الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر التنكيت:
وأله البحر آل إن يقس بندى
…
كفوفهم فافهموا تنكيت مدحهم1
هذا النوع، أعني التنكيت، يستحق لغرابته أن ينتظم في أسلاك البديع، ويغار عليه أن يعد مع المماثلة والموازنة ومع التطريز والترصيع، وقد تقدم الكلام على سفالة هذه الأنواع.
والتنكيث: عبارة عن أن يقصد المتكلم شيئًا بالذكر دون أشياء كلها تسد مسده، لولا نكتة في ذلك الشيء المقصود، ترجح اختصاصه بالذكر. وعلماء هذا الفن أجمعوا على أنه لولا تلك النكتة التي انفرد بها، لكان القصد إليه دون غيره خطأ ظاهرًا عند أهل النقد، وجاء من ذلك في الكتاب العزيز قوله تعالى:{وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} 2 فإنه سبحانه خص الشعرى بالذكر، دون غيره من النجوم، وهو رب كل شيء؛ لأن من العرب من عبد الشعرى، وكان يعرف بابن أبي كبشة، ودعا خلقًا إلى عبادتها، فأنزل الله تعالى:
{وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} التي ادعيت فيها الربوبية دون سائر النجوم، وفي النجوم ما هو أعظم منها. ومنه قوله تعالى:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} 3 فإنه سبحانه وتعالى خص تفقهون دون تعلمون، لما في الفقه من الزيادة على العلم، والمراد الذي يقتضيه معنى هذا الكلام: الفقه في معرفة كنه التسبيح من
1 آله: أهله وأقاربه. آل: سراب. إن: لا.
2 النجم: 53/ 49.
3 الإسراء: 17/ 44.
الحيوان البهيمي والنبات والجماد، الذي تسبيحه بمجرد وجوده الدال على قدرة موجده ومخترعه. ومن الأمثلة الشعرية قول الخنساء:
يذكرني طلوع الشمس صخرًا
…
وأذكره بكل غروب شمس
فخصت هذين الوقتين بالذكر، وإن كانت تذكره كل وقت، لما في هذين الوقتين من النكتة المتضمنة للمبالغة، في وصفه بالشجاعة والكرم؛ لأن طلوع الشمس وقت الغارات على العدا، وغروبها وقت وقود النيران للقرى.
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته، على التنكيت:
وآله أمناء الله من شهدت
…
لقدرهم سورة الأحزاب بالعظم
الشيخ صفي الدين خصص سورة الأحزاب هنا بالذكر؛ لأن فيها تصريحًا بمدح آل البيت عليهم السلام بقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} 1 ولولا هذا الاختصاص كانت كغيرها من السور.
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين الموصلي، رحمه الله:
ففي براءة تنكيت بمدحته
…
معناه في الشرح يشفي داء ذي البكم2
ذكر الشيخ عز الدين، في شرحه، أن النكتة المقصودة في بيته، في سورة براءة، هي قوله تعالى:{ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} 3 وبيت بديعيتي أشير فيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم:
وآله البحر آل إن يقس بندى
…
كفوفهم فافهموا تنكيت مدحهم
التنكيت، في هذا البيت بديع وغريب في بابه، فإنني خصصت الندى بالذكر عند مقايسته بالبحر، في قولي: إن البحر عند ندى كفوفهم كالآل، والآل هو الذي يحسبه الظمآن ماء، ولو قلت: أنهاركفوفهم أو جداول كفوفهم لسد كل واحد منهما مسده بزيادة زائدة، ولكن في الندى نكتة ليست فيهما، وهي الغلو في أن البحر يصير عند هذا الندى سرابًا، وهذا الذي أوجب تخصيص الندى بالذكر دون غيره، وقد اجتمع في هذا البيت التنكيت الذي هو القصد هنا، والتورية، والغلو، ومراعاة النظير، والجناس، والله أعلم.
1 الأحزاب، 33/ 33.
2 البكم: العجز عن التكلم خِلقة.
3 التوبة: 9/ 40.