فلاطفته في حالتيه ولم أقل
…
فسلي ثيابي من ثيابك تنسل
وضن بأسطار كأن يراعها
…
أساريع ظبى أو مساويك إسحل5
ويقرع سمعي من معاريض لفظه
…
مداك عروسك أو صلاية حنظل6
وعدنا لود يملأ القلب عوده
…
بشحم كهداب الدمقس المفتل
أعدت صلاح الدين عهد مودة
…
بكل مغار الفتل شدت بيذبل7
فدونك عتبي اللفظ ليس بفاحش
…
إذا هي نصته ولا بمعطل8
وعادات حب هن أشهر فيك من
…
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
والذي أقوله: المهيع الذي اخترعه الصاحب فخر الدين بن مكانس، ومشى عليه في تضمين هذه المعلقة، يعد من المعلقات في بابه، فإنه ضمنها في مداعبة رجل من أصحابه، كان كبير الأنف وأتى بما لا اختلج في صدر متأدب، ولا سمع بعده المرقص والمطرب، وهو قوله:
تأنف عن وصف الغزال تغزلي
…
بلحية أنف ذي عقاص ومرسل
انظر أيها المتأدب ما ألطف تأنف هنا، وألطف منه قوله بلحية أنف، فإن العقاص
1 آلى: حلف.
2 اللاحي: اللائم. الأثيث: الملتف. قنو النخلة: العنقود. المتعثكل: المتشابك.
3 المرِط: الإزار. المرحل: الموشى.
4 أردف أعجازًا: أتبع المؤخرة. ناء بعد. الكلكل: الصدر.
5 أساريع الظبي: أصابعه واحدها أسروع. المساويك: جمع مسواك: وهو عود تنظف به الأسنان. الإسحل: الشجر الذي تتخذ منه المساويك.
6 المداك: المسك المدقوق دقًا وتستعمله العرائس عادة أو هو الحجر الذي يسحق به. صلاية الحنظل: الحجر الأملس الذي يكسر عليه، وهو نبات شديد الحرارة.
7 مغار القتل: محكم الجدل وهو الحبل المتين. يذبل: اسم جبل في الصحراء.
8 نصّته: أبرزته وأظهرته. المعطل: الذي لا حلي فيه.
جمع عقيصة وهو ما جمع من الشعر، والمرسل الشعر المسرح، ومراده أن لحية هذا الأنف غزيرة الشعر مسرحة وقال مشيرًا إليها:
من البقّ فيها جملة قد تعرضت
…
تعرض أثناء الوشاح المفصل1
فيا قبح شعر فوق أنف معرقص
…
أثيث كقنو النخلة المتعثكل2
الأثيث الكثير، والمتعثكل الذي دخل بعضه في بعض لكثرته وتدلى وهكذا قنو النخلة الذي شبه به الصاحب فخر الدين هذا الأنف، ولعمري إن هذا الإيداع من السحر في نقله إلى هذه الصفة الغريبة وقال بعده:
وقالوا اختبا في شعره فكأنه
…
كبير أناس في بجاد مزمل
هذا التشبيه بالنسبة إلى كبر الأنف نوع من الغلوّ، وهو من المخترعات في بابه، فإن امرأ القيس شبه به جبل ثبير فقال:
كأن ثبيرًا في عرانين وبله
…
كبير أناس في بجاد مزمل
والعرانين جمع عرنين وهو الأنف، والوبل ما عظم من المطر، والبجاد كساء مخطط من الشعر الأبيض والأسود، فنقله الصاحب فخر الدين في إيداعه إلى الأنف، لما فيه من الشعر الأبيض والأسود الذي انتسج في أنفه كالبجاد، ولما اختفى في ذلك الشعر، بكبير أناس في بجاد مزمل أي ملتف، وقد تقدم قولي إنه من المخترعات.
مقلص كلتا الجانبين كأنه
…
لدى سمرات الحي ناقف حنظل
وهذا التشبيه أيضًا من العجائب، فإن هذا الأنف لم يبرح سائلًا، فشبهه الصاحب برجل ناقف حنظل، فإن ناقف الحنظل كثير الدمع لشدة حرارته. وقال:
ترى القمل والصيبان في عرصاته
…
وقيعانه كأنه حب فلفل3
وفي جوفه شعر طويل كأنه
…
بأرجائه القصوى أنابيش عنصل
فيا لك شعرًا فوق أنف معظم
…
يلوح كهداب الدمقس المفتل
وكم قلت إذ أرخى ذوائب أنفه
…
عليّ بأنواع الهموم ليبتلي
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلِ
…
بصبح وما الإصباح منك بأمثلِ
1 البق: نوع من الحشرات التي تشبه القمل ولكنها أكبر منه.
2 المعرقص: المجعد كثيرًا.
3 العرصات: واحدتها عرصة وهي ساحة الدار. والقيعان: مفردها قاع: وقاعة الدار ساحتها أيضًا.
الصاحب فخر الدين رحمه الله ضمن هنا عجزًا وبيتًا كاملًا بنصف بيت واحد، وفي هذا من الروية والقوة ما يزيد على الوصف، وأما قوله بعدما أرخى هذا الرجل ذوائب أنفه: ألا أيها الطويل ألا انجل، فإن هذا نوع من السحر بل السحر بعينه، ومن المبالغة المفرطة في هذا الباب قوله:
كأن الفسا إن قس مع ريح أنفه
…
نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل1
ترى شعرات الأنف سدت خدوده
…
لما نسجتها من جنوب وشمأل
وقد درست بالأنف آثار وجهه
…
فهل عند رسم دارس من معوّل
كأني بمولانا على وصف أنفه
…
تولى بأعجاز وناء بكلكل
وجرد شعر الأنف منه وجاءنا
…
بمنجرد قيد الأوابد هيكل
مكر مفر مقبل مدبر معًا
…
كجلمود صخر حطه السيل من علِ
هذا الذي وقع عليه الاختيار من اختراع الصاحب فخر الدين -تغمده الله برحمته ورضوانه- ولعمري إنه من الاختراع الذي لم يسبق إليه، ولا حام فكر من قبله عليه، انتهى.
وكان الأمير مجير الدين بن تميم يجنح إلى نوع الإيداع كثيرًا، وأتى فيه بالعجائب والغرائب، وقال من شغفه بالتضمين:
أطالع كل ديوان أراه
…
ولم أزجر عن التضمين طيري
أضمن كل بيت فيه معنى
…
فشعري نصفه من شعر غيري
ومن تضامينه:
أفدي الذي أهوى بفيه شاربًا
…
من بركة راقت وطابت مشرعًا
أبدت لعيني وجهه وخياله
…
فأرتني القمرين في وقت معًا
وله أيضًا:
وشبابة قد كنت أهوى سماعها
…
وقد صرت منها بعدما تبت أنفر3
وها أنا قد فارقتها غير نادم
…
وكم مثلها فارقتها وهي تصفر
1 الفسا: الريح الذي يخرج من دبر الإنسان.
2 درس: امّحى. المعول: الفائدة أو ما يعوّل عليه.
3 الشبابة: آلة موسيقية قديمة يستعملها الرعاة عادة وهي عبارة عن قصبة فيها خمسة ثقوب أو ستة توضع عليها الأصابع وينفخ فيها مع تحريك الأصابع فيسيل منها نغم مطرب، وقد تكون مصنوعة من الحديد أو النحاس أو ما إلى ذلك وتعرف أيضًا بالقصبة.
وأورد العميان في شرح بديعيتهم بيتين ذكروا أن تضمينهما لبعض المتقدمين المغاربة، وهما على طريقتهم، ولكن أعجباني، وهما:
وفرع كان يوعدني بأسر
…
وكان القلب ليس له قرار
فنادى وجهه لا خوف فاسكن
…
كلام الليل يمحوه النهار
ومن التضامين البديعة قول زكي الدين بن أبي الأصبع، وقد جعل مطلع أبي الطيب عجزين لبيتين، فلم يلحق فيهما، فإنه نقلهما من فخامة التحمس إلى زخارف الغزل بقوله:
إذا الوهم أبدى لي لماها وثغرها
…
تذكرت ما بين العذيب وبارق
ويذكرني من قدها ومدامعي
…
مجرّ عوالينا ومجرى السوابق
ومن تضامين ابن تميم:
عاينت في الحمام أسود واثيًا
…
من فوق أبيض كالهلال المسفر1
فكأنما هو زورق من فضة
…
قد أثقلته حمولة من عنبر
وقال في الفانوس:
يقول لي الفانوس حين أتوا به
…
وفي قلبه نار من الوجد تسعر
خذوا بيدي ثم اكشفوا الثوب تنظروا
…
ضنى جسدي لكنني أتستر
وله:
أزهر اللوز أنت لكل زهر
…
من الأزهار يأتينا إمام
لقد حسنت بك الأيام حتى
…
كأنك في فم الدهر ابتسام
وقال:
لو كنت إذ أبصرتها موارة
…
للشمس في أمواهها لألاء2
لرأيت أعجب ما ترى من بركة
…
سال النضار بها وقام الماء
وقال غيره، وسبكه في غير هذا القالب:
لو كنت في الحمام والحنا على
…
أعطافه ولجسمه لألاء
لرأيت ما يسبيك منه بقامة
…
سال النضار بها وقام الماء
1 واثيًا: مصابًا بالوثء وهو وصم يصيب لحم اليد ولا يبلغ العظم المسفر: المكشوف.
2 أمواه: جمع ماء.
وقال:
يا من يقول بأن رشـ
…
ـف لمى الحبائب لم يرق
وغدا يعنفني به
…
دع عنك تعنيفي وذق
وقال:
لما رأيت البدر في ساعدي
…
ونرجس الأنجم قد صوّحا1
أفنيت رشفًا فيه ريق الدجى
…
من قبل أن ترشف شمس الضحى
وقوله:
صهباء ريقته رشفت سلافها
…
وتغلبت فعجزت أن أتكلما
وإذا سئلت أقل لمن هو سائل
…
إني لأعلم ما تقول وإنما2
ومن محاسن الشيخ سراج الدين الوراق قوله:
توارت من الواشي بليل ذوائب
…
له من جبين واضح تحته فجر
فدل عليها شعرها بظلامه
…
وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
نقله الشيخ شمس الدين بن الصائغ إلى المداعبة، وزاده تورية، بقوله:
تطلبت حجرًا في الظلام فلم أجد
…
ومن يك مثلي حية دأبة الحجر3
فناداني البدر الأديب إلى هنا
…
وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
ويعجبني من تضمين ابن أبي الأصبع قوله، وهو منقول من الحماسة إلى الغزل:
له من ودادي مثل كفيه صافيًا
…
ولي منه ما ضمت عليه الأنامل
ومن قده الزاهي ونبت عذاره
…
صدور رماح أشرعت وسلاسل
وقوله:
هذا الذي أنا قد سمحت بحبه
…
كرمًا بلؤلؤ دمعي المتنظم
لا تحرموني ضم أسمر قدّه
…
ليس الكريم على القنا بمحرم
ومن تضامين الشيخ محمود البديعة قوله:
من حاتم عدّ عنه واطرح فيه
…
في الجود لا بسواه يضرب المثل
لو مثل الجود سرحًا قال حاتمهم
…
لا ناقة لي في هذا ولا جمل4
1 صوّح: جف ويبس.
2 وإنما لا أستطيع التكلما.
3 الحجر: بيت الحية. دأبه الحجر: دأبه طلب الحجر.
4 لا ناقة لي في هذا ولا جمل: مثل يضرب فيمن لا يعنيه شيء من الأمر.
ومن محاسن تضامين شمس الدين محمد بن العفيف البديعة قوله:
قالوا غدا تندم عن لثمه
…
في خده إذ يغلب السكر
فقال لي مبسمه دعهم
…
اليوم خمر وغدًا أمر1
وقال:
جلا ثغرًا وأطلع لي ثنايا
…
يسوق بها المحب إلى المنايا
وأنشد ثغره يبغي افتخارًا
…
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا
ومن تضامين مجير الدين بن تميم التي تطفل الناس عليها بعده قوله:
إن تاه ثغر الأقاحي إذ تشبهه
…
لله حبك واستولى به الطرب
فقل له عندما يحكيه مبتسمًا
…
لقد حكيت ولكن فاتك الشنب2
ومن تضامين القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر البديعة قوله:
وناطقة بالروح عن أمر ربها
…
تعبر عما عندها وتترجم
سكتنا وقالت للقلوب فأطربت
…
فنحن سكوت والهوى يتكلم
ومن تضامين الشيخ صلاح الدين الصفدي قوله:
ملكت كتابًا أخلق الدهر رسمه
…
وما أحد في دهره بمخلد
إذا عاينت كتبي الجديدة جلده
…
يقولون لا تهلك أسى وتجلد
وقال:
قل للرقيب يسترح من عذلي
…
ما أصبح المعشوق عندي مشتهى
وارتد قلبي عن سيوف لحظه
…
وكل شيء بلغ الحد انتهى
وقال مضمنًا ومكتفيًا:
رشفت ريقك حلوًا
…
فلم يكن لي صبر
وسوف أحظى بوصل
…
وأوّل الغيث قطر
ومن تضامين الشيخ عز الدين الموصلي:
وعلق يرى للترك فيه تحمس
…
يقود عليه أحدب ويعاشره3
إذا جاءه اللوطي يطلب وصله
…
ثنى طرفه نحو الحسام يشاوره
1 اليوم خمر وغدًا أمر: قالها امرؤ القيس عندما بلغه مقتل والده وقد كان خليًّا لا هم له يشرب الخمر ويلهو، فصار مهتمًا بالثأر لأبيه.
2 حكيت: شابهت. الشنب: بياض الأسنان ورقتها.
3 العلق: الصعلوك من الناس، أو المخنث المتشبه بالنساء. يقود عليه: يجلب له الزبائن وهي القوادة أي القيادة إلى الفحش. يعاشره: يجامعه، يلوطه.
وله أيضًا:
جاد لنا كالشادن الربيب
…
لحظته بالنظر المريب
فقال في السكرة عند نومه
…
يا رب سلمها من الدبيب1
وقال:
نادمت قومًا لا خلاق لهم ولا
…
ميل إلى طرب ولا سمار
يستيقظون إلى نهيق حميرهم
…
وتنام أعينهم عن الأوتار
وقال:
لحديث نبت في العذار حلاوة
…
وطلاوة هامت بها العشاق
فإذا نهاني المرد قلت تمهلوا
…
فإليكم هذا الحديث يساق2
ومن تضامين الشيخ برهان الدين المعمار التي أجاد فيها قوله:
عزمت على رقيى محاسن وجهه
…
بأنوار آيات الضحى حين أقبلا
فلما بدا يفتر عن نظم ثغره
…
بدأت ببسم الله في النظم أوّلا3
وكتب الشيخ شرف الدين عبد العزيز الأنصاري، إلى الشيخ سيف الدين الآمدي:
لئن تقدم قوم عصر سيدنا
…
فكم تقدم خير المرسلين نبي
وإن يكن علمه فرعًا لعلمهم
…
فإن في الخمر معنى ليس في العنب
وإن أتت قبله كتب مؤلفة
…
فالسيف أصدق إنباء من الكتب
ومن الغايات في هذا الباب، قول الشيخ بدر الدين بن الصاحب:
لله يوم الوفا والناس قد جمعوا
…
كالروض تطفوا على نهر أزاهره
وللوفاء عمود من أصابعه
…
مخلق تملأ الدنيا بشائره
ومما جاد به الشيخ برهان الدين القيراطي، في تضمينه:
قل في اخضرار عذاره وقوامه
…
خلع الربيع على غصون البان
وانشر من الأغزال في أردافه
…
حللًا فواصلها على الكثبان4
ومن غايات الشيخ شهاب الدين بن أبي حجلة في هذا الباب قوله:
قل للهلال وغيم الأفق يستره
…
حكيت طلعة من أهواه بالبلج
لك البشارة فاخلع ما عليك فقد
…
ذكرت ثم على ما فيك من عوج
1 الدبيب: سريان الخمرة في المفاصل بعد شربها.
2 المرد: جمع أمرد وهو الشاب لم تنبت لحيته بعد.
3 يفتر: يبتسم حتى تبدو أسنانه.
4 الأرداف: جمع ردف وهي المؤخرة. الكثبان: جمع كثيب: تلة الرمل.
ومن تضامين علاء الدين بن أيبك الدمشقي البديعة قوله:
أقول وقد ظمئت ووجه حبي
…
له عرق على ورد الخدود
أرى ماء وبي ظمأ شديد
…
ولكن لا سبيل إلى الورود
ومن تضامين القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر قوله:
لقد قال لي إذ رحت من خمر ريقه
…
أحث كئوسًا من ألذ مقبل1
بلثم شفاهي بعد تقبيل مبسمي
…
تنقل فلذات الهوى في التنقل
وظريف في هذا الباب قول الشيخ بدر الدين بن المنيجي:
ولما خلونا والمسرة بيننا
…
وقد عز شرب الراح فينا عن الشرب2
تعوّض كل بالحشيش عن الطلا
…
ومن لم يجد ماء تيمم بالترب3
ومن تضامين شهاب الدين بن أبي حجلة البديعة قوله:
يحكي سنا الفانوس من بعد لنا
…
برقًا تألق موهنًا لمعانه
فالنار ما اشتملت عليه ضلوعه
…
والماء ما سمحت به أجفانه
وقال فيه:
أنا في الدجى ألقى الهوى وبمهجتي
…
حرق يذوب لها الفؤاد جميعه
وكأنني في الليل صب مغرم
…
كتم الهوى فوشت عليه دموعه
وقال وأجاد:
يا صاح قد حضر الشراب ومنيتي
…
وحظيت بعد الهجر بالإيناس
وكسا العذار الخد حسنًا فاسقني
…
واجعل حديثك كله في الكاس
ومن تضامين الشيخ برهان الدين القيراطي:
تجمعت من نطف ذاته
…
حتى بدا في قالب فاسد
وليس على الله بمستنكر
…
أن يجمع العالم في واحد
1 المقبّل: مكان التقبيل وهو الفم.
2 المسرّة: الفرحة. الشرب: الذين يشربون الراح وهي الخمرة.
3 الحشيش: نوع من المسكرات يدخن تدخينًا والطلا: الخمرة.
وقال مضمنًا في قطائف:
لقد نطقت زهر الثنا بقطائف
…
تخيرتها فاختر لنفسك ما يحلو
تقول اسمعوا مني مدائح مرسلي
…
وكلي إن حدثتكم السن تتلو
وله في باذهنج وأجاد:
بروحي أفدي باذهنجًا موكلًا
…
بإطفاء ما ألقاه من حرق الجوى6
إذا فتتحت في الحر منه طوابق
…
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى
وقال فيه:
أيا باذهنجًا صح فيه لنا الهوا
…
صفاتك ما وفى بهن خطاب
وما شئت إلا أن أدل عواذلي
…
على أن عشقي في هواك صواب
وقال فيه الشيخ شهاب الدين بن أبي حجلة وأجاد:
هجا الشعراء جهلًا باذهنجي
…
لأن نسيمه أبدًا عليل
فقال الباذهنج وقد هجوه
…
إذا صح الهوى دعهم يقولوا
ويعجبني من قصائد الشيخ برهان الدين القيراطي قوله:
وموسوس عند الطهارة لم يزل
…
أبدًا على الماء الكثير مواظبا
يستصغر البحر الكبير لذقنه
…
ويظن دجلة ليس تكفي شاربا
ومن غاياته في هذا الباب قوله:
ولما بدا والليل أسود فاحم
…
قد انتشرت في الخافقين غياهبه2
أضاء بدر الثغر عند ابتسامه
…
دجا الليل حتى نظم الجزع ثاقبه3
وقال بدر الدين حسن الزغاري وأجاد:
وبي سامري مربى في عمامة
…
قد اكتسبت من وجنتيه احمرارها
موردة دارت بوجه كأنما
…
تناولها من خده فأدارها
1 الباذهنج: شجر طيب الرائحة.
2 الخافقين: الأفقين. الغياهب: الظلمات.
3 الجزع: نوع من الخرز الأسود.
ومثله قول الشيخ عز الدين الموصلي:
وسامري أعار البدر منه سنا
…
سموه نجمًا وهذا النجم غرار
تهتز قامته من تحت عمته
…
كأنه علم في رأسه نار
ومن تضامين محيي الدين بن قرناص الحموي:
أفديه أغيد زارني تحت الدجى
…
وعليه من فرعيه ليل ساجي
والفرق بين الشعر فوق جبينه
…
عريان يمشي في الدجى بسراج
وقال أيضًا:
سقى الله روضا قد تبدى لناظري
…
به شادن كالغصن يلهو ويمرح
وقد نضحت خداه من ماء ورده
…
وكل إناء بالذي فيه ينضح
وقوله في كاحل:
دعوا الشمس من كحل الجفون فكفه
…
تسوق إلى الطرف الصحيح الدواهيا1
فكم أذهبت من ناظر بسواده
…
وخلت بياضًا خلفها ومآقيا
وقال الشيخ شهاب الدين بن أبي حجلة:
ومتى امتطيت من الكئوس كيمتها
…
أمسيت تمشي في المسرّة راكبًا
ومتى طرقت عشى آنس ديرها
…
لم تلقَ إلّا راغبًا أو راهبا
وقال ابن الوردي: تعجبت من اشتهار بيتين ما أحكمهما بانيهما، ولا اعتنى بمعانيهما وهما:
مقامات الغريب بكل أرض
…
كبنيان القصور على الثلوج
يذوب الثلج تنهدم البنايا
…
وقد عزم الغريب على الخروج
فخلصتهما من مقامات الغريب بكل أرض، وأوقدت فكرتي فذاب الثلج، وانهدمت البنايات المستحقة للنقض، وجعلتهما أسمى من السماء، ونقلتهما من كثافة الأرض فقلت:
مليح ردفه والساق منه
…
كبنيان القصور على الثلوج
خذوا من خده القاني نصيبًا
…
فقد عزم الغريب على الخروج
1 الدواهيا: المصائب.
قلت، وقد سألني بعض حذاق الأدب عن بيت ابن مطروح، الذي لم تصل أفواه البلغاء إلى لثم أعتابه، ولا الحضور إلى جنابه، ولا وجدوا طاقة للدخول من بابه، فضمنته تضمينًا لو سمعه ابن مطروح لطرح نفسه خاضعًا، وسلم إلَيّ مفاتيح بيته طائعًا، وهو قوله:
لبسنا ثياب العناق
…
مزررة بالقبل
فقلت:
ولما خلعنا العذار
…
فككنا طويق الخجل
لبسنا ثياب العناق
…
مزررة بالقبل
ومن تضامين الشيخ زين الدين بن الوردي ما ذكره في ديوانه، أنه كان له صاحب يدعي بالمجد، حصل له أذية مفرطة من زوجته، وأبيها وجدها، فكتب إليه الشيخ:
زوجة مجد الدين والداها
…
في ثلب عرض المجد أشبهاها1
إن أباها وأبا أباها
…
قد بلغا في المجد غايتاها
ومن تضميني الذي ما حام فكر من ضمن إعجاز الملحة عليه، ولا سبقني جواد من فحول العربية إليه قولي مداعبًا:
نصبت أيري إذ نحوت نيكه
…
وهو يريد رفعها لي ابتدا
وبعد ذا للجر قد أضفته
…
وفي المضاف ما يجر أبدا
وأنشدني من لفظه الكريم، قاضي القضاة شهاب الدين بن حجر، من هذا الباب بيتين كان مولانا قاضي القضاة علاء الدين يترنم بهما:
تيه فلان الدين مع فقره
…
أقوى دليل أنه جاهل
لثوبه بالصقل من فوقه
…
قعاقع ما تحتها طائل2
وقال أيضًا في المجون:
وشاعر فاسق أتى امرأة
…
من خلف إذ سامه المليح قِلى
وقال إذا عاتبوه معتذرًا
…
تلجي الضرورات في الأمور إلى3
1 ثلب: تجريح. وعيب.
2 القعاقع: الكثير التصويت على غير طائل، والطائل: النتيجة والفائدة والمعنى.
3 إلى: إلى الممنوعات.
ومن تضاميني الغريبة:
حثثت عزمي شوقًا إليكم
…
فلم أطق مكثة بأرض
وحيث لم أحظ بالتلاقي
…
فغايتي أن ألوم حظي
وقولي:
يقول معذبي حسن تخير
…
سواي فقلت قد عز اصطباري
وكم في الناس من حسن ولكن
…
عليك لشقوتي وقع اختياري
وأنشد المقر المرحومي محمد بن منهال ناصر الدين، عين الموقعين بدمشق المحروسة، بيتين لابن الوردي، والأصل للحريري صاحب المقامات:
لوجنة صيادكم نسخة
…
حريرية ملحة في الملح
يقول لنبت العذار اجتهد
…
ومدّ الشباك وصد من سنح1
فنظمت في ذلك المجلس بيتين اعترفت لهما القصور العوالي بالقصر، وما شك أحد أن أبا بكر مقدم على عمر:
غدا طير أفراحنا سانِحًا
…
يحوم على ورد عذب القدح
فقلنا لبدر الحباب اجتهد
…
ومد الشباك وصد من سنح
ومن تضاميني الغريبة ما ضمنته قول عنترة في معلقته:
وإذا سكرت فإنني مستهلك
…
مالي وعرضي وافر لم يكلم
وإذا صحوت فما أقصر عن ندى
…
وكما علمت شمائلي وتكرمي
فقلت:
جاد النسيم على الربا
…
بندى يديه وقال لي
أنا ما أقصر عن ندى
…
وكما علمت شمائلي
وبيت الشيخ صفي الدين في هذا النوع:
إذا رآه الأعادي قال قائلهم
…
حتام نحن نساري النجم في الظلم
الشيخ صفي الدين ضمن في بيته الشطر الأول من مطلع المتنبي، وشطره الثاني:"وما سراه على خف ولا قدم".
1 سنح: ظهر وتعرّض أو مرّ من اليمين إلى الشمال.
وبيت العميان:
واسمح بنفسك وابذل في زيارته
…
كرائم المال من خيل ومن نعم
والعميان ضمنوا الشطر الثاني من بيت الشريف الرضي، وشطره الأول:"ماض من العيش لو يفدى بذلت له".
وبيت الشيخ عز الدين:
إيداعه الفضل في الأصحاب شرفهم
…
بين الرجال وإن كانوا ذوي رحم
والشيخ عز الدين ضمن الشطر الثاني من بيت المتنبي، من قصيدته التي ضمن فيها الشيخ صفي الدين الشطر الأول وهو قوله:
ولم تزل قلة الإنصاف قاطعة
…
بين الرجال وإن كانوا ذوي رحم
وبيت بديعيتي أنا مستمر فيه على المديح النبوي تابع لقولي، وهو:
وآله البحر آل أن يقس بندى
…
كفوفهم فافهموا تنكيت مدحهم
وفي الوغى رادفوا لُسنَ القنا سكنًا
…
من العدا في محل النطق بالكلم
وأودعوا للثرى أجسامهم فشكت
…
شكوى الجريح إلى العقبان والرخم
وأنا أيضًا ضمنت في بيتي شطرًا ثانيًا من ميمية المتنبي، والشطر الأول:"ولا تشك إلى خلق فتشمته"، ووجه الاستحقاق هنا سافر لمستجلي محاسن هذا النوع، والله أعلم.