المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌ذكر الاقتباس: وقلت يا ليت قومي يعلمون بما … قد نلت - خزانة الأدب وغاية الأرب لابن حجة الحموي - جـ ٢

[الحموي، ابن حجة]

فهرس الكتاب

- ‌ذكر النوادر

- ‌ذكر المبالغة:

- ‌ذكر الإغراق:

- ‌ذكر الغلو:

- ‌ذكر ائتلاف المعنى مع المعنى:

- ‌ذكر نفي الشيء بإيجابه

- ‌ذكر الإيغال:

- ‌ذكر التهذيب والتأديب:

- ‌ذكر ما لا يستحيل بالانعكاس:

- ‌ذكر التورية:

- ‌ذكر المشاكلة:

- ‌ذكر الجمع مع التقسيم:

- ‌ذكر الجمع مع التفريق:

- ‌ذكر الإشارة:

- ‌ذكر التوليد:

- ‌ذكر الكناية:

- ‌ذكر الجمع:

- ‌ذكر السلب والإيجاب:

- ‌ذكر التقسيم:

- ‌ذكر الإيجاز:

- ‌ذكر المشاركة:

- ‌ذكر التصريع:

- ‌ذكر الاعتراض:

- ‌ذكر الرجوع:

- ‌ذكر الترتيب:

- ‌ذكر الاشتقاق:

- ‌ذكر الاتفاق:

- ‌ذكر الإبداع:

- ‌ذكر المماثلة:

- ‌ذكر حصر الجزئي وإلحاقه بالكلي:

- ‌ذكر الفرائد

- ‌ذكر الترشيح:

- ‌ذكر العنوان

- ‌ذكر التسهيم:

- ‌ذكر التطريز:

- ‌ذكر التنكيت:

- ‌ذكر الإرداف:

- ‌ذكر الإيداع:

- ‌ذكر التوهيم:

- ‌ذكر الألغاز:

- ‌ذكر سلامة الاختراع:

- ‌ذكر التفسير:

- ‌ذكر حسن الاتباع:

- ‌ذكر المواردة:

- ‌ذكر الإيضاح:

- ‌ذكر التفريع:

- ‌ذكر حسن النسق:

- ‌ذكر التعديد:

- ‌ذكر التعليل:

- ‌ذكر التعطف:

- ‌ذكر الاستتباع:

- ‌ذكر الطاعة والعصيان:

- ‌ذكر المدح في معرض الذم:

- ‌ذكر البسط:

- ‌ذكر الاتساع:

- ‌ذكر جمع المؤتلف والمختلف:

- ‌ذكر التعريض:

- ‌ذكر الترصيع:

- ‌ذكر السجع:

- ‌ذكر التسميط:

- ‌ذكر الالتزام:

- ‌ذكر المزاوجة:

- ‌ذكر التجزئة:

- ‌ذكر التجريد:

- ‌ذكر المجاز:

- ‌ذكر الائتلاف:

- ‌ذكر التمكين:

- ‌ذكر الحذف:

- ‌ذكر التدبيج:

- ‌ذكر الاقتباس:

- ‌ذكر السهولة:

- ‌ذكر حسن البيان:

- ‌ذكر الإدماج

- ‌ذكر الاحتراس:

- ‌ذكر براعة الطلب:

- ‌ذكر العقد:

- ‌ذكر المساواة:

- ‌ذكر حسن الختام

- ‌فهرس الموضوعات

الفصل: ‌ ‌ذكر الاقتباس: وقلت يا ليت قومي يعلمون بما … قد نلت

‌ذكر الاقتباس:

وقلت يا ليت قومي يعلمون بما

قد نلت كي يلحظوني باقتباسهم

الاقتباس: هو أن يضمن المتكلم كلامه كلمة من آية، أو آية من آيات كتاب الله خاصة، هذا هو الإجماع. والاقتباس من القرآن على ثلاثة أقسام: مقبول، ومباح، ومردود. فالأول: ما كان في الخطب والمواعظ والعهود ومدح النبي صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك. والثاني: ما كان في الغزل والرسائل والقصص. والثالث: على ضربين: أحدهما، ما نسبه الله تعالى إلى نفسه، ونعوذ بالله ممن ينقله إلى نفسه، كما قيل عن أحد بني مروان أنه وقّع على مطالعة فيها شكاية من عماله:{إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} 1 والآخر تضمين آية كريمة في معنى هزل، ونعوذ بالله من ذلك، كقول القائل:

أوحى إلى عشاقه طرفه

{هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} 2

وردفه ينطق من خلفه

{لمثل ذا فليعمل العاملون} 3

ومن الاقتباسات التي هي غير مقبولة، قول ابن النبيه في مدح الفاضل:

قمت ليل الصدود إلا قليلًا

ثم رتلت ذكركم ترتيلًا

ووصلت السهاد أقبح وصل

وهجرت الرقاد هجرًا جميلًا

مسمعي كَلَّ عن سماع عذول

حين ألقى عليه قولًا ثقيلًا

وفؤادي قد كان بين ضلوعي

أخذته الأحباب أخذًا وبيلًا4

1 الغاشية: 88/ 26.

2 المؤمنون: 23/ 36.

3 الصافات: 37/ 61، مع إبدال "ذا" بـ "هذا".

4 وبيلًا: شديدًا قاسيًا.

ص: 455

قل لراقي الجفون إن لعيني

في بحار الدموع سبحًا طويلًا

ماس عجبًا كأنه ما رأى غصـ

ـنًا طليحًا ولا كثيبًا مهيلا

وحمى عن محبه كاس ثغر

كان منه مزاجها زنجبيلا1

بان عني فصحت في أثر العيـ

ـس ارحموني ومهلوهم قليلا

أنا عبد للفاضل بن علي

قد تبتلت بالثنا تبتيلا2

لا تسميه وعد بغير نوال

{إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولا} 3

ونعوذ بالله من قوله بعد ذلك:

جل عن سائر الخلائق فضلًا

فاخترعنا في مدحه التنزيلا

واعلم أن الاقتباس على نوعين: نوع لا يخرج به المقتبس عن معناه، كقول الحريري: فلم يكن إلا كلمح البصر أو أقرب، حتى أنشد فأغرب. فإن الحريري كنى به عن شدة القرب، وكذلك هو في الآية الشريفة. ونوع يخرج به المقتبس عن معناه، كقول ابن الرومي:

لئن أخطأت في مدحيـ

ـك ما أخطأت في منعي

لقد أنزلت حاجاتي

{بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} 4

فإن الشاعر كنى به عن الرجل الذي لا يرجى نفعه، والمراد به في الآية الكريمة أرض مكة، شرفها الله وعظمها.

ثم اعلم أنه يجوز أن يغير لفظ المقتبس منه، بزيادة أو نقصان أو تقديم أو تأخير أو إبدال الظاهر من المضمر أو غير ذلك، فالزيادة وإبدال الظاهر من المضمر، كقول الشاعر:

كان الذي خفت أن يكونا

إنا إلى الله راجعونا

فزاد الألف في راجعون على جهة الإشباع وأتى بالظاهر مكان المضمر في قوله: إنا إلى الله، ومراده آية التعزية في المصيبة، وهي قوله تعالى:

1 الزنجبيل: مشروبات الروحية. وهو قريب من الخمرة.

2 تبتل: انقطع لعبادته ومنه البتول مريم التي انقطعت لعبادة ربها.

2 مفعولًا: نافذًا. وسام: طلب. و"وعد" وردت بالرفع وكان حقها النصب "وعدًا".

4 إبراهيم: 14/ 37.

ص: 456

{إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} 1. والنقصان ما تقدم من قول الحريري: فلم يكن إلا كلمح البصر أو أقرب، فإنه أسقط لفظة هو، إذ الآية الكريمة لفظها: {كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} 2. والتقديم والتأخير، كقول الشاعر:

قال لي إن رقيبي

سيئ الخلق فداره

قلت دعني وجهك

الجنة حفت بالمكاره

هذا الاقتباس من الحديث، فإنه تقدم أن الإجماع على جواز الاقتباس من القرآن ومنهم من عد المضمن في الكلام من الحديث النبوي اقتباسًا، وزاد هنا الطيبي في الاقتباس من مسائل الفقه، والشاعر قدم في لفظ الحديث وأخر؛ لأن لفظ الحديث:"حفت الجنة بالمكاره"، ومن هنا يتبين لك قطع نظرهم في الاقتباس عن كونه نفس المقتبس منه، ولولا ذلك للزمهم الكفر في لفظ القرآن، والنقص منه، ولكنهم يأتون به على أنه لفظ القرآن، ومن أمثلته الشعرية قول الحماسي:

إذا رمت عنها سلوة قال شافع

من الحب ميعاد السلو المقابر

سيبقى لها في مضمر الحب والحشا

سرائر تبقى يوم تبلى السرائر3

ومنه:

أهدى إليكم على بعد تحيته

حيّوا بأحسن منها أو فردوها

ويعجبني هنا قول ابن سنا الملك في بعض مطالعه:

رحلوا فلست مسائلًا عن دارهم

أنا باخع نفسي على آثارهم4

ومن لطائف هذا الباب قول القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر في معشوقه المسمى بالنسيم:

إن كانت العشاق من أشواقهم

جعلوا النسيم إلى الحبيب رسولا

فأنا الذي أتلو لهم {يا ليتني

كنت اتخذت مع الرسولا سبيلا} 5

ومثله في الحسن، قول شيخ شيوخ حماة المحروسة رحمه الله تعالى:

1 البقرة: 2/ 156.

2 النحل: 16/ 77.

3 السرائر: الأولى: الأسرار، والثانية: النوايا أو مكان الأسرار وتبلى: تختبر وتجرّب.

4 باخع نفسه: قاهرها وقاتلها غيظًا وغمًّا.

5 الفرقان: 25/ 26. بزيادة "كنت" عليها.

ص: 457

يا نظرة ما جلت لي حين طلعته

حتى انقضت وأدامتني على وجل

عاتبت إنسان عيني في تسرعه

فقال لي {خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} 1

ومثله:

إن دمعت عيني فمن أجلها

بكى على حالي من لا بكى

أوقعني إنسانها في الهوى

يا أيها الإنسان ما غركا

ومثله:

قسمًا بشمس جبينه وضحاها

ونهار مبسمه إذا جلاها

وبنار خديه المشعشع نورها

وليل ضدغيه إذا يغشاها

لقد ادعيت دعاويًا في حبه

صدقت وأفلح من بذا زكّاها

فنفوس عذّالي عليه وعذّري

قد ألهمت بفجورها تقواها

فالعذر أسعدها مقيم دليله

والعذل منبعث له أشقاها

ومنه قول القاضي محيي الدين بن قرناص:

إن الذين ترحلوا

نزلوا بعين باصره

أنزلتهم في مقلتي

فإذا هم بالساهرة2

ومنه قول الشيخ جمال الدين بن نباتة، رحمه الله تعالى:

وأغيد جارت في القلوب لحاظه

وأسهرت الأجفان أجفانه الوسنى3

أجل نظرًا في حاجبيه وطرفه

ترى السحر منه قاب قوسين أو أدنى

ومنه قول الشيخ زين الدين بن الوردي، رحمه الله تعالى:

رب فلاح مليح

قال يا أهل الفتوّة

كفلي أضعف خصري

فأعينوني بقوّة4

ومنه قول المعمار:

ابن الجمالي مات حقًّا

برّح بي موته وآذى

ورحت أقرأ عليه جهرًا

{يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا} 5

1 الأنبياء: 21/ 37. وإنسان العين: بؤبؤها.

2 الساهرة: من الأرض المنبسطة المطمئنة، وجهها.

3 الأغيد: الفتاة التي تتمايل في مشيها "الغادة". الوسنى: الناعسة.

4 الكفل: الردف أو العجيزة.

5 مريم: 19/ 23.

ص: 458

ويعجبني في هذا الباب قول سيدنا الإمام القدوة، الحافظ الشيخ شهاب الدين بن حجر العسقلاني الشافعي -تغمده الله برحمته- وهو:

خاض العواذل في حديث مدامعي

لما جرى كالبحر سرعة سيره

فحبسته لأصون سر هواكم

{حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} 1

وقلت:

ناحت مطوّقت الرياض وقد رأت

تلوين دمعي بعد فرقة حبه

لكن له لما سمحت تباخلت

فغدت مطوقة بما بخلت به

وهنا فائدة يتعين ذكرها في هذا الباب، وهي أن العلماء في هذا الباب قالوا: إن الشاعر لا يقتبس بل يعقد ويضمن، أما الناثر فهو الذي يقتبس كالمنشئ والخطيب، فمن ذلك قول الحريري: فطوبى لمن سمع ووعى، وحقق ما ادّعى، {ونَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} 2، وعلم أن الفائز من ارعوى، {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَاّ مَا سَعَى، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} 3، وقوله:{أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِْ} 4، وأميز صحيح القول من عليله. وكقول ابن نباته الخطيب في الخطب التي في ديوانه: أما أنتم بهذا الحديث تصدقون، ما لكم لا تشفقون، {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} 5.

قلت: وأما عبد المؤمن الأصفهاني، صاحب أطباق الذهب، فإنه عنوان هذا الكتاب، وإمام هذا المحراب، فمن قوله في الأطباق: فمن عاين تلوين الليل والنهار لا يغتر بدهره، ومن علم أن بطن الثرى مضجعه لا يمرح على ظهره، فيا قوم لا تركضوا خيل الخيلاء في ميدان العرض، {أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ} 6. وقوله: ولو علم الجذل صولة النجار، وعضة المنشار، لما تطاول شبرًا، ولا تخايل كبرًا، وسيقول البلبل المعتقل ليتني كنت غرابًا، {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} 7، وقوله:

لله تحت قباب العز طائفة

أخفاهم في رداء الفقر إجلالا

1 النساء: 4/ 140.

2 النازعات: 79/ 40.

3 النجم: 53/ 39، 40.

4 يوسف: 12/ 45.

5 الذاريات: 51/ 23.

6 الملك: 67/ 16.

7 النبأ: 78/ 40.

ص: 459

هم السلاطين في أطمار مسكنة

استعيدوا من ملوك الأرض أقيالا1

هذي المكارم لا ثوبان من عدن

خيطا قميصًا فعادا بعد أسمالا

هذي المناقب لا قعبان من لبن

شيبًا بماء فعادا بعد أبوالا2

هم الذين جبلوا براء من التكلف، {يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ} 3

وقوله أهل التسبيح والتقديس، لا يؤمنون بالتربيع والتسديس، والإنسان بعد علو النفس، يجل عن ملاحظة السعد والنحس، وإن في الدين القويم، لشغلًا عن الزيج4 والتقويم. الإيمان بالكهانة، باب من أبواب المهانة، فأعرض من الفلاسفة، وغض بصرك عن تلك الوجوه الكاسفة، فأكثرهم عبدة الطبع، وحرسة الكواكب السبع، فما للمنجم الغبي، وما للكاهن الأجنبي، وسر حُجِبَ عن غير النبي، وهل ينخدع بالفال إلا قلوب الأطفال، وإن امرأ جهل حال قومه، وما الذي يجري عليه في يومه، كيف يعرف حال الغد وبعده، ونحس الفلك وسعده، وإن قومًا يأكلون من قرصة الشمس5 لمهزولون، وإنهم عن السمع لمعزولون، ما السموات إلا مجاهل والكواكب ضواها، وما النجوم إلا هياكل سبعة ومن الله قواها، كلُّ يسري لأمر معمى، {وَكُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى} 6.

وقوله: الحرص يسبل على وجوه الظلمة براقعًا، والظلم يدع الديار بلاقعًا7، يرضون طيب الحياة وينسون يوم النشور، ويفتكون فتك البزاة ويؤملون عمر النسور. فلا تغرنك من الظلمة كثرة الجيوش والأنصار، {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ} 8. وقوله: اغتنم فودك9 الفاحم قبل أن يبيض، فإنما الدنيا جدار يريد أن ينقض، فلا يغرنك قطفها النضيج هو {غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ} 10. قوله في آخر مقالة من الأطباق: تلك أمة قد خلت ذكروا الله في الخلوات،

1 الأطمار: الثياب البالية. الأقيال: جمع مفردة قيل وهو الملك العظيم.

2 المناقب: الأعمال الجليلة. قعبان: مثنى قعب وهو القدح الضخم أو وعاء الحلب.

3 البقرة: 2/ 273.

4 الزيج: خيط البناء الذي يمد على الحائط لتضبيط المداميك.

5 فرصة الشمس: عينها.

6 الرعد: 13/ 2، وفاطر: 335/ 13، والزمر: 39/ 5.

7 بلاقع: مقفرة.

8 إبراهيم: 14/ 41.

9 الفود: جانب الرأس مما يلي الأذنين إلى الأمام. الشعر الذي عليه.

10 الحد: 57/ 20.

ص: 460

{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} 1. وقوله: أصدق الأرواح روحان ممتزجان، وأخلص القلوب قلبان يزدوجان، يتصاحبون {قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} 2، وآخرون {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} 3. وقوله لله دره: فيا هذا لا تحسد المتنعم على ترفه، ولا تغبط المتكبر على شرفه، وقل له إذا برزت الجحيم وقدم له الحميم، {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} 4. وقوله: أليس من الخسران جزار يأكل الميت، ومكّيّ لا يزور البيت، فلا تكن كالجمل الطليح5 يحمل لغيره أسفارًا، ولأنك كـ {الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} 6.

قلت: هذا القدر الذي أوردته هنا كافٍ في الاقتباسات التي تليق بمواعظ الخطب، فيتعلم بليغ الخطباء منها سلوك الأدب، ولم يبق إلا إظهار نور الاقتباس من مشكاة نور المترسلين، فإنهم ملوك هذا الشأن، ومن استضاء بسحر اقتباسهم قال: إن هذا إلا سحر مبين. "ومن ذلك" قول مالك أزمة هذا الفن القاضي الفاضل من تقريظ ورأيت كل معتاض غيره لصناعة البديع لاهجًا بالبدعة خارجًا عن الشرعة، دارجًا في غير عشه، مخرجًا ميت القول من طرسه على نعشه، فهي المدام وما دون فهم عنها قدام، ووفود بلاغة لو وجهت إلى الجنة لقال رضوانها:{ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ} 7 وكل ابنة فكر ما طالعت فكره إلا صاح لسان طربه: {يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ} 8 وكل غصن ألف وكل همزة حمام، وفيها وفيها، وأخاف أن أقول ولا أوفيها، وليت هذه المحاسن وليت الأسماع، وألقت القناع، وفي العمر مستمتع، وفي قوس الشبيبة منزع، ولكن ضاق فتر عن مسير، وجاء فضلها الأوَّل في الزمن الأخير، وقد حان أن تخيب في البلاغة القدحان9، وأنى وإنه {قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} 10.

وقوله: لا زالت الملوك تنزل لركوبه، والسيوف تضحك لقطوبه، وأسبغ عليه نعمه باطنة وظاهرة، وكتب له في الدنيا حسنة وفي الآخرة، وغض عيون أعدائه فإذا هم

1 مريم: 19/ 59.

2 آل عمران: 3/ 191.

3 آل عمران: 3/ 167.

4 الدخان: 44/ 59.

5 الطليح: المهزول المجهود.

6 الجمعة: 62/ 5.

7 الحجر: 15/ 46.

8 يوسف: 12/ 19.

9 القدحان: جمع مفرده قدح وهو ما كان يستقسم به أو قَدَح: وهو الإناء.

10 يوسف: 12/ 41.

ص: 461

بالساهرة1. وقوله: وقف الخادم على الكتاب فارتقى إلى سماء المكرمات وكانت سطوره درجا، وأضاءت في خاطره فما استمدت مدادًا ولكن أذكت سرجًا، ونهجت له طريق السعادة فللَّه من كتاب لولا الغلو لقلنا من كتاب {لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} 2. وقوله: ورد على الخادم الكتاب الكريم فشكره وقربه نجيا ورفعه مكانًا عليا، وأعاد عليه عصر الشباب وقد بلغ من الكبر عتيا. وقوله: كتبها الخادم وقد أخرجت السماء أثقالها، وفتحت من العز إليَّ أقفالها، وركضت الرعود لابسة من الغيم جلالها، وثوب الليل بالغمام غسيل، وسبج3 الظلام بسيف البروق قتيل. وقد زادت السيول إلى أن صارت الخيام عليها فواقع، وهمهم الرعد قارئًا فاستقبلت قبابها بين ساجد وراكع، وكأن الصباح قد ذاب في الليل قطرا، وكأن البرق لما ساوى الغمام بين صدفي الليل والنهار قال: آتوني أفرغ عليه قطرا. وقوله: ونفذت بلاغته بسلطانها، ونفثت بسحر بيانها، وصلى القلم من يده في محراب، ومن طرسه على سجادة وجاء منه كتاب، لو كان البحر مدادًا لما زاده، وكم كتاب لا يساوي مداده و {أَخَذَتْ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا} 4 وحملت من الأسلحة أحرفها، وشنت الغارة على السمع والبصر، فسلم لها من سلم وبهت الذي كفر. وقوله: النوبة البغدادية الحديث فيها زائد وناقص، والخبر عنها مشوب وخالص، وابن أبي عصرون قوم يقولون قد وزر، ويوم يقولون كلا لا وزر. وقوله: وقفت على تلك الألفاظ المجنسة التي هي ذرية بعضها من بعض، وثمرات الجنة فكلما رزقت منها رزقًا قلت كقول أهلها: الحمد لله الذي أورثنا الأرض.

وقوله: ومما يجب أن يعانيه تربية الحمام التي سكنت في البروج فهي أنجم، وأعدت كنانتها للحاجات فهي أسهم، وقد كادت أن تكون من الملائكة فإذا نيطت بها الرقاع، صارت أولى أجنحة مثنى وثلاث ورباع. وقوله: وعملوا الأبرجة الخشبية، وزحفوا بها إلى الأبراج الحجرية، وخصوصًا إلى برج يعرف بالذباب، ولكن حماه ذباب السيف الإسلامي من الذباب، فلم يقدروا أن يستنقذوه، وضعفوا عنه فسلبهم أرواحهم {وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ} 5. وقوله: والإسلام مد إلى ترابه باعًا طويلًا، ألقى عليه الشرك من ألسنة السيوف قولًا ثقيلًا، وحصون العدوّ قامت قيامتها فحالها اليوم كيوم

1 الساهرة: الأرض المنبسطة المطمئنة. وجهها.

2 الكهف: 18/ 1.

3 السيج: نوع من الخرز أسود اللون، وسبج الليل وسواده.

4 يونس: 10/ 24.

5 الحج: 22/ 73.

ص: 462

تكون الجبال كثيبًا مهيلًا. وقوله، مما كتب به عن السلطان الملك الناصر إلى أمير المؤمنين المستضيء بالله، وهو: سلام قولًا من رب رحيم و {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} 1، مملوك العتبات الشريفة وعبدها، ومن اشتمل على خاطره ولاؤها وودها، ينهى أن الله سبحانه شرف ملة الإسلام على الملل، ودولة أمير المؤمنين على الدول، وقد أقام سيفه حسان الكفرة فأظهر تحريف حسابها، ونقلها من ظهور أسرتها إلى بطون ترابها، فهل ترى لهم من باقية، أو تسمع لهم من لاغية، وظلت أقحاف بني حام تحت غربان الفلاة غربانًا، وشوهدت ظلمات بعضها فوق بعض أفعالًا وألوانًا. وعزّت سيوف الإسلام فظلت أعناقهم لها خاضعين، وعوتبت منهم الأنفس والرءوس فقالتا أتينا طائعين.

ومن اقتباسات القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر البديعة، قوله، من رسالته التي كتبها عن السلطان الملك الظاهر إلى شمس الدين آق سنقر الفارقاني، جوابًا عن كتابه الذي أرسله بفتوح النوبة، لما توجه إليها من الديار المصرية، "وهو": أدام الله نعمة المجلس ولا زالت عزائمه مرهوبة، وغنائمه مجلوبة ومحبوبة، وسطاه وخطاه هذي تكفي النوب2 وهذه تفتح أرض النوبة، ولا برحت وطأته على الكفار مشتدة، وآمالها لهلاك الأعداء كرماحه ممتدة، ولا عدمت الدولة بيض سيوفه التي يرى بها الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة. صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس تثني على عزائمه التي دلت على كل أمر رشيد، وأتت على كل جبار عنيد، وحكمت بعدل السيف في كل عبد سوء {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَاّمٍ لِلْعَبِيدِ} 3 والله يشكر تفاصيل همم المجلس وجملها، وآخر غزواته وأولها، وإذا انسلخ نهار سيفه من ليل هذا العدو يعود سالِمًا إلى مستقره، {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} 4.

وقوله: في وصية العهد الشريف الذي أنشأه السلطان الملك الأشرف صلاح الدين خليل، عن والده الملك المنصور قلاوون الصالحي رحمه الله وهو: والشرع الشريف هو قانون الحق المتبع، ومأمون الأمر المستمع، به يتمسك من يمتار5 ويمتاز، وهو جنة والباطل نار، فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز.

"ومن ذلك" اقتباس العلامة أبي طاهر إسماعيل بن عبد الرزاق الأصفهاني، في

1 الواقعة: 56/ 89.

2 النوب: الكوارث والمصائب.

3 فصلت: 41/ 46.

4 يس: 36/ 38.

5 امتارَ: وامترى: شكَ وجادل.

ص: 463

رسالة القوس وهو صورة مركبة، وليس لها من تركيب النظم، إلا ما حملت ظهورها أو الحوايا أو ما اختلط بعظم.

"ومن ذلك" ما أورده الشيخ جمال الدين بن نباته من الاقتباسات البديعية، في رسالة السيف والقلم، فرقى الأنامل على أعواده وقام خطيبًا بمحاسنه في خلعة سواده، والتفت إلى السيف فقال:{بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ، ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ، مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} 1. الحمد لله الذي علم بالقلم، وشرفه بالقسم، وخط به ما قدر وقسم، وصلى الله على سيدنا محمد القائل: "جف القلم بما هو كائن"، وعلى آله وصحبه ذوي المجد البين وكل مجد بائن، صلاة واضحة السطور، فاتحة أدراج الصدور، ما نقلت عن صحائف البحار غواديها، كتبت أقلام النور على مهارق الرياض حكمة باريها.

أما بعد: فإن القلم منار الدين والدنيا، وقصبة سباق ذوي الدرجة العليا، ومفتاح باب اليمن المجرب إذا أعيى، وسفير الملك المحجب، وعذيق الملك المرجب2، وزمام أموره السائرة، وقادمة أجنحته الطائرة، وأنملة الهدى المشيرة إلى ذخائر الدنيا والآخرة، به رقم كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم التي تهذب الخواطر والخواطل3. فبينه وبين من يفاخره الكتاب والسنة، وحسبه ما جرى على يده الشريفة من منّه، إن نظمت فرائد العلوم فالقلم سلكها، وإن علت أسرة الكتب فإنما هو ملكها. هذا، وهو الجاري بما أمر الله به من العدل والإحسان، والمسود الناظر فكأنما هو ملكها. هذا، إنسان، طالما قاتل على البعد والصوارم في القرب، وأوتي من العجزات نوعًا من النصر والرعب، لا يعاديه إلا من سفه نفسه، ولبس لبسه، وطبع على قلبه، وفل الجدال من غربه، وكيف يعادي من إذا كرع من نفسه4. فقل:{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} 5 وإذا ذكر شانئه فقل: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} 6. فعند ذلك نهض السيف عجلًا، وتلمظ لسانه للقول مرتجلًا، وقال: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ

وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} 7.

1 القلم: 68/ 1، 2.

2 العذيق: الذكي اللبق. والمرجّب: المبجّل، المعظم والمهيب.

3 الخواطل: جمع خاطل من الخطل وهو خطأ الرأي، والخواطر بمعنى الآراء.

4 النقس: المِداد.

5 الكوثر: 108/ 3.

6 الكوثر: 108/ 1.

7 الحديد: 57/ 25.

ص: 464

الحمد لله الذي جعل الجنة تحت ظلال السيوف، وشرع حدها في ذوي العصيان فأغصتهم بماء الحتوف، وشيد بها مراتب الذين يقاتلون في سبيله صفًّا، كأنهم بنيان مرصوص وعقد مرصوف، صلى الله سيدنا محمد هازم الألوف، وعلى آله وأصحابه الذين طالما محوا بريق الصوارم من سطور الصفوف، وسلم.

أما بعد فإن السيف زند الحق القوي وزنده الوري، به أظهر الله الإسلام وقد جنح خفاء، وجلا شخص الدين الحنيفي وقد جمح جفاء، وأجرى سيوله بالأباطح فأما الحق فمكث وأما الباطل فذهب جفاء، وحملته اليد الشريفة النبوية، وخصته على الأقلام بهذه المزية، وأطلعته في ليالي النقع1 والشك سراجًا وهاجًا، وفتح باب الدين إلى أن دخلت فيه الناس أفواجًا، فهو ذو العزم الثاقب، وسماء المجد الذي زينت آثاره بزينة الكواكب، والحد الذي كأنه ماء دافق يخرح من بين الصلب والترائب، تحسم به أدواء الفتن المضلة، وتحذف هممه الجازمة حروف العلة، ويحيا من سماء القتام بالضرب فقل: يسألونك عن الأهلة، يجلس على رءوس الأعداء قهرًا، ويصرع أبناء الشجاعة قائلًا للقلم: ذلك تأويل ما لم تستطع عليه صبرًا. وهل يفاخر من وقف الموت على بابه وعضت الحرب الضروس بنابه، وقذف شياطين القراع بشهبه، ومنح آيات شريفة منها طلوع الشمس من غربه، ومنها أن الله أنشأ برقه، وكان للمارد مصرعا، وللرائد مرتعا، {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمْ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} 2 فقام القلم في دواته وقعد، واضطرب على وجه القرطاس وارتعد، وانحرف إلى السيف وقال أيها المضر بطبعه، المغر بلمعه، الناقض حبل الأنس بقطعه، الناسخ بهجيره من ظلال العيش فيأ السراب الذي {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} ، الحبيس الذي طالما عادت عليه عوائد شره الكمين، الإبليس الذي لو أمر لي بالسجود لقال:{خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} 3، فاقطع عنك أسباب المفاخرة واستر من نابك في هذه المكاشرة، فما يحسن بالصامت محاورة المفصح، والله يعلم المفسد من المصلح، أولست الذي قيل فيه:

شيخ يرى الصلوات الخمس نافلة

ويستحل دم الحجاج في الحرم؟!

فدع عنك هذا الفخر المديد، وتأمل قدري إذا كشف عنك الغطاء {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} 4.

1 النقع: الغبار الذي يحجب الرؤية.

2 الروم: 30/ 24.

3 الأعراف: 7/ 12.

4 حديد: قوي جدًّا. ق: 50/ 22.

ص: 465

قلت: لولا خشية الإطالة لأوردت هنا رسالة السيف والقلم بكمالها، ولكن في هذا القدر من نور اقتباسه ما يهتدي به الأعشى، ويستغني بإنشائه عن سلافة الإنشا.

ومن غريب اقتباسات الشيخ جمال الدين أيضًا، ما كتب به مع منقد نحاس، "وهو قوله فيه": طالما حمدت معاشرته ولذت في الليالي مسامرته، وأطلع من أفقه نجومًا سعيدة القران، وتلا على الريح والثلج {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنتَصِرَانِ} 1. "ومن ذلك" بديع الاقتباس للشيخ زين الدين بن الوردي في خطبته في الكلام على المائة غلام. "وهو": لعمري ما أنصفني من أساء بي الظن، وقال إني رضيت مع درجة العلم بهذا الفن، والصحابة كانوا ينظمون وينثرون، ونعوذ بالله من قوم لا يشعرون. "ومن ذلك" قوله في توقيع عدالة بعض الشهود بحلب المحروسة، "وهو": الحمد لله الذي شاد رتبة العدالة وحماها، وجعلها همة من شرفت نفسه فزكت {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} 2 وعصمة من فرقة في قلوب الحكام من نار تدليسهم وقود، {وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} 3. "ومن ذلك" ما كتب به عنه وعن أخيه يوسف: وإذا عني الصاحب بالأخ رفقًا وإحسانًا، تلونا {هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا} 4، والله يعلينا بعلوك، ويبلغنا مرجونا ببلوغ مرجوك، حتى يقول أولاد الصاحب عنا {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا} 5. "ومن ذلك" ما كتب به بقية السلف، الشيخ زين الدين أبو بكر العجمي، على قصيدتي الكافية البرهانية، تقريظًا أشرفت أقطار الأدب بنور اقتباسه، والاقتباس في التقريظ: فيا له من قصيد رد عيون أعيان هذه الصناعة من الحياء مطرقة، تالية على من قاسها بامرئ القيس {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} 6. "ومن ذلك" ما كتب به الشيخ برهان الدين القيراطي إلى الشيخ جمال الدين بن نباته: يقبل الأرض التي سقت السماء نباتها، وعمر الله بمعانى الحسن أبياتها.

"منها": فلا غرو أن فصح بديع الزمان بلفظه البديع، وأزهرت الأوراق بمنثور رسائله التي كل فصل منها ربيع، وخجلت صفحة الخد المنمنمة بطراز العذار المرقوم، وقالت الكئوس حين شبهت في إمالة الأعطاف بألفاظه وما منا إلا له مقام معلوم. "ومنها":

1 الرحمن: 55/ 35.

2 الشمس: 91/ 9.

3 البروج: 85/ 7.

4 يوسف: 12/ 65.

5 يوسف: 12/ 8.

6 النساء: 4/ 129.

ص: 466

فسبحان من أسرى بها في ليل نقسها إلى المحل الأقصى، وحباها بالفضل الذي لا يحصى، وأنبت دوحتها في رياض الفصاحة، ونمق حدائقها التي لو فتح النرجس عينه في عينها لنسب إلى الوقاحة. فتبارك الذي جعل في سماء دوحته لشمس بلاغته بروجًا، وأعلى هممه التي لا ترضى الشهب جيادًا والأهلة سروجًا، حتى أقام يراع قلمه لسوق الأدب قصبه، وشاد من قصائده كل بيت إذا مر الحاسد ببابه قبل العتبة، وسارت كالسبعة السيارة مصنفاته، وعلت من قصره المشيد بسينات سطوره شرفاته، وفديت بالمباسم والقدود ميماته وألفاته، وزهت أمداحه المؤيدية فأصبت بيوته المرفوعة ذات العماد، وراقت محاسنها التي لم يخلق مثلها في البلاد، وفضحت لسهلها الممتنع أدباء العصر الذين جابوا الصخر بالواد. "ومنها": طالما سرح الناظر في بستانها منظره، ورام ابن سكرة فتح الأبواب لمعارضة قطرها النباتي فوجدوها مسكره، وعلم المتنبي أن هذا خاتم الأدباء لا محالة، والمترسل الذي نهض دونه بأعباء كل رسالة، وأقام بتقديمها على غيرها براهين الاحتجاج، وقال الملحي عندما قابل بحرها الحلو ببحره {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} 1.

ومن ذلك ما نقلته من خط الصاحب فخر الدين بن مكانس، تغمده الله برحمته "وهو": ورد علينا شخص من أهل القيروان ضرير، يسمى عبد الله الزغبي يتعاطى نظم الشعر المقفى الموزون الخالي عن المعاني، فتردد إلَيَّ في مجالس متفرقة، ثم بلغني أنه وشى إلى صاحبنا الشيخ زين الدين بن أبي بكر العجمي، عين كتاب الإنشاء الشريف، أني اهتضمت جانبه، وانتقصته وغضيت منه بالنسبة إلى الأدب، وأنه يستعين بكلام غيره كثيرًا فتأذى من ذلك. وتأذيت من كذب الناقل، فكتبت:{لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ} 2 بلغني، بلغ الله سيدنا ومولانا الإمام العالم العلامة الأديب الشاعر الناظم الناثر المحقق الأمة الكاتب الحجة زين الدنيا والدين هرة عين الكرام والكاتبين، أقصى ما ينتهي إليه تنافس المتنافس، وتبتهج به صدور الأولياء والرؤساء والمجالس، ولا زال زينة يحلى به العاطل، ويظل تحت جناح أدبه القائل، من غيبة ذلك الضرير، ما لا خشي الله فيه بظهر الغيب، ونقل إلى المسامع الكريمة ما لا يحتاج للاعتذار عنه لما فيه من الريب، ولكن لا غناء لسيف ذهن المملوك الكليل من التنصل، ولا بد من نهلة اعتذار على سبيل التعلل. وكان المملوك يترقب سببًا للمطارحة، فهذا المغتاب الآن صار عنده محمودًا، إذ كان السبب لحسن التوسل إلى صناعة الترسل. "ومنها" فلو اختلف الأدباء على إمام لأهل هذه

1 فاطر: 35/ 12.

2 النور: 24/ 61.

ص: 467

الصناعة مطهر من الأرجاس، لقال لهم لسان البلاغة مروا أبا بكر فليصل بالناس، وكيف يسوغ للمملوك أن يدعي غير هذا، وكيف ولِمَ ولماذا؟ أحسدًا على الأدب فما أهجرني له من عصر الصبا بحمد الله وما أغناني، أو تفاخرًا بالنظم فما أشغلني عنه بتدبير الممالك بما عناني. نعم، وإن كان جوهر الألفاظ مما يحسد عليه فما أزهدني والله في هذا العرض الفاني. "ومنها" والمسئول من إحسانه أمران: الجواب فإنه يقوم عند المملوك مقام الفرج من هذه الشدة، والآخر رد كل فاسق عن الباب العالي فإن أبا بكر أول من تصلب في الرِدَّة1. وبلغ المملوك أن هذا الضرير قصد بعض الأصحاب برمية كهذه فأصمى، وتردد إليه مرة أخرى فـ {عَبَسَ وَتَوَلَّى، أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى} 2.

"ومن ذلك" ما كتبت به إلى المقر الصاحبي الفخر المشار إليه بعد توجهي من خدمته إلى دمشق المحروسة، ومشاهدتي ما قدر الله عليها من الحريق والحصار من قبل الملك الظاهر، سنة إحدى وتسعين وسبعمائة. وهذه الرسالة التي سارت بها الركبان، وجاء لبديع الاقتباس في معانيها بيان، "وهي": يقبل الأرض التي من يممها أو تيمم ترابها حصل له الفخر والمجد، فلا برح هيام الوفود إلى أبوابها أكثر من هيمان العرب إلى ربا نجد، ولا زالت فحول الشعراء تطلق أعنة ألفاظها، وتركض في ذلك المضمار، وتهيم بواديها الذي يجب أن ترفع فيه على أعمدة المدائح بيوت الأشعار، وينهى بعد أشواق أمست العين بها في مجاري العين معثرة، ولو لم يقر إنسانها بمرسلات الدمع لقلت في حقه {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} 3 وصول المملوك إلى دمشق المحروسة فيا ليته قبض قبل أن يكتب عليه ذلك الوصول، ودخوله إليها والله لقد تمنى خروج الروح عند ذلك الدخول. "ومنها": وتطرقت بعد ذلك إلى الحدادين ولقد نادتهم النار بلسانها من مكان بعيد {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} 4. لقد كان يوم حريقها يومًا عبوسًا قمطريرًا، ضج المسلمون فيه من الخيفة وقد رأوا سلاسل وأغلالًا وسعيرًا. يا مولاي لقد لبست دمشق في هذه المآتم السواد، وطبخت قلوب أهلها وسلقوا من الأسنة بألسنة حداد، ولقد نشفت عيونهم من الحريق واستنشقوا فلم ينشقوا رائحة الغادية، وكم رؤي في ذلك اليوم {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ، عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ، تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} 5، وكم رجل تلا عند لهيب بيته:{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} 6 وخرج هاربًا، وامرأته حمالة الحطب.

1 الرّدّة: الارتداد عن الدين.

2 عبس: 80/ 2.

3 عبس: 80/ 17.

4 الكهف: 18/ 96.

5 الغاشية: 88/ 2-4.

6 المسد: 111/ 1.

ص: 468

"ومنها": ونظرت بعد ذلك إلى القلعة المحروسة، وقد قامت قيامة حربها حتى قلنا:{أَزِفَتْ الآزِفَةُ} 1 وستروا بروجها من الطارق بتلك الستائر وهم يقولون {لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} 1. "ومنها": وتطاول إلى السور المشرف، وقد فضل في علم الحرب وحفظ أبوابه المقفلات، فما وقفنا على باب إلا وجدناه لم يترك خلفه لصاحب المفتاح تلخيصًا لما أبداه من المشكلات، فلا وأبيك لو نظرته يوم الحرب وقد تصاعدت فيه أنفاس الرجال، لقلت ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد، وإلى المحاصرين وقد جاءوا فارسًا وراجلًا ليشهدوا القتال لقلت: {كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} 2، وإلى كواكب الأسنة وقد انتثرت وإلى قبور الشهداء وهي تحت أرجل الخيل قد بعثرت، وإلى كر الفوارس وفرها لقلت: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} 3. "ومنها": وتصفحت بعد ذلك فاتحة باب النصر فعوذته بالإخلاص4 وزدت الله شكرًا وحمدًا، وتأملت أهل الباب وهم يتلون لأهل البلد سورة الفتح وللمحاصرين {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا} 5 وكم طلبوا فتحه ولم يجدوا لهم طاقة وضرب بينهم بسور له باب {بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} 6. "ومنها": هذا وكم من مؤمن قوم خرج من دياره حذر الموت وهو يقول النجاة وطلب الفرار، وكلما دعاه قوم لمساعدتهم على الحريق ناداهم وقد عدم الاصطبار:{وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} 7. "ومنها": فأعيذ ما بقي من السبعة بالسبع المثاني والقرآن العظيم، فكم رأينا بها يعقوب حزن رأي سواد بيته فاصفر لونه {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} 8. "ومنها": وتوصلت إلى ظاهر كيسان، فأنفقت كيس الصبر لما افتقرت من دنانير تلك الأزهار والدراهم رباها، وكابرت إلى أطراف الباب الصغير فوجدت فاضل النار لم يغادر منها {صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَاّ أَحْصَاهَا} 9. "ومنها": هذا وكم خائف قبل اليوم آويناه بها إلى ربوة ذات قرار، وكم كان بها مطرب طير خرج بعدما كان يطرب على عود وطار.

1 النجم: 53/ 57، 58.

2 ق: 50/ 21.

3 الانفطار: 82/ 5.

4 الإخلاص: من سور القرآن الكريم، وتسمى: التوحيد والصمد.

5 يس: 36/ 9.

6 الحديد: 57/ 13.

7 غافر: 40/ 41.

8 يوسف: 12/ 84.

9 الكهف: 18/ 49.

ص: 469

وأوضحت أوقات الربوة بعد ذلك العيش الخضل واليسر عسيرة، لقد كان أهلها في ظل ممدود {وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ، وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ} 1.

ومن ذلك، ما أنشأته قديمًا في توقيع لمولانا قاضي القضاة، علاء الدين عالم المسلمين، أبي الحسن علي الحنبلي -جمل الله الوجود بوجوده- بنظر البيمارستان2 النوري بحماة المحروسة. والذي أوردته في التوقيع، من الاقتباسات البديعة، قولي: وصفت مشارب الصفا بعد الكدر {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} 3 وتلا من سعى لهم في ذلك وجزى بالخيرات، إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورًا، ودار شرب العافية على أهل تلك الحضرة بالطاس والكاس، وحصل لهم البرء من تلك البراني4 التي يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس، وتمشت الصحة في مفاصل ضعفائه وقيل لهم: جوزيتم بما صبرتم، وامتدت مقاصيرهم {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ} 5.

"ومن ذلك"، ما اقتبسته في ديباجة عهد مولانا أمير المؤمنين المعتضد بالله، زاده الله شرفًا وتعظيمًا، وهو: الحمد لله الذي شد عضد هذه الأمة بمن أمسى به معتضدا، وأسعفنا من البيت النبوي بخليفة ما برح شيخ الملوك في تقديم بيته الشريف مجتهدًا، وأقام العلم العباسي بعد أبي مسلم بأبي النصر فأكرم بحسن الختام وحسن الابتدا، وتكرر حمده على سلطان مؤيد أتحف به العلماء الأعلام، وظهر لجلالهم في أيامه الزاهرة بهجة فقال: هذا زمان مشايخ الإسلام، ونحمده على حكمته التي اقتضت أن تكون الخلافة عمدة الأحكام يزول بها الالتباس، وهو القائل تعالى:{يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ} 6.

"من ذلك" ما اقتبسته في عهد مولانا السلطان الملك الظاهر ططر، بقولي منه: فإن البغاة لاحتجاب السلطنة عنه سدا أسسته على الطغيان، فقيل لأهل البيعة: قد فتح الله لأبي الفتح {فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلَاّ بِسُلْطَانٍ} 7.

1 الواقعة: 56/ 32.

2 البيمارستان: فارسية معرّبة بمعنى العيادة والمستشفى.

3 الإنسان: 76/ 21.

4 البراني: جمع مفرده برينة وهي إناء من فخار.

5 الزمر: 39/ 73.

6 سورة ص: 38/ 26.

7 الرحمن: 55/ 33.

ص: 470

"من ذلك"، ما اقتبسته في مثال شريف مؤيدي، كان جوابًا لقرا يوسف: وتبدّى لعلمه الشريف ورود البشير بالقرب اليوسفي، وقل حل بالأسماع قبل رؤيته تشنف، وهبت نسمات قبوله فأطفأت ما في القلوب من التلهف، وضاع نشرها اليوسفي فقال شوقنا اليعقوبي {إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} 1 وهذه ألفة خولتنا في نعم الله وزمام الأخوة منقاد إلينا، وقد تعين على المقر أن يقول:{أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} 2.

"واتفق لي" في تقليد قاضي القضاة، ولي الدين العراقي اقتباسات بديعية "منها": وكم قال هذا المنصب رب قد أضعفني اليتم وصار الباطل قويًّا فهب لي من لدنك وليًّا. "ومنها": وأعاذنا الله من ولاية قوم يسمعون بينة الحق وإذا اجتمعوا على الرشوات، تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات.

"ومن ذلك"، ما كتبته على ديوان المقر البارعي الكاملي الأديبي العماد ي، إسماعيل بن الصائغ الحلبي، أحد الأعيان كتاب الإنشاء الشريف الذي عارض به ديوان الصبابة، للشيخ شهاب الدين بن أبي حجلة رحمه الله وهو: وقفت على هذا الكتاب الذي رفع عماد الأدب في هذا الجيل، وشرعت في ذكر محاسنه فقال لسان القلم واذكر في الكتاب إسماعيل. "ومنه": وأما ابن حجة فقد ندب إلى الواقعة على عرفات هذا الفضل المعروف، والامتثال هنا واجب ولكن الكف صفر والطريق مخوف. هذا وقد ذوت من حدائق فكري زهرة الشباب، واختفى لساني كما قال ابن نباتة وأغلق عليه من شفتيه مصراعي باب، وخمد جمر القريحة وجمد ذلك الذهن السيال، ونأى عن خدمتي كافور الطروس وعنبر المداد وصواب المقال، ولكن هبت علَيَّ نسمات الشبيبة من دوحة هذا المصنف الجليل، فقلت وقد شبت نار القريحة وأملت عليَّ هذا الوصف الجميل: الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل.

وهذا القدر الذي أوردته كافٍ هنا في الاقتباس من القرآن، فإني أخشى باب الملالة، ولكن عنَّ لي أن أفرد كتابًا وأسميه:"رفع الالتباس عن بديع الاقتباس"، وقد تقدم وتقرر أيضًا أنه إن جاء في المنظوم فهو عقد وتضمين، وإن كان في المنثور فهو اقتباس. وقد أوسع بعض علماء هذا الفن المجال في ذلك، فذكر أن الاقتباس يكون في مسائل الفقه، وقال بعضهم: إذا قلنا بذلك فلا معنى للاقتصار على مسائل الفقه، بل يكون في غيره من العلوم. وعلى هذا التقدير تعين أن نورد هنا ما وقع من الاقتباس في الحديث

1 يوسف: 12/ 94.

2 يوسف: 12/ 90.

ص: 471

النبوي وبقية العلوم، بحيث لا يخلو هذا الشرح الغريب من الغرائب، فإن الظاهر من كلامهم أن الاقتباس مقصور على القرآن والحديث. فمما وقع من الحديث النبوي قول الصاحب بن عباد:

أقول وقد رأيت له سحابا

من الهجران مقبلة إلينا

وقد سحت غواديها بهطل

حوالينا الصدود ولا علينا

الصاحب اقتبس من قوله عليه الصلاة والسلام، حين استسقى وحصل نزول مطر عظيم:"اللهم حوالينا ولا علينا".

"ومنه" قول أبي الحسن علي بن المفرج المنجم، لما احترقت دار الوجيه بن صورة بمصر:

أقول وقد عاينت دار ابن صورة

وللنار فيها مارج يتضرم1

كذا كل مال أصله من نهاوش

فعما قليل في نهاير يعدم2

وما هو إلا كافر طال عمره

فجاءته لما استبطأته جهنم

اقتبس من قوله صلى الله عليه وسلم: "من أصاب مالًا من نهاوش أهلكه الله في نهابر". النهاوش: بالنون المظالم. والنهابر: المهالك، الواحد نهبور.

"ومنه" قول شمس الدين محمد بن عبد الكريم الموصلي:

ومنكر قتل شهيد الهوى

ووجهه ينبئ عن حاله

اللون لون الدم من خده

والريح ريح المسك من خاله

اقتبس من قوله صلى الله عليه وسلم، في وصف دم الشهيد:"اللون لون الدم، والريح ريح المسك".

ومن اقتباسات الحديث في النثر، قول الحريري في المقامات: إنما الأعمال بالنيات، وبها انعقاد العقود الدينيات. ومنه قوله: شاهت3 الوجوه. وقبح اللكع4 ومن يرجوه. اقتبس من قوله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، وقد رمى الكفار بكف من الحصى:"شاهت الوجوه".

1 المارج: الشعلة. يتضرم: يلتهب.

2 النهاوش: المظالم. النهابر: جمع مفرده نُهبُرة وهي الحفرة بين الآكام.

3 شاهت الوجوه: قبحت.

4 اللكع: اللئيم الخسيس.

ص: 472

ويعجبني من المنظوم، هنا، قول الشيخ شهاب الدين أبي جعفر بن مالك الأندلسي الغرناطي:

لا تعاد الناس في أوطانهم

قلما يرعى غريب في الوطن

وإذا ما شئت عيشًا بينهم

خالق الناس بخلق ذي حسن

اقتبس من قوله صلى الله عليه وسلم، لأبي ذر:"اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن". وهذا الحديث صحيح.

ومن الاقتباس في مسائل الفقه، في المنظوم، قول بعضهم:

أقول لشادن في الحسن أضحى

يصيد بلحظه قلب الكمي1

ملكت الحسن أجمع في نصاب

فأدر زكاة منظرك البهي

فقال أبو حنيفة لي إمام

يرى أن لا زكاة على الصبي

وإن تك مالكيّ الرأي أو من

يرى رأي الإمام الشافعي

فلأنك طالبًا مني زكاة

فإخراج الزكاة على الولي

ومثله قول أبي العلاء، أحمد بن سليمان المعري:

أيا جارة البيت الممنع جاره

غدوت ومن لي عندكم بمقيل

لغيري زكاة من جمال فإن تكن

زكاة جمال فاذكري ابن سبيل

ومما ينسب إلى الإمام الشافعي رحمه الله:

خذوا بدمي هذا الغزال فإنه

رماني بسهمَيْ مقلتيه على عمد

ولا تقتلوه إنني أنا عبده

وفي مذهبي لا يقتل الحر بالعبد

ومنه قول القاضي عبد الوهاب المالكي:

يزرع وردًا ناضرًا ناظري

في وجنة كالقمر الطالع

فلم حرمتم شفتي قطفها

والحكم أن الزرع للزارع

وله أيضًا:

ونائمة قبلتها فتنبهت

وقالت تعالوا فاطلبوا اللص بالحدّ2

فقلت لها إني فديتك غاصبّ

وما حكموا في غاصبٍ بسوى الرد3

1 الشادن: الغزال تشبه به الحسناء. اللحظ: النظر. الكمي: الشجاع.

2 الحدّ: قصاص معلوم وهو القصاص الشرعي، منه حدّ الزنا وحدّ السرقة.

3 الردّ: إرجاع المغضوب وهو المأخوذ عنوة وبالقوة.

ص: 473

ومنه قول أبي الطيب المتنبي:

بليت بلى الأطلال إن لم أقف بها

وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه

قفي تغرمي الأولى من اللحظ مهجتي

بثانية والمتلف الشيء غارمه1

المعنى أن النظرة الأولى أتلفت مهجتي، فلزم غرمها بنظرة ثانية؛ لأنه من أتلف شيئًا حكم عليه بغرمه، ولكن في التركيب قلق وعقادة.

"ومنه": قول شمس الدين محمد بن جابر الأندلسي رحمه الله تعالى:

طلبت زكاة الحسن منها فجاوبت

إليك فهذا ليس تدركه مني

عليَّ ديون للعيون فلا ترم

زكاة فإن الدين يسقطها عني

ومنه قول الشيخ صدر الدين بن الوكيل:

يا سيدي إن جرى من مدمعي دمي

للعين والقلب مسفوح ومسفوك

لا تخش من قود يقتص منك به

فالعين جارية والقلب مملوك2

ومن الاقتباسات في علم المنطق، قول شمس الدين محمد بن العفيف التلمساني:

للمنطقيين أشتكي أبدًا

عين رقيب فليته هجعا

صادرها من أحبه فأبى

أن نختلي ساعة ونجتمعا

كيف غدت دائمًا وما انفصلت

مانعة الجمع والخلو معا

وهذه الأبيات في غاية الحسن، ولكن أورد بعضهم إيرادًا وقال: ظاهر كلامه التعجب من هذه القضية، والمراد في مثل هذا أن يتعجب مما خرج عن القواعد، وهذه القضية موجودة مستعملة، وذلك قولهم: العدد إما زوج وإما فرد، فهذه القضية مانعة الجمع فإن الزوجية والفردية لا يجتمعان، ومانعة الخلو فإن العدد لا يخلو من أحدهما، فلا معنى للتعجب.

ومنه قول بعضهم:

مقدمات الرقيب كيف غدت

عند لقاء الحبيب متصلة

تمنعنا الجمع والخلو معا

وإنما ذاك حكم منفصله

1 غارم: كافل ضامن. والمتلف: المفسد.

2 القود: الثأر، والقصاص.

ص: 474

هذا تعجب مما يسوغ التعجب منه؛ لأن منع الجمع لا يكون في المتصلة؛ وإنما هو في حكم المنفصلة.

وأما الاقتباس، في علم الجدل، فمنه قول شمس الدين بن العفيف:

وما بال برهان العذار مسلمًا

ويلزمه دور وفيه تسلسل

وعندي أن الشمس بالصحو آذنت

وسكري أراه من محياك يقبل

وأما الاقتباس، من علم النحو، فقد اتسع مجالهم فيه، حتى غلب على غالبهم التوجيه، فمنه قول أبي الطيب:

حولي بكل مكان منهم حلق

تخطي إذا جئت في استفهامها بمن

أبو الطيب يقول إذا استفهمت عن مثل هؤلاء الأقوام لا تستفهم بمن لأن من لمن بعقل وهؤلاء عندي بمنزلة ما لا يعقل، فحقهم أن يستفهم عنهم بما. ومنه قوله:

إذا كان ما ينويه فعلًا مضارعًا

مضى قبل أن تلقى عليه الجوازم

يقول إذا هم بفعل أوقعه، قبل أن يمنع وينهى عنه، ويقال له: لا تفعل، أو ينفى فيقال: لم يفعل. ومنه قول ابن عنين في معزول:

فلا تغضبن إذا ما صرفت

فلا عدل فيك ولا معرفة

ومنه قول ابن أبي الأصبع في ذلك:

أيا قمرًا من حسن وجنته لنا

وظلّ عذاريه الضحى والأصائل

جعلتك للتمييز نصبًا لناظري

فهلا رفعت الهجر فالهجر فاعل

قلت: ومن أغرب ما وقع في هذا الباب، أن شرف الدين محمد بن عنين مرض فكتب إلى الملك المعظم هذين البيتين:

أنظر إليَّ بعين مولى لم يزل

يولي الندى وتلاف قبل تلافي1

أنا كالذي أحتاج ما يحتاجه

فاغنم ثنائي والدعاء الوافي2

فجاءه الملك المعظم يعوده ومعه ألف دينار، وقال له: أنت الذي، أنا العائد، وهذه الصلة.

1 يولي: يعطي. الندى: العطاء. تلاف: أمر من تلافي أي اجتنب وتحاش. وتلافي: هلاكي.

2 الثناء: المدح. الوافي: الكثير.

ص: 475

ومنه قول البهاء زهير:

يا ألفًا من قده أقبلت

بالله كوني ألف الوصل

ومنه قول الأمير أمين الدين علي السليماني:

أضيف الدجى معنى إلى لون شعره

فطال ولولا ذاك ما خص بالجر

وحاجبه نون الوقاية ما وقت

على شرطها فعل الجفون من الكسر

ومنه قول شمس الدين بن العفيف:

يا ساكنًا قلبي المعنى

وليس فيه سواه ثاني

لأي معنى كسرت قلبي

وما التقى فيه ساكنان

أما البيتان، فإنهما في غاية اللطف، ولكن أوردوا عليها أيضًا إيرادًا حسنًا، وهو أن الساكنين إذا اجتمعا كسر أحدهما، وهو الأول وكلامه في البيتين أن المكسور غير الاثنين.

ومنه قول ابن الوردي:

شاعر أخرج نصفًا زغلًا

عند خباز فلما أن عرف1

قال لم تصرف هذا قال مه

يصرف الشاعر ما لا ينصرف

قلت: قد أتيت في معنى هذه النكتة، بما هو أبدع من بيت زين الدين بن الوردي، وما ذاك إلا أن مولانا المقر الأشرف القاضوي الناصري، محمد بن البارزي الجهني الشافعي، صاحب دواوين الإنشاء الشريف رحمه الله وأحالني على شهاب الدين الذهبي بخمسين دينارًا، ومطل بها مدة، فكتبت إليه:

قد منعتم صرف الدنانير عني

ولكم في الورى هبات كثيرة

وأنا شاعر وفي شرع نظمي

صرفها جائز لأجل الضرورة

ويعجبني في هذا الباب إلى الغاية، قول الشيخ زين الدين بن الوردي، رحمه الله تعالى:

وأغيد يسألني

ما المبتدا والخبر

مثَّلهما لي مسرعًا

فقلت أنت القمر

وحكي أنه كان بالعراق غلامان، أحدهما اسمه عمر، والآخر أحمد، فعزل عمر عن عمله وولي أحمد مكانه بسبب ما وزنه، فقال بعض الشعراء في ذلك:

1 الزغل: الغش.

ص: 476

أيا عمر استعد لغير هذا

فأحمد في الولاية مطمئن

وكل منكما كفوء كريم

ومنع الصرف فيه كما يظن

فيصدق فيك معرفة وعدل

وأحمد فيه معرفة ووزن

ومنه قول الفاضل:

لي عندكم دين ولكن هل له

من طالب وفؤادي المرهون

فكأنني ألف ولام في الهوى

وكأن موعد وصلك التنوين

ويعجبني، في الاقتباس من علم العروض، قول القائل:

وبقلبي من الجفاء مديد

وبسيط ووافر وطويل

لم أكن عالِمًا بذاك إلى أن

قطّع القلب بالفراق الخليل

وهذا القدر كافٍ، في الاقتباس من القرآن والحديث النبوي ومسائل الفقه والمنطق وعلم العربية والعروض وغيره، وقد تقدم أن الاقتباس مقصور على القرآن والحديث في النثر، وأما في النظم فهو عبارة عن عقد وتضمين.

ونظام البديعيات لم يقتبسوا من غير القرآن، وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته قوله:

هذي عصاي التي فيها مآرب لي

وقد أهش بها طورًا على غنمي1

وبيت العميان:

ذو مرة فاستوى حتى دنا فرأى

وقيل سل تعط قد خيرت فاحتكم2

وبيت الشيخ عز الدين:

فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم

ولا اقتباس يرى من هذه الأطم3

وبيت بديعيتي قولي:

وقلت يا ليت قومي يعلمون بما

قد نلت كي يلحظوني باقتباسهم4

1 أهُش: أهوّل، وأنهر. والبيت عبارة عن قوله تعالى على لسان النبي موسى صلى الله عليه وسلم بعد سؤاله:{وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى، قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} .

2 مِرَّة: قوة. استوى: استقام والبيت اقتباس لقوله تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى، ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} .

3 البيت اقتباس لقوله تعالى في معرض حديثه عن قوم عاد: {فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَاّ مَسَاكِنُهُمْ} الأحقاف: 46/ 25. والأطم: الحصون أو البيوت العالية، جمع آطام وأطوم.

4 البيت اقتباس لقوله تعالى: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ، بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُكْرَمِينَ} ، يس: 36/ 27.

ص: 477