الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر الطاعة والعصيان:
اعاتهم تقهر العصيان قدرهم
…
له العلوّ فجانسه بمدحهم
هذا النوع، أعني الطاعة والعصيان، استنبطه أبو العلاء المعري في شرحه الذي سماه:"معجز أحمد" عند نظره في شعر أبي الطيب، وهو قوله:
يرد يدًا عن ثوبها وهو قادر
…
ويعصي الهوى في طيفها وهو راقد
وسماه الطاعة والعصيان، وقال: إنما أراد أبو الطيب أن يقول: يرد يدًا عن ثوبها وهو مستيقظ، بحيث تطيعه المطابقة في قافية البيت، بقوله: راقد، فلم يطعه الوزن في ذلك، ولما عصاه الوزن عدل إلى لفظة: قادر، وجعلها مكان مستيقظ، لما فيها من معنى اليقظة وزيادة، فأطاعه التجنيس المقلوب، بين قادر وراقد، وعصته المطابقة، بين راقد ومستيقظ، فلم يخل بيته عن معنى بديعي، وقيل إن هذا النوع لم يسمع له مثال قبل أبي العلاء، ولا بعده في سائر كتب البديع، لقلة وقوعه وتعذر اتفاقه، وإنما وقع للمتنبي نادرًا.
قلت: أنا تابع، في هذا النوع، مذهب علامة هذا العلم، وهو الشيخ زكي الدين ابن أبي الأصبع -تغمده الله برحمته ورضوانه- فإنه كشف عن وجه الإشكال، وأرشد من كان متعلقًا بحبال المحال، فإن القوم أضربوا عن هذا النوع وهو ظاهر؛ لأن الشيخ زكي الدين قال: إضرابهم عن النظر فيه، إما لحسن ظنهم بالمعري وموضعه من الأدب، واعتقادهم فيه العصمة من الخطأ والسهو، وإما أن يكون مر عليهم ما مر عليه في هذا البيت، إذ ليس في البيت شيء أطاع الشاعر ولا شيء عصاه، ودليل ذلك قول المعري: إن المتنبي أراد مستيقظًا، ليحصل بينها وبين لفظة راقد طباقًا، فعصته لفظة مستيقظ.
لامتناعها من الدخول في هذا الوزن، وهذا محال؛ لأن المتنبي لو أراد أن يقول: يردُّ يدًا عن ثوبها وهو ساهر، لحصل له غرضه من الطباق، ولم يعصه الوزن، وإنما المتنبي قصد أن يكون في بيته طباق وجناس، فعدل عن لفظة ساهر إلى قادر؛ لأن القادر ساهر وزيادة، وحصل بين راقد وقادر الطباق المعنوي، وجناس العكس؛ لأن الطباق أنواع: منها المعنوي: كما أن الجناس أنواع: منها العكس، ومذهب المتنبي ترجيح المعاني على الألفاظ، ولا سيما وبالعدول عن الطباق اللفظي، حصل في البيت الطباق والجناس معًا، وما كان فيه الطباق والجناس معًا أفضل مما ليس فيه سوى الطباق. ولو عدل المتنبي إلى ما ذكره المعري، لفاته هذا الفضل، والله أعلم.
وقد ثبت من هذا البحث، أن بيت المتنبي لا يصلح أن يكون شاهدًا على هذا الباب؛ لأنه لم يعصه فيه شيء ولم يطعه غيره، وكذلك بيت الشيخ صفي الدين في بديعيته وهو قوله:
لهم تهلل وجه بالحياء كما
…
مقصوره مستهل من أكفهم1
فإنه ذكر، في شرحه، أنه أراد الجناس، بين الحياء والحيا، ولما عصاه الوزن وتعذر التجنيس عدل إلى لفظة مقصوره، وهي ردف لفظة الحيا، فأطاعه الجناس المعنوي بإشارة ردفه إليه. اهـ.
قلت: والذي قرره الشيخ صفي الدين أيضًا محال، ولو قال:
لهم تهلل وجه بالحياء كما
…
لنا الحيا مستهل من أكفهم
لحصل له ما أراد من الجناس، وخلص من ثقل مقصوره، وحصل لبيته طلاوة في الأذواق، وخلا من العقادة، وتحقق المتأمل أن عصيان الوزن هنا محال، وكذلك بيت الشيخ عز الدين وهو:
أطاعه وعصاه المؤمنون ومن
…
ناواه ذا الفرق بين الإنس والنعم2
فإنه ذكر، في شرحه، أنه أراد الطباق بين المؤمنين والكافرين، فعصاه الوزن وتعذرت المطابقة، فأتى بلفظة ناواه، فأطاعته المطابقة وعصاه الوزن.
قلت: والذي قرره الشيخ عز الدين أيضًا ههنا محال، ولو قال:
أطاعه وعصاه المؤمنون وجمـ
…
ـع الكافرين ولم يحفل بجمعهم
1 المقصور: الذي يقتصر عليهم منه. مستهل: نازل أو بادئ.
2 ناواه: ناوأه: عصاه وعمل ضده. النعم: الأنعام وهي الحيوانات.
لحصل له ما أراد من المطابقة بين المؤمنين والكافرين، وخلص من ثقل ناواه وتجشم الإنس والنعم التي زلزلت أركان بيته، وأما قوله: أطاعه وعصاه فهذه المطابقة تحصيل الحاصل؛ لأنها تسمية النوع الذي هو المراد هنا، وجل القصد: أن عصيان الوزن في بيت أبي الطيب، وبيت الشيخ صفي الدين وبيت الشيخ عز الدين محال.
وبيت بديعيتي أقول فيه، عن الصحابة رضي الله عنهم أجمعين:
طاعاتهم تقهر العصيان قدرهم
…
له العلو فجانسه بمدحهم
هذا البيت أردت أن أجانس فيه بين العلوّ والغلوّ، فلم يطع فيهما الوزن، فلما عصى ذلك عدلت إلى لفظة مجانسة، فحصل الجناس المعنوي بإشارة ردفه إليه، فهذا البيت مشتمل على الطاعة والعصيان حقيقة، فإن الناظم أراد فيه جناس التصحيف، فعصاه الوزن وأطاعه الجناس المعنوي. والعميان ما نظموه في بديعيتهم، والله أعلم.