الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر الإبداع:
إبداع أخلاقه إيداع خالقه
…
في زخرف الشعر فاسجع بها وهِمِ1
الإبداع: هو أن يأتي الشاعر في البيت الواحد بعدة أنواع، أو في القرينة الواحدة من النثر وربما كان في الكلمة الواحدة ضربان من البديع، ومتى لم يكن كذلك فليس بإبداع، كقوله تعالى:{وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} 2. هذه الآية الشريفة استخرج منها زكي الدين بن أبي الأصبع أنواعًا كثيرةً من البديع منها: المناسبة التامة بين ابلعي وأقلعي، والمطابقة اللطيفة بين الأرض والسماء، والمجاز في قوله: ويا سماء، ومراده مطر السماء، والاستعارة في قوله: أقلعي، والإشارة في قوله تعالى: وغيض الماء، فإنه بهاتين اللفظتين عبر عن معانٍ كثيرة، والتمثيل في قوله تعالى: وقضي الأمر، فإنه عبر عن هلاك الهالكين ونجاة الناجين بغير لفظ الموضوع له، والإرداف في قوله تعالى: واستوت على الجودي، فإنه عبر عن استقرارها في المكان بلفظ قريب من لفظ المعنى، والتعليل؛ لأنه قوله تعالى: غيض الماء، علة الاستواء، وصحة التقسيم، إذ قد استوعب سبحانه أقسام أحوال الماء حالة نقصه، والاحتراس، في قوله تعالى: وقيل بعدًا للقوم الظالمين، إذ الدعاء عليهم مشعر بأنهم مستحقون الهلاك، احتراسًا من ضعيف يتوهم أن الهلاك شمل من يستحق ومن لا يستحق، فأكد بالدعاء على المستحقين، والمساواة؛ لأن لفظ الآية الشريفة لا يزيد على معناها، وحسن النسق؛ لأنه سبحانه وتعالى قص القصة،
1 هِم: أمر من هام يهيم أي أحبَّ حبًّا شديدًا.
2 هود: 11/ 44.
وعطف بعضهما على بعض، بحسن ترتيب، وائتلاف المعنى؛ لأن كل لفظة لا يصلح معها غيرها، والإيجاز؛ لأنه سبحانه وتعالى قص القصة بأقصر عبارة، والتسهيم؛ لأنه من أول الآية إلى قوله: أقلعي، يقتضي آخرها، والتهذيب؛ لأن مرادات الألفاظ موصوفة بصفات الحسن، وعليها رونق الفصاحة لسلامتها من التعقيد والتقديم والتأخير، والتمكين؛ لأن الفاصلة مستقرة في قرارها مطمئنة في مكانها، والانسجام، وهو تحدر الكلام بسهولة، كما ينسجم الماء، وباقي مجموع الآية الشريفة هو الإبداع الذي هو المراد هنا، مع تكرار الأنواع البديعية.
وسهوت عن تقديم حسن البيان، وهو أن السامع لا يتوقف في معرفة معنى الكلام، ولا يشكل عليه شيء من هذه النظائر، وهذا الكلام تعجز عنه قدرة البشر.
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته على الإبداع قوله:
ذل النضار كما عز النظير لهم
…
بالفضل والبذل في علم وفي كرم1
الشيخ صفي الدين في بيته من أنواع البديع: التجنيس، والتسجيع، واللف والنشر، والكناية عن الكرم، في قوله: ذل النضار، وائتلاف المعنى مع المعنى.
والعميان ما نظموا هذا في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين الموصلي ذكر فيه ستة عشر نوعًا، ما أمكن العبد استيعابها، وتركته لحذاق الأدب، وهو قوله:
كم أبدعوا روض عدل بعد طولهم
…
وأترعوا حوض فضل قبل قولهم
وبيت بديعيتي، أقول فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم:
إبداع أخلاقه إبداع خالقه
…
في زخرف الشعر فاسجع بها وهم
الشطر الأول من هذا البيت مشتمل على: التورية، وعلى جناس التصحيف، وعلى الجناس المطلق، وعلى الترصيع، والمماثلة، والتسجيع، وائتلاف المعنى مع المعنى، والسهولة. والشطر الثاني فيه: التورية، ومراعاة النظير، والاعتراض، والانسجام ظاهر في البيت بكماله، والإبداع الذي هو المراد هنا، والله أعلم.
1 النضَار: الجود والكرم.