الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر ائتلاف المعنى مع المعنى:
سهل شديد له بالمعنيين بدا
…
تألف في العطا والدين للعظم
هذا النوع، وهو ائتلاف المعنى مع المعنى، ضربان: فالأول في الاصطلاح، هو أن يشتمل الكلام على معنى معه أمران: أحدهما ملائم، والآخر بخلافه، فيقرنه بالملائم. واستشهدوا عليه بقول أبي الطيب المتنبي:
فالعرب منه مع الكدري طائرة
…
والروم طائرة منه مع الحجل1
وقالوا: إن تقوية المعنى الأول، مناسبة القطا الكدري مع العرب، لأنه يلائمهم بنزوله في السهل من الأرض، وينفر من العمران ويستأنس بالمهمة، ولا يقرب العمران إلا إذا زاد به العطش وقل الماء في البر. ومناسبة الحجل مع الروم، أنها تسكن الجبال، وتنزل في المواضع المعروفة بالشجر.
والضرب الثاني هو أن يشتمل الكلام على معنى وملائمين له، فيقرن بهما ما لاقترانه مزية. واستشهدوا على هذا الضرب الثاني، بقول أبي الطيب المتنبي أيضًا:
وقفت وما في الموت شك لواقف
…
كأنك في جفن الردى وهو نائم2
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة
…
ووجهك وضاح وثغرك باسم3
وقالوا: إن عجز كل من البيتين يلائم كلا من الصدرين، وما اختار ذلك الترتيب إلا
1 الكوريّ: نوع من القطا أغبر اللون، مرقش الظهر، أصفر الحلق.
2 الردى: الموت.
3 كلمى: مجرّحة.
لأمرين: أحدهما أن قوله: كأنك في جفن الردى وهو نائم، تمثيل السلامة في مقام العطب، ولهذا قرر له الوقوف والبقاء في موضع يقطع على صاحبه فيه بالهلاك، أنسب من جعله مقررًا لثباته في حال هزيمة الأبطال. والثاني، أن في تأخير التتميم بقوله: ووجهك وضاح وثغرك باسم، عن وصف الممدوح بوقوفه ذلك الموقف، وبمرور أبطاله كلمى بين يديه، ما يفوت بالتقديم. ولعمري إن الضرب الثاني من ائتلاف المعنى مع المعنى أبدع من الضرب الأول، وأوقع في القلوب، وأقرب إلى مواقع الذوق، وعيه نظمت بيت بديعيتي ويأتي الكلام عليه في موضعه، ولكن هنا نكتة تزيد بديع الضرب الثاني إيضاحًا، وترشح قصد المتنبي في ترتيبه الذي تقدم عليه الكلام.
حكي أن سيف الدولة بن حمدان ممدوح المتنبي قال، عن إنشاده إياه هذين البيتين: يا أبا الطيب قد انتقدنا عليك، كما انتقد على امرئ القيس في قوله:
كأني لم أركب جوادًا لغارة
…
ولم أتبطن كاعبًا ذات خلخال1
ولم أسبأ الزق الروي ولم أقل
…
لخيلي كرّي كرة بعد إجفال2
فقال المتنبي: أيها الأمير إن صح أن البزاز أعلم بالثوب من حائكه، فقد صح ما انتقد على امرئ القيس وعليّ، فإن امرأ القيس أحب أن يقرن الشجاعة باللذة في بيت واحد، وهو الأول، وقد وقع مثل هذا في الكتاب العزيز، وهو قوله تعالى:{إِنَّ لَكَ أَلَاّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى، وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} 3 فإنه تعالى لم يراع فيه مناسبة الري بالشبع والاستظلال باللبس، في تحصيل نوع المنفعة، بل راعى مناسبة اللبس للشبع في حاجة الإنسان إليه وعدم استغنائه عنه، ومناسبة الاستظلال للري في كونهما تابعين اللبس والشبع.
قلت وأما جواب المتنبي عن قول امرئ القيس:
كأني لم أركب جوادًا لغارة
…
ولم أتبطن كاعبًا ذات خلخال
فهو الافتنان بعينه، وهو نوع من أنواع البديع العالية، وقد تقدم.
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي، في بديعيته على هذا النوع، قوله:
من مفرد بغرار السيف منتشر
…
ومروج بسنان الرمح منتظم4
1 تبطّن: خبر وعرف الباطن، الكاعب: الفتاة إذا نهد ثدياها.
2 سبأ الزق الروي: اشترى وعاء الخمر المليء ليشربه.
3 طه:20/ 118، 119.
4 المروج: السريع، غرار السيف: حده.
قد كثر تكرار القول، بأن المراد من بيت البديعية أن يكون شاهدًا على نوعه، وإن لم يكن صالِحًا للتجريد لم يصح الاستشهاد به على ذلك النوع. وبيت الشيخ صفي الدين الحلي، هنا، غير صالح للتجريد، وعدم صلاحه للتجريد هو الذي عقده وحجب إيضاح معناه عن مواقع الذوق.
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته، يقول فيه عن النبي، صلى الله عليه وسلم:
ذو معنيين بصحب والعدا ائتلفا
…
للخلف ما أشهب البازي كالرخم1
قلت: إن هذين المعنيين، لشدة العقادة، أتعبت الفكر فيهما على أن يتضح لي منهما معنى فعجزت عن ذلك، والله أعلم. وبيت بديعيتي، أقول فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم:
سهل شديد له بالمعنيين بدا
…
تألف في العطا والدين للعظم
وقد تقدم قولي: إن بيت بديعيتي منظوم في سلك الضرب الثاني، لكونه أبدع وأوقع في الذوق من الضرب الأول، وهو أن يشتمل الكلام على معنى وملائمين فيقرن بهما ما يلائم ويظهر باقترانه مزية فسهولة النبي صلى الله عليه وسلم قرنتها بالعطاء وناهيك بهذه الملاءمة وشدته، صلى الله عليه وسلم، قرنتها بالدين لعظمه، فأكرم بها ملاءمة وشرف قران. وقد ورد نص الكتاب بذلك في قوله تعالى:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} 2 وقولي في القافية: للعظم، بعد ثبوت الشدّة للدين، في غاية التمكين. والله أعلم.
1 أشهب: أصاب، البازي: طائر من الجوارح يستعمل ليصطاد به، الرخمة: طائر غزير الريش.
2 الفتح: 48/ 29.