الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقاييس المضادة للمادة
ونواصل مع تعاليم ماني فيما يعرف باسم المقاييس المضادة للمادة، والروح بمثابة مركز للفداء، والإيمان بالآخرة، والفلك.
لقد تطورت المادة في الشخص ذي الشهوة الجسدة خطة تأمرية استهدفت الاحتفاظ بذرة النور التي بقيت بها حتى الآن، وقضت هذه الخطة بتركيز جزء كبير من النور في خلقة الفرد، وذلك كقوة موازية للخلق السماوي، ولتنفيذ ذلك جرى اختيار شيطان مذكر اسمه أشقلون، وشيطانة مؤنثة اسمها نمارا إيد وكيما يتم تمثل ذرات النور التي كانت قد سقطت على الأرض، والتي كانت موجودة في إجهاضات الحكام ابتلع أشقلون جميع الحيوانات المخيفة التي كانت مذكرة في حين قدمت الحيوانات المخيفة المؤنثة لنا ما رأينا.
وبعد هذا جمع أشقلون نامرائيل فأنجب آدم وحواء أول المخلوقات البشرية، هكذا نشأ الجنس البشري بما لا شك فيه من مزيج مقزز للنفس من أعمال أكل لحوم البشر، والممارسات الجنسية، وكان جسد الإنسان بمثابة مظهر حيواني صرف للحكام، وكانت شهوته شهوة جنسية مسيرة له؛ تمشيًا مع خطة المادة للإنجاب والولادة، فهذا هو ميراث الإنسان من أصله الحيواني، لكن عالم النور لم يكن قادرًا ولا راغبًا بترك الإنسان تحت رحمة عالم الشر، فتجمع في آدم الجزء الأكبر من النور المحتجز والمتبقى، وذلك هو السبب في أنه أصبح الموضوع الأول لجهد الفداء من قبل عالم النور.
وجرى بذل الجهد حسب النمط نفسه لافتداء الإنسان الأول، فقد خلق آدم أعمى وأطرش، وغير مدرك تمامًا لوميض النور في داخله، وذلك استجابة لتحريض المادة، وكانت تحيط به ضحية من ضحايا الشياطين، فقد كان غارقًا في ثبات عميق، وظل كذلك حتى اقترب المخلص منه، ويتم وصف المخلص الذي
هو إظهار وتمثيل للرسول الثالث بشكل متنوع، فهو يسمى حينًا باسم الله، أو أهرامزد، أو الإنسان الأول، أو يسوع النور المتألق، أو يسوع المتألق أحيانًا أخرى، وبالطبع إن اسمي أهرامزد ويسوع ينتميان كل على حدة إلى التقاليد الإيرانية والسريانية، ومن المؤكد أنه ابن الله والتجاسيد المعقول للمخلص داخل إطار النظام، فهو إما نئوس، أو واهمان من واهمين، وكان هدفه أن يجدد في آدم نئوسه الخاص به، أو روحه الخاصة به، كما يقال في اللغة الشائعة، فقد أيقظ بدعوته آدم من ثبات الموت، وهزه وفتح عينيه، وأعاد الحياة إليه، وحرره من الشياطين التي تلبثته بتعويذة، وأراه روح النور المحتجزة، والمتألمة في كل مادة، وأظهر له أصله المزدوج، كيف أن جسده قد اشتق من قوى الشر وروحه، أو نفسه أي: ذاته الروحانية من عالم النور السماوي، وعلمه المعرفة الفدائية، والمعرفة الروحية، ومعرفة ما كان وما هو كائن، وما سيكون، والعبارة الأخيرة هي صيغة هندية إيرانية نشهدها في الأدب الهندي القديم، وتتكرر في التعاليم الزرادشتية.
وأما بالنسبة للبقية، فيحمل وصف السابق حتى مع التفاصيل الطابع نفسه، وكما هو مبين في إيقاظ آدم النفس في الأدب المندعي، وتقول رواية سيدور برقونية: ثم التفت آدم نحو نفسه وأدرك ذاته ثم قال: الويل لمن كون جسدي، ولمن قيد روحي وللمتمردين الذين استعبدوني، ويظهر تعبير المتمردين في الأدب المندعي أيضًا بمثابة تعبير عن قوى الشر المعادية لعالم النور؛ حتى إنه تم تبنيه في لغة القرآن وتعابيره.
فهناك سلسلة من المشاهد المتوازنة مثل دعوة الروح الحية التي أيقظت الإنسان الأول، وإيقاظ آدم من قبل ابن الله يسوع، أو أهرامزد، أو النور الساطع، والنصح الذي أسداه المخلص لكل روح إنسانية مقيدة بأغلال المادة، كما أن
إيقاظ الإنسان الأول قد حدث عند المستوى الكوني الأعظم، وحدث إيقاظ الفرد عند المستوى الكوني الأصغر، وكان بين المستويين المستوى الذي تم فيه إيقاظ آدم، والذي اتحدت فيه جميع الأرواح البشرية في جهد موحد.
وتشكل المعركة والهزيمة والثبات العميق والإيقاظ والحوار وعودة الإنسان الأول، والنفس البشرية بعضها مع بعض سلسلة من الإجراءات تتبع بعضهًا بعضًا كمشاهد في مسرحية طقوسية، ولقد كانت مسرحية مثلت لآلاف السنين في بلاد الرافدين، وكانت وصفًا لفقدان الإله تموز، ولبعثه من الموت؛ حيث انطلق مثل محارب توجه نحو بلد معاد، انطلق هكذا نحو الموت، وسقط في قبضته، وبقي في جوف الأرض غارقًا في ثباته العيمق، تحيط به البهائم المتوحشة والشاطين، وذهبت محبوبته عشطار إلى الميدان لتيقظه فأيقظته بدعاء، وبحوار جرى بينهما، ثم انتشلته وحررته من سلطان عالم الموت، وهكذا عاد منتصرًا إلى عالم الحياة.
لقد مارست هذه الطقوس القديمة نفوذها على وصف عملية الفداء ليس في المانوية فحسب، بل في المسيحية السريانية أيضًا، كما أن الأديان التي اتخذت لنفسها مكانًا في بلاد الرافدين لم تستطع كليًّا أن تُفلت من تأثير هذه الحضارة الطبيعية المجيدة، وبقدر ما يعني الأمر ماني نجد أن دراما تموز قد زودته بنقطة البداية بمسيولوجيتها الرمزية لعملية الفداء، وليس أكثر من ذلك فقد أخذ تفسيره لعملية الفداء من تأمل لاهوتي هندي إيراني. زود هذه الرؤية الشرقية القديمة للحوادث التي تصل الأوجى بعملية الفداء، بدلالة فلسفية أكثر عمقًا.
أما فيما يتعلق بالتفاصيل فغالبًا ما نجد أنه من الصعب الحكم في أي من الصور والرموز المسيولوجية قد صدر عن بلاد الرافدين، وأيها في التحرير النهائي قد نشأ في دنيا المعتقدات الهندية الإيرانية، ويكفي أن نسوق بعض الأمثلة لتوضيح هذه النقطة:
ومن ذلك أن الإنسان عندما سلب من حريته أصبح، وكأنه في السجن، وكان محاطًا بالخوف الشديد، كما كان مخمورًا بنوبة التضليل مثلما يفعل المخدر، وكان أيضًا مبهورًا من المعاناة، وكأنه في هاوية الظلام قد قهرته ضربة الفسوق، وكأنها لدغة أفعى، وتظهر جميع هذه الاستعارات الكلامية من جديد في المانوية، وهي متجمعة ومتغلغلة بشكل جلي في العقائد الرافدية خاصة في عقيدة تموز، وباسطاعتها بسهولة أكبر أن تربح الجولة لصالحها، وعليه لم يكن ماني مبدعًا لها؛ فقد وجدت من زمن طويل قبله، ولربما نالت رموزها العرفانية قبل قرون مضت.
وتقع المصطلحات التالية مثل: ظلام، وسجن، وسمالة، وإيقاظ مع مصطلحات أخرى مألوفة تحت عنوان المصطلحات الغنطوسية؛ لأنه بالنسبة للقدم، ولأصل التقوى الأنطوسية ليست هذه التعابير بدون أهمية؛ حيث تظهر هذه المصطلحات في السبيل الأخير للتطبيق الفني الصرف في محيط هندي الإيراني ومن ناحية أخرى، نجد أن الأهم من ذلك هو أن العقيدة الهندية الإيرانية تعرض على العالم المادي وجهة نظر تفرض استخدام لهذه اللغة الغنطوسية، وبالفعل إن الدين الهندي الإيراني يظهر كما هو معترف به على أنه واحد صارد عن عدة ينابيع، وأنه يهدف نحو تحقيق مفهوم عالمي متشائم؛ لاحتقار وازدراء الوجود المادي، ويتشوق إلى الآخرة والزهد الناشئين عن ذلك، وفيه حافز عميق لهجر العالم، وتصبح هذه النزعة الهندية النموذجية الطريق نحو الفداء، وتسمى باسم طريق المعرفة؛ لأنها ترتكز على التوضيح الفدائي، وهي أن الروح الفردية متطابقة مع العظيم أوبرهمة، وهذا الذي يحدوا بنا إلى العقيدة التي تأتي بعد الروح بمثابة مركز للفداء، وما بعدها من عقائد.
وصلّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين. والسلام عليكم ورحمته وبركاته.