المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌نشأة الرهبنة في البوذية، ووصولها وانتقالها إلى المسيحية - الأديان الوضعية - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 فكرة تمهيدية عن أديان الهند الكبرى وتوزيعها جغرافيا

- ‌معنى الأديان الوضعية

- ‌فكرة تمهيدية عن أديان الهند الكبرى وتوزيعها جغرافيًّا

- ‌الدرس: 2 فلسفة الموت والروح، وعقيدة خلق العالم، والخلاص من الشر

- ‌تقسيم أبي الريحان البيروني لاعتقاد الهنود

- ‌فكرة تناسخ الأرواح كما يؤمن بها الهندوس

- ‌الدرس: 3 الديانة الهندوسية (1)

- ‌الأصول التاريخية للديانة الهندوسية ولسكان الهند

- ‌مسألة التقمص أو نظرية التناسخ

- ‌الدرس: 4 الديانة الهندوسية (2)

- ‌التعريف بالهندوسية، وفكرة تأسيسها

- ‌أهم الموضوعات المتعلقة بالهندوسية

- ‌الطبقات في الفكر الهندوسي، وأهم عق ائد الهندوسية

- ‌الدرس: 5 الديانة الهندوسية (3)

- ‌بقية العقائد الهندوسية

- ‌الأخلاق عند الهندوسيين

- ‌نماذج من الفقه الهندوسي

- ‌الكتب المقدسة لدى الهندوس

- ‌الدرس: 6 الديانة الهندوسية (4)

- ‌لويزا" كتاب الهندوس المقدس

- ‌من تقاليد الهندوس

- ‌اعتقاد الهندوس حول تناسخ الأرواح

- ‌العبادات الهندوسية والطقوس الدينية

- ‌الدرس: 7 الديانة البوذية (1)

- ‌الديانة البوذية: بوذا وحياته، ومبادئه، وتأسيسه للديانة

- ‌من أخلاق بوذا وأقواله

- ‌الدرس: 8 الديانة البوذية (2)

- ‌التعريف بالديانة البوذية

- ‌الأسس الفكرية للعقيدة البوذية

- ‌الدرس: 9 الديانة البوذية (3)

- ‌عقيدة البوذية وفلسفتها

- ‌من تعاليم البوذية

- ‌لمحة تاريخية عن البوذية وانتشارها، والكتب المقدسة لديهم

- ‌الدرس: 10 الديانة البوذية (4)

- ‌نشأة الرهبنة في البوذية، ووصولها وانتقالها إلى المسيحية

- ‌الآداب والنظم التي يجب أن يلتزم بها الرهبان في الديانة البوذية

- ‌موقف الإسلام من الرهبنة

- ‌الدرس: 11 الديانة البوذية (5)

- ‌حكم الرهبنة في الإسلام من حيث العزف عن الزواج

- ‌حكم الرهبنة في الإسلام من حيث الفقر

- ‌حكم الرهبنة في الإسلام من حيث إهانة الجسد

- ‌حكم الرهبنة في الإسلام من حيث الاعتزال والعزلة

- ‌حكم الرهبنة في الإسلام من حيث الطاعة المطلقة لرجل الدين، واعتقاد عصمته

- ‌الدرس: 12 الديانة الجينية

- ‌تمهيد للديانة الجينية

- ‌تأسيس ونشأة الديانة الجينية

- ‌أهم عقائد الجينية

- ‌الدرس: 13 ديانة السيخ، والديانة البوذية الصينية

- ‌من هم السيخ؟ وما هي معتقداتهم

- ‌البوذية الصينية

- ‌أديان الهند في الميزان

- ‌الدرس: 14 الديانة المانوية (1)

- ‌من هو " مانو

- ‌النشاط التبشيري لماني

- ‌الدرس: 15 الديانة المانوية (2)

- ‌إرسال الإنسان الأول القديم وهزيمته

- ‌استرداد ذرات النور

- ‌أسطورة إغواء الأراكنة

- ‌المقاييس المضادة للمادة

- ‌الدرس: 16 الديانة المانوية (3)

- ‌الروح بمثابة مركز للفداء

- ‌الإيمان بالآخرة

- ‌علم التنجيم

- ‌التنظيم اللاهوتي، والتعميد المانوي، والوليمة المقدسة، والعشاء الرباني

- ‌الدرس: 17 الديانة المانوية (4)

- ‌شريعة "ماني"، والفرائض التي فرضها، وقول المانوية في الميعاد

- ‌الكتب المقدسة عند المانوية، وعقيدة التناسخ

- ‌حال الإمامة بعد "ماني"، وتنقل المانوية في البلاد، وأشهر رؤسائهم

- ‌الدرس: 18 الديانة الزرادشتية (1)

- ‌أديان الفرس

- ‌الزرادشتية من حيث التأسيس والنشأة والتطور

- ‌الدرس: 19 الديانة الزرادشتية (2)

- ‌أهم المصادر المقدسة للزرادشتية

- ‌فكرة الحساب والشفاعة، والأعياد والأخلاق عند الزرادشتيين

- ‌الدرس: 20 مقارنة بين عقائد المانوية والزرادشتية في: الله، والنفس، والمصير

- ‌عقائد المانوية والزرادشتية في الله - عز جل

- ‌عقائد المانوية والزرادشتية في النفس

- ‌عقائد المانوية والزرادشتية في المصير

الفصل: ‌نشأة الرهبنة في البوذية، ووصولها وانتقالها إلى المسيحية

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس العاشر

(الديانة البوذية (4))

‌نشأة الرهبنة في البوذية، ووصولها وانتقالها إلى المسيحية

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين؛ أما بعد:

فلنتحدث عن نشأة الرهبنة في البوذية، ووصولها وانتقالها إلى المسيحية:

إن المتتبع لتاريخ بوذا والبوذية يلاحظ أن بوذا نادى بتعاليم أخلاقية من أجل نشر دعوته، تتمثل في الدعوة إلى المحبة، والتسامح، والتعامل بالحسنى، والتصدق على الفقراء، وترك الغِنَى، والترف، وحمل النفس على التقشف والخشونة، وفيها تحذير من النساء والمال، وفيها ترغيب في البعد عن الزواج، وقال بوذا: من أجل أن ينتصر الإنسان علة نفسه، وعلى شهواته؛ فلا بد، وأن يتقيد بالأمور الآتية:

الاتجاه الصحيح المستقيم الخالي من سلطان الشهوة واللذة، وذلك عند الإقدام على أيِّ عملٍ، وألا يتأثر التفكير الصحيح بالأهواء لابد من الاعتقاد المستقيم الذي يصحبه ارتياح، واطمئنان إلى ما يقوم به، ولابد أيضًا من مطابقة اللسان لما في القلب ومطابقة السلوك للقلب واللسان وأن الحياة الصحيحة هي التي يكون قوامها هجر اللذات، والرجائل عنده في الأصل ترجع إلى الاستسلام للملاذ، والشهوات، وسوء النية في طلب الأشياء، والغباء، وعدم إدراك الأمور على وجْهِهَا الصحيح.

ومن وصاياه: لا تقضي على حياة حي، ولا تسرق، ولا تغضب، ولا تكذب، ولا تتناول مسكرًا، ولا تزني، ولا تأكل طعامًا نضج في غير أوانِهِ، ولا ترقص، ولا تحضر مرقصًا، ولا حفل غناء، ولا تتخذ طيبًا، ولا تقتني شرابًا وفيرًا، ولا تأخذ ذهبًا ولا فضة.

ص: 237

وقد عبر البوذيون عن بلوغ النفس الكمال الأسمى، ودرجة السعادة عندما تتلخص من التناسخ بـ"النيرفانا" عندما تتخلص من التناسخ بـ"النيرفانا" وهي تعني الخلاص من أسر المعاناة، والرغبة، واكتساب صفاء الدين، والروح تحرر من أسر العبودية، واللذة، وانبثاق نور المعرفة عن طريق تعذيب النفس ومقاومة النزعات مع بذلِ الجهد، والتأمل، والتركيز الفكري والروحي، وهو هدف البوذية الأسمى من خلال هذه الأخلاق التي أرستها البوذية نجد صلةً واضحةً بينها، وبين الرهبنةِ، فلتكُنْ هذه الإطلالة السريعة بعد ذلك -إن شاء الله تعالى- حول الرهبنة البوذية، ونشأتها، وتأثر النصرانية بها.

التعريف بالرهبنة البوذية وبيانها والغرض منها:

الرهبنة في اللغة العربية، تعني: طريقة الرهبان في الزهد، والعزلة، والرهبانية منسوبة إلى الرهبنة بزيادة الألف، وهي من رهبنة النصارى، وأصلها من الرهبة الخوف كانوا يترهبون بالتخلي من أشغال الدنيا، وترك ملاذها، والزهد فيها، والعزلة عن أهلها، وتعمد مشاقها حتى غن منهم من كان يخفي نفسه، ويضع سلسلة في عنقه، وغير ذلك من أنواع التعذيب، فنفاها النبي صلى الله عليه وسلم ونهى المسلمين عنها والرهبانية مصدر الراهب والرهبنة فعلنه أو فعلل على تقدير أصلية النون وزيادتها.

والرهبنة في قاموس المصطلحات البوذية هي البار باشا وهي أيضًا من كلمتين بار، أي: الزهد والاعتزال وباشا، أي: المطلق، أو التام فيكون المعنى الزهد المطلق، أو الاعتزال التام، والمراد به هو الاعتزال عن البيوت والمساكن، والاعتزال عن أسلوب حياة أهلها إلى أسلوب الرهباني هو التنسك، والتبتل.

ص: 238

وقد عرفها بعض علماء البوذية بأنها هي الامتناع عن جميع الرذائل والانعزال التام عن الحياة المدنية، أو بتعبير آخر هي الاعتزال عن العالم كله، ويعنى بذلك: الاعتزال عن النهج الذي يعيش فيه أهل العالم، وهذا هو المعنى المنصوص عليه في كتاب:"تريبيتاكا" في جميع استعمالاته لهذه الكلمة، وحيث يتضمن كل ما يتعلق بالرهبنة من نظامها، وأدبها وطقوسها، وما أشبه ذلك.

فالرهبنة البوذية: هي الاعتزال الكلي عن جميع شئون الحياة المدنية، أي: شئون البوذيين المدنيين الساكني البيوت؛ لأن البوذية تقسم أهلها إلى طائفتين المدنيين، وهو ساكنو المنازل، والبيوت، والرهبان، وهم المتنازلون عن البيوت، والأموال، والشهوات، واللذات لممارسة حياة الرهبانية.

ومن هنا يتضح لنا: أن الغرض الحقيقي من الرهبنة البوذية هو إعدام الألم والتسامي بالروح، أو الوصول إلى "النيرفانا" أي: السعادة في هذه الحياة فقد اعتقد البوذيون فيما زعموا: أن الوصول إلى السعادة لا يتم إلا بانخراطهم في سلك الرهبنة؛ وذلك لأن الحياة المدنية، أو المنزلية على حد تعبيرهم لها عقبات، ولها موانع كثيرة قد تحول دون الوصول إلى السعادة في هذه الحياة.

أما الرهبانية: فتتيح لهم فرصة أكبر للوصول إلى السعادة؛ لأنها تحررت عن جميع القيود، والعقبات، وتحررت عن الشهوات واللذات، وعن نعيم الدنيا وزخارفها، وقد ذهب بوذا إلى أن الرهبانية أسلوبٌ جليلٌ من أساليب الحياة لما فيها من تضحية شاقة لا يصلح لها كل إنسان، ولا يقدر عليها كل إنسان، ولا يصل إلى غايتها كل من سلك سبيلها، كما زعم أنها أسمى وظيفة للبشر، وأن أصحابها هم في أَسْمَى مَرَاتِبِ الناس.

ص: 239

فقد أكد بوذا في كثير من كلامه خطورة الحياة المدنية، فمثلها مرة بالبحر الواسع المخيف، ومرة أخرى بالغابة المليئة بالحيوانات المفترسة والمدقق في كلام بوذا السابق؛ يلاحظ: أنه يقصد تخويف أتباعه من الحياة المدنية؛ ليلتحقوا معه بالرهبانية، وليبلغوا الهدف المزعوم بـ"النيرفانا" أي: السعادة في حياتهم الراهنة من أجل هذا تنادي البوذية بنظام الرهبنة، وتفرض على الرجال البوذيين أن يدخلوا فيها مرة في حياتهم. أما نساؤهم فرهبانيتهن على سبيل الاختيار لا على سبيل الإلزام.

ثانيا: تاريخ نشأة الرهبنة في البوذية:

يرجع تاريخ نشأة الرهبنة في البوذية إلى العصر البوذي الأول، أي: في النصف الأول من القرن السادس قبل الميلاد، وذلك عندما انتشرت في ذلك العصر مظاهر الرهبانية، وذلك بظهور عدد من النساك، والرهبان من البراهمة، والجينيين، واليوجيين وغيرهم، وكان هؤلاء ينقطعون إلى الغابات والكهوف متنسكين، ومبتعدين عن العالم؛ فبعضهم يستغرق في التأمل والتفكير في أسرار الحياة، وفك غوامضها، وبعضهم يتدرب على جميع أنواع التعب والمشقة؛ زاعمين أن ذلك تنقية للروح، وتحريرًا لها من القيود الجسمانية ومعوقاتها.

وكان كثير منهم ينتقلون من قريةٍ إلى قرية؛ لاستجداء الطعام يتجولون في القرى، والأرياف لنشر مبادئهم، وأفكارهم، وكانت الطبيعة والأجواء قد أملت عليهم ظاهرة التحمل، والصبر على المتاعب والمشاق، وكان من بين هؤلاء النساك الأمير "سيدهارتا" مؤسس البوذية.

فقد اتخذ الرهبانية شريعة له في الحياة منذ خروجه من القصر حتى آخر حياته، وتروي القصة البوذية: أن بوذا قد اتخذ حياة الزهد التقشف والنسك منذ

ص: 240

مغادرته القصر، ولم يخرج منها حتى نالته الوفاة، وقد طبق تلاميذه وأتباعه هذا النظام تمام بتمام حتى انتهى الأمر بإنشاء المعابد، والأديرة الفاخرة للرهبان، وانتشرت هنا وهناك في ربوع الهند وغيرها.

ومن هنا يمكن القول: بأن الزهد والعزلة هما من الدعائم الأولى للحياة الديرية في البوذية؛ لأنهما مهدَا في أول الأمر لنوع من حياة الرهبانية الانفرادية، ويتمثل ذلك في رهبانية بوذا وحوارييه، ثم تحولت بعد ذلك إلى حياة ديرية اجتماعية بعد انتشار المعابد والأديرة، ولما كثرت أتباع البوذية في الهند، وغيرها وضعت لهم القوانين، والنظم والتقاليد في الرهبنة تدريجا على أيدي الرهبان البوذيين أنفسهم.

ولم يضع بوذا في حياته صورة، أو شكلًا معينًا للبوذية، كما هو معروف الآن بل تم ذلك بعد وفاته على أيدي الرهبان الأوائل، ثم الذين بعدهم، وهلم جرا، حيث أدخلوا عليها تعديلات، وإضافات كثيرة حسب أهوائهم ومصالحهم، كما هو شأن سائر القوانين، والنظم الوضعية، وعبر مرور الزمن، وكثرت التعديلات، ودونت النظم الرهبانية في البوذية، وأصبح قانون الرهبانية يحكم به الرهبان البوذيون فيما بينهم.

ثالثًا: هل هناك صلة بين النصرانية والبوذية في النظام الرهباني؟

وللإجابة عن هذا التساؤل نقول: لم تكن الرهبنة أصلًا من الأصول التي جاء بها المسيح عيسى عليه السلام إنما هي بدعة استحدثها النصارى متأثرين بنزعات فلسفية، ومذاهب أخلاقية المنادية بالنسك والعابدة، والتي ظهرت قبل المسيحية، ومنه البوذية، ولا يخفى علة كل باحث في الأديان أن هناك صلة وثيقة بين البوذية، والنصرانية في النظام الرهباني؛ وذلك لوجود ملامح متشابهة بين الرهبانيتين؛ مما يؤكد أن النصرانية قد اقتبست

ص: 241

رهبانيتها من البوذية التي سبقتها بما يقرب من خمسة قرون. ومن الأدلة على ذلك:

أ- أن الرهبة النصرانية نشأت أول ما نشأت في مصر في خلال القرن الثالث الميلادي، ثم نقلها الرهبان الأقباط إلى فرنسا وإيطاليا، وغيرها من الدول، كما أن أولى الأديرة التي عرفتها المسيحية، كانت في مصر وخاصة في الإسكندرية التي كانت تمثل المركز الحضاري والتجاري للرومان آنذاك؛ ونظرًا لتبادل المصالح التجارية كثر توافد تجار لهند وسفرائها على على الإسكندرية، وتردد عليها كثير من البوذيين والجينيين، وهم في طريقهم إلى الروم.

وبتعبير آخر أن الإسكندرية كانت علة علم تام ومعرفة كاملة بأديان الهند وفرقها ونحلها وإن النصارى في الإسكندرية قد اتخذوا معظم خصائصها وملامحها البارزة واتخذوها رمزًا للتقدس والمهابة، وبالغوا في الرياضات البدنية والرهبانية والعزلة؛ فالنصرانية في الإمبراطورية الرومانية قد تأثرت وحدانيتها إلى حَدٍّ بعيدٍ بالديانة البوذية التي خرجت من موطنها الأصلي الهند في ذلك الوقت، وانتشر معتنقوها في العالم الروماني عن طريق القوافل التجارية وغيرها.

ب- إن الدارس لهذا النظام يلاحظ أن النصرانية اتفقت مع البوذية في كثير من المبادئ والتعاليم والرهبانية لأن ظهور الكنائس النصرانية، وسلطانها ونظامها في البداية شبيهة بالبوذية إلى حدٍّ كبيرٍ؛ ولعل انتشارَ الأديرة البوذية في أنحاء العالم بعد بوذا بقرون، وفي الشرق الأوسط بالذات أيام الإغريق قد أعطى المسيحية فكرة إنشاء الكنائس على منوالها.

ج- ومن الأوجه المتشابهة أيضًا بين الديانتين في الرهبنة وجود المفاسد والانحرافات في كل من الأديرة البوذية والنصرانية وهو أمر معروف لدى الباحثين

ص: 242

في تاريخ الأديان؛ لأن الكبت العنيف الذي تفرضه الرهبانية لا يمكن تنفيذه، ويؤدي في النهاية إلى نتيجة عكسية وانحرافات ومفاسد.

د- ومن الأوجه المشابهة أيضًا عبادة الرهبان، والقديسين، فالبوذيون يعبدون بوذا، ويعبدون جميع الرهبان القديسين، ويعتبرونهم واحدًا من الثالوث المقدس كذلك النصارى، فقد غلو في نبيهم عيسى عليه السلام فجعلوه شريك الله سبحانه وتعالى وجزءً منه وإلها آخر معه غلو في قديسيهم، وصالحيهم فعبدوهم من دون الله، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا في قوله تعالى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَم} (التوبة:31).

وبالموازنة بين الأقوال المنسوبة إلى بوذا والأقوال المنسوبة إلى المسيح في الإنجيل أو الأناجيل المحرفة نجد بينهما تشابها كبيرًا، وهذه بعض النصوص من الكتاب البوذي تري "بيتاكا" وبعض الأناجيل المسيحية.

أ- في تري "بيتاكا" أوصى بوذا أتباعه بأن يطرحوا الدنيا جانبًا، ويتنازلوا عن بيوتهم، وأموالهم، وأهاليهم، ويؤثروا الفقر، والعيش على التسول، وفي الإنجيل ماتا الإصحاح التاسع الفقرة السادسة إلى الثانية والعشرين اشترط المسيح على من يريد دخول الدعوة أن يتنازل عن أملاكه، ويؤثر الفقر ليدخل في ملكوت الله، وقال للشاب الغني لما سأله عن العمل الصالح الذي به الحياة الأبدية: إن أردت أن تكون كاملًا؛ فاذهب، وبِعْ أملاكك، وأعطي الفقراء؛ فيكون لك كنز في السماء، وتعالى اتبعني.

ب- وفي إنجيل مرقص الإصحاح العاشر الفقرة الثامنة والعشرون إلى الثلاثين قول بطرس أحد حوارييه: "ها نحن قد تركنا كل شيء، واتبعناك قال يسوع: "الحق أقول لكم ما من أحد ترك لأجلي، ولأجل الإنجيل بيتًا، أو إخوة، أو

ص: 243

أخوات، أو أمًّا أو أبًا، أو أولادًا أو حقولًا، إلا وينال مائة، وضعف الآن في هذا الزمان، وفي الزمان الآتي الحياة الأبدية قس على هذا الكثير والكثير من أوجه التشابه بين نصوص الكتاب البوذي المسمى تري "بيتاكا" والأناجيل المسيحية.

ج- يقول صاحب كتاب معالم تاريخ الإنسانية كانت الأديرة موجودة في العالم قبل ظهور المسيحية؛ حيث أنشأت البوذية لنفسها مجتمعات ورجال اعتزلوا الجهود العامة والتجارة في العالم؛ ليعيشوا عيشةَ التقشُّفِ والتأمل، وهكذا قامت عملية التأثير، والتأثر بين السابق واللاحق.

أ- خصائص الرهبان في البوذية: للرهبان البوذيين خصائص كثيرة يختصون بها دون غيرهم من المدنيين، وتعتبر هذه الخصائص من أهم الشروط في الرهبانية، وفيما يلي بيان لأهم هذه الخصائص:

1 -

لبس أو ارتداء الزي الأصفر، وهو عبارة عن قطعتين من القماش المصبوغ باللون الأصفر يتخذون أحداهما إزارًا، والأخرى رداءً على شكل لباس الإحرام، ويضعون فوقها بعض الرقع دلالة على الزهد، والفقر والمهانة، ولا يلبسون غير هذا اللباس طوال مدة رهبانيتهم، والبوذيون يقدسون هذا اللباس إلى حدٍّ بعيد، ويعتبرونه شعارًا مقدسًا في ديانتهم وفي القديم كان هذا اللباس عبارة عن الخرق الملتقطة من المزابل، أو أكفان الموتى.

2 -

حلق الرأس والحفاء بمعنى أنهم يحلقون كل شعورهم في الرأس والوجه، وأنهم لا يمشون منتعلين، بل يمشون حفاة ابتداء ببوذا الذي كان يتجول في المدن والقرى بدون نعل إلا أن بوذا أجازه فيما بعد للمرضى فقط.

ص: 244

3 -

التسول وترك العمل: وهو أيضًا من ضمن الخصائص التي يمتاز بها الرهبان في البوذية عن غيرهم، ويعتبرونه الطريق الوحيد في حصولهم على الطعام اليومي، والتسول عادة قديمة للرهبان في الهند قد اتخذه بوذا طريقًا لمعيشته طيلة حياتِهِ الرهبانية، وحتى في زيارتِهِ لوالدِهِ، فقد تسول، وجمع طعامه اليومي استجداء من الناس، وهذه العادة عادة فاسدة تشجع الناس على الكسل، والبطالة، وترك العمل، والتمسك بالفقر.

4 -

الصوم الدائم: ومعناه الاقتصار في اليوم والليلة على أكلةٍ واحدةٍ في وقت الضحى، وهذا نظام عام لجميع الرهبان في المعابد، والأديرة سواء كانوا من الشيوخ، أو المبتدئين، وللرهبان السائحين في الغابات، والأرياف أسلوب مناسب لهم، وهو الجوع والامتناع عن الطعام حتى إذا ما شعر احدهم بمفارقة الحياة أكل ورق الشجر، وهذا مخالف لتناول الطيبات من الرزق، والتي أحلها الله لكل إنسان.

5 -

الصمت الدائم وهو عدم الكلام إلا عند الضرورة وهو من صفات المدح عندهم ووسيلة لجلب العطايا والمال والمنصب والجاه والثناء انه رمز للسكينة ونور من أنوار "النيرفانا" أي: السعادة.

6 -

التبتل: وهو من خصائص الرهبان البوذيين، ومعناه: الانقطاع عن الزواج وهو من أهم شروط الرهبنة بعد شروط التجرد الكامل عن الدنيا، وشرط المجاهدة المتواصلة، وشرط الرياضة للنفس، والبدن؛ وذلك لأن الزواج في زعمهم ملذة من ملذات الدنيا الدنيئة التي يجب عليهم الابتعاد عنها.

7 -

السكن في الأديرة والخضوع للشيخ، أو الراهب الكبير، فعلى كل راهب ألا يسكن المنازل، ولا يبيت فيها، ولكن يجب عليه أن يلازم السكنى في الأديرة.

ص: 245