المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أهم المصادر المقدسة للزرادشتية - الأديان الوضعية - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 فكرة تمهيدية عن أديان الهند الكبرى وتوزيعها جغرافيا

- ‌معنى الأديان الوضعية

- ‌فكرة تمهيدية عن أديان الهند الكبرى وتوزيعها جغرافيًّا

- ‌الدرس: 2 فلسفة الموت والروح، وعقيدة خلق العالم، والخلاص من الشر

- ‌تقسيم أبي الريحان البيروني لاعتقاد الهنود

- ‌فكرة تناسخ الأرواح كما يؤمن بها الهندوس

- ‌الدرس: 3 الديانة الهندوسية (1)

- ‌الأصول التاريخية للديانة الهندوسية ولسكان الهند

- ‌مسألة التقمص أو نظرية التناسخ

- ‌الدرس: 4 الديانة الهندوسية (2)

- ‌التعريف بالهندوسية، وفكرة تأسيسها

- ‌أهم الموضوعات المتعلقة بالهندوسية

- ‌الطبقات في الفكر الهندوسي، وأهم عق ائد الهندوسية

- ‌الدرس: 5 الديانة الهندوسية (3)

- ‌بقية العقائد الهندوسية

- ‌الأخلاق عند الهندوسيين

- ‌نماذج من الفقه الهندوسي

- ‌الكتب المقدسة لدى الهندوس

- ‌الدرس: 6 الديانة الهندوسية (4)

- ‌لويزا" كتاب الهندوس المقدس

- ‌من تقاليد الهندوس

- ‌اعتقاد الهندوس حول تناسخ الأرواح

- ‌العبادات الهندوسية والطقوس الدينية

- ‌الدرس: 7 الديانة البوذية (1)

- ‌الديانة البوذية: بوذا وحياته، ومبادئه، وتأسيسه للديانة

- ‌من أخلاق بوذا وأقواله

- ‌الدرس: 8 الديانة البوذية (2)

- ‌التعريف بالديانة البوذية

- ‌الأسس الفكرية للعقيدة البوذية

- ‌الدرس: 9 الديانة البوذية (3)

- ‌عقيدة البوذية وفلسفتها

- ‌من تعاليم البوذية

- ‌لمحة تاريخية عن البوذية وانتشارها، والكتب المقدسة لديهم

- ‌الدرس: 10 الديانة البوذية (4)

- ‌نشأة الرهبنة في البوذية، ووصولها وانتقالها إلى المسيحية

- ‌الآداب والنظم التي يجب أن يلتزم بها الرهبان في الديانة البوذية

- ‌موقف الإسلام من الرهبنة

- ‌الدرس: 11 الديانة البوذية (5)

- ‌حكم الرهبنة في الإسلام من حيث العزف عن الزواج

- ‌حكم الرهبنة في الإسلام من حيث الفقر

- ‌حكم الرهبنة في الإسلام من حيث إهانة الجسد

- ‌حكم الرهبنة في الإسلام من حيث الاعتزال والعزلة

- ‌حكم الرهبنة في الإسلام من حيث الطاعة المطلقة لرجل الدين، واعتقاد عصمته

- ‌الدرس: 12 الديانة الجينية

- ‌تمهيد للديانة الجينية

- ‌تأسيس ونشأة الديانة الجينية

- ‌أهم عقائد الجينية

- ‌الدرس: 13 ديانة السيخ، والديانة البوذية الصينية

- ‌من هم السيخ؟ وما هي معتقداتهم

- ‌البوذية الصينية

- ‌أديان الهند في الميزان

- ‌الدرس: 14 الديانة المانوية (1)

- ‌من هو " مانو

- ‌النشاط التبشيري لماني

- ‌الدرس: 15 الديانة المانوية (2)

- ‌إرسال الإنسان الأول القديم وهزيمته

- ‌استرداد ذرات النور

- ‌أسطورة إغواء الأراكنة

- ‌المقاييس المضادة للمادة

- ‌الدرس: 16 الديانة المانوية (3)

- ‌الروح بمثابة مركز للفداء

- ‌الإيمان بالآخرة

- ‌علم التنجيم

- ‌التنظيم اللاهوتي، والتعميد المانوي، والوليمة المقدسة، والعشاء الرباني

- ‌الدرس: 17 الديانة المانوية (4)

- ‌شريعة "ماني"، والفرائض التي فرضها، وقول المانوية في الميعاد

- ‌الكتب المقدسة عند المانوية، وعقيدة التناسخ

- ‌حال الإمامة بعد "ماني"، وتنقل المانوية في البلاد، وأشهر رؤسائهم

- ‌الدرس: 18 الديانة الزرادشتية (1)

- ‌أديان الفرس

- ‌الزرادشتية من حيث التأسيس والنشأة والتطور

- ‌الدرس: 19 الديانة الزرادشتية (2)

- ‌أهم المصادر المقدسة للزرادشتية

- ‌فكرة الحساب والشفاعة، والأعياد والأخلاق عند الزرادشتيين

- ‌الدرس: 20 مقارنة بين عقائد المانوية والزرادشتية في: الله، والنفس، والمصير

- ‌عقائد المانوية والزرادشتية في الله - عز جل

- ‌عقائد المانوية والزرادشتية في النفس

- ‌عقائد المانوية والزرادشتية في المصير

الفصل: ‌أهم المصادر المقدسة للزرادشتية

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس التاسع عشر

(الديانة الزرادشتية (2))

‌أهم المصادر المقدسة للزرادشتية

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، الطيبين الطاهرين الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين؛ أما بعد:

فتحدثت عن زر ادتش، والزرادشتية من حيث التأسيس والنشأة والتطور. وها أنا ذا أحدثك عن أهم المصادر المقدسة للزرادشتية.

والمصدر الأساسي للزرادشتية الفستا، أما بقية المصادر فتسمى أسفار ال أبستان، ومنها الجانات والسن االفسبرد والفنديارد والس ِّ تات أو الس َّ تات والخردستة، وتأتي ثالثا شروح أبستان، ورابعا أسفار أخرى، ونذكر ذلك بشيء من التوضيح.

فنقول عن المصدر الأساسي للزرادشتية الفستا أو الأستاق، وهو الكتاب المقدس لدى الزرادشتيين: أتى به زرادشت ليكون مرجعا لأتباعه، يرجعون إليه لمعرفة عقائدهم وأحكام شريعتهم. وكلمة أستاق مشتقة من كلمة أستا، وهي كلمة فارسية قديمة، معناها سند أو أساس أو معين أو النص الكامل، لكن أنسب ترجمة لكلمة أستا أنها تعني المتن، لذلك قال صاحب كتاب (معجم ديانات وأساطير العالم):"الأستاق هو المتن"، فكلمة الأستاق تعني المتن أو الأصل، وهو النص الذي يرجع إليه الزرادشتيون، ليأخذوا منه عقيدتهم وشريعتهم، وكان الأستاق يشتمل على واحد وعشرين سفرا، وكانت مجموعة الفصول التي تشتمل عليها هذه الأسفار ألف فصل، يحوي تفصيلا لعقائد الديانة الزرادشتية وعبادتها وشرائعها وتاريخها، وما اجتازته من مراحل تاريخية وتاريخ زرادشت، وقد فقدت جميع نسخ الأستاق بعد غزو الإسكندر لفارس، سنة ثلاثمائة وثلاثين قبل الميلاد، وفقدت معها تفاسيره والمؤلفات التي تشتمل على شيء من أجزائه.

ص: 450

فالأستاق من المصادر الهامة للزرادشتية، إلا أنه لم يحفظ كما كان أولا، ولكنها دخلت عليه عوامل التحريف والتغيير، بعد حرق الإسكندر الأكبر لكتب الزرادشتية، حين غارت على بلاد إيران، مما جعل الزرادشتية فيما بعد يزيدون فيه وينقصون، وها هنا دخل التحريف، وظلت بعد ذلك نصوص الأستاق أو بعضها، في حوافظ الموابذة أي كبار رجال الدين عند الفرس، يتناقلونها ويتناقلها الناس عنهم مشافهة، وفي النصف الأخير من القرن الأول الميلادي، شرع فيلوجيسيس الأول ويسمى بلاش الأول ملك فارس من الأسرة البرتيدة، في تدوين ما بقي من حوافظ الناس من الأستاق، وأكمل عمله هذا في القرن الثالث الميلادي الملك أردشير مؤسس الدولة الساسانية، وبلغ ما تم تدوينه في هذين العهدين واحدا وعشرين سفرا، تشتمل على ثلاثمائة وثمانية وأربعين فصلا من فصول الأستاق، التي كانت تبلغ ألف فصل، أي أنه قد فقد منه نحو الثلثين، هذا إلى ما اعتور الفصول المدونة، من نقص وزيادة وتحريف وتغيير عن أصولها.

وهكذا لما دون الأستاق أكثر من مرة، زيد فيه ونقص منه، فدخله التحريف والتغيير، حتى لقد قال بعض الباحثين في معرض كلامه عن الأستاق الحالي: ويكاد يكون من المتفق عليه، أنه لم يبق من أقسام الأستاق الواحد والعشرين الأصلية، إلا جزء واحد هو الكاناها، فهو القسم الوحيد الباقي، ويعتبر في الوقت نفسه، أقدم ما وصل إلينا من نصوص الأستاق القديمة، ولذا قال أحد الباحثين أيضا: إن الأستاق الذي يرجع إليه حاليا، ما هو إلا ملخص للكتاب الذي دون في أيام زرادشت، وعلى هذا فإن الأستاق الحالي، ما هو إلا شذرات من الأستاق المفقود، بعد زيادة فيه ونقص منه، نتيجة للعوامل التي طرأت عليه.

ص: 451

الثاني: أسفار الأستاق.

الأستاق الحالي الكتاب المقدس لدى الزرادشتية، يحوي أسفارا وهي:

أ- الجاثات:

جمع جاثة وهي التراتيل التي يتفق العلماء، على نسبتها إلى زرادشت نفسه، دون غيرها من الأناشيد التي يحتويها كتاب الأستا، وهي أقدم أجزاء الأبستاق وأكثرها قداسة، ويسوق الباحثون عدة أدلة، على أنها أقدم ما ألف من فصول الأستاق جميعا، ومن هذه الأدلة أنها هي وحدها، التي كتبت في الأصل باللغة أو اللهجة المبيرية، وهي لهجة المنطقة التي ولد فيها زرادشت، فكانت بإذن أول لغة استخدمها في حديثه وتأليفه، ولذلك فالجاثات هي الترانيم التي نطق بها زرادشت، والتي صورت جزءا من عقيدته، ولذلك فهي سفر هام من أسفار الأستاق.

ب- البستا:

من الأسفار الهامة سفر البستا، لأنه يعد من أقدم النصوص في الأستاق، بل هي نفس ما قد ألفه وألقته شفاه زرادشت من تعاليم، وهي تلي سفر الجاثات، والبستا تعني العبادة والتسبيح، وهذا السفر يصور لنا بعض أمور العقيدة الزرادشتية، وبعض الأدعية والتراتيل، التي توجه إلى أهورا مازدا وإلى بعض الملائكة، وفيما يلي بعض نصوص من البستا: "النجدة لهذا الإنسان، النجدة له مهما يكن أمره، ليتفضل علي الخالق الأكبر والحاكم الأعظم، الرب الحي القوتان الأبديتان، نعم إني أتوسل إليك يا أهورا، أن تحمي حمى الهداية، وأن تتفضل علي بها، أنت يا من يبعث في النفوس التقوى، التي لها من العظمة ما لها، فهي النعمة المقدسة وهي حياة العقول الصالحة، إني أتصورك أيها المعطي

ص: 452

الأكبر مازدا جميلا، حينما أشاهد أنك القوة العليا، ذات الأثر الفعال في تطور الحياة، وحينما أرى أنك تكافئ الناس على الأعمال والأقوال، لقد كتب الشر عقابا على الشر، وجعلت السعادة جزاء وفاقا لمن يفعل الخير، وذلك بفضلك العظيم الذي يظهر أثره، حينما تتبدل الخليقة التبدل النهائي"، وهكذا من خلال هذا النص، يبدو تضرع زرادشت لإلهه أهورا مازدا وسؤاله.

ج- الفسبرد:

ويشتمل على أدعية وصلوات مكملة لما في البستا، وتراتيل في مناسبات خاصة، ويبلغ عدد فصوله ثلاثة وعشرون أو سبعة وعشرون فصلا، وقيل يتكون من أربعة وعشرين فصلا، تتعلق بالطقوس الدينية، وهذا السفر من الأسفار الهامة أيضا في الأستاق، حتى إنه يشتمل على بعض الصلوات، التي يتوجه بها الزرادشتيون إلى الإله أهورا مازدا.

د- الغنريارد:

والغنريارد تعني القانون المضاد للشياطين، ويشبه سفر اللاويين في التوراة، فإنه يوضح التعاليم التي يخضع لها رجال الكهنوت من الزرادشتيين، ويتضمن وجهة النظر الزرادشتية في الموت والزواج وغيره من المشكلات الاجتماعية، ويتكون من اثنين وعشرين فصلا، يتحدث أولهما عما خلق أرمزد، من الأراضي المباركة واحدة بعد الأخرى، وعما أوجد الجريونوس من الأرواح الخبيثة الشريرة، معارضا بذلك أرمزد، ومما يتعرض له هذا السفر، الأمور المتعلقة بالنجاسة والغسل والطهارة، ونظافة الموتى وتطهير جثثهم، والتوبة وتطهير الملابس والبدن، وغير ذلك كثير،

ص: 453

ومن ثم يعد أهم مرجع، للوقوف على محتويات الديانة الزرادشتية وتفاصيل شرائعها، وهو سفر يحوي أمورا كثيرة من أمور الشريعة، وبعض أسس التعامل بين الناس في مجالات كثيرة.

هـ- البثتات:

أي الترنيمات أو المزامير، وهي إحدى وعشرون ترنيمة منظومة، تتلى في برج الملائكة المكرمين، والكائنات الروحية التي يسمى كل منها أباشسينات أو إزد، ويشرف كل منها على يوم من أيام الشهر الثلاثين، ويطلق عليه اسمه، وكان لكل كائن روحي، من هؤلاء ترنيمة تتلى باسمه، لأنه لم يبق من هذه الترنيمات إلا واحدة وعشرون، فالظاهر أن تسعا منها فقدت، أي أن ما بقي منها هو نحو فاني الأصل، أي أن ما يحويه هو واحد وعشرون ترنيمة حاليا، وعلى هذا فداخل هذا السفر الحذف، ولا ريب بعد ذلك أن يدخله التحريف والتغيير، في الباقي الذي لم يحذف، وقد كانت البستات نظما ثم شرحت كثيرا، وتداخلت شروحها في المتن الأصلي، فاختلط نظمها بالشرح فاضطربت أوزانها، وهذا أيضا مما يؤكد لنا، تحريف الأستاق عامة وتحريف سفر البستات خاصة.

والخردة أمستا:

أي الأستاق الصغير، وهو سفر جامع لأدعية وصلوات يتلوها عامة الشعب، وقد دونها في عصر متأخر الكاهن الزرادشتي أذريباز مهر سبند، في عهد أردشير الثاني، ويتكون معظم هذا السفر من مختارات من الأستاق كله، أما الباقي فهو توسلات أو أدعية كتبت بلغة البازند، ويشتمل الخردة على أربعة أجزاء هي:

أ- الأوعية الخمسة أجكيش، وهي أوعية تخاطب بها الشمس والقمر وغيرهما.

ص: 454

ب- الكاتاها الخمس.

ج- أدعية الأيام الثلاثين سيروزة الصغرى منها والكبرى.

د- أدعية أربعة تتلى طلبا للبركة أفرينيكان.

ونجد بالخردة آدابا وفروضا دينية، كالدعاء والصلاة والطاعة.

شروح الأستاق:

ترجع شروح الأستاق وشروح شروحه، إلى ثلاث مجموعات، يطلق عليها الزند والبازند والإياردة، وقد فقد معظم الشروح، ولم يصل إلينا منها إلا القليل.

ص: 455

أما الزند فهو الشرح المباشر للأستاق، وقد دون باللغة الفهلوية، وهي الفارسية في مراحلها المتوسطة، وبعض المتزمتين من الزرادشتيين، كانوا يتمسكون بالأبستان وحده ولا يعترفون بالزند، ويعتبرون من يعول عليه خارجا على أصول الشريعة، إلا أن الذي عليه كثير من الباحثين، ويعترف به الزرادشتيون اليوم وخاصة البارتون في الهند، هو أن الزند شرح للأستاق، حتى يكاد يتساوى معه، يقول صاحب كتاب (مروج الذهب): "وذلك أن الفرس حين آتاهم زرادشت به، أي بكتابهم المعروف الأفستا باللغة الأولى، وعمل له التفسير وهو الزند، وكان الزند بالتأويل غير المنزل، وكان من أورد في شريعتهم شيئا غير المنزل الذي هو الأفستا، وعدل إلى التأويل الذي هو الزند، قالوا هذا زندي.

وأما البازند فهو تفسير للزند، أي شرح لشرح الأستاق، وقد كتب باللغة الفهلوية، في مراحلها التالية للفتح الإسلامي، حوالي القرن الثاني والثالث الهجريين، أي حوالي السابع والثامن الميلادي على الراجح.

ص: 456

أما الإياردة بكسر الهمزة وفتح الراء وكسرها وفتح الدال، فهي شرح للبازند، أي شرح لشرح الشرح أو تفسير لتفسير التفسير"، يقول العلامة المسعودي في كتابه (مروج الذهب): "ثم عمل علماؤهم بعد وفاة زرادشت، تفسيرا لتفسير التفسير، وسموا هذا التفسير إياردة".

رابعا: أسفار أخرى:

هذا؛ وقد أضاف المتأخرون من الزرادشتيين، إلى كتبهم المقدسة أسفارا أخرى، منها بتدهاش وسفر الأردارديارف، ونجد في هذه الأسفار المتأخرة، بعض مسائل مكملة للتعاليم الزرادشتية، ومن هنا فإن الزرادشتيين أضافوا أسفارا أخرى، غير المصدر الأساسي الأول وهو الأستاق، حكى فيه علماؤهم بعض أمور العقيدة والشريعة، بل بعض الأمور التي حدثت لهم وشئون البلاد، ونظرا لأن كاتبها من الكهنة الزرادشتيين، فقد أصبح من المصادر، التي يرجع إليها أيضا لمعرفة أمور عقيدتهم.

وبعد هذه النظرة حول أهم مصادر الزرادشتية، نذكر ما قاله جيمس هنري برستد في كتابه (انتصار الحضارة) ترجمة الدكتور أحمد فخري عن الزرادشتية يقول:"وكانت هذه الديانة، من أنبل الديانات التي ظهرت في العالم، دعت هذه الديانة كل إنسان، وأهابت به أن يختار أحد الطريقين، إما أن يملأ قلبه بالخير والنور، أو ينغمس في الشر والظلمة، وسواء اتخذ الإنسان هذا السبيل أو ذاك، فإنه سيلاقي جزاءه ويحاسب على ما أتاه، وكانت هذه العقيدة أقدم ديانة ظهرت في أسيا، تقول بالحساب بعد البعث، ولم تكن دعوة زرادشت إلا سموا بالعقائد القديمة، التي كانت منتشرة بين أهله، ورفعا لآلهتهم القديمة إلى المثل الأعلى، ولهذا أبقى زرادشت على احترام الآريين للنار وعبادتهم لها، على أنها رمز ظاهر للخير والنور، كما احتفظ أيضا بفكرة الكهنة مشعلي النار".

ولما لم يستطع زرادشت، أن يؤثر في قومه بدعوته الجديدة، هجر الميليين وذهب إلى الفرس يدعو إلى دينه الجديد، ولعله لم يجد في السنوات الأولى، إلا القليل من الاستجابة إليه، إذ تتضح آماله ومخاوفه في تلك المجموعة الصغيرة من التراتيل التي تركها، وهي على الأرجح، كل ما وصل إلينا من أقوال ذلك النبي، فنحن نعرف شدة شغف الآريين بتربية الخيول، ولهذا لا ندهش عندما نقرأ، أن زرادشت استطاع أخيرا، أن يجعل أحد الملوك الأقوياء، يؤمن به عندما شفى جوادا كسيحا كان الملك يعتز به، وقبل أن تحين ساعة هذا النبي، كانت عقيدته الجديدة قد لاقت نجاحا كبيرا وثبت قدمها، ولم يحل عام خمسمائة قبل الميلاد، حتى كانت الزرادشتية هي الديانة الأولى بين الإيرانيين، كما قبلها أباطرة الفرس أيضا، وليس من المستبعد أن يكون الملك دارا شيد مقبرة هذا النبي، ولسنا نعرف من أقوال زرادشت، غير التراتيل التي ذكرناها آنفا، وإلى جانبها بعض تعاليمه، التي احتفظت بها بعض المؤلفات، التي جمعت في العهد المسيحي المبكر، بعد وفاة هذا النبي بعدة قرون، ويجمع هذه التراتيل كتاب الأبستا، الذي يمكننا أن نسميه إنجيل الفرس.

ويتحدث الأستاذ ميل فيقول: "نشر متحف جيمي سنة 1924، قائلا عن الأفستا: إذا حاول الإنسان قراءة الأفستا، فإنه يدرك لأول وهلة أن قراءتها مستحيلة، ذلك لأن الفصل فيها لا يتلاءم ليكون وحده، ولا يتسق أي جزء مع جزء آخر، فهي أجزاء مفككة يتلو بعضها بعضا، يصدق عليها القول: أنها مجموعة جمل مفككة لا ينظمها عقد واحد، ولا يستطيع المترجم أن ينهض بترجمة الجاثات على وجه سليم وكامل، ويذهب بعض الباحثين، إلى أن العمل القيم في الأفستا، هو تخليص النصوص الموثوق فيها من غيرها، ثم تنسيق هذه النصوص، تنسيقا يحقق الوحدة فيها".

والزرادشتية عقيدة البارسس ولا يزالون يعتنقونها إلى اليوم، وكتابه المقدس هو زندا فستا، والكلمة مركبة من كلمتين، زندا ومعناها شرح وفستا

ص: 457

ومعناها النص الأصلي، ومن ثم فمعنى الكتاب النص والشرح، وكتاب البارسس المقدس يتضمن التاريخ الأدبي لأمة، في مدة طويلة من الزمن، مثلهم في ذلك مثل كتاب اليهود المقدس أي العهد القديم، ومن المعروف أن هذا الكتاب المقدس، ظل قرونا طويلة يعتمد على الرواية الشفوية قبل التدوين، وعلى ذلك فالوصول إلى النص الأصلي، أمر لا يمكن القطع به وإن جاز ترجيحه، يضاف إلى ذلك أنه غير مرتب ترتيبا زمنيا.

وفي الترجمة الإنجليزية التي قام بها الأستاذ شبيجل، لتروج بين جماعة البارسس بالهند، الذين يعرفون الإنجليزية، نجد الفنديداد هي الفصل الأول، وفيه أهورا مازدا يتحدث إلى زرادشت، ويمنحه أوامر الشريعة تفصيلا، ولكن لا يظن أحد أن هذا منقول عن النبي نفسه، إنما هو من وضع كاهن بعد موته بقرون، وأنه خلا من تعاليمه، ويأتي بعد الفنديداد الفسبرد والياسنا، وهذان للطقوس الدينية وهما تراتيل وكتاب صلوات، وخاصان برجال الدين فحسب دون غيرهم من العلمانيين، وتلاوة نصوصها لا تحتاج إلى جمهور لسماعها، وتنتظم الياسنا الجاثات، التي ينظر إليها الآن على أنها أجزاء الأفستا الوحيدة، التي هي في الواقع من عمل زرادشت، ويتلو هذه خردة أفستا أو الأفستا الصغيرة، التي تتضمن الياشات، وهي تتضمن تمجيد ملائكة أو آلهة صغار، كما تتضمن صلوات خاصة، وبعض المقطوعات عن الشعائر.

هذا؛ والأفستا المتأخرة ليست باللهجة القديمة، بينما هي بلهجة العصر الأكميني، ولما قامت الدولة الساسانية، ترتب على ذلك إحياء الديانة الزرادشتية في القرن الثالث المسيحي، قام رجال الدين من المجوس بترجمة النصوص الدينية

ص: 458

الزرادشتية القديمة إلى اللهجة البهلوية، فصاحب هذه الترجمة تشويه للنصوص الأصلية، وإضافات كثيرة من شروحهم لهذه النصوص، ومن ثم فلا يمكن الزعم أن هذه الترجمة البهلوية، تمثل تعاليم زرادشت تمثيلا صادقا، وتطور العقيدة على يديه.

والمصدر الذي يراه الباحثون المحدثون، هاما في تصوير العقيدة الزرادشتية، هو الياسنا، والياسنا تتضمن خمس مجموعات من التراتيل تسمى الجاثات، وعدد التراتيل سبع عشرة، ويذهب الباحثون إلى أن الجاثات، تتضمن العناصر القديمة للديانة الزرادشتية، التي يضمها كتاب الزندا فستا، ويقولون: إنها احتفظت ببعض أقوال زرادشت، وعلى ذلك فهي من خير المصادر لعقيدته، ويقولون: إنها منظومة بلغة قديمة جدا، وأوزان النظم فيها يختلف بعضها عن بعض، وأن طابع التأنق يبدو فيها، ويمثلونها بالمزامير في أنها تضمنت بعض المعلومات عن حياة الشخصيات.

وتحدث جيمس هنري برستد في (انتصار الحضارة) عن العقيدة الزرادشتية، فقال عن عناصر تكوينها: "تأمل زرادشت الصراع المستمر بين الخير والشر، هذا الصراع الذي كان يراه حوله أينما سار، والذي رآه ممثلا في ديانة الشعب الميدي، وفي عقائدهم وفي آلهتهم، وبدا له أن هذا الصراع قائم بين، مجموعة من قوى الخير ومجموعة من قوى الشر، واعتقد أن الخير ليس إلا كائنا إلهيا، أطلق عليه اسم مازدا، الذي كان اسما لأحد الآلهة القدامى، أو أهورا مازدا ومعناها رب الحكمة، الذي رأى فيه أنه هو الله، وكان يحيط بأهورا مازدا جماعة من الأعوان يشبهون الملائكة، وكان أعظمهم مكانة هو النور فيدعى مثرا، ويقف ضد أهورا مازدا وأعوانه جماعة شريرة قوية، أطلقوا عليها اسم أهرمن، وهو الذي

ص: 459

أخذه اليهود ثم المسيحيون من بعدهم، وعرفوه تحت اسم الشيطان، وهكذا نشأت عقيدة زرادشت، من الصراع القائم في الحياة عينها، ولذا أصبحت قوة هائلة".

والناظر إلى هذا القول، يظهر له بوضوح أن الزرادشتية، عقيدة جاء بها صاحبها من النظر إلى الحياة، التي أوحت له بعناصرها، ولكن هذا النظر إلى هذه العقيدة، تدحضه النصوص التي تصور زرادشت على أنه نبي، وهي النصوص التي يرجحون أصالتها، وقد ورد في الجاثات قوله:"إلى أي أرض أفر وإلى أي اتجاه يكون المهرب، إلى النبلاء والسادة وإن يقاطعونني، أم إلى الناس وهم غير راضين عني، أم إلى حكام الأرض الخونة، كيف أبلغ رضاك يا أهورا مازدا، أنا أعرف لماذا لا يصيبني النجاح، لأن عندي قطيعا صغيرا، ولذلك فعندي ناس قليلون، أجأر إليك أن ترعاه يا أهورا، مانحا إياي عونا يعطيه صديق لصديق، وعلمني بالحق كيف أحظى بالفكر الخير".

فهو في هذا النص يشكو، ولا يوجه شكواه إلا لربه، ونجده في نص آخر يشير إلى نفسه، بما يفهم منه أنه نبي ينزل عليه الوحي، فقال:"عرفت أنك الإله الواحد يا مازدا أهورا، عندما جاء إلي الفكر الخير، وسألني: من أنت ومن لك، وبأي آية تعين أيام الحساب بيني وبينك؟ فعندئذ قلت له: أولا أنا زرادشت، المبغض الحقيقي بأقصى ما لدي من قوة للرجل الفاسد، والسند القوي للصالح، وبذلك أنال الأشياء الآجلة في المملكة غير المتناهية، بثنائي وترتيلي لك يا مازدا، عرفت أنك الواحد الإله مازدا أهورا، عندما جاء إلي الفكر الخير، بهذا السؤال: لأي الأشياء ستتجه عزائمك؟ عنده أجبته: في كل تقديم تبجيل لنارك، وكلما كانت في قوة فتأملت في الحق، فأرني إذا الحق الذي أناديه".

ص: 460

والذين يذهبون إلى أن العقيدة هي من صنع زرادشت، يقولون: إن أهورا مازدا ليس من ابتداع زرادشت، لأن هذا الاسم كان موجودا من قبل باختلاف يسير في الحروف، كما ثبت ذلك بالنقوش الآشورية، التي هي أبعد في القدم من زرادشت، ومعناه في النقوش الله الواحد الحكيم، أما الفكر الخير والحق، فربما كانا إلهين من الآلهة الصغرى، ولكن المتأمل في النص يتضح له بجلاء، أنهما تابعان لأهورا مازدا أي الإله، ويبدو أن الفكر الخير ملك، وأن الحق صفة من صفات أهورا مازدا، ولا يطعن في هذا الرأي، الإشارة إلى النار المقدسة، لأنها تبدو في النص على أنها رمز، أما تقديسها فمن رواسب الشعائر القديمة، التي انتقلت إلى العقيدة، وتقديس النار يرجع إلى أيام، أن كانت القبائل الشمالية القديمة في حالة بداوة، وتنتقل من مكان إلى مكان تقيم فيه النيران، التي تبعث فيهم أعز مطلب وهو الدفء، في جو قاس شديد البرودة، فكانت لديهم مقدسة.

على أن هذا الرأي الذي ننصره، لا يستقيم دائما مع النصوص الموثوق بها وهي الجاثات، التي هي أناشيد موجهة إلى أهورا مازدا، ذلك لأنها نصوص قديمة تدين في وجودها، إلى الرواية الشفوية أولا، فترتب على ذلك شيء من الاضطراب، ومن هنا نجد ما يوهم التعارض، ومن الخير أن نذكر على سبيل المثال، نصا من ترجمة الدكتور مولتن، الذي ترجم الجاثات إلى الإنجليزية بعضها نثرا وبعضها شعرا، جاء في الجاثة الخمسين ما يأتي:

"أرجو أن يعلمني خالق الحكمة شرائعه، عن طريق الفكر الخير، حتى يجد لساني لها منفذا، فمن أجلك سأسرج أسرع الجياد المطهمة الممتلئة القوية، في إنجاز التسبيح لك، حتى تأتي إلى هنا يا مازدا، الحق والفكر الخير وتكون مستعدا لعوني، وبأشعار عرفت بحمية التقوى، سأمثل أمامك بيدين مبسوطتين أمامك، أنت أيها الحق بصلاة المؤمن، وأمامك بجهد الفكر الخير، وبهذه الصلوات أقدم

ص: 461