الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الثاني
(فلسفة الموت والروح، وعقيدة خلق العالم، والخلاص من الشر)
تقسيم أبي الريحان البيروني لاعتقاد الهنود
الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين؛ أما بعد:
فنشير هنا -إن شاء الله تعالى- إلى بقية القضايا؛ حيث فلسفة الموت والروح وعلاقتها بالبدل، وعقيدة الهندوس في خلق العالم، وفكرة الخلاص من الشر؛ فنقول -وبالله التوفيق-:
يُقسم أبو الريحان البيروني الهنود بالنسبة إلى اعتقادهم في البرهمية إلى خاصة وعامة، ويفترض أنّ الخاصة موحدون، وغيرهم وثنيون، وهو يقول في هذا المقام: إنما اختلف اعتقادهم الخاص والعام في كل أمة؛ بسبب أن طباع الخاصة تنازع المعقول، وتقصد التحقيق في الأصول، وطباع العامة تقف عند المحسوس، وتقتنع بالفروع.
ويقول البيروني أيضًا: واعتقاد الهند في الله سبحانه وتعالى أنه الواحد الأزلي، من غير ابتداء ولا انتهاء، والمختار في فعله القادر الحكيم المدبر، المنفرد في ملكوته عن الأضداد والأنداد، وأما منشأ الوثنية في الديانة البرهمية: فهي أنهم كانوا يعبدون القوة المؤثرة في الكون، ثم لم يلبثوا أن جسدوا تلك القوى بأن اعتقدوا حلولها في بعض الأجسام؛ فعبدوا الأصنام بحلولها فيها، وتعددت آلهتهم حتى وصلت إلى ثلاثة وثلاثين إلهًا، ثم اعترى عقائدهم التغيير والتبديل، حتى انحصر الآلهة في ثلاثة أقانيم، وذلك أنهم توهموا أن للعالم ثلاثة آلهة وهي:"برهما" وهو الإله الخالق مانح الحياة، القوي الذي صدرت عنه جميع الأشياء، وينسبون إليه الشمس.
الثاني: سيفا أو سيوا، وهو الإله المخرب المفني، الذي تصفر به الأوراق الخضراء، ويأتي بالهرم بعد الشباب، وينسبون إليه النار؛ لأنها عنصر مدمر مخرب.
الثالث: "وشنو أو يشن" على حد تعبير البيروني ويعتقدون أن "وشنو" هذا حل في المخلوقات؛ ليبقي العالم من الفناء التام.
وهذه هي الإلهه الثلاثة أقانيم لإله واحد في زعمهم، والإله الواحد هو الروح الأعظم، واسمه ادما، والهنود يعتقدون أن بعض آلهتهم حلت في إنسان اسمه كريشنا، والتقى فيه الإله بالإنسان، أو حل اللاهوت في الناسوت في كرشينا، ويصفونه بأنه البطل الوديع المملوء ألوهية، لأن الإله وشنو قد حل فيه؛ فعندهم إذن فكرة الاتحاد والحلول، وفكرة الأقاليم الثلاثة، تلك التي آلت بعد إلى النصرانية.
أما النفس وخلودها وتناسخ الأرواح: فهو أيضًا من أهم معتقدات الهندوسية؛ فالنفس في نظر البراهمة جوهر خالد صافٍ، ما دام منفصلًا عن الجسم، والنفس عندهم خالدة باقية لا يعتريها الفناء، ولا يتطرق إليها البلى، وهي تنتقل من جسم إلى جسم، ومن ذلك جاء اعتقادهم في تناسخ الأرواح، وقد قامت عقيدة التناسخ على دعائم ثلاث:
1 -
اعتقادهم خلود الأروح.
2 -
اعتقادهم أن الروح بعد مغادرة الجسم تكون في حنان دافعًا إلى الأجسام، لما انطبع فيها من المحسوسات.
3 -
النفس في حالة بقائها في الجسم تُحيط علمًا بالجزئيات والكليات.
وحول النّفس وخلودها يقول البيروني أيضًا: إذا تجردت النفس عن المادة كانت عالمة؛ فإذا تلبست بها كانت بقدراتها جاهلة، وظنت أنها الفاعلة، وأن أعمال الدنيا معدة لأجلها؛ فتمسكت بها، وانطبعت المحسوسات فيها؛ فإذا فارقت البدن كانت آثار المحسوسات باقية، فلم تنفصل عنها بالتمام، وحنت إليها وعادت نحوها، وهذه النظرية التي تُقرر
أنّ النّفس عالمة قبل اتصالها بالجِسْم، تُقارب نظرية أفلاطون في المثل العليا في النفس، ورُبّما كانت أصلًا لها، فالعالم لا يقع في قبضة أحد، بل هو يتنقل في البلاد والأمم تنقل الرياح والأمطار فيها، لا تقف دونه الحاجزات، ولا تسد الطريق عليه سدود من حدود وحصون.
والنفس عندهم خالدة باقية لا يعروها الفناء، ولا يتطرق إليها البلى، ولقد صرح بذلك كتبهم، وهذا ما نقله البيروني يشهد بما نقول؛ قال باسيدو لأرجل يحرضه على القتال، وهما بين الصفين: إن كنت بالقضاء السابق مؤمنًا؛ فأعلم أنهم ليسوا ولا نحن بموتى، ولا زاهبين ذهابًا لا رجوع معه، فإن الأرواح غير مائتة ولا متغيرة، وإنما تتردد في الأبدان على تغير الإنسان، من الطفولة إلى الشباب والكهولة، ثم الشيخوخة التي عقباها موت البدن ثم العودة له.
وقال أيضًا: كيف يذكر الموت والقتل من عرف أن النفس أبدية الوجود لا عن ولادة، ولا إلى تلف وعدم، بل هي ثابتة قائمة، لا سيف يقطعها، ولا نار تحرقها، ولا ماء يبثها، ولا ريح تيبسها؛ لكنها تنتقل من بدنها نحو آخر، كما يستبدل البدن اللباس إذا خلق؛ فما عملك لنفس لا تريد.
ومن هذا النص يفهم أن عقيدتهم في النفس أنها لا تريد، وأنها تنتقل من جسم إلى جسم، ومن ذلك جاء اعتقادهم في تناسخ الأرواح، وهو الطابع الذي امتازت به الديانة البرهمية؛ حتى لقد قال في ذلك البيروني: كما أن الشهادة بكلمة الإخلاص شعار إيمان المسلمين، والتثليث علامة النصرانية، والأسبات علامة اليهودية؛ كذلك التناسخ علم النحلة الهندية، من لم يتنحله لم يكن منها.
ولذلك فاعتقادهم في بقاء النفس، وأنّ النفس في بقائها في الجسم تحيط علمًا بالجزئيات، وإن كان علمها بالصورة الكلية ثابتًا لها، وهي في تنقلها من جسم
إلى جسم تستفيد من كل جسم علمًا جديدًا بجزئيات لم تكن تعلمها؛ فليس من المعقول أن تحيط بكل الجزئيات علمًا؛ ببقائها أمدًا قصيرًا في جسم واحد، ولذلك احتاجات إلى تتبع الجزئيات، واستقراء الممكنات، وإن كانت متناهية عددها كثير، والإتيان على الكثرة وإحصاؤها علم يحتاج إلى فسحة في الأمد، ولذلك لا يحصل ذلك العلم للنفس إلا بمشاهدة الأشخاص والأنواع، وما يتناوبها من الأفعال والأحوال؛ حتى يحصل لها في كل واحد تجربة، وتستفيد بها جديدًا في المعرفة.
لهذا كله كانت الأرواح تنتقل في الأجسام، وتنتقل متدرجة في الرقي من جسم إلى جسم، حتى تصل إلى الكمال المطلق، وتكون في صف الروحانيات المتجردة، وهي الملائكة، وتكون غير محجوبة عن التصرف في السماوات والأرض وتدبير الكون، وإذا كانت الروح قد ارتكبت خطايا في أثناء حلولها في أحد الأجسام أركست في حيوان دون الذي كانت فيه؛ لتكفر عن خطيئاتها، وتطهر من سيئاتها، ثم تسير قدمًا إلى الرقي، لا يعوقها عن بلوغ أوجه إلا خطايا تتأثم بها ثم تتطهر، وتستمر كذلك حتى تصل إلى الملكوت الأعلى مع الملائكة في أعلى عليين، وتتجرد من الغلاف الجسمي، وقد يكون تدرجها في أدنى؛ فتهوى إلى جهنم على حسب الأقوال عندهم.
ولعقيدة التناسخ التي استولت على الفكر الهندي، وأثرت فيه كانوا يعتقدون أن الروح الواحدة، تحل في عدة من الأجسام، وأن الشخص قد تكون روحه قد حلت في مئات الأجسام قبله، يحكي البيروني عن ملك من ملوكهم أنه رسم لقومه أن يحرقوا جثته بعد موته في موضع لم يحرق فيه
ميت قبل، وأنهم طلبوا موضعًا كذلك فأعياهم؛ حتى وجدوا صخرة من البحر ناتئة؛ فظنوا أنهم ظفروا بالبغية، فقال لهم "باسيدو": إن هذا الملك أحرق على هذه الصخرة مرات كثيرة؛ فافعلوا ما تريدون؛ فإنما قصد إعلامهم وقد قضيت حاجتهم.
ويقول الإمام محمد أبو زهرة: من عادات الهنود الدينية أن أجسامهم أكبارهم تحرق بعد الموت، وذلك لأنّ النار في اشتعالها تعلو شعلاتها إلى أعلى بخط عمودي على أفق الأرض، والعامود أقرب المستقيمات من السطوح والخطوط، ولذا تتجه الروح بهذا الاحتراق إلى أعلى، سائرة باتجاه عامودي فتصعد إلى السماء في الملكوت الأعلى في أقرب زمن، هذا سبب من أسباب حرق أجسام كبرائهم بعد موتهم، وهناك سبب آخر هو أن في الاحتراق تخليصًا للروح من غلاف الجسم تخليصًا تامًّا، وذلك أن في الجسم نقطة بها يكون الإنسان وهي متئشبه بالجسم متصلة به.
فَلا تَخْلُص منه إلا باحتراق أمشاجه، وصيرورتها ذرات صغيرة بالاحتراق؛ فعندئذ تتخلص تلك النقطة، وهي معنى الإنسان، وبتخلصها تتخلص الروح من الجسم، وتعلو عنه لتتصل بجسم آخر، أو لتسمو لدرجة الملائكة، إن كانت قد وصلت إلى درجة الخلاص، وإذا تخلصت الروح من الجسم كان أمامها ثلاثة عوالم:
أولها: العالم الأعلى وهو الملائكة، تصعد إليه الروح إن كانت بعملها تستأهل الصعود إليه، والخلاص من الجسم، والسمو إلى الملكوت الأعلى.
والعالم الثاني: عالم الناس، وهو عالمنا الحاضر معشر الآدميين، والنفس تعود إليه بالحلول في جسم إنساني آخر؛ لتكتسب عمل خير، ولتتجنب عمل شر، إذا
كانت أعمالها في الجسم الأول لا ترفعها إلى مراتب التقديس في أعلى عليين، ولا تنزل بها إلى أسفل سافلين في العالم الثالث وهو عالم جهنم، وهذا العالم يكون لمرتكب الخطايا الواقعين في الذنوب، وليس هناك جهنم واحدة، بل لكل أصحاب ذنب جهنم خاصة بهم؛ فالمدعون على غيرهم حقوق كاذبة، وشهود الزور لهم جهنم خاصة بهم، وسافك الدم وغاصب حقوق الناس، والمغير عليهم وقاتل البقر لهم جهنم خاصة بهم.
وقاتل البرهمي وسارق الذهب ومن صحب الأمراء الذي لا ينظرون إلى رعاياهم لهم جهنم خاصة، والذي يرد قول أستاذه ولا يرضاه، ويستخف بالناس ويستهين بالكتب المقدسة، أو يكتسب بها في الأسواق له جهنم أيضًا خاصة، وهكذا لكل صنف من الآثمين جهنم بمقدار يتناسب مع ذنبه، ومقدار ما فيه من فسوق، ومقدار ما فيهم من فسوق عن الدين وخروج من حظيرته. ثم هل جهنم دائمة وكذلك الجنة؟
منهم من يرى أن الجنة نزلها دائم، وأن الجحيم كذلك، وأنها لا الجنة ولا الجحيم أبدًا، على مقدار ما قدم الشخص من عمل؛ فإن كان العمل في الحياة لا يرفع إلى الجنة، ولا ينزل إلى الجحيم، أعيدت الروح إلى جسم آخر لتعمل ما يعليها أو يرديها، ومنهم من يرى أن طريق الاكتساب هي الإنسانية وحدها، وأن التردد فيها مكافأة قاصرة عن درجة الثواب والعقاب الأخروي، أما الجنة؛ فإنها في علوها تكون للنعيم الذي يستحقه من قدم عملًا حسنًا؛ ويكون البقاء فيها إلى أمد محدود.
وإذا كان العمل الإنساني أثمًا وخطيئة تردت روح الشخص في الحيوان والنبات، وعقابًا لها على ما اجترحت من سيئات وقدمت من خطايا. وبقيت في ذلك أبدًا
حتى تتطهر مما اجترحت، وليست جهنم إلا هذا التردي عند هؤلاء فالجنة والجحيم ليستا أبديتين عند هؤلاء، بل هما مؤقتتان بهذا التأقيت وبعدها تصعد الروح درجة إلى العالم العلوي أو تنزل إلى مرتبة الإنسانية، وكلا الرأيين يسيرُ على مناهج تناسخ الأرواح، وإن اختلفت أنظارهم فيه، ومهما يكن من خلاف في هذا المقام؛ فالمُتّفق عليه أن البعث في العالم الأخروي إنما هو للأرواح لا للأجساد؛ فالروح أما في روح وريحان، وأما في شقوة وجحيم على نحو ما بينا.
وعن فكرة الخلاص من الشر أيضًا يقول الدكتور طلعت أبو سيف في كتابه (أضواء على مقارنة الأديان): وروح كل شيء تعود في نهاية المطاف إلى مصدرها الأول الذي نشأت منه، وهو الإله والإنسان أحد الكائنات له ما يعرض لها، وروحه قطرة من نور الله، انفصلت عن الله أجلًا محدودًا، واتصلت به ثم تتصل بعده بكائن آخر وآخر، وهكذا ثم في النهاية تعود إلى الله متى جاء الأجل، وذلك عندما تتوقف الميول والشهوات وينقلب الإنسان على نفسه، ويتخلص عندئذ من تكرار المولد ويمتزج بالإله، وهذا هو الهدف الأسمى للحياة عند الديانة الهندوسية إذ يتحرر الإنسان من رق الأهواء، وتنعدم حقيقة الحواس ويتحد بالإله.
ويقول الدكتور رءوف شلبي في كتابه (الأديان القديمة في الشرق) والذي كان يسمى بـ (آلهة في الأسواق) في طبعة سابقة، عن مسألة الروح كما يَدينُ بها البَراهمة أو كما هي في الديانة الهندوسية يقول:"لقد أودع الإله في كل امرئ نفسًا تُسمى عندهم آتما، وهذه النفس في البدن بمنزلة السائق من العربة؛ فكل الحواس لا يمكن أن تؤدي وظائفها إذا لم تكن "آتما" وهي النفس صاحبة القيادة والإرادة،
وذلك لأن النفس "آتما".
هذه أصلها من براهما، الذي يعتبر لها كقرص الشمس، وهي شعاعه تلك الأشعة التي تدخل في كل مكان على امتداد العمران والكرة الأرضية، وهذه النفس لها أوصاف ذكرها الهندوس في الكتاب الحادي عشر في الفقرات الرابعة والعشرين والخامسة والعشرين، وترجمتها كالآتي: لا تؤثر فيها الأسلحة، ولا تؤثر فيها الرياح، لا يَبُلّها المَاء لا تحرقها النيران؛ خالدة أبدية، مَوجُودة في كل مكان، لا تنتقل من شخص إلى آخر، دائمًا مع صاحبها، لا تتحرك لم تولد لا تتبدل ولا تتغير، لا يحيط بها فكر، كاملة سواء كانت للرجال أو للنساء.
إن النفس كاملة، ولكن البدن الذي يولد ليس كاملًا بل هو ناقص، واتصال النفس بالبدن علاقته غير معروفة أولها.
ولهذا؛ فإن البدن عليه أن يستغل وجود الروح فيه ليعمل أعمالًا كثيرة، على مظنة أنه لا حياة بعد ذلك أبدًا، وأن الموت الذي سيأتي ولا يمكن دفعه أبدًا سوف يقضي على الحياة نهائيًّا، والروح بعد ذلك سوف لا تنقل إلى بدن آخر، ولهذا وجب أن يحرق البدن حسب تعليم "كارما" الذي يقضي باتحاد الروح مع الجسد، وإحراقهما عند الموت، أما الروح فهي أبدية باقية، فحسب أعمال صاحبها تنال الجزاء؛ فهي إما في الجنة، وإما في النار حسب أعمال صاحبها.
وعن عودة الأرواح يقول: وبعد أن تنال الروح نصيبها من النار أو من النعيم، لا تستقر هناك، بل تُولد من جديد، وتظل هكذا مرارًا وتكرارًا، حتى تعرف حقيقتها؛ فتنفرد بذاتها، بإلهها، وهنا تتخلص من مسؤولياتها الدنيوية، ثم تعود إلى رَبّها في عالم البهجة والسعادة، ويتم ذلك إذا انتهت كل البواعث التي
تشد "آتما" التي هي النفس، إلى العودة إلى الدنيا؛ فلا يبقى لها من أهل، إلا أن تتحد مع "آتما" إلهها وذلك هو المأرب الأخير للروح.
ثم يعقب الدكتور رءوف شلبي تحت عنوان ملاحظة يقول: في النصوص التي قرأتها باللغة الشرقية عبارات تفيد:
أ- أن الروح لا تنتقل من بدن إلى بدن آخر.
ب- ولكنها بعد أن تنال نصيبها من النعيم أو الجحيم تولد من جديد.
ج- لم تبين النصوص محل هذه الولادة ولكنها ذكرت أن هذه العملية تكرر دون أن تصف المحل التي تحل فيه الروح.
د- غاية الأمر أن عملية تكرار نعيم الروح وعذابها، ثم ولادتها من جديد لها نهاية هي: أنّ الرّوحَ تَتّصلُ منفردة بربها؛ فتَعْرِفَ حَقيقتها، وعندئذ يكتب لها الخلود والبقاء.
ولعل هذا المعنى بعيد كل البعد عن مفهوم تناسخ الأرواح، أو لعل هذا مذهب في مفهوم تناسخ الأرواح، صحيح أن الشهرستاني قرر أن أصحاب التناسخ مختلفون في تقرير هذا المبدأ، لكنه عنف الهندوس ووصفهم بأنهم أشد الناس اعتناقًا في التناسخية، ولعل هؤلاء الذين وصفهم بذلك غير البرهانية لأنه ينطبق عليهم وصف الشهرستاني لأصحاب الروحانيات، الذين أثبتوا متوسطات روحانية جاءت برسالة من عند الله في سورة البراهمة، التي نقلت عنها أسماء الريش، الملهمون الذي نزلت عليهم كتب لويدا.
وإذا فليس صحيحًا على الإطلاق أن يقال: إن الهندوسية تقول بالتناسخ بمفهومه المصطلح عليه، أن تحل الأرواح في صورة حيوانات،
ويُؤكد هذه النحلة الجينية، وهِي النِّحلة التي قامت تُعارض الهندوسية، تقول بتناسخ الأرواح، وهذا يُبَرهِنُ على أن الهندوسية لا تقول به؛ لأن الجينية قامت خاصة لمعارضة التدين الهندوسي.
ولست أدافع عن الهندوسية؛ فهي نحلة ضالة -ولا شك في ذلك- ولكنني أحب أن أكون أمينًا في ما قرأته من مصادرهم المباشرة أنهم يقولون: ببغي نقل الروح إلى بدن آخر، ويقولون كذلك بعودة الروح إلى الوجود الذي يتكرر؛ حتى تخلص الروح إلى ربها، فتخلد في عالم السرور والبهجة، وذلك حسب منطقهم ولغتهم؛ فمن استطاع أن يثبت لهم تناسخ بأدلة علمية، فلست مُحاجًا ولا خصمًا في هذه القضية. انتهى كلامه - رحمه الله تعالى.
وعن مسألة العمل والجزاء يقول: "كارما بهالا" هاتان عبارتان معناهما العمل والجزاء العمل كارما، والجزاء بهالا؛ فالأعمال الخيرة جزاؤها لا بد أن يكون خيرًا وحسنًا، والأعمال الشريرة لا بد أن يكون جزاؤها مثلها شرًّا ومقتًا؛ ولهذا فإن فكرة الخير والشر هذه تدفع الإنسان إلى أن يحرص دائمًا كل تصرفاته بفعل الخير، وأن يبتعد عن كل ما يفسد الخلق والسلوك والحياة.
أنواع الجزاء:
والجزاء الذي يعطى للمحسنين الخيرين ثلاثة أنواع:
سان شيتا: وهي النِّعم والآلاء التي يعيشُ فيها الإنسان حاليًا، ولها دوام في المستقبل، و"بارابدا"؛ النِّعمُ التي نعيشُها في وقت محدود، وليس لها استمرار،
و"كريامانا" الجزاء الطيب الذي لم نحصل عليه في حياتنا المعاصرة سوف نحصل عليه في الحياة المستقبلة بعد الموت، فالمحسنون الطيبيون في الدنيا الذي لا يحصلون على أجر في الدنيا سوف يدخر لهم جزاؤهم الطيب في الحياة الآخرة.
ويقولُ عن مسألة الخلاص أيضًا: الخلاص من جاذبية الدنيا إنّ غاية الغايات للإنسان ليس فقط أن يقدم الخير لنفسه وللمجتمع، وليس فقط أن يرتفع عن الآلام والبلايا، ولكن غاية الغايات أن يتمكن من الخلاص من جاذبية الحياة الدنيا، التي يعبر عنها بلغة القوم "موسكا" والخلاص من جاذبية مشاغل الحياة الدنيا ليس بالموت والفناء، بل يُمكن الحصولُ على هذه الغاية والإنسان ما زال حيًّا، وذلك عن طريق الفداء والتضحية المستمرة، حتى يحصل على رضوان الإله "سانج هانج ويدي".
على رضوان الإله الخالق، ووسيلة ذلك هي ممارسة رياضة "اليوجا" تلك الرياضة التي تقوم على أساس من التذكر والتفكير والصمت، وبهذه الرياضة يحصل الفرد على "جنانا" الوسيلة الوحيدة للخلاص من كل الآلام والبلايا والمصائب، تلك التي تأتي لتمحص الإنسان، وتدفعه إلى أعلى؛ ليحل فيه الروح المُقَدّس التي يشعر بسببها بسمو روحه، وترفعها على الشعور بالمصائب والآلام؛ فالبلايا في صورتها السهلة مثلما تفعله الأم بولدها، عندما تَربط يديه كي لا يأكل التراب؛ فهو يبكي ويتألم، ولكنها مسرورة؛ لأنها تدفع عنه شرًّا وبيلًا، وكذلك البلايا أنها تأتي بخير الإنسان، وعليه أن يتخلص منها بالرياضة والحصول على "جنانا".
فالرّجل المُتدين هو الذي يبتسم للأذى؛ فذلك أرقى أنواع الطب الروحاني، وبذلك أيضًا في الآلام والبلايا لا تترك أثرًا في البدن الجسماني، أما عن "اليوجا" التي هي وسيلة الحصول على السعادة الروحية "موسكا" فهي
أولًا: الاتصال والوحدة مع الإله، وهي "جنانا يوجا".
ثانيًا: العملُ على أن يَحصُل المَرء على "جنانا" بأسلوب العبادة الخالصة، وفعل الخيرات وهي باللغة السنسكرتية "بهيكتي يوجا".
ثالثًا: أن يفعل المثل العليا دون انتظار شكر من الناس وهي بلغة القوم "كارما يوجا".
رابعًا: أن يعيش زاهدًا "تيبا" آمنًا خاشعًا متبتلًا وهي بلغة "رايجا يوجا".
وهذه الفواصل الأربعة كلها مساو للبعض، وكلها يؤدي إلى بعض، وكلها مساو في الوسيلة التي تؤدي إلى الغاية، وهي "موسكا" أي: الخلاص والسعادة والسرور، ومِمّا يرتبط بهذه الفكرة؛ فِكْرَةُ الخَلاص من الشر، والوصول إلى السعادة والسرور، ما ذُكر في الديانة الهندوسية، تحت عنوان "المنجيات والمهلكات".
أولًا: المُهلكات: وهي النفس والنسيان، والغضب والسكر، والحيرة والحقد، وهذه الأمور الستة تتعلق بالوجدانات والأفئدة، وبقيت المهلكات في ستة أفعال تتعلق بالهدم، وهي: أن تحرق مال غيرك، أن تسم غيرك، أن تمارس السحر، أن تحدث فوضى أن تكون عنيفًا، أن تفتن الناس.
ومن المهلكات أيضًا: سبع خصال هي:
الجمال الثراء الذكاء النسب الرفيع الفتوة شرب الخمر، الانتصار.
ثانيًا: المنجيات: "تليكايا" ومعناها: ثلاثة أسس للتعريف البشري، وكلمة "باري سدها" معناها الواجب تنظيفه وتطهيره، والمسائل المحتاجة إلى هذا التطهير بالقطع، تكون أساسًا للسلوك، وهي أُسس التفكير، أسس المحادثة، أسس الفعل، وتفصيل ذلك عندما يوجد التفكير الصالح يلحقه الحديث الصالح، وينتج عن ذلك الفعل الصالح؛ فتكون جميع السلوكيات صالحة، ومثمرة وطيبة.
أ- أسس التفكير الصالح ثلاثة وهي:
1 -
لا نؤجل ولا نرغب في شيء ليس حلالًا.
2 -
لا نفكر بسوء أو بشر نحو أي من البشر.
3 -
لا ننكر الثواب الذي يدخره الله للصالحين.
أسس الحديث الصالح أربعة وهي:
1 -
عدم محبة الشتائم.
2 -
عدم محبة الألفاظ النابية.
3 -
عدم محبة الفتنة.
4 -
لا ينكر الوعد ولا يخلفه.
ج- أسس الفعل الصالح ثلاثة وهي:
1 -
لا يعذب أحدًا ولا يقتل نفسًا.
2 -
لا يسرق.
3 -
لا يزني.
هذه باختصار المنجيات والمهلكات؛ حسب تبويب كتاب النحلة الهندوسية، نقلًا من مصادرها الأساسية، ولقد جانب الصواب كثير من كتاب الغرب وغيرهم، إذ عدو هذه الصفات فنقصوا وغيروا، وفي مقدمة هؤلاء "المستر جلف صمويل داو" في كتابه (المجتمع ومشاكله) نقلًا عن كتاب (الأديان القديمة في الشرق) للدكتور رءوف شلبي رحمه الله تعالى.
وفيما يرتبط بذات القضية في كتاب (قصة الديانات) للأستاذ سليمان مظهر، قال عن ثواب الحياة الأخرى: وقال الكهنة البرهميون: إذا كنت صالحًا في هذه الحياة؛ فستجازى عن صلاحك في الحياة الأخرى، وتساءل القوم: أي حياة؟ فأجاب الكهنة: لكل كائن حي روح، وهذه الروح تأتي من براهمة روح العالم، وبراهمة لا يموت قط. وهكذا فإن روح الكائنات الحية التي تأتي من روح العالم لا تموت قط، وتساءلوا من جديد: إذًا ما الذي يحدث للروح عندما يموت الإنسان؟ وكان الجواب: عندما يموت الإنسان تخرج روحه من جسده، وتدخل على الفور جسد طفل ولد لتوه، فإذا كان الإنسان ممن يحيا حياة طيبة صالحة، ولد في طائفة أعلى، بينما يولد في طائفة أدنى إذا كان يحيا حياة فاسدة مليئة بالشر.
وسأل بعض الناس: وما الذي يحدث للإنسان إذا هو استمر يحيا حياة فاسدة، بعد حياة أخرى أكثر فسادًا؟ فأجاب الكهنة مثل هذا الإنسان يظل يولد في طائفة أدنى من طائفته مرة بعد أخرى، وقد يولد عليلًا ليظل يشقى طوال حياته عقابًا له على ما أساء، بل وما
من بأس في أن يولد حيوانًا أعجم، وقد يولد إنسان الذي هو غاية في السوء فيلًا، وإذا صار فيلًا شريرًا؛ فإنه بعد موته يولد مرة أخرى كلبًا، وإذا كان كلبًا فاسدًا ظل ينحدر كلما ولد؛ حتى يولد برغوثًا أو بعوضة.
وأراد القوم أن يعرفوا السر الذي يجعل أرواح الصالحين من الناس تتجسد في طوائف أعلى، بينما يجعل أرواح السيئين تتجسد أجسامًا من الطوائف الدنيا، أو الحيوانات؛ فقال الكهنة: هناك قانون للحياة يقول "جزاء الخير خير مثله، وعقاب الشر شر مثله" وهذا القانون اسمه "الكارما" ورأى الناس بالفعل أن هذا ما يجب أن يكون، فالعمل الصالح يجب أن يثاب عليه، والعمل السيء يجب أن يعاقب عليه المرء، وبدا صواب لديهم أن يكون في الحياة مثل هذا القانون.
وظهر سؤال: ولكن ما الذي يحدث للمرء إذا هو استمر يحيا حياة صالحة بعد حياة صالحة أخرى؟ وأجاب الكهنة: إذن يثاب؛ فإذا كان رجل من طائفة غاية في الانحطاط يحيا حياة طيبة، فإنه يولد في المرة التالية في طائفة أعلى، وإذا ظل مواظبًا على الصلاح، يظل يرتفع مرة بعد مرة حتى يصبح كاهنًا برهميًّا، وماذا يحدث لو أن الكاهن ظل صالحًا، فبأي صورة يولد من جديد؟ عندئذٍ لا يولد مرة أخرى، فهنا تنتهي دورة الحياة، ولكن ما مصير تلك الروح التي تظل خيرة مع مجرى الزمن؟ إن أرواح الكائنات تأتي من "براهمة" روح العالم؛ فعندما تنتهي الروح من دورة الحياة، تعود إلى روح العالم، وتتحد مع براهما، وهذا هو ما يسمى بـ"النرفانا" وتلك أعظم سعادة يمكن أن تتمناها روح، ومن هنا كان على كل الناس أن يحيا حياة صالحة، وألا يفعلوا الشر؛ حتى يمكن في الحياة أن يتحدوا مع روح العالم وأن يدخلوا النرفانا.