الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَأنْشد بعده
(الشَّاهِد الْخَامِس وَالْأَرْبَعُونَ بعد الثَّمَانمِائَة)
وَهُوَ من شَوَاهِد س:
(قَالَت أَلا ليتما هَذَا الْحمام لنا
…
إِلَى حمامتنا أَو نصفه فقد)
على أَن لَيْت إِذا اتَّصل بهَا مَا جَازَ أَن تعْمل وَأَن تلغى.
وَقد رُوِيَ هَذَا الْبَيْت بِالْوَجْهَيْنِ والإلغاء أَكثر. قَالَ سِيبَوَيْهٍ: وَأما ليتما زيدا منطلق فَإِن الإلغاء فِيهِ حسن وَقد كَانَ رؤبة بن العجاج ينشد هَذَا الْبَيْت رفعا وَهُوَ قَول النَّابِغَة الذبياني: أَلا ليتما هَذَا الْحمام الْبَيْت
فرفعه على وَجْهَيْن: على أَن يكون بِمَنْزِلَة قَول من قَالَ مثلا مَا بعوضة أَو يكون بِمَنْزِلَة قَوْله: إِنَّمَا زيد منطلق.
وَأما لعلما فَهُوَ بِمَنْزِلَة كَأَنَّمَا. قَالَ الشَّاعِر: وَقَالَ الْخَلِيل: إِنَّمَا لَا تعْمل فِيمَا بعْدهَا كَمَا أَن أرى إِذا كَانَت لَغوا لم تعْمل فَجعلُوا هَذَا نظيرها من الْفِعْل كَمَا كَانَ نَظِير إِن من الْفِعْل مَا يعْمل. وَنَظِير إِنَّمَا قَول الشَّاعِر:
(أعلاقةً أم الْوَلِيد بَعْدَمَا
…
أفنان رَأسك كالثغام المخلس)
جعل بعد مَعَ مَا بِمَنْزِلَة حرف وَاحِد وابتدأ مَا بعده. انْتهى.
وَنقل ابْن الشجري هَذَا الْكَلَام وَقَالَ: سِيبَوَيْهٍ وَغَيره من النَّحْوِيين يرَوْنَ إِلْغَاء مَا فِي ليتما حسنا فيرجحون النصب فِي ليتما زيدا منطلق ويجيزون أَن تكون كَافَّة.
وتشبيهه لَهَا بأرى يدل على أَنَّهَا رُبمَا أعملت لِأَن أرى لَيست تلغى على كل حَال وتشبيهه إِنَّمَا ببعدما مَانع من إِعْمَال إِنَّمَا كَمَا أَن قَوْله: بَعْدَمَا لَا يَصح إعماله.
وَقَوله: لعلما بِمَنْزِلَة كَأَنَّمَا يغلب عَلَيْهَا أَن تكون مَا فِيهَا كَافَّة وَإِنَّمَا ولكنما فِي هَذَا نظيرتان لَيْسَ فيهمَا فِي الْأَغْلَب الْأَكْثَر إِلَّا الْكَفّ فهما فِي إِلْغَاء مَا دون لعلما وكأنما. وَإِنَّمَا غلب على ليتما الْعَمَل لقُوَّة شبه لَيْت بِالْفِعْلِ.
أَلا ترى أَن وددت بِمَعْنى تمنيت وليت هِيَ علم التَّمَنِّي فَلذَلِك حسن نصب
الْجَواب فِي قَوْلك: وددت أَنه زارني فَأكْرمه. انْتهى.)
فَظهر بِمَا نقلنا إِن إِلْغَاء ليتما جَائِز حسن وإعمالها أحسن وَأكْثر خلاف مَا زَعمه الشَّارِح وَذهب الْفراء إِلَى أَنه لَا يجوز كف مَا لليت وَلَا للعل بل يجب إعمالهما.
وَقَول الشَّارِح الْمُحَقق لِأَنَّهَا تخرج بِمَا عَن اختصاصها بِالْجُمْلَةِ الاسمية يَعْنِي فَتدخل على الْجُمْلَة الفعلية. وَفِيه خلاف.
قَالَ صَاحب الارتشاف: وَأما مَجِيء الْفِعْل بعد لعلما وليتما فَهُوَ مَذْهَب الْبَصرِيين أَجَازُوا: ليتما ذهبت ولعلما قُمْت.
وَزعم الْفراء أَن ذَلِك لَا يجوز فَلَا تَجِيء الْجُمْلَة الفعلية بعدهمَا. وَوَافَقَهُ على ذَلِك فِي ليتما خَاصَّة أَصْحَابنَا الْمُتَأَخّرُونَ وَزَعَمُوا أَن ليتما بَاقِيَة على اختصاصها بِالْجُمْلَةِ الاسمية. انْتهى.
وَجزم ابْن هِشَام فِي الْمُغنِي بالاختصاص تبعا لِابْنِ النَّاظِم وَغَيره قَالَ: وتقترن بهَا مَا الحرفية فَلَا تزيلها عَن الِاخْتِصَاص بالأسماء لَا يُقَال: ليتما قَالَ زيد خلافًا لِابْنِ أبي الرّبيع وطاهر الْقزْوِينِي.
وَيجوز: ليتما زيدا أَلْقَاهُ على الإعمال وَيمْتَنع على إِضْمَار فعل على شريطة التَّفْسِير. انْتهى.
وَهَذَا هُوَ الْجيد إِذْ لم يسمع دُخُولهَا على الفعلية. وَقَول سِيبَوَيْهٍ فرفعه على وَجْهَيْن: على أَن يكون بِمَنْزِلَة من قَالَ: مثلا مَا بعوضة
…
إِلَخ قَالَ النّحاس: يُرِيد أَن مَا مَوْصُولَة وَأَنه يضمر مُبْتَدأ أَي: فيا لَيْت الَّذِي هُوَ هَذَا الْحمام لنا. وَيُرِيد بِالْوَجْهِ الثَّانِي أَن مَا كَافَّة. وَيجوز النصب على أَن تكون مَا زَائِدَة للتوكيد وَيكون الْحمام بَدَلا من هَذَا.
وَضعف ابْن هِشَام فِي الْمُغنِي موصولية مَا فِي بحث لَيْت وَفِي بحث مَا الكافة قَالَ: هُوَ مَرْجُوح لِأَن حذف الْعَائِد الْمَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ فِي صلَة غير أَي مَعَ عدم طول الصِّلَة قَلِيل. وَزَاد فِي بحث مَا: وَسَهل ذَلِك تضمنه إبْقَاء الإعمال. ورد عَلَيْهِ
بِأَن الصِّلَة هُنَا قد طَالَتْ بِالصّفةِ وَمَعَ احْتِمَال الموصولية لَا دَلِيل على إهمالها وَلَوْلَا أَن سِيبَوَيْهٍ ذكر الإهمال لمنع.
وَالْبَيْت من قصيدة للنابغة الذبياني يُخَاطب بهَا النُّعْمَان بن الْمُنْذر ويعاتبه وَيعْتَذر إِلَيْهِ مِمَّا اتهمَ بِهِ عِنْده. وَقد مضى شرح سَببهَا وأكثرها فِي ماوضع عديدة فلنذكر هُنَا مِنْهَا مَا يتم معنى الْبَيْت. وَقَبله:
(فاحكم كَحكم فتاة الْحَيّ إِذْ نظرت
…
إِلَى حمام شراع وَارِد الثمد)
(يحفه جانبا نيق وتتبعه
…
مثل الزجاجة لم تكحل من الرمد)
(قَالَت أَلا ليتما هَذَا الْحمام لنا
…
إِلَى حمامتنا أَو نصفه فقد))
(فحسبوه فألفوه كَمَا ذكرت
…
تسعا وَتِسْعين لم تنقص وَلم تزد)
(فكملت مائَة فِيهَا حمامتها
…
وأسرعت حسبَة فِي ذَلِك الْعدَد)
قَوْله: فاحكم كَحكم أَي: كن حكيماً كهذه الفتاة أَي: أصب فِي أَمْرِي كإصابتها فِي حدسها بِالنّظرِ الصَّحِيح.
وَكَذَا فِي شرح ابْن السَّيِّد قَالَ: هُوَ من الحكم الَّذِي يُرَاد بِهِ الْحِكْمَة لَا من الحكم الَّذِي يُرَاد بِهِ الْقَضَاء. قَالَ تَعَالَى: وَلما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما
وعلماً أَي: حِكْمَة يُقَال من ذَلِك: حكم الرجل يحكم من بَاب نصر إِذا صَار حكيماً.
قَالَ النمر بن تولب:
(أحبب حَبِيبك حبا رويداً
…
فَلَيْسَ يعولك أَن تصرما)
(وَأبْغض بَغِيضك بغضاً رويداً
…
إِذا أَنْت حاولت أَن تحكما)
انْتهى.
وَأَرَادَ بفتاة الْحَيّ: زرقاء الْيَمَامَة. قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِي أبْصر من الزَّرْقَاء من مستقصى الْأَمْثَال: هِيَ من بَنَات لُقْمَان بن عَاد ملكة الْيَمَامَة. واليمامة اسْمهَا فسميت الْبَلدة باسمها. وَقيل اسْمهَا: عنز وَهِي إِحْدَى الزرق الثَّلَاث أعينها والزباء والبسوس.
وَكَانَت جديسية وَحين قتل جديس طسماً
استجاش قَبيلَة طسم حسان بن تبع إِلَى الْيَمَامَة فَلَمَّا صَارُوا من جو على مسيرَة ثَلَاث لَيَال صعدت الأطم الَّذِي يُقَال لَهُ: الْكَلْب فَنَظَرت إِلَيْهِم وَقد استتر كل بشجرة تلبيساً عَلَيْهَا فارتجزت بقولِهَا:
(أقسم بِاللَّه لقد دب الشّجر
…
أَو حمير قد أخذت شَيْئا تجر)
فكذبها قَومهَا فَقَالَت: وَالله لقد أرى رجلا ينهش كَتفًا أَو يخصف نعلا. فَمَا تأهبوا حَتَّى صبحهمْ الْجَيْش. وَلما ظفر بهَا حسان قَالَ: مَا كَانَ طَعَامك فَقَالَت: درمكة فِي كل يَوْم بمخ قَالَ: فَبِمَ كنت تكتحلين قَالَت: بالإثمد.
وشق عينهَا فَرَأى عروقاً سُودًا من الإثمد. وَهِي أول من اكتحل بالإثمد من الْعَرَب. انْتهى الْمَقْصُود مِنْهُ.
وَقَالَ ابْن المستوفي: كَانَت زرقاء الْيَمَامَة تبصر الرَّاكِب من مسيرَة ثَلَاثَة أَيَّام وَيضْرب بهَا الْمثل يُقَال: أبْصر من زرقاء الْيَمَامَة. واليمامة بلد وَكَانَ اسْمهَا الجو فسميت باسم هَذِه الْمَرْأَة لِكَثْرَة)
مَا أضيف إِلَيْهَا وَقيل: جو الْيَمَامَة.
وَقَالُوا: هِيَ من بَنَات لُقْمَان بن عَاد وَقيل: هِيَ من جديس. انْتهى.
وَالْحمام قَالَ ابْن قُتَيْبَة فِي أدب الْكَاتِب: يذهب النَّاس إِلَى أَنَّهَا الدواجن الَّتِي تستفرخ فِي الْبيُوت وَذَلِكَ غلط إِنَّمَا الْحمام ذَوَات الأطواق وَمَا أشبههَا مثل الفواخت والقماري والقطا. قَالَ ذَلِك الْأَصْمَعِي وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ
الْكسَائي.
قَالَ حميد بن ثَوْر:
(وَمَا هاج هَذَا الشوق إِلَّا حمامة
…
دعت سَاق حر ترحةً وترنما)
وَقَالَ النَّابِغَة: واحكم كَحكم فتاة الْحَيّ
…
...
…
. . الْبَيْت قَالَ الْأَصْمَعِي: هَذِه زرقاء الْيَمَامَة نظرت إِلَى قطاً. قَالَ: أما الدواجن فِي الْبيُوت فَإِنَّهَا وَمَا شاكلها من طير الصَّحرَاء: اليمام. انْتهى.
قَالَ ابْن السَّيِّد فِي شَرحه: مَا نَقله عَن الْأَصْمَعِي وَالْكسَائِيّ صَحِيح وَقد يُقَال لليمام حمام أَيْضا. حكى أَبُو عبيد فِي الْغَرِيب المُصَنّف عَن الْأَصْمَعِي أَنه قَالَ: اليمام ضرب من الْحمام بري.
وَحكى أَبُو حَاتِم عَن الْأَصْمَعِي فِي كتاب الطير الْكَبِير: واليمام واحده يمامة الْحمام الْبري.
وحمام مَكَّة يمام أجمع.
قَالَ أَبُو حَاتِم: وَالْفرق بَين الْحمام الَّذِي عندنَا واليمام: أَن أَسْفَل ذَنْب الْحمام مِمَّا يَلِي ظهرهَا إِلَى الْبيَاض وَكَذَا حمام الْأَمْصَار وأسفل ذَنْب الْيَمَامَة لَا بَيَاض فِيهِ.
وَلَيْسَ فِي بَيت النَّابِغَة من الدَّلِيل على أَنه أَرَادَ بالحمام القطا مثل مَا فِي بَيت حميد بن ثَوْر من الدَّلِيل على أَنه أَرَادَ بالحمامة القمرية. وَإِنَّمَا علم ذَلِك بالْخبر الْمَرْوِيّ عَن زرقاء الْيَمَامَة أَنَّهَا نظرت إِلَى قطاً فَقَالَت:
(يَا لَيْت ذَا القطا لنا
…
وَمثل نصفه مَعَه)
وَقد رُوِيَ أَنَّهَا قَالَت:
(لَيْت الْحمام ليه
…
إِلَى حمامتيه)
(وَنصفه قديه
…
تمّ الْحمام ميه)
ثمَّ قَالَ: وَكَانَ الْأَصْمَعِي يروي: شراع بالشين الْمَكْسُورَة الْمُعْجَمَة يُرِيد: الَّتِي شرعت فِي المَاء.)
وروى غَيره: سراع بِالسِّين غير مُعْجمَة وَهنا جمع شارعة وسريعة. وَالرِّوَايَة الثَّانِيَة أولى لاستغنائها عَن دَعْوَى التَّأْكِيد. والثمد: المَاء الْقَلِيل.
وأفرد وارداً وَإِن كَانَ صفة لحمام حملا على معنى الْجمع كَمَا قَالَ تَعَالَى: من الشّجر الْأَخْضَر. انْتهى.
فَإِن الْحمام اسْم جنس يفرق بَينه وَبَين واحده بِالتَّاءِ وَمثله يجوز أَن يعْتَبر جمعا ومفرداً كَمَا هُنَا فَإِن وَصفه جمع تَارَة وَهُوَ شراع وأفرد أُخْرَى وَهُوَ وَارِد.
وَهَذَا الْبَيْت من شَوَاهِد سِيبَوَيْهٍ قَالَ الأعلم: الشَّاهِد فِيهِ إِضَافَة وَارِد إِلَى الثمد على نِيَّة التَّنْوِين وَالنّصب وَلذَلِك نعت بِهِ النكرَة مَعَ إِضَافَته إِلَى الْمعرفَة إِذْ كَانَت إِضَافَته غير مَحْضَة.
وَقَوله: يحفه جانبا نيق
…
إِلَخ أَي: أحَاط بِهِ. وَالضَّمِير للحمام. وجانبا: مثنى جَانب حذفت نونه للإضافة وَهُوَ فَاعل يحفه. والنيق
بِكَسْر النُّون قَالَ ابْن قُتَيْبَة فِي أَبْيَات الْمعَانِي: يَقُول: كَانَ الْحمام فِي مَوضِع ضيق قد ركب بعضه بَعْضًا فَهُوَ أَشد لعده. وَقَوله: وتتبعه
…
إِلَخ مضارع أتبعه وفاعله ضمير الفتاة وَالْهَاء ضمير الْحمام وَمثل مفعول صفة لمَحْذُوف.
قَالَ ابْن قُتَيْبَة: أَي: تتبعه عينا مثل الزجاجة. لم تكحل تِلْكَ الفتاة من الرمد أَي: لم يكن بهَا رمد فتكحل مِنْهُ.
مثل قَول الآخر: على لاحب لَا يهتدى بمناره وَقَوله: قَالَت أَلا ليتما
…
الخ قَالَ ابْن قُتَيْبَة: أَو نصفه أَرَادَت وَنصفه أَو بِمَعْنى الْوَاو.
قَالَ ابْن هِشَام فِي الْمُغنِي: هَذَا قَول الْكُوفِيّين والأخفش والجرمي. وَاحْتَجُّوا بِأَبْيَات مِنْهَا هَذَا الْبَيْت. ويقويه أَنه روى: وَنصفه بِالْوَاو. انْتهى.
-
ورد ابْن الْأَنْبَارِي فِي مسَائِل الْخلاف على الْكُوفِيّين بِأَن الرِّوَايَة بِالْوَاو لَا بِأَو وَلَو سلمنَا فَنَقُول: أَو فِيهِ بَاقِيَة على أَصْلهَا وَهُوَ أَن يكون التَّقْدِير ليتما هَذَا الْحمام أَو هُوَ وَنصفه فَحذف الْمَعْطُوف وحرف الْعَطف كَقَوْلِه تَعَالَى: فَقُلْنَا اضْرِب بعصاك الْحجر فانفجرت أَي: فَضرب فانفجرت.
أَلا فالبثا شَهْرَيْن أَو نصف ثَالِث)
أَي: أَو شَهْرَيْن وَنصف ثَالِث.
أَلا ترى أَنَّك لَا تَقول مبتدئاً نصف ثَالِث. وَإِذا وَجب أَن يكون الْمَعْطُوف عَلَيْهِ محذوفاً كَانَت أَو بَاقِيَة على أَصْلهَا. هَذَا كَلَامه.
وَلَا يخفى أَن تَخْرِيجه لَا يتمشى على رِوَايَة النصب وَإِنَّمَا هُوَ على رِوَايَة الرّفْع مَعَ أَن الْمَعْنى لَيْسَ عَلَيْهِ فَإِنَّهَا لم تتمن أَحدهمَا وَإِنَّمَا تمنت كليهمَا وَإِن كَانَ لرفع نصفه مَه نصب الْحمام وَجه ذكره ابْن هِشَام فِي شرح الشواهد قَالَ: وَقد يجوز الرّفْع مَعَ نصب الْحمام. وَذَلِكَ على أَن تَجْعَلهُ مَعْطُوفًا على الضَّمِير الْمُسْتَتر فِي لنا وَحسن ذَلِك لأجل الْفَصْل.
وَقَوله: فحسبوه فألفوه حسب بتَشْديد السِّين بِمَعْنى المخفف أَي: عدوه. وَالْهَاء فِي موضِعين ضمير الْحمام. وألفوه: وجدوه.
قَالَ ابْن قُتَيْبَة: نظرت هَذِه الْمَرْأَة إِلَى حمام مر بهَا بَين جبلين وَكَانَ سِتا وَسِتِّينَ فَقَالَت: لَيْت لي هَذَا الْحمام وَنصفه وَهُوَ ثَلَاث وَثَلَاثُونَ إِلَى حمامتي فَيتم لي مائَة. فنظروا فَإِذا هُوَ كَمَا قَالَت.
-
قَالَ حَمْزَة الْأَصْفَهَانِي فِي أَمْثَاله: قَالَ بعض أَصْحَاب الْمعَانِي: إِن النَّابِغَة لما أَرَادَ مدح هَذِه الحكيمة الحاسبة بِسُرْعَة إصابتها شدد الْأَمر وضيقه ليَكُون أحسن لَهُ إِذا أصَاب فَجعله حزر طير إِذْ كَانَ الطير أخف مَا يَتَحَرَّك ثمَّ جعله حَماما إِذْ كَانَ الْحمام أسْرع الطير ثمَّ كثر الْعدَد إِذْ كَانَت الْمُسَابقَة والمنافسة ثمَّ ذكر أَنَّهَا صَارَت بَين نيقين لِأَن الْحمام إِذا كَانَ فِي مضيق من الْهَوَاء كَانَ أسْرع طيراناً مِنْهُ إِذا اتَّسع عَلَيْهِ الفضاء ثمَّ جعلهَا وَارِدَة للْمَاء لِأَن الْحمام إِذا وَردت المَاء أعانها الْحِرْص للْمَاء على سرعَة الطيران. انْتهى.
وَأغْرب الجواليقي هُنَا فَقَالَ: قَالَ الْأَصْمَعِي: سَمِعت نَاسا يحدثُونَ أَن ابْنة الخس كَانَت قَاعِدَة فِي جوَار فَمر بهَا قطاً وَارِد فِي مضيق من الْجَبَل فَقَالَت:
(يَا لَيْت ذَا القطا لنا
…
وَمثل نصفه مَعَه)
(إِلَى قطاة أهلنا
…
إِذن لنا قطاً ميه)
فأتبعت القطا فعدت على المَاء فَإِذا هِيَ سِتّ وَسِتُّونَ. انْتهى. وابْنة الخس بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَشْديد السِّين الْمُهْملَة وَاسْمهَا عِنْد الإيادية. وَهِي جَاهِلِيَّة قديمَة وَقد أدْركْت القلمس أحد حكام الْعَرَب فِي
الْجَاهِلِيَّة
تحاكمت هِيَ وَأُخْتهَا خمعة إِلَيْهِ فِي كَلَام لَهما ومدحته بِأَبْيَات مِنْهَا:)
(إِذا الله جازى منعماً بوفائه
…
فجازاك عني يَا قلمس بِالْكَرمِ)
وَبَعض الروَاة يزْعم أَنَّهَا مَاتَت فِي زمن النُّعْمَان عِنْد هِنْد ابْنَته وَيسْتَشْهد على ذَلِك بقول
(وفيت بِعَهْد كَانَ مِنْك تكرماً
…
كَمَا لابنَة الخس الْإِيَادِي وفت هِنْد)
وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك وَإِنَّمَا مُرَاد الفرزدق أَن هنداُ وفت لأختها خمعة ابْنة الخس لَا أَنَّهَا عِنْد ابْنة النُّعْمَان.
وَقد ترجمها الشريف المرتضى فِي أَمَالِيهِ وَذكر طرفا من أمورها.
وَقد أجحف الزَّمَخْشَرِيّ فِي قصَّة الزَّرْقَاء فَنَقُول: إِن الْيَمَامَة كَانَ اسْمهَا جواً فِي الزَّمن الأول وَكَانَ لأمتين إِحْدَاهمَا: طسم بن لوذ بن سَام بن نوح وَالْأُخْرَى: جديس بن جاثر بن إرم بن سَام بن نوح عليه السلام وَكَانُوا أَصْحَاب زرع ونخيل ومواش وَكَانَ ملكهم من طسم يُقَال لَهُ: عملوق
أَو عمليق أفرط فِي جوره على جديس حَتَّى أَمر أَن لَا تزف امْرَأَة من جديس إِلَّا أُتِي بهَا إِلَيْهِ حَتَّى يفتضها قبل زَوجهَا فَلَمَّا افتض بنت غفار خرجت من عِنْده رَافِعَة صَوتهَا ملطخة بدمها وَهِي تَقول:
(لاأحد أذلّ من جديس
…
أهكذا يفعل بالعروس)
فِي أَبْيَات كَمَا تقد م شرح هَذِه الْقِصَّة مفصلا فِي الشَّاهِد الْخَامِس وَالْعِشْرين بعد الْمِائَة. فَلَمَّا سمع قَومهَا ذَلِك اشْتَدَّ غضبهم وَمَشى بَعضهم إِلَى بعض وَكَانَ أَخُوهَا ابْن غفار سيدهم فَلَمَّا رأى ذَلِك من حَال الْقَوْم قَالَ: اطيعوني وَإِلَّا قتلت نَفسِي. قَالَ: اكْتُبْ إِلَى الْملك: إِنِّي قد زوجت أُخْتِي فليحضر الْملك وَجَمِيع أَهله إِلَى طَعَامي. فَإِذا أَتَوْكُم قَامَ كل وَاحِد مِنْكُم على رَأس رجل مِنْهُم وَقد دفن سلاحه تَحت رجله فَإِذا قرب الطَّعَام فَلْيقل كل رجل مِنْكُم من يَلِيهِ.
فَقتلُوا جَمِيعهم إِلَّا رجلا يُقَال لَهُ: ريَاح بن مرّة فَإِنَّهُ أفلت مِنْهُم واستصحب كلبة لَهُ وَأخذ جَرِيدَة من جرائد نَخْلهمْ فطلاها بالطين ثمَّ توجه حَتَّى أَتَى حسان بن تبع مذعوراً فَقَالَ لَهُ: مَا وَرَاءَك قَالَ: أَتَيْتُك من عِنْد قوم كُنَّا مُلُوكهمْ وساداتهم وَقد وَثبُوا علينا ظلما وَذكر الْقِصَّة وَفِيهِمْ زروع ومواش وتبر وورق ومسك وَعَنْبَر وَجَمِيع آلَة الدُّنْيَا وَفِيهِمْ امْرَأَة يُقَال لَهَا: عنز تغذى بالزبد والشهد والمخ كَأَنَّهَا الْقَمَر لَيْلَة الْبَدْر.)
فَلَمَّا سمع ذَلِك حسان
دَعَا قومه وأسمعهم كَلَام ريَاح فَقَالُوا: مَا لنا وَلأمة قتلت أُخْتهَا لَيْسَ بَيْننَا وَبينهمْ حَرْب على أَن بلدهم شاسع ومسلكهم بعيد.
قَالَ الْملك: أَرَأَيْتُم إِن ظلم أَخ أَخَاهُ أَلَيْسَ يجب على الْملك أَن ينصره قَالُوا: بلَى. قَالَ لَهُم ريَاح: كَيفَ يكون بلدي شاسعاً وَهَذِه جَرِيدَة من نخلها رطبَة فَلَو
كَانَ بَعيدا يَبِسَتْ وَهَذِه كلبتي قد تبعتني عرجاء. وَكَانَ قد ضربهَا عِنْد دُخُوله فعرجت فَلم يزل بهم حسان حَتَّى أجابوه إِلَى الْمسير فَسَارُوا فِي ثلثمِائة ألف فَلَمَّا كَانَ من جو على مسيرَة ثَلَاثَة أَيَّام قَالَ لَهُم ريَاح: إِن فيهم امْرَأَة يُقَال لَهَا: الْيَمَامَة تبصر الرَّاكِب من مسيرَة ثَلَاثَة أَيَّام فَاقْطَعُوا الشّجر وليضع كل رَاكب مِنْكُم بَين يَدَيْهِ غصناً من أَغْصَانهَا ليشتبه عَلَيْهَا.
فَقَامَتْ الْيَمَامَة على رَأس حصن لَهُم يُقَال لَهُ: البتيل فَقَالَت: أَي قوم زحفت إِلَيْكُم حمير وَأرى شَجرا وَخَلفهَا بشرا.
فكذبوها وَقَالُوا: مَا تزالين تَأْتِينَا بالإفك ثمَّ رجعت بصرها فوضح لَهَا صدق مَا رَأَتْ فَقَالَت:
(خُذُوا حذاركم يَا قوم ينفعكم
…
فَلَيْسَ مَا قد أرى بالْأَمْس يحتقر)
(إِنِّي أرى شَجرا من خلفهَا بشر
…
وَكَيف تَجْتَمِع الْأَشْجَار والبشر)
(خُذُوا طوائفكم من قبل داهية
…
من الْأُمُور الَّتِي تخشى وتنتظر)
…
(فقد زجرت سنيح الْقَوْم باكرةً
…
لَو كَانَ يعلم ذَاك الْقَوْم إِذْ بَكرُوا)
(إِنِّي أرى رجلا فِي كَفه كتف
…
أَو يخصف النَّعْل خصفاً لَيْسَ يبتدر)
(فغوروا كل مَاء قبل ثَالِثَة
…
فَلَيْسَ من بعده ورد وَلَا صدر)
(وناهضوا الْقَوْم بعض اللَّيْل إِذْ رقدوا
…
وَلَا تخافوا لَهُم حَربًا وَإِن كَثُرُوا)
فَلم يَلْبَثُوا أَن صبحهمْ حسان بعد أَرْبَعَة فَقتل الرِّجَال وسبى النِّسَاء ودعا بِالْيَمَامَةِ فَقلع عينهَا فَوجدَ فِيهَا عروقاً سُودًا فَسَأَلَ: مَا الَّذِي كَانَت تكتحل بِهِ فَقَالُوا: حجر يُقَال لَهُ الإثمد فاكتحل بالإثمد من ذَلِك الْيَوْم.
فَلَمَّا قَتلهَا صلبها على بَاب جو فسميت بذلك الْيَمَامَة. وأتيت عنز بالجمل فَلم تدر مَا الْجمل من الْعِزَّة.
وَإِن الْأسود بن غفار أفلت فلحق بجبلي طَيئ فَقتله عَمْرو بن لاغوث بن طَيئ كَمَا تقدم شَرحه)
فِي الشَّاهِد الثَّامِن والثمانين من أَوَائِل الْكتاب.
وترجمة النَّابِغَة الذبياني تقدّمت فِي الشَّاهِد الرَّابِع بعد الْمِائَة.