المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌التنظيم اللاهوتي، والتعميد المانوي، والوليمة المقدسة، والعشاء الرباني - الأديان الوضعية - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 فكرة تمهيدية عن أديان الهند الكبرى وتوزيعها جغرافيا

- ‌معنى الأديان الوضعية

- ‌فكرة تمهيدية عن أديان الهند الكبرى وتوزيعها جغرافيًّا

- ‌الدرس: 2 فلسفة الموت والروح، وعقيدة خلق العالم، والخلاص من الشر

- ‌تقسيم أبي الريحان البيروني لاعتقاد الهنود

- ‌فكرة تناسخ الأرواح كما يؤمن بها الهندوس

- ‌الدرس: 3 الديانة الهندوسية (1)

- ‌الأصول التاريخية للديانة الهندوسية ولسكان الهند

- ‌مسألة التقمص أو نظرية التناسخ

- ‌الدرس: 4 الديانة الهندوسية (2)

- ‌التعريف بالهندوسية، وفكرة تأسيسها

- ‌أهم الموضوعات المتعلقة بالهندوسية

- ‌الطبقات في الفكر الهندوسي، وأهم عق ائد الهندوسية

- ‌الدرس: 5 الديانة الهندوسية (3)

- ‌بقية العقائد الهندوسية

- ‌الأخلاق عند الهندوسيين

- ‌نماذج من الفقه الهندوسي

- ‌الكتب المقدسة لدى الهندوس

- ‌الدرس: 6 الديانة الهندوسية (4)

- ‌لويزا" كتاب الهندوس المقدس

- ‌من تقاليد الهندوس

- ‌اعتقاد الهندوس حول تناسخ الأرواح

- ‌العبادات الهندوسية والطقوس الدينية

- ‌الدرس: 7 الديانة البوذية (1)

- ‌الديانة البوذية: بوذا وحياته، ومبادئه، وتأسيسه للديانة

- ‌من أخلاق بوذا وأقواله

- ‌الدرس: 8 الديانة البوذية (2)

- ‌التعريف بالديانة البوذية

- ‌الأسس الفكرية للعقيدة البوذية

- ‌الدرس: 9 الديانة البوذية (3)

- ‌عقيدة البوذية وفلسفتها

- ‌من تعاليم البوذية

- ‌لمحة تاريخية عن البوذية وانتشارها، والكتب المقدسة لديهم

- ‌الدرس: 10 الديانة البوذية (4)

- ‌نشأة الرهبنة في البوذية، ووصولها وانتقالها إلى المسيحية

- ‌الآداب والنظم التي يجب أن يلتزم بها الرهبان في الديانة البوذية

- ‌موقف الإسلام من الرهبنة

- ‌الدرس: 11 الديانة البوذية (5)

- ‌حكم الرهبنة في الإسلام من حيث العزف عن الزواج

- ‌حكم الرهبنة في الإسلام من حيث الفقر

- ‌حكم الرهبنة في الإسلام من حيث إهانة الجسد

- ‌حكم الرهبنة في الإسلام من حيث الاعتزال والعزلة

- ‌حكم الرهبنة في الإسلام من حيث الطاعة المطلقة لرجل الدين، واعتقاد عصمته

- ‌الدرس: 12 الديانة الجينية

- ‌تمهيد للديانة الجينية

- ‌تأسيس ونشأة الديانة الجينية

- ‌أهم عقائد الجينية

- ‌الدرس: 13 ديانة السيخ، والديانة البوذية الصينية

- ‌من هم السيخ؟ وما هي معتقداتهم

- ‌البوذية الصينية

- ‌أديان الهند في الميزان

- ‌الدرس: 14 الديانة المانوية (1)

- ‌من هو " مانو

- ‌النشاط التبشيري لماني

- ‌الدرس: 15 الديانة المانوية (2)

- ‌إرسال الإنسان الأول القديم وهزيمته

- ‌استرداد ذرات النور

- ‌أسطورة إغواء الأراكنة

- ‌المقاييس المضادة للمادة

- ‌الدرس: 16 الديانة المانوية (3)

- ‌الروح بمثابة مركز للفداء

- ‌الإيمان بالآخرة

- ‌علم التنجيم

- ‌التنظيم اللاهوتي، والتعميد المانوي، والوليمة المقدسة، والعشاء الرباني

- ‌الدرس: 17 الديانة المانوية (4)

- ‌شريعة "ماني"، والفرائض التي فرضها، وقول المانوية في الميعاد

- ‌الكتب المقدسة عند المانوية، وعقيدة التناسخ

- ‌حال الإمامة بعد "ماني"، وتنقل المانوية في البلاد، وأشهر رؤسائهم

- ‌الدرس: 18 الديانة الزرادشتية (1)

- ‌أديان الفرس

- ‌الزرادشتية من حيث التأسيس والنشأة والتطور

- ‌الدرس: 19 الديانة الزرادشتية (2)

- ‌أهم المصادر المقدسة للزرادشتية

- ‌فكرة الحساب والشفاعة، والأعياد والأخلاق عند الزرادشتيين

- ‌الدرس: 20 مقارنة بين عقائد المانوية والزرادشتية في: الله، والنفس، والمصير

- ‌عقائد المانوية والزرادشتية في الله - عز جل

- ‌عقائد المانوية والزرادشتية في النفس

- ‌عقائد المانوية والزرادشتية في المصير

الفصل: ‌التنظيم اللاهوتي، والتعميد المانوي، والوليمة المقدسة، والعشاء الرباني

‌التنظيم اللاهوتي، والتعميد المانوي، والوليمة المقدسة، والعشاء الرباني

ومما يتصل بهذه العقيدة ما يُعرف بالتنظيم اللاهوتي.

التنظيم اللاهوتي، والتعميد المانوي، والوليمة المقدسة، والعشاء الرباني، فماذا يراد بهذا؟

التنظيم اللاهوتي:

اتسمت الديانة البوذية بأنها ديانة رهبانية، ذلك أن جوهر الجماعات البوذية يشكَّل من مجموعة الرهبان، فبوذا والعقيدة والرهبان هم الثالوث القائم عليه كل شيء، بينما الأعضاء العلمانيون هم عنصر مؤيد فقط وموجود في المقام الأول لتقديم الحكمة والمؤازرة للرهبان، وتختلف المتطلبات الموكولة للرهبان بشكل جوهري عن الأوامر المفروضة على العلمانيين أن يطيعوها، إنها مسألة ذات نمطين للدين إلى درجة ما، وهذا هو السبب الذي حدا بالجهد المبذول من أجل دراسة التطور الديني إلى تصنيف الديانة البوذية إلى ديانة مزدوجة، كما جرى تطبيق التعريف ذاته على المانوية.

ويجب التسليم على أية حال بأن التنظيم متطابق، وليس من المستبعد أن يكون "ماني" قد قلد الديانة البوذية عن قصد في مظهرها التنظيمي.

وقد يكون من الأفضل أيضًا أن نتحدث عن تنظيم مزدوج بدلًا من أن نتكلم عن ديانة مزدوجة؛ لأن الديانة تبقى كما هي على الرغم من أن أتباعها مقسمون إلى مجموعات، وخاضعون بالنتيجة لأنظمة منفصلة تمامًا، ذلك أنه كما فصل بوذا أتباعه إلى رهبان وعلمانين، كذلك وزع "ماني" أتباعه إلى مجتبين وسماعين. ولعله من الأفضل أن نقول: إنه وزعهم إلى صديقين وسماعيين؛ لأنه جرى استخدام كل من هاتين التسميتين في اللغتين اللتين اعتمدهما مؤسس الديانة، ففي السريانية نجد عبارتي: صديقين وشاموئين، وأردوان وناشيغان في الفارسية

ص: 397

المتوسطة، أما في الغرب المسيحي فاستخدمت عبارتا المجتبين والسماعين منفردتين، أو مع الإشارة إلى المصطلحين المسيحيين.

وتقيدت كل طائفة من طائفتي المؤمنين بطرق حياتية مختلفة تمامًا كما كانت المتطلبات التي أُوكلت إلى كل منهما مختلفة أيضًا. يمكن تلخيص جميع علوم الأخلاق المانوية الموصوفة للمستيجبين لمبادئ "ماني" في التواقيع الثلاثة المشهورة التي يذكرها "أوقسطين" في الفصل العاشر من كتابه، وقد أشارت هذه التواقيع إلى صنف كامل حيث تضمنت كلمة الحواس الخمس، بينما تضمنت كلمة "ماووس" السلوك كله، وكلمة "سنس" جميع تعابير الإثارة الجنسية، وتضمن التوقيع الأول على نظافة الفكرة والكلمة والامتناع قبل كل شيء عن التفوه بأي شيء يمكن أن يبدو على أنه تعبير فيه تجديف على الله بالنسبة للتعاليم المانوية.

احتفظت هذه الوصية في الوقت نفسه بالخير دون تحديد لكل ما يمكن التمتع به عن طريق الفم، وكانت الرغبة هي الامتناع عن أي شيء يمكن أن يقوي شهوات الجسد الحسية، وبما أن اللحم ينشأ عن الشيطان فقد كانت هذه الوصية واجبة بشكل خاص بصدر تناوله، ولهذا السبب تم إعداد المانوية لكي يعيشوا على الفواكه من الحقول والبساتين، وخاصة ثمار البطيخ التي كانت شاهدة على عصرهم في عالم النور، بسبب لونها ونكهتها، كما تم أيضًا استحسان تناول الزيت، وأما بالنسبة للشراب فقد كانت عصير الفواكه هو الاختيار الأول، وفَرْض اجتناب تناول المقادير الكبيرة من الماء؛ لأنه مادة جسدية.

وجرى إعداد التوقيع الثاني ليحرم في المقام الأول أي عمل يمكن أن يضر بحياة النبات أو الحيوان، فلم يسمح للمانويين القيام باجتثاث أي نبات أو قتل أي

ص: 398

حيوان، وعلاوة على ذلك اشتمل هذا التوقيع على حَظْر أي تصرف يعيق انتصار النور إلى الحد الذي لم يكن قد شكل جزءًا من الحذرين الآخرين. وهنالك حقيقة بارزة وهي أن أولئك الذين أذنبوا في حق هذه الوصية قد تكبدوا عقابًا متناسبًا مع عملهم الإجرامي وفق وجهة النظر المانوية، فالإنسان الذي حصد الحقل المزروع سيولد من جديد مثل سنبلة القمح، وأما ذاك الذي قتل فأرًا فسيكون فأرًا في الحياة الآخرة. وهكذا.

وأخيرًا فرض التوقيع الثالث على المانويين امتناعًا تامًّا عن المعاشرة الجنسية بما في ذلك التخلي عن الزواج، فقد عدت الإشارة الجنسية شيئًا شريرًا؛ لأنها شهوة جسدية، واعتبر الإنجاب أسوأَ بكثير؛ لأنه أخَّر إعادة تجميع ذرات النور، ولم يتمكن سوى المجتبون من تنفيذ هذه الوصايا بسبب تذمته، كما أشير من قبل كان المجتبون هم الوحيدون الذين تم تسمتيهم باسم الصديقين، قد أوقفوا أنفسهم على حياة موجهة نحو فداء أرواحهم فقط، وعملوا على إعادة توحيد ذرات النور مع عالم النور، ومن ناحية أخرى أوكل إلى السماعين تولي القيام بجميع أنواع الأعمال المحظورة على المجتبين، وهي التي كان في الواقع من المتعذر اجتنابها؛ بُغيةً المحافظة على الحياة، وبالتالي كان من نصيب السماعين تزويد المجتبين بجميع أنواع التغذية الضرورية، وتَرافق تناول هذه الأطعمة مع إعلان دقيق للبراءة من قبل المجتبين.

ويقرر الفصل العاشر من كتاب (أعمال الأراكنة) الصيغة المتلوة من قبل أحدهم لدى استهلاك الخبز، حيث كان يقول: لم أحصدك ولم أطحنك ولم أعجنك ولم أضعك في الفرن، بل فعل ذلك شخص آخر وأحضرك إلي، فأنا أتناولك دونما إثم. ثم يخاطب إثر ذلك السماعي الذي أحضر الخبز إليه بقوله: لقد صليت من أجلك، ومن ثم يغادر.

ص: 399

وتسم الملاحظة الأخيرة المجتبين بسمة الكذب على الأقل، ومن المحتمل أن هذه الملاحظة يمكن نسبتها إلى النقد المسيحي من ناحية، ومن ناحية أخرى إلى أن الشيء الممكن تصوره هو أن إعلان المجتبين بالبراءة كان ممزوجًا مع الالتماس بمصلحة السماعين، وهي نقطة طمسها عن عمْد مؤلف كتاب (أعمال الأركانة).

ومن الواضح أن السماعين المانويين قد عاشوا حياة عائلية عادية كما تؤكد المصادر، ويبدو أنه لم يتم تحريم حتى تناول اللحم بالنسبة لهم، ومع ذلك قد تم التقيد بصوم يوم خاص من أيام الأسبوع هو يوم الأحد، كما فرض عليهم الامتناع كليًّا عن العِشرة الجنسية في ذلك اليوم، ومن الملاحظ أنه لم يسمح للمانويين بالزواج بحسب، بل سمح لهم بالاحتفاظ بالخليلات، إذ كان هذا الأمر أكثر قبولًا لديهم، وهو أمر واضح.

من قصة نصيرهم السابق وعدوهم اللاحق "أوغسطين" الذي احتفظ بخليلة خاصة به خلال ارتباطه بالمانوية، ثم تركها في وضع حرج قبيل فترة قصيرة من اعتناقه الديانة المسيحية، وذلك بعدما أغرته وريثة شابة وغنية بالزواج منها، وكان على المجتبين أن يصوموا يومين في الأسبوع وهما يوما الأحد والاثنين؛ لأنهما اليومان المقدسان بين أيام الأسبوع، يضاف إلى هذا أنه وجبت فترات أكثر امتدادًا للصوم المستمر، خاصةً خلال شهر كامل قبل العيد الديني الأكبر في العام، وهو عيد الوليمة المقدسة. ومن المحتمل أن شهر الصيام هذا قد تقدم كنمط لصوم شهر رمضان المذكور في القرآن.

ومن الطبيعي أن نجد أن المطالب الأخلاقية الصارمة قد جلبت معها العديد من الآثام، وجعلت بالتالي ممارسة الاعتراف والتوبة قانونًا هامًّا، وهذا أمر تبرهن النصوص على صحته تمامًا، ولقد رأينا واستحوذنا على عدد من الصيغ

ص: 400

الاعترافية، وكان قانون الاعتراف والتوبة هذا ذا أهمية بالغة في الحياة الدينية للمانويين؛ لأنه ساعد في المحافظة على نظام كهنوتي صارم، وجرى تقسيم المجتبين إلى أربعة طبقات، وهي في المصطلحات الإيرانية الوسيطة:"همو ساغ" أو القاضي، و"سباساغ": أو الأسقف، و"ماهستال": أو الكاهن، و"أردوان": أو المجتبى.

وشكل "النياشغان" مع السماعين الدرجات الخمس للمؤمنين، وكان للقاضي اثنتا عشرة درجةً في الكنيسة المانوية، كما كان هناك اثنان وسبعون أسقفًا، ثلاثمائة وستون كاهنًا، وبالطبع نجد أن الشخصيتن الأولتين قد أُخِذتَا من العهد الجديد، وكان جميع أعضاء الكنيسة المانوية تحت إشراف خليفة "ماني" وكان يُعرف باسم "اشغوث" وباسم "سردار" في اللغة الفارسية، وباسم "سارات" في اللغة الفارسية الوسيطة. وارتدى المجتبون مع ممثلي الدرجات العالية أثوابًا بيضاءَ مع أغطية رأسية، بينما يحتفظ السماعون بلباسهم العادي.

التعميد المانوي:

تعرضت قلة من سمات المانوية لتفصح دقيق أكثر من الوجود المحتمل للطقوس المقدسة، وخاصة طقوس التعميد والعشاء الرباني، وكان "بور" قد أشار إلى صعوبة التوصل إلى أي استنتاجات بخصوص هذه المسألة، وتفحص بدقة الدليل المتوفر في ذلك الحين، وقد أكد في بداية دراسته على أن التباين كان شديدًا بين المجتبين والسماعين إلى حد يمكن افتراض أن الشروط الخاصة كانت موضوعة تحدد الدخول إلى دائرة المجتبين. ويمكن أن نفترض أن الارتقاء قد أخذ شكلًا طقسيًّا تعميديًّا.

ص: 401

ويمكن استخلاص هذا من كتابات القديس "أوغسطين" خاصةً كتابه (بي ميرسيلس) في الفصل الخامس والثلاثين، حين توجه بسؤال للمانويين ليس أكثر من تمثل لطريقة التعبير المسيحية، وأن ما قصده المانويون كان ما يتعلق بالمؤمنين الذين وُلِدوا من جديد بواسطة التعميد، فقد كان إنجاب الأطفال بين المانوية عملًا غيرَ موائم، ومع ذلك لم يكن من المألوف بينهم تحقيق الدخول بين المولودين من جديد بوساطة طَقس تعميدي.

يقول "بور"ك سيكون من الأكثر موائمةً أن نتذكر مقطعًا آخرَ من كتاب "أوغسطين" حيث ناقش المادة التي تطابقت فيه الممارسات والأساليب المانوية مع الممارسات والأساليب التي أخذ بها المسيحيون. وهنا لو أن "أوغسطين" استهشد بالتعميد كطقس مسيحي منتشر بين المانوية، فليس هناك من داع إلى الافتراض أنه كان مطلعًا على أي انحراف بالنسبة لتطبيق التعميد على الاستخدام المسيحي. وكذلك يتحدث المانوي السعيد في جدله مع "أوغسطين" في واحد من كتبه عن التعميد والعشاء الرباني كطقوس معروفة لدى المسحيين والمانويين على حد سواء.

هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى يبدو مقطع آخر من كتاب "أوغسطين" نفسه يوحي أنه لم يوجد بالفعل أي تعميد، إذ من المؤكد أنه لم يكن هناك قبول للمستجيبين -أي: السماعين- في الجماعة المانوية عن طريق التعميد. ويمكن أن يؤدي هذا التعليق إلى استنتاج أن التعميد ببساطة لم يكن جزءًا من الطقوس المانوية على الإطلاق، والأكثر احتمالًا هو أن "بور" محق في الاعتقاد أنه لم يكن التعميد هو المعنى الذي حدد مفهوم السماعين، بل الاختلاف الجوهري في تنفيذهم أو عدم تنفيذهم للوصايا هم والمجتبون كل على حدة. ومهما يكن من أمر يبدو أن التعميد قد وجد

ص: 402

لكن أهميتها كانت أقل بروزًا منها بين المسحيين، ولم يعتبر عملًا لزِم القيام به في مرحلة ما من الزمن من قِبل كل واحد من السماعين.

وهنالك أيضًا حالة خاصة أخرى؛ لأنه من المحتمل أن التعميد لم يكن بالماء بين المانويين كمعنى "أوغسطين" عن هذا بوضوح في الفصل السادس والأربعين من كتابه، حيث يعلق "بور" قائلًا: الذي يمكن بساطة تطبيق الأخير على السماعين فقط، وصرح "أوغسطين" بالطريقة نفسها، كما يلاحظ "بور" تمامًا أن هذه المقاطع التي تتحدث عن الرفض المانوي للتعميم على أنه تطهير بالماء تترك باب الاحتمال مفتوحًا على أن هذا الطقس كان له معناه لدى المانويين بشكل وأسلوب مختلفين، وقَبْل "بور" كان قد جرى لفت الانتباه إلى ملاحظة كتبها أسقف "هريبوس" جاء فيها: أن المانويين قد عُمدوا بالزيت، وذلك حسبما جاء في "أعمال توماس" التي قدروها كثيرًا.

ويبدو أنه قد تم التأكيد على هذه الإشارة بذكر المسح بالزيت في هذه الأعمال فيما يتعلق بالتعميد، وذلك دون التحدث عن التطهر بالماء حسب الرواية الإغريقية لهذه الأعمال، ويصل "بور" إلى الاستنتاج التالي: لم تتعرض المانوية للنقد من قبل المسحيين؛ لأنهم افتقروا إلى التعميد، بل على العكس كان عندهم أمرًا مستلزمًا ضمنيًّا أن هذا التعميد لم يكن تطهرًا بالماء، وإنما من المؤكد أن تكون من المسح بالزيت ومسح الأيدي.

ص: 403

وهكذا دل التعميد المقدس على أنه طقس ديني أولي حيث جرى بوساطته التأكيد للذين تم قبولهم من بين المجتبين، على أنهم حُرروا من الآثام، وهو الشرط اللازم لنيل عضوية جماعة الكمال هذه، أي: جماعة الصديقين.

وهكذا تؤكد النصوص القبطية التي جرى نشرها منذ عام 1930 حول المسألة برمتها رأي "بور" بل إنها توسعه وتصصحه إلى حد ما في الوقت ذاته، كان التعميد بالماء مرفوضًا على وجه التحديد، كما أن "بوخ" شديد الشكوك تجاه قبول وجود طقوس مقدسة بين المانويين، ويتبنى موقفًا سلبيًّا واضحًا إزاء المقاطع التي جرى الاستشهاد بها من قبل.

ومع ذلك فإنه يعجز عن التعبير عن موقف تجاه سلسلة الآراء المادية في المزامير القبطية، حيث توجد إشارات إلى طقوس معينة مماثلة للتعميد، فعلى سبيل المثال: يعبر المتعمد في كتاب (المزامير) عن رغبته ليتم غسله بمناسبة عيد الوليمة المقدسة بقطرة ندى من بهجة "ماني" ويجري التوسل إلى يسوع؛ ليغسل المتعبد بمياهه المقدسة، ويصرخ المتعبد قائلًا: انظر، كاد الوقت يمضي، هلا أستطيع العودة إلى موطني؟ وتظهر الرغبة مرارًا وتكرارًا في أن يصبح المتعبد أهلًا للدخول في غرفة النور الزفافية، ويمضي المزمور ذاته قائلًا: طهرني بمياهك يا خطيبي السماوي يا مخلصي. وعند لحظة الموت سيظهر القاضي نفسه للروح بوجه مليء بالسعادة وسيغسلها ويطهرها بندى مفيد.

وقيل في مكان آخر: إن الروح سيتم تطهيرها بندى عامود المجد؛ حتى يمكن قبولها من قبل المخلص.

وتعطي هذه النصوص الانطباع أنه سيتم تطهير الروح الصاعدة بعد الموت إلى غرفة النور الزفافية لمياه المخلص المقدسة، وتستخدم كلمة "مور" أي: الماء وهي

ص: 404

توصف أيضًا على أنها تعني الندى المفيد، ويحصل طقس التطهير هذا بالارتباط مع صعود المخلص، ولهذا السبب إن صعود الروح والتطهير بالماء المقدس والدخول إلى غرفة النور الزفافية، تشكل نظامًا من علاقات متبادلة معقدة، وهذا يعني أن شعيرة التطهير هذه ذات فكرة "مثيولوجية" قد ماثلت الشعيرة التي حدثت عند موت أحد المجتبين، ويعيد هذا إلى الذكرة ما يسمى بـ"الموت الجماعي" لدى المندعين، وهو عبارة عن تعميد يُقام في جماعة المصلين الممدعين للرجل الميت، ويتطابق مع القداس الأخير.

ومن المحقق أن توارد هذه الأفكار وتعاطفها مع ما هنالك من صلة عضوية بين صعود الروح وتعميد التطهير والدخول إلى الغرفة الزفافية، موجود في الديانة المسيحية والغنطوسية والمندعية والمانوية، وهي تظهِر حشدًا للمفاهيم التي كانت قائمة قبل الديانة المسيحية، والتي تظهر بوضوح كبير داخل الديانة المسيحية ذاتها لدى السريان، وخاصة في الكنيسة النسطورية، وتشير حقيقة وجود هذه المفاهيم في النصوص المانوية بشكل أكيد إلى وجود طقوس تعميدية متطابقة، وذلك على الرغم من أن السمة الغامضة للإشارة تجعل من الصعب تكوين صورة دقيقة للطقوس كل على حدة.

وينبغي التذكر أن "الكاثريين" في العصور الوسطى لم يمارسوا سوى تعميد الموت أو التطهير المسمى بمسح الأيدي، وكما لوحظ من قبل يقدم "بور" حجة مقنعة للاعتقاد بأن التعميد كان عملًا تكرسيًّا للمجتبين، وذلك أنه جرى تفسير الأدلة بشكل خاطئ، أو كان هناك نوعان للتعميد كان أحدهما للقبول في المجتبين، وهو المساوي للتعميد المسيحي، والآخر تعميد الموت أو التطهير، وهو المساوي لتلقي مسح شديد بالزيت، والذي لم يكن إذا تكلمنا عن الطقوس سوى شعيرة

ص: 405

تعمدية عند باب الموت، وتتم الإشارة في فصل مترجم من (القفالايا) وهو الفصل المائة والرابع والستون -الذي لم ينشر حتى الآن- إلى قداس من النوع الذي يزود به المريض وهو يلفظ أنفاسه، وهو وضع متناسب تمامًا مع تعميد الموت أو التطهير؛ لأن الفكرة هي أن الروح تزود بزاد لرحلتها إلى الآخرة، وهي فكرة شائعة على وجه العموم، وقد ظهرت دائمًا إلى حيز الوجود وبشكل فعال في نظام رمزي عرفاني على سبيل المثال في أغنية اللؤلؤة وأغاني مسكتة المندعية.

ومن وجهة نظر طقوسية صرفة من الممكن أيضًا اعتبار طقس مسح الأيدي المانوي الذي أصبح المترهبون بواسطته أبناءً للكنيسة بمثابة بديل للتعميد، ولهذا السبب يمكن التخيل تمامًا أن المانويين مثلوا وأكملوا تكريس المجتبى بدون أيدي بالزيت فقط، ولم يعرفوا بالتالي إلا شكلًا واحدًا للتعميد أو التطيهر، هو ذلك التعميد الذي كان يتم قبل الموت.

وفي النهاية ينبغي التبيان أنه لا يمكن إجراء تقويم مفصل إلى أن تتوفر نصوص جديدة، وذلك على الرغم من أن المادة الموجودة تشير بالفعل إلى وجود نوع من أنواع الطقوس التعمدية.

الوليمة المقدسة، والعشاء الرباني:

إذا كانت الشكوك الجديدة قد حامت حول التعميد بين المانويين، فإنها لا يمكن أيضًا أن توجد فيما يتعلق بالوجبة العقائدية، ومع ذلك إذا كان لهذه الوجبة أية أهمية مقدسة بالفعل، تبقى نقطة حولها شكوك كبيرة.

ص: 406

ومن الضروري أن نقول شيئًا ما في البداية عن العيد الذي جرت فيه هذه الوجبة التي عُرفت باسم الوليمة المقدسة، وهي التي جرى الاحتفالُ بها في نهاية الشهر الثاني عشر، أو نهاية شهر الصوم المانوي، وكان محور هذا العيد هو تذكّر وفاة "ماني" مؤسس الدين، والذي كان حاضرًا بشكل خفي، حيث تمت في مناسبة الاحتفال إقامة سرير من نوع مجلس القاضي، وهذا ما تعنية كلمة "بيوئا" الإغريقية، وكان مرفوعًا بخمس درجات، وتمت تغطية السرير بالسجاد حتى أصبح مركزَ استقطاب اهتمام جميع الحضور. ويلاحظ في هذا المقام أن المكان فارغ.

الذي يرمز إلى وجود المعلم المتوفى يجد مكانه الموائم في الديانة البوذية، حيث عبرت المنصة الفارغة عن صعود بوذا إلى سماء الآلهة الثلاثة والثلاثين، ولا شك أن المانويين قد تبنوا تطوير هذا العيد عن البوذيين. وقال "أوغسطين": إن مجتمع المانوي قد احتفل بهذا العيد معتبرًا إياه بمثابة عيد رئيسي له، وذلك بدلًا من الاحتفال بعيد الفصح، وذكر من قبل الاستشهاد بالمقاطع الواردة، حيث ناقشت مسألة العشاء الرباني بين المانوية، كما أن الافتراءات التي ساقها "أوغسطين" كانت حاسمةً تمامًا من حيث تأكيدها في أنه كان هناك عشاء رباني مقدس، وتم التأكيد أخيرًا في كتاب (أعمال الأراكنة) بعدما جرى تأكيد وجود البراءة على أن المجتبى قد أكل الخبز الممنوح له بعد رحيل السماء، وصلى بعدما فرَغ من وجبته، ورشَّ رأسه بزيت الزيتون، وهو يردد بقصد التعويذ العجيب من الأسماء التي كانت مجهولة بالنسبة للسماعين، فليس من المدهش أن "أوغسطين" لم يكن قادرًا كسَمَّاع على تقديم أية تفاصيل بخصوص العشاء الرباني، وذلك عند رؤيته أنه قد جرى إحصاء السماعين، ومنعهم من حضور هذا العشاء المقدس.

ص: 407

ويمكن الافتراء بجميع هذه الأمثلة أنهم على الأرجح اهتموا فقط بالوجبة اليومية للمجتبين، والتي تشابهت مع القربان المسيحي المقدس، وبما أن هذه الوجبة قد خدمت في تطهير ذارت النور المحتجزة في النباتات بما في ذلك الخبز، يمكن القول بشكل موائم: أن هذا الطقس قد تضمن بدقة جميع العناصر الموائمة للقربان المقدسة، وبالنتيجة حصل العشاء الرباني المانوي بالطريقة نفسها لتحرير النور، أما بالنسبة للوجبة الطقوسية التي جرت بشكل معلن خلال الوليمة المقدسة، فهي تعني أنه لا بد وقد تم ربطها بسِمة مقدسة محددة، كما أن "الممانات" المانوية هي برهان على حدث من هذا النوع.

وتعكس إحدى "الممانات" التي نشرها "لاكوك" مع تفسير بشكل واضح مشهدًا من المناسبة، وفيها: تتم مشاهدة السرير المذكور آنفًا في المنتصف يحيط به من اليمين واليسار المجتبون الجالسون في عدة نصوص، ويمكن أن نشاهد بسهولة ثمار البطيخ بين الفاكهة الموضوعة على حامل ثلاثي أمام السرير، والسرير مغطى بالسجاد، وفي الساحة المواجهة هناك طاولة مليئة بالخبز المصنوع من القمح، وأحد الكهنة راكع أمامها وهو يحمل كتابًا بيديه، وقد افترض أنه كان يشغل دور قائد الصلاة أو الترتيل، كما أن الشخصية الرئيسة هي شخصية الراهب الكبير، وكان جالسًا إلى يسار الحامل الثلاثي المملوء بالفاكهة، رافعًا يده اليسرى، مباركًا.

وهكذا يوجد هنا بالفعل تصوير للوليمة المقدسة والعشاء الرباني، ومن المحتمل تصور العشاء الرباني على أنه نظير طقوسي لموضوع آدم "المثيولوجي" بعد استيقاظه حينما أطعمه يسوع من شجرة الحياة، أو حسب عبارة "فيدور برقونية": أيقظه وتركه يأكل من شجرة الحياة.

ص: 408

لقد تم التبيان من قبل أنه تم أيضًا اعتبار عناصر العشاء الرباني في الديانة المسيحية السريانية بمثابة فاكهة من شجرة الحياة، وبناء عليه يبدو أن هناك مسوغًا كافٍ لاعتبار هذه السمة "المثيولوجية" على أنها تلميح للقربان المقدس.

وبالمناسبة جرى تمجيد كل من المسيح و"ماني" في الديانة المانوية على أساس اعتبار أنهما شجرة الحياة، وذلك مثلما جرى اعتبار المخلص في الديانة المندعية على أنه شجرة الحياة، وإذا ما قيل: بأن يسوع قد أيقظ آدم ثم أعطاه؛ ليأكل من فاكهة شجرة الحياة، أو بمعنى آخر: تركه يتناول الطعام من العشاء الرباني، لما وجب التغاضي عن أن التصريف السببي لأُقيم من قول، وهو فعل يقف، ربما اشتمل على إشارة طقوسية؛ لأن كلمة أيقظ أو ينقذ في لغة عبادة المندعين والغموطسيين المسيحيين المرقونيين تقابلها في الإغريقية "أرمو بوريل" وقد عنت ما عنته كلمة "يعمد" في اللغة الآرامية.

زِدْ على هذا أن من المهم تبعًا للتقاليد المندعية قيام "هابيل زيوا" بتعميد أو تطهير آدم المخلوق الأول، حيث مسحه بالزيت ومنحه السرين المقدسين: بهتا، ومنبوها، وهابيل زيوا، أو هابيل المتألق في هذا المثال هو نظير تام لعيسو زيوا، أي: يسوع المتألق، كما أن سلوكه يتطابق تمامًا مع سلوك يسوع المتألق إزاءَ آدم في التقاليد المانوية، ولذلك يمكن الافتراض أن "سيودور بار قونية" يزودنا بإشارة لا تتناول الاحتفال المانوي بالعشاء الرباني فحسب، بل التعميد الذي كان منتشرًا بين المانوية كذلك.

بهذا نكون قد أتينا على العقائد المانوية والتعاليم والأخلاق المانوية أيضًا.

وصلّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وآله وصحبه أجمعين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 409