الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر التقسيم:
هداه تقسيمه حالي به صلحت
…
حيًّا وميتًا ومبعوثًا مع الأمم
التقسيم أول أبواب قدامة، وهو في اللغة مصدر قسمت الشيء إذا جزأته، وفي الاصطلاح اختلفت فيه العبارات والكل راجع إلى مقصود واحد، وهو ذكر متعدد ثم إضافة ما لكل إليه على التعيين ليخرج اللف والنشر، هذه عبارة صاحب التلخيص وذكر بعضها في الإيضاح.
وقال السكاكي: هو أن يذكر المتكلم شيئًا ذا جزأين أو أكثر ثم يضيف إلى واحد من أجزائه ما هو له عنده.
ومنهم من قال: هو أن يريد المتكلم متعددًا، أو ما هو في حكم المتعدد، ثم يذكر لكل واحد من المتعددات حكمه على التعيين.
وتعجبني بلاغة زكي الدين بن أبي الأصبع، فإنه قال: التقسيم عبارة عن استيفاء المتكلم أقسام المعنى الذي هو آخذ فيه، ومثل ذلك قوله تعالى:{هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} 1 ليس في رؤية البرق غير الخوف من الصواعق، والطمع في الأمطار، ولا ثالث لهذين القسمين. ومن لطيف ما وقع في هذه الجملة من البلاغة، تقديم الخوف على الطمع، إذ كانت الصواعق لا يحصل فيها المطر في أول برقة، ولا يحصل إلا بعد تواتر البرقات، فإن تواترها لا يكاد يكذب، ولهذا كانت العرب تعد سبعين برقة ثم تنتجع، فلا تخطئ الغيث والكلأ، وإلى هذا المعنى أشار المتنبي بقوله:
وقد أرد المياه بغير هاد
…
سوى عدي لها برق الغمام
1 الرعد: 13/ 12.
فلما كان الأمر المخوف، من البرق، يقع في أول برقة، أتى ذكر الخوف في الآية الكريمة أولًا، ولما كان الأمر المطمع إنما يقع من البرق بعد الأمر المخوف، أتى ذكر الطمع في الآية الكريمة ثانيًا، ليكون الطمع ناسخًا للخوف، لمجيء الفرج بعد الشدة ومنه قوله تعالى:{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} 1 فاستوفت الآية الكريمة جميع الهيئات الممكنات. ومنه قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّه} 2 فاستوفت الآية الكريمة جميع الأقسام التي يمكن وجودها، فإن العالم جميعه لا يخلو من هذه الأقسام الثلاثة. ومنه قوله تعالى:{لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} 3 فالآية الشريفة جامعة لأقسام الزمان الثلاثة، ولا رابع لها، والمراد الحالي والماضي والمستقبل فله ما بين أيدينا المراد به المستقبل، وما خلفنا المراد به الماضي، وما بين ذلك الحال.
وفي الحديث النبوي قوله صلى الله عليه وسلم: "ما لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أوتصدقت فأبقيت". ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "من أقام الصلاة كان مسلمًا ومن آتى الزكاة كان محسنًا ومن شهد أن لا إله لا الله كان مخلصًا". فإنه صلوات الله عليه استوعب الوصف الذي من الدرجات العليا والوسطى والسفلى. ومنه قول على بن أبي طالب، كرم الله وجهه:"أنعم على من شئت تكن أميره، واستغن عمن شئت تكن نظيره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره". فإنه استوعب أقسام الدرجات، وأقسام أحوال الإنسان بين الفضل والكفاف والنقص.
ويحكى أن بعض وفود العرب قدم على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وكان فيهم شاب فقام وتقدم في المجلس وقال: يا أمير المؤمنين أصابتنا سنون. سنة أذابت الشحم، وسنة أكلت اللحم، وسنة أنقت العظم، وفي أيديكم فضول أموال، فإن كانت لنا لا تمنعونا، وإن كانت لله ففرقوها على عباده، وإن كانت لكم فتصدقوا إن الله يجزي المتصدقين. قال عمر بن عبد العزيز: ما ترك لنا الأعرابي في واحدة عذرًا.
ووقف أعرابي على حلقة الحسن البصري فقال: رحم الله من تصدق من فضله، أو واسى من كفاف، أو آثر من قوت: قال الحسن: ما ترك الأعرابي في واحدة عذرًا.
1 آل عمران: 3/ 191.
2 فاطر: 35/ 32.
3 مريم: 19/ 64.
ومن النظم قول زهير بن أبي سلمى في معلقته:
وأعلم ما في اليوم والأمس قبله
…
ولكنني عن علم ما في غد عم1
ونقل أبو نواس جد زهير إلى الهزل، فقال:
أمر غدٍ أنت منه في لبس
…
وأمس قد فات فاله عن أمس
فإنما الشأن شأن يومك ذا
…
فباكر الشمس بابنة الشمس2
وقال ابن حيوس، وأجاد في تقسيمه:
ثمانية لم يفترقن جميعها
…
فلا افترقت ما ذب عن ناظر شقر3
ضميرك والتقوى وكفك والندى
…
ولفظك والمعنى وسيفك والنصر
ومنه قول الشيخ شرف الدين عمر بن الفارض، قدس الله روحه:
يقولون لي صفها فأنت بوصفها
…
خبير أجل عندي بأوصافها علم
صفاء ولا ماء ولطف ولا هوى
…
ونور ولا نار وروح ولا جسم
وأنشد سيبويه بيتًا بديعًا على هذا الباب، وهو قوله:
فقال فريق القوم لا وفريقهم
…
نعم وفريق أيمن الله ما ندري
ويعجبني قول الحماسي في هذا الباب.
وهبها كشيء لم يكن أو كنازح
…
عن الدار أو من غيبته المقابر
ويعجبني قول، أبي تمام في مجوسي أحرق النار:
صلى لها حيًّا وكان وقودها
…
ميتًا ويدخلها مع الفجار
ومنه قول عمرو بن الأهتم:
اشربا ما شربتهما فهذيل
…
من قتيل أو هارب أو أسير
وبيت صفي الدين مأخوذ من قول عمرو بن الأهتم:
أفنى جيوش العدا غزوًا فلست ترى
…
سوى قتيل ومأسور ومنهزم
1 غم: جاهل.
2 ابنة الشمس: من أسماء الخمرة.
3 ذبَّ: دافع وحامى. الشَّقْر: الأمر المهم.
وبيت النعمان في بديعيتهم
غيثان أما الذي من فيض أنمله
…
فدائم والذي للمزن لم يدم
وبيت الشيخ عز الدين:
تقسيمه الدهر يومًا أمسه كغد
…
في الحلم والجود والإيفاء للذمم
قلت: قد تقدم شرح هذا النوع، وتقرر أن الاثنين في التقسيم لا يمكن أن يكون لهما ثالث، والثلاثة لا يجوز أن يكون لها رابع. وقد تقدم في الاثنين قوله تعالى:{هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} 1 وليس في رؤية البرق إلا الخوف من الصواعق والطمع في المطر. وتقدم في تقسيم الثلاثة قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت". ولا رابع لهذه الثلاثة.
ورأيت باب الزيادة في بيت الشيخ عز الدين مفتوحًا، فإنه يحتمل الحلم والجود وإيفاء الذمم والشجاعة والصبر والقناعة والدين وهلم جرًا. وتقدم أن بيت صفي الدين الحلي مأخوذ من بيت عمرو بن الأهتم.
اشربا ما شربتما فهذيل
…
من قتيل أو هارب أو أسير
فهذه الثلاثة لا تحتمل رابعًا.
وكذلك بيت صفي الدين، فإنه مأخوذ من هنا. وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم:
هداه تقسيمه حالي به صلحت
…
حيًّا وميتًا ومبعوثًا مع الأمم
وهذه الثلاثة أيضًا لا يمكن أن يكون لها رابع، وهذا النوع ليس في تحصيله على واضعه مشقة زائدة على حذاق الأدب، لا سيما مثل الشيخ عز الدين. والذي أقوله: إنه لم تضق عليه المسالك إلا بالتزام التورية في تسمية النوع، والله أعلم.
1 الرعد: 13/ 12.