المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الديانة البوذية: بوذا وحياته، ومبادئه، وتأسيسه للديانة - الأديان الوضعية - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 فكرة تمهيدية عن أديان الهند الكبرى وتوزيعها جغرافيا

- ‌معنى الأديان الوضعية

- ‌فكرة تمهيدية عن أديان الهند الكبرى وتوزيعها جغرافيًّا

- ‌الدرس: 2 فلسفة الموت والروح، وعقيدة خلق العالم، والخلاص من الشر

- ‌تقسيم أبي الريحان البيروني لاعتقاد الهنود

- ‌فكرة تناسخ الأرواح كما يؤمن بها الهندوس

- ‌الدرس: 3 الديانة الهندوسية (1)

- ‌الأصول التاريخية للديانة الهندوسية ولسكان الهند

- ‌مسألة التقمص أو نظرية التناسخ

- ‌الدرس: 4 الديانة الهندوسية (2)

- ‌التعريف بالهندوسية، وفكرة تأسيسها

- ‌أهم الموضوعات المتعلقة بالهندوسية

- ‌الطبقات في الفكر الهندوسي، وأهم عق ائد الهندوسية

- ‌الدرس: 5 الديانة الهندوسية (3)

- ‌بقية العقائد الهندوسية

- ‌الأخلاق عند الهندوسيين

- ‌نماذج من الفقه الهندوسي

- ‌الكتب المقدسة لدى الهندوس

- ‌الدرس: 6 الديانة الهندوسية (4)

- ‌لويزا" كتاب الهندوس المقدس

- ‌من تقاليد الهندوس

- ‌اعتقاد الهندوس حول تناسخ الأرواح

- ‌العبادات الهندوسية والطقوس الدينية

- ‌الدرس: 7 الديانة البوذية (1)

- ‌الديانة البوذية: بوذا وحياته، ومبادئه، وتأسيسه للديانة

- ‌من أخلاق بوذا وأقواله

- ‌الدرس: 8 الديانة البوذية (2)

- ‌التعريف بالديانة البوذية

- ‌الأسس الفكرية للعقيدة البوذية

- ‌الدرس: 9 الديانة البوذية (3)

- ‌عقيدة البوذية وفلسفتها

- ‌من تعاليم البوذية

- ‌لمحة تاريخية عن البوذية وانتشارها، والكتب المقدسة لديهم

- ‌الدرس: 10 الديانة البوذية (4)

- ‌نشأة الرهبنة في البوذية، ووصولها وانتقالها إلى المسيحية

- ‌الآداب والنظم التي يجب أن يلتزم بها الرهبان في الديانة البوذية

- ‌موقف الإسلام من الرهبنة

- ‌الدرس: 11 الديانة البوذية (5)

- ‌حكم الرهبنة في الإسلام من حيث العزف عن الزواج

- ‌حكم الرهبنة في الإسلام من حيث الفقر

- ‌حكم الرهبنة في الإسلام من حيث إهانة الجسد

- ‌حكم الرهبنة في الإسلام من حيث الاعتزال والعزلة

- ‌حكم الرهبنة في الإسلام من حيث الطاعة المطلقة لرجل الدين، واعتقاد عصمته

- ‌الدرس: 12 الديانة الجينية

- ‌تمهيد للديانة الجينية

- ‌تأسيس ونشأة الديانة الجينية

- ‌أهم عقائد الجينية

- ‌الدرس: 13 ديانة السيخ، والديانة البوذية الصينية

- ‌من هم السيخ؟ وما هي معتقداتهم

- ‌البوذية الصينية

- ‌أديان الهند في الميزان

- ‌الدرس: 14 الديانة المانوية (1)

- ‌من هو " مانو

- ‌النشاط التبشيري لماني

- ‌الدرس: 15 الديانة المانوية (2)

- ‌إرسال الإنسان الأول القديم وهزيمته

- ‌استرداد ذرات النور

- ‌أسطورة إغواء الأراكنة

- ‌المقاييس المضادة للمادة

- ‌الدرس: 16 الديانة المانوية (3)

- ‌الروح بمثابة مركز للفداء

- ‌الإيمان بالآخرة

- ‌علم التنجيم

- ‌التنظيم اللاهوتي، والتعميد المانوي، والوليمة المقدسة، والعشاء الرباني

- ‌الدرس: 17 الديانة المانوية (4)

- ‌شريعة "ماني"، والفرائض التي فرضها، وقول المانوية في الميعاد

- ‌الكتب المقدسة عند المانوية، وعقيدة التناسخ

- ‌حال الإمامة بعد "ماني"، وتنقل المانوية في البلاد، وأشهر رؤسائهم

- ‌الدرس: 18 الديانة الزرادشتية (1)

- ‌أديان الفرس

- ‌الزرادشتية من حيث التأسيس والنشأة والتطور

- ‌الدرس: 19 الديانة الزرادشتية (2)

- ‌أهم المصادر المقدسة للزرادشتية

- ‌فكرة الحساب والشفاعة، والأعياد والأخلاق عند الزرادشتيين

- ‌الدرس: 20 مقارنة بين عقائد المانوية والزرادشتية في: الله، والنفس، والمصير

- ‌عقائد المانوية والزرادشتية في الله - عز جل

- ‌عقائد المانوية والزرادشتية في النفس

- ‌عقائد المانوية والزرادشتية في المصير

الفصل: ‌الديانة البوذية: بوذا وحياته، ومبادئه، وتأسيسه للديانة

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس السابع

(الديانة البوذية (1))

‌الديانة البوذية: بوذا وحياته، ومبادئه، وتأسيسه للديانة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين؛ أما بعد:

ففي حديثنا عن أديان الهند الكبرى بعد الديانة الهندوسية أو البرهمية يأتي الكلام عن الديانة البوذية والجينية، وقد ذكرت لك من قبل أن البوذية كانت أحد الاتجاهات الفكرية التي نبعت في القرن السادس، وذكرنا كذلك أنها كالجينية سارت في إطار الفكر الهندي في أكثر مبادئه، وذكرنا أيضًا أنها كالجينية كانت رد فعل لعسف البراهمة واستبدادهم مما أثار عليهم الطبقات الأخرى وبخاصة طبقة الكشتيريا حيث الأمراء والمحاربون، فالديانة البوذية والجينية هما حركتان فكريتان متعاصرتان مع الديانة الهندوسية أو البرهمية، وحديثنا الآن عن البوذية من حيث بوذا وحياته ومبادئه وتأسيسه للديانة البوذية.

ويبقى الكلام بعد - إن شاء الله - عن عقيدة البوذية في الإنسان، وحقيقة النفس ما بين الخير والشر ونشأة الرهبنة في البوذية وأصولها وانتقالها إلى المسيحية، إلى غير ذلك مما هو يرتبط بهذه الديانة البوذية لنقف عليها ولنتعرف على ملامحها -بإذن الله تبارك وتعالى فنقول: البوذية منسوبة إلى بوذا.

من بوذا؟

تعالى بنا نتعرف على مولده ونشأته من حيث المولد والنشأة في الناحية الشرقية من الهند، وبجانب مملكة "كوسالا" بين مدينة "بنارس" وجبال "الهيمالايا" شمال نهر "الكنج" المقدس حيث تقع الآن آجام كثيفة على حدود نيبال، كانت تمتد أرض خصبة مخضرة يانعة، فارعة الأشجار طيبة الخمائل، وكانت هذه الأرض موطن قبيلة "ساكيا" من الطبقة "الكشتيريا".

وكان أمراء القبيلة هم أصحاب السيادة على هذه البقعة، وسلاطينها المسموعي الكلمة النافذي الرأي، وكان "سدودانا" أحد نبلاء هذه القبيلة يقطن قرية تُدعى "كبيلا وافو"، له فيها ضياع فسيحة، وزروع نضرة، وقصور شاهقة، وجاهٌ عريض، وكان متزوجًا من نبيلة اسمها "مايا" يعيش معها في هذا النعيم المقيم، والمجد العظيم.

ص: 159

وفي سنة 563 قبل الميلاد أنجب هذان الأبوان طفلًا أطلقا عليه ""سذهاتا"" وماتت أمه في الأسبوع الأول من ولادته، فحضنته خالته "مهاياباتي" وشب الطفل في هذا النعيم العظيم، كما يشب أترابه من أبناء السادة والملوك، ووجد الدنيا كلها تحت أمره، والنعيم رهن إرادته وتهيأت له مفاتن الحياة، وانبسط الأمل أمام عينيه وتدفقت المسرات تحفه من كل جانب وبلغ مطلع الشباب، وهو يرفل في هذه النعمة كلمته مسموعة، ورأيه مطاع وسارع أبوه فزوجه من ابنة أحد الأمراء واسمها "ياسودهارا" ولم يطل الوقت حتى وُلد له ابن سموه "راهولا".

كان من الممكن أن يعبر "سذهاتا" الحياة، كما عبرها، ويعبرها آلاف مثله من الأمراء والملوك وكان من الممكن أن تنسيه مفاتن الحياة التي نعم بها تلك الآلام التي يعانيها البؤساء والأشقياء، وكان من الممكن أن يلهيه شبابه عن هرم الشيوخ، وصحته عن آلام المرضى، وحياته المرحة عن صور الموت والفناء، كما كان عند سواه، أو شغف بالحياة، كأن الشباب لا يهرم والصحة لا تنحل، والحياة لا تزول.

كان من الممكن أن يحصل هذا، ولكن ""سذهاتا"" لم يستسلم للملاذ والشهوات، ولم يفرغ لنفسه، ويستغرق في شهواته، وإنما عاش فردًا في مجموعة يفكر فيها، ويحس بإحساسها، لا بل الحق أن نقول: إن "سذهاتا" جذبه جانب الشر والألم في الحياة أكثر مما جذبه جانب النعيم والسرور، فلم يرضخ للحياة التي رُسمت له، وإنما رسم هو لنفسه حياة من طراز آخر على ما سيأتي تفصيله فيما بعد -إن شاء الله.

أفكار "سذهاتا" وفلسفته:

تروي الأقاصيص أن "سذهاتا" التقى مرة بشيخ عجوز واهن يتوكأ على عصاه ويوشك أن ينكفئ على صدره وقد احدودب

ص: 160

ظهره وتقوس وثقل عليه رأسه فلا يطيق حمله، فاضطرب له "سذهاتا" وتألم له، فقال له رفيقه شانا هكذا نهج الحياة، فلا مفر لنا من هذا المصير، وتروي قصة أخرى أن "سذهاتا" رأى مريضًا يتلوى من المرض ويئن من الألم، ويشكو من العناء، وأهله حوله لا يستطيعون إيقاف الألم، بل لا يرون الداء، ولا يحسون بالعناء، فقال له شانا هكذا نهج الحياة.

وتروي قصة ثالثة: أن "سذهاتا" شاهد جثة أمعن فيها البلا، وبُعثت منها رائحة مؤذية ونتن كريه، فاستغرق في التفكير فقال له شانا هكذا نهج الحياة.

وفكر "سذهاتا" في هذا العناء، وهذا الشقاء ما مصدره، وكيف يمكن التخلص منه، وبخاصة أن كل إنسان لا بد أن يعاني المرض يومًا، ولا بد أن يعاني سكرات الموت، وكثير من الناس يمتد بهم العمر؛ فيعانون الهرم والشيخوخة، وأحس والده باتجاهه، فحاول مقاومة هذا الاتجاه، بأن يبعد مناظر الألم عن ابنه، وأن يسبغ عليه مزيدًا من اللذات، والمسرات لتجذبه عن التفكير في الآلام، والشجون، ولكن هذه الأحاسيس كانت قد تمكنت من فكر "شذهاتا".

فلم يكن من السهل أن يثني عنها، ثم إن "سذهاتا" عمق فيه هذا الطابع وكانت اتجاهه صدًّا لأحاسيس نفسية قوية؛ ولهذا فإن إبعاده عن هذه المناظر لم يأتِ بأية ثمر، واستقر رأي "سذهاتا" على أن يدع صخب الحياة، وأن يبدأ حياة الزهد، والفكر لعله يصل إلى معرفة سر الكون.

وفي إحدى الليالي حيث كان القصر يموج بالبشر والمسرات بسبب ولادة ابنه قال "سذهاتا" وهذه رابطة أخرى علينا أن نرسمها، وحسم "سذهاتا" أمره على أن يفارق هذه الملاذ، وأن يبدأ تأملاته، وفي هجمة القصر بعدما شاهده من مرحٍ

ص: 161

وغناءٍ ألقى "سذهاتا" نظرتهم نظرة أخيرة على زوجته وطفله، وتسلل من القصر، وامتطى جواده، وانطلق إلى مرحلة جديدة، وكان سنه آنذاك تسعة وعشرين سنة، سار "سذهاتا" في تلك الليلة شقة بعيدة، حتى إذا أسفر الصبح توقف خارج أراضي عشيرته على ضفة نهر رملية، وهناك ترجل، وقطع بسيفه ذوائبه المتهدلة، وأماط عنه كل حلية، وأرسلها مع حصانه وسيفه إلى منزله، ثم واصل سيره حتى التقى براهبين من البراهمة فبقي معهما، وتتلمذ عليهما، وأراد عن طريقهما أن يصل إلى غايته.

ولكن بعد فترة تأكد له أن ما يعيشان فيه من زهادة، وتقشف شيء مقصود لذاته، كأنها الغاية التي يتطلعان إليها، وكان "سذهاتا" يريد الزهادة وسيلة لمعرفة أسرار الكون، ولذلك هجرهما "سذهاتا" وقرر أن يسعى بنفسه إلى نيل المعرفة، وكشف أسرار الكون، وقد سلك من أجل هذا وسائل متعددة كالتصوف، والفلسفة، ثم انجذب نحو دنيا الرهبنة فبدأ حياة الترهب؛ لذلك يحسن بنا في هذه المرحلة من حياته أن نسميه "غوتاما" أي: الراهب، أو "غوتاما" أسير الفلسفة الهندية.

وقبل أن نسترسل في هذه المرحلة من حياة "سذهاتا" يحسن بنا أن نتساءل لماذا اتجهت فلسفة "غوتاما" إلى الآلام والأشجان، حتى أصبحت الحياة كلها في نظره جحيمًا لا يُطاق ونسي ما في الحياة من معروف وخير وتخفيف ضر وتحقيق أمل، ثم لماذا اتخذ التقشف والانقطاع، والتبتل سبيلًا للوصول إلى كشف الحجاب عنه؟ كل هذه الأسئلة تدفع الباحث إلى الاعتقاد أن "غوتاما" كان على الأقل في هذه الفترة أسير الفلسفة الهندوسية، قرأها، وعرف اتجاهاتها، وتأثر بميولها إلى العزلة، والزهد والانقطاع عن الناس بتفكير، أو بدون تفكير، فلما رأى "غوتاما" منظر المرض، والشيخوخة، وجثة الميت ضعف دافع المقاومة في نفسه، ورجح عنده الميل إلى سلوك نفس الطريق الذي سلكه الهندوس من قبل.

ص: 162

"غوتاما" في تقشفه:

لجأ "غوتاما" إلى العزلة والتقشف، وخلع ثيابه واكتفى برقاع وأوراق شجر يستر بها عورته، وألقى بجسمه بين الأشواك والحصى وأهمل الطعام والشراب والملاذ، ويُقال: إنه كان يتبلغ بمقدار ضئيل جدًّا من الطعام بلغ أحيانًا حبة من الأرز في اليوم، واتخذ ذلك طريقًا رجاءَ أن تُكشف له أسرار الحياة، ويعرف السبيل للنجاة من عنائها، وقام بألوان من الرياضات النفسية رغبة في أن يطهر نفسه حتى تصل إلى سر الكون.

وقد كلفته هذه الأعمال اضمحلال في جسمه وانحلالًا في قواه، وزامله في هذه الفترة القاسية خمسة من النساك، وكانوا يرونه أكثرهم قسوة على نفسه وأصبرهم على الآلام، ولذلك وضعوه في موضع الزعامة بينهم، إذ كانت الزعامة في ذلك الحين لمن يستطيع أن يكون أشد صلابة وقسوة على جسمه، وأمضى "غوتاما" سبع سنين في هذا الصراع العنيف لم يحس في أثنائها ولا في نهايتها بأيِّ أثرٍ يسير به إلى غايته، وأدرك أن ما يفعله ما هو إلا إجهاد لجسمه، لا يغني فتيلًا، وهنا أقدم "غوتاما" بشجاعة على ما لم يكن معهودًا في نساك عصره.

هؤلاء النساك الذين يرون محاربة الجسم كأنها غاية وليست وسيلة، ويستمرون في هذه الحرب حتى الفناء، وربما عدوا قديسين بسبب ذلك الموقف، أما "غوتاما" فكان كما قلنا قد اتخذ الزهد وسيلة، ثم رأى أنها وسيلة غير مجدية، فأعلن تمرده على هذه الطريقة، وعاد إلى طعامه وشرابه وكسائه، وقرر أن يتوقَّفَ عن قتل شهوات نفسه بالجوع، وأعلن أن خير ما يوصله إلى غايته عقل يتغذى في جسم سليم، وقد خيب فعله هذا أملة أتباعه فيه، ففارقوه آسفين على ما آل إليه أمره.

ص: 163

الإشراقة والكشف عن الأسرار:

على أن "غوتاما" وإن كان قد عدل عن إماتة نفسه وتعذيبها؛ فإنه لم يعدل عن تفكيره، ومن الواضح: أن الإنسان قد يستطيع فجأة أن يغير أحواله المادية من صوم إلى طعام، ومن تقشف إلى بذخٍ، ولكنه لا يستطيع بسهولة أن يتخلى عن تفكيره وفلسفته، وبينما كان يمشي وحيدًا موحشًا، مال إلى شجرة في غابة "جوريلا" ليتفيأ ظلالها، ريثما يتناول طعامه، ولكن المقام طاب له في ظل هذه الشجرة، ويُقال: إنه أحس برغبة في البقاء تحتها بعض الوقت، فاستجاب لهذه الرغبة، وبقي تحت الشجرة، وفي هذا المكان حدث ما كان يتمناه "غوتاما".

ويقول "غوتاما" واصفًا هذه المرحلة: سمعت صوتًا من داخلي قول بكل جلاء وقوة، نعم في الكون حق أيها الناسك، هنالك حق لا ريب فيه، جاهد نفسك اليوم حتى تناله، فجلست تحت تلك الشجرة في تلك الليلة من شهره الأزهار، وقلت لعقلي وجسدي: اسمعا لا تبرحا هذا المكان حتى أجد ذلك الحق، لينشف الجلد، ولتتقطع العروق، ولتنفصل العظام، وليقف الدم عن الجريان، لن أقوم من مكاني حتى أعرف الحق الذي أنشده فينجيني، وتم له في هذه الجلسة الإشراقة التي كان يترقبها، ويراها بعض الباحثين الغربيين وحيًا، ويصورها بوذا بأنها صوتٌ حادثه وسنروي هذا الحديث عند الكلام عن "النيرفانا".

وهنا ننقل عبارة مولانا محمد عبد السلام الرانبوري، وهي "وكان مستغرقًا تأمله، خائضًا في تفكره إذ أخذه نزعة سماوية فغاب عن نفسه وعن كل ما حوله، وطفق يطرأ عليه حال بعد حال، ويلحقه طور وراء طور، ثم عاد شعوره يتجلى رويدًا رويدًا، فأشرقَ الكون لديه، وأصبح العقل يتجرد عن شوائب المادية فانشرح صدره، ورأى العالم في تكوناته، وتقلباته، ومباديه ومناحيه.

ص: 164

وقد غلب اللاهوت فتنور اللاهوت، فذاق سرورًا ما خطر بباله من قبل، ووجد قوة ما استشعر بها قط، فأبصر ينابيع الحياة، فأحاط بمنابع الآلام واستوعب منابت البؤس، واكتشف مقاليد السرور، ورأى سبيلًا يهدي إلى تلاشي الأحزان وزهوق الآلام، فأدرك متمناه، ونال مبتغاه، وتخلص من تقلبات الحياة، ونجا من حزازات الآلام، تيقظ شعوره وتنورت بصيرته واستوى على عرش البوذية وسار بوذا، أي: العارف المستيقظ والعالم المتنوع.

ومن الآن سنطلق على بطل هذه الديانة بوذا، وهو الاسم، أو اللقف الذي حصل عليه عندما انكشف عنه الغطاء، ويحسن بنا هنا أن ننقل العبارة التي سجل بها بوذا هذه اللحظة التي يعتبرها هو ويعتبرها أتباعه لحظة إشراق وفوز.

يقول بوذا: "لما أدركت هذا تحررت من الهوى تحررت من شرور الكون الأرضي، تحررت من شرور الخطأ، تحررت من شرور الجهل، وتيقظ في المتحرر شعور التحرر، وشعور عدم تكرر المولد، قد انتهى الصراط المقدس، قد تمت الفريضة فلن أرجع إلى هذه الدنيا رجعة أخرى قد أبصرت هذا".

ترى ما هذه الإشراقة التي حصل عليها بوذا، وما هذا السر الذي كُشف له، وما هذه الأنوار التي أحاطت بنفسه، وما تلك الوسائل التي استطاع بها أن يحل مشكلات الحياة، ويوقف المرض والشيخوخة والموت؟ على كل حال لنسري الآن شوطًا آخر قبل أن نتحدث عن الإشراقة أو ما يسميه البوذيون "النيرفانا"، وهي السر، أو الحل لكل هذه الآلام، نحب هنا أن نوضح بعض الأسماء، والمظاهر الجديدة التي حدثت مع حدوث البوذية ومن أهمها إطلاق لقب بوذا، أي: العارف المستنير على "غوتاما" كما ذكرنا آنفًا.

واللفظ في الأصل وصف، ولكن غلب إطلاقه على "غوتاما" فأصبح علمًا عليه، وجاز بذلك استخدامه من غير "ال" التعريفية، وبوذا هو الاسم الذي سنستعمله منذ الآن في الحديث عن "سيذهاتا" الأمير أو "غوتاما" الراهب.

أما الشجرة التي كان بوذا يجلس تحتها لما تم له الكشف فقد سُميت شجرة العلم، أو الشجرة المقدسة، وقد احتلت عند البوذيين مكانة سامية، مثل مكانة الصليب عند المسيحيين، وإذا كان المسيحيون قد نشروا الصليب في حياتهم، ورسموه على حليهم وأجسامه، فإن البوذيين يرون في الشجرة المقدسة شيئًا يجب أن يسعى له الناس، لا أن يسعى هو للناس، ولهذا زرعوا في كل قطر شجرة واحدة من نوع الشجرة المقدسة يحج الناس إليها في المناسبات المختلفة.

ص: 165

وفي معبد "بروبودور" بالقرب من "جوكاجاكرتا" بأندونيسيا توجد الشجرة الوحيدة في "جاوا" من هذا النوع، والبوذيون يسعون إليها للتبرك والزيارة، وتحميها إدارة المعبد بسور حولها خوف أن يلتقط البوذيون أوراقها أو أغصانها للتبرك، أو يعبثوا بجذعها في تقربهم لها، واحتكاكهم بها.

ويعلق ويلز على عناية البوذيين بهذه الشجرة بقوله: "ومن سوء الحظ أن تلاميذ "غوتاما" عنوا بحفظ شجرته أكثر من عنايتهم بالحفاظ على أفكاره التي أساءوا منذ البداية فهمها وشوهوها ومسخوها، أما غابة "أوريلا" فقد فقدت منذ ذلك التاريخ هذا الاسم، واتخذت اسمًا جديدًا يتناسب مع هذا الحدث الجلل الذي حدث بها، وهذا الاسم هو "بوذاكيا".

الدعوة للبوذية وإعداد دعاتها:

وبعد أن كُشف عن بوذا الحجاب، وأدرك منيته وقف مترددًا بعض الوقت وسأل نفسه أيقنع وحده بهذا النعيم الذي انغمس فيه، ويستمتع وحده بهذا السر الذي انكشف له؟ أم يبشر به، ويذيع أمره بين الناس حتى ينعموا معه بتلك السعادة، وذلك السرور؟ وفكر بوذا في قصور البشر عن إدراك هذه الحقائق السامية؛ خشية أن يكذبه الناس، ويرموه بالافتراء، أو الجنون، فأوشك أن يكفي بهذا السر لنفسه غير أن جانب الخير، كما يقول غلب عليه، والميل إلى الإيثار رجح في نفسه، ورأى أن عليه أن يدعو الناس، وليس عليه أن يفكر في النتيجة؛ إنه يريد الخير لهم والهداية، وإن لم يستجيبوا فقد أدى واجبه وأرضى ضميره.

ص: 166

ويعد البوذيون هذا الاتجاه من بوذا مطلع خير لهم وللبشرية جمعاء، ثم يصلون ويكبرون ويعلنون سرورهم واغتباطهم، كلما وصلوا في قصة بوذا إلى هذه النقطة، وعندما استقر رأي بوذا على أن ينشر دعوته ترك غابة "بوذاكايا" إلى مدينة "بنارس" حيث كان يعيش رفاقه الخمسة الذين زاملوه في فترة جهاده وتقشفه، ولما دعاهم لمذهبه لم يبدوا أية مقاومة، فقد كان ماضيهم معه يدعوهم لقبول دعوته، ثم خطى بوذا خطوةً أخرى، وجمع حوله مجموعة من الشبان بلغ تعدادهم مائتين، وعلمهم مبادئه ولقنهم دعوته، ووكل إليهم القيام بنشرها ريثما يكمل رحلته ليرى أسرته، وقد حاولت أسرته أن تكفه عن هذه الدعوى التي صورها خيالات تبدت إليه ولكنه لم يكف ولم يغيره بريق المال، وضروب الرخاء والسعادة، وعاد إلى أتباعه حيث بدأت مظاهر النجاح تبدو له، فالتف حوله عدد كبير من الرجال والنساء، والشيب، والشبان كانوا جميعًا يتخذون من بوذا مثالًا لهم، وكان هو يحيطهم بعنايته، ويشملهم جميعًا بحدبِهِ ورعايَتِهِ.

واشتهرت دعوته بتسميتها النظام، أو عجلة الشريعة، فقد ظل بوذا يدفع عجلة الشريعة إلى الأمام أكثر من أربعين عامًا، حتى وصلت سنه الثمانين، واختار حياة المبشر المتسول مع كل ما تشتمل عليه من صعوبات وحرمان وسخرية ومقاومة، ولم يكن بوذا وحده هو الذي يدعو للنظام، وإنما اختار -كما سبق- القول نخبة من أتباعه؛ ليقوموا بالدعوةِ لها في مختلف النواحي، وتدلنا المراجع الرئيسة على أن بوذا كان يختبر الذين يقومون بالدعوة اختبارًا دقيقًا قبل أن يرسلهم لهذا الغرض.

ونسوق هنا مثالًا لهذا الاختبار، كان أحد المريدين واسمه "بورنا" يريد أن يذهب إلى قبيلة "سورنا بارانتا" لدعوتهم، وكان بوذا يعلم أن هذه القبيلة معروفة بالشراسة والخشونة، ولا

ص: 167

ينجح معها إلا الثابت الضليع، فأراد أن يعرف متى استعداد مريده لتحمل ما قد يلم به من عناء، فقال له: إن رجال هذه القبيلة قساة سريعو الغضب، فإذا وجهوا إليك ألفاظ بذيئة خشنة، ثم غضبوا عليك، وسبوك فماذا كنت فاعلًا؟ فأجاب "بورنا" أقول: لا شك أن هؤلاء قوم طيبون لينوا العريكة؛ لأنهم لم يضربوني بأيديهم، ولم يرجموني بالحجارة، فإن ضربوك بأيديهم، ورجموك بالحجارة، فماذا كنت قائلًا؟ أقول: إنهم طيبون لينون؛ إذ لم يضربونِ بالعصي، ولا بالسيوف، فإن ضربوك بالعصي والسيوف؟ أقول: إنهم طيبون لينون؛ إذ لم يحرمونِ الحياة نهائيًّا، فإن حرموك الحياة؟ أقول: إنهم طيبون لينون إذ خلصوا روحي من سجن هذا الجسد السيئ بلا كبير آلام، فقال له بوذا: أحسنت يا "بورنا" إنك تستطيع بما أوتيته من الصبر والثبات أن تسكن في بلاد قبيلة "سورنا بارانتا" فاذهب إليهم، وكما تخلصت فخلصهم وكما وصلت إلى الساحل فأوصلهم معك، وكما تعزيت فعزهم، وكما وصلت إلى مقام "النيرفانا" الكاملة، فأوصلهم إليها مثلك.

فهب "بورنا" إليهم، وكانت النتيجة أن آمنوا كلهم بالبوذية واتبعوها، ومثل هذا ما ترويه الأساطير، والقصص عن دعوة قطاع الطريق لدخول النظام؛ فهؤلاء الذين فروا من الحكومات والسلاطين، ولجئوا إلى الغابات قد وصلتهم الدعوة، وأنذرتهم بأنهم إن فروا من جنود الحكومة؛ فلن يستطيعوا الفرار من الهرم، والموت، والذنوب، وطالما استجاب هؤلاء للدعوة، وسجدوا لها واتبعوها، ليتحرروا من قيد الخوف، وليعيشوا في صفاء، ولم تصل لهم هذه الدعوة إلا بعد إعداد المريدين إعدادًا عجيبًا جعلهم يسخرون من كل المتاعب، ويقدمون على نشر الدعوة ببطولة نادرة وشجاعة عديمة المثال.

ص: 168

كان بوذا يودع مريديه الذين يتخذون طريقهم إلى الدعاية والإرشاد بقوله: "اذهبوا وانشروا النظام في البلاد رحمة بسائر الخلق، وإيثارًا لمصلحة الكثيرين على راحتكم، ولا يذهبن اثنان منكم في طريق واحد، بل يسلك كل واحد سبيلًا غير سبيل أخيه، بشروا بهذه الدعوة النبيلة في مبدئها النبيلة في وسطها النبيلة في غايتها، وبهذا الإصرار من بوذا ومريديه استطاعت الدعوة أن تنجح وتنتشر.

نجاح بوذا وانتشار البوذية:

شهد القرن الخامس قبل الميلاد نهاية اثنين من عظماء القادة والمفكرين كان بوذا أولهما، وكان سقراط ثانيهما، وكل منهما هاجم المعتقدات والطقوس، وسخر من الأفكار التي كان الناس يتبعونها في عهده، ولم يكن بوذا بأقل من سقراط معارضة وسخرية، فقد قال بإلغاء الطبقات، ولم يعترف بالآلهة الويدية، ولكن مع هذا نجد أن سقراط يصادف كثيرًا من العناء والتعذيب، بل الحكم بالإعدام، وتنفيذ هذا الحكم، ولكن بوذا عاش هادئًا ومات هادئًا، ورأى بنفسه نجاحه، وذيوع دعوته، فما السر في هذا النجاح الذي صادفه بوذا دون كبير عناء؟

الإجابة عن هذا السؤال سهلة يسيرة سبقت الإشارة إليها عند مطلع الكلام عن البوذية، وهي أن اضطراب الناس وحيرتهم في الهند كان داعيين لقبول أيِّ مذهبٍ يرد، أو فكرة تخطر بالبال، ثم إن الغريزة الهندية أكثر احتمالًا للأفكار الدينية من الغريزة اليونانية، على أن نجاح بوذا اشتركت فيه، بالإضافة إلى الطبيعة الهندية عوامل أخرى من أهمها قوله بإلغاء الطبقات، فقد كان ذلك داعيًا إلى أن يتبعه كثيرون ممن حطت طبقاتهم، أو ممن كانوا يحسون بثورةٍ ضد هذه الطبقات المتعددة المتفاوتة السيادة في الهند، وسنتحدث فيما بعد عن موقف بوذا من الطبقات، ونتائج هذا الموقف.

ص: 169

ثم كان لصفات بوذا الشخصية أثر كبير فيما صادفه من نجاح، ومن أبرز صفاته عدائه للتعصب الديني، واعتبار التعصب أعدى أعداء الدين، وقد رأى مرة أحد تلاميذه غرق في نقاشٍ حادٍّ مع برهمي كان يرمي بوذا بالإلحاد وقلة الورع، وكان يطعن في نظام التسول الذي أسسه بوذا، ولما رأى بوذا حماسة تلميذه وحدته أنكر عليه ذلك.

وقال: أيها الإخوان إن كان هناك من يقذع في ذاتي، أو في ديني، أو في النظام، فليس لكم أن تغضبوا، أو تحزنوا، أو تحقدوا؛ لأنكم بهذا تعرضون أنفسكم لخطر الخسارة الروحية أولًا ثم لا تتمكنون في ثورة الغضب من تمحيص أقوال القادح ثانية، وكما كان عدوًا للتعصب الديني كان عدوًا للغضب والطيش، فلم يُعرف عنه أنه سبَّ، أو سخط، أو نطق لسانه بكلمة جارحة أو قاسية، وكان يرى الدنيا جاهلةً غافلةً لا شريرة خبيثة، كل هذا جمع الأصدقاء حول بوذا، وسببت لدعوته النجاح الذي حظيت به دون كثير من العناء والجهل.

وفاة بوذا:

بلغت عناية الأدب الهندي الحديث ببوذا، والبوذية درجة كبيرة، وبين يدي مقال رائع أشبه بقصيدة رقيقة يصور نهاية بوذا، ومن هذا المقال نقتطف بعض فقرات:

عاشت "ياسود هارا" زوجة "غوتاما" منذ خرج زوجها في كوخ مثل كوخه على مدخل مدينة "راج راها"، ولما احتشدت الجمعية في ظل التلة الصغيرة هناك قبيل انهيار الأمطار، وكان السيد يحرك عجلة الإرشاد أمام الجميع جلست "ياسود هارا" وحدها مختفية بين ذلك الحشد العظيم تسمع كلام المبارك، وكان "راهولا" ابنها الوحيد يكلمها مرة واحدة كل سنة.

أما السيد فكانت لا تراه، وعندما توجه السيد إلى التل وليس معه إلا "أنندا" ابن عمه، ومريده الأول أسر إليه السيد قائلًا: يا "أنندا" لقد حانت الساعة التي تجتاز

ص: 170

فيها "ياسود هَارَا" العين، أي: أنك على وشك أن تُنقل لعالم الروح حيث تصبح غير مرئية بالعين وذاك كناية عن الموت، فانتهز "أنندا" هذه الفرصة، وأجابه، وهو يرتعد ألا يرى السيد أن يتكلم معها، فأبدى السيد موافقته دون أن يفوه بكلمة.

وفي الكوخ وجدا عجوزًا شمطاء حليقة الرأس ذابلة، عينها كالسراج الذي نضب زيته، خائرة القوى ترتعد، وهتفت لزوجها قائلة قد أطاعت الآمة سيدها، ودخلت النظام منذ أذن لها، والحمل الثقيل الذي حملته أضعه الآن على الأرض، إنه لم يبقَ في نفسي بذر للحياة، وسقطت فاقدة الحياة، قال "أنندا": إنها وصفت حملها إنه ثقيل، هل كان لها أن تتكلم مثل هذا إن كانت قد نالت النجاة؟ وأجابه كانا أحد المريدين إنها ماتت حيث تولد من جديد، وأستأنف بوذا سيره ومعه تلاميذه ومريدوه.

وظهر التعب الإعياء على السيد فخاطب تلاميذه قائلًا: "كل شيء يؤول إلى انحلال، وأنا كذلك أيها التلاميذ قد شِخْتُ، وأوشكت أن أموت جدوا لتحرير أرواحكم بكل ما أوتيتم من الحول، وفي خلال الشهور القادمة سأموت إن أجلي قد حان، وإن حياتي يجب أن تنتهي، وآن لروحي أن تلقي حملها، أيها الرهبان عليكم بالتيقظ والتبصر، لتكن أفكاركم سليمة، راقبوا قلوبكم وصونوا نفوسكم، ولا تغفلوا، لتكن إرادتكم طاهرة قوية، واجتازوا بحر الحياة غير آسفين، ولا متحسرين.

وواصل السيد سيره بين القرى والآجام، وكان "أنندا" قلقًا فقال له السيد: قل ما الذي يختلط في صدرك؟ فأجاب "أنندا" إن السيد يمشي في بلاد غير عامرة ليس بها إلا الأكواخ وأرى ألا يستحسن أن يموت السيد في مكان كهذا، ليكن

ص: 171

ذلك في مدينة عظيمة حيث يراه الكثيرون، ويؤمنون ويهتدون، فأجاب السيد في مثل هذا المكان يا حبيبي "أنندا" شعرت بأعمق السكينة في نفسي، هذه الشجيرات هي التي تنشرح روحي بجوارها، ودخل السيد الغابة، وتعمق هو ومريدوه حتى وصلوا مكانًا ترتفع أمامه قمم "هيمالايا" الشاهقة المكللة بالثلج.

واختار السيد مكانًا بين دوحتين باسقتين، واستلقى على جنبه في إجهاد ظاهر، وتعب واضح، وأسح "أنندا" بأن السيد يقرب من النهاية، فانتحى ناحية وأخذ يبكي فطلبه السيد فجاءه وجلس بجواره، فقال له السيد: ألم أقل لك مرة بعد مرة إن الأشياء كلها لا ثبات لها، ألم أبين لك أن الأشياء التي نهواها لقربها منا هي التي يجب أن نقطع علاقتنا بها؛ لأن زوالها، أو الحرمان منها يورثنا الألم والحزن، وبات السيد تلك الليلة كلها يحرك عجلة العرفان أمام تلاميذه راقدًا رقدة الأسد تحت الشجرتين.

وقد جاء كثير من الناس وتلقوا العلم عنه، وعند فلق الصبح، قال المبارك: قد يقول بعض منكم قبل نهاية اليوم لقد ذهب السيد عنا، وليس لنا معلم، كلا لا تقولون ذلك؛ فإني أترككم على المنهاج المعبد المستقيم الملون، اسمعوا معلمكم بعد ذهابي هو الشريعة والجمعية، ثم استوى جالسًا يرنوا إلى الجبال الشاهقة البيضاء، وقد سمعوه يتنفس الصعداء، والطمأنينة بادية على وجهه، وبعد قليل أخذ ينشد أنشودة البيت المتضالع:

من بيت وراء بيت سجنني

ومن رسالة إلى رسالة أرسلني

ص: 172

ولادة بعد ولادة وأنا أدور في دائرة

متعبة باحثًا عن صانع هذه الخيمة

إن البيت قد ارتجفت أركانه سقفه

يرحب بمطر الموت في داخله

وجدرانه من الغبار تنتظر النهاية

كانت الولادة بعد الولادة أليمة

الخجل والعذاب يتبعني وأنا

آتيه في البيداء لا نهاية لها

الآن يقوم السجين متحررًا

يا صانع البيت لقد رأتك العين

ها تهدم السقف وسقطت الجدران

وانهارت الأركان لا شاطئ

طال اختفائك ها قد وجدتك ومسكتك

مسكًا قويًّا لا تنفلت من يدي أبدًا

حان لي أن أتخلص من عذابي

لقد خمدت هذه النار إلى الأبد

ص: 173

عاد بوذا بعد ذلك إلى رقدته الجسدية متبعًا، وقد ثقل تنفسه، ومع ذلك تكلم، أيها النساك كل شيء زائل مار كمر السحاب، تذكروا هذه الحقيقة واسعوا لحريتكم بالتواضع، والجد ناظرين إلى النهاية، سكت السيد وأغمض عينيه، ودخل في التفكير العميق لا يحرك ساكنًا، ولا يبدوا عليه أنه يشعر بما حوله.

لقد مات السيد، قال "أنندا": أخيرًا زجره بعض الإخوان قائلًا: كلَّا إنه لم يمت، بل طرأت عليه حالة التفكر الذي لا يبقى معها حس، ولكنهم علموا بعد أن راقبوه مدة أن كل شيء قد انتهى، فما كان من بعض الإخوان الذين ما زالوا فريسة للأوهام أن ألقوا أنفسهم على الأرض يتمرغون في الغبار، وينتحبون، إلا أن "أنندا" وأصحابه الذين تحرروا من الأوهام، قالوا لهم: كل شيء زائل أيها النساك، والعقل الذي تحرر من الهوى يعرف ذلك.

ويعرف أيضًا أنه كان لزامًا أن يرافقنا المبارك، وما كان يمكن أن يكون غير ذلك، سمع الرهبان والمنتحبون هذا الكلام، فرجعوا عن سلوكهم المخجل وأُعلن في البلاد أن السيد قد مات، وعلى شاطئ النهر وعلى الأرض الرملية الفسيحة أحرقوا الجثة، وأخذ كل واحد منهم يطوف حولها ثلاث مرات، جامعًا كفيه إزاء صدره، ثم يقف عند قدم المبارك، وينحني احترامًا وإجلالًا.

وقد اجتمع أهالي "كوسينارا" القرويين، فاحتفلوا بموت السيد كما يُحتفل بموت الملوك لأنهم تذكروا أنه كان ابن الملك، ثم جُمع رماد السيد وقسموه إلى ثمانية أجزاء، وأرسلوا كل جزء منها إلى الجهة التي رأوها لائقة به، فبنيت فوق الرماد بنايات عظيمة في الجهات الثمانية".

ص: 174