الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجيناوات الواحد بعد الآخر حتى ظهر الجيناواني الآخران في العصور التاريخية، أما أولهما وهو جين الثالث والعشرون فاسمه بارسوناث، وقد ولد في القرن التاسع قبل الميلاد ومات في القرن الثامن، وقد أسس نظامًا رهبانيًّا شدد فيه بضرورة الرياضيات الشاقة المتعبة، وجعل أتباعه قسمين: خاصة، وعامة، فالخاصة هم الرهبان المتبتلون الذين التزموا الرياضة الشاقة والحرمان، وتركوا الأهل والمسكن، وأخذوا يجوبون الأقطار ويطوفون في القرى والأمصار، وهذا القسم هو عمود النظام، والعامة هم الذين يؤيدون النظام بأموالهم ويمدون الرهبان بحاجاتهم مع بعد عن الفواحش وانشغال بالمكاسب من غير عنف ولا إضرار بأحد، مقتدين بالرهبان ما وسعهم ذلك.
وجاء مهاوير وهو جينى الرابع والعشرون فاعتنق مبادئ بارسواناث، وزاد عليها من فكرة وتجاربه وإلهامه، وعلا شأنه واشتهرت الطريقة باسمه، وعرف النظام بلقبه، فلا تعرف الجينية إلا منسوبة إليه. هذه هي الجينية من حيث التأسيس والنشأة.
أهم عقائد الجينية
ما هي أهم عقائد الجينية؟:
يقول أحد الفلاسفة الهنود الذي هو يدعى مولانا محمد عبد السلام الرمبوري عن الجينية: هي حركة عقلية متحرر، متحررة من سلطان الويدات، مطبوعة بطابع الذهن الهندوسي العام، أسس بنيانها على الخوف من تكرار المولد، والخوف من الحياة اتقاء شائماتها، منشؤها الزهد في خير الحياة، فزعًا من أضرارها، عمادها الرياضة الشاقة، والمراقبات المتعبة، ومعولها الجمود للملذات والمؤلمات، وسبيلها والتقشف والتشدد في العيش، وطريقها الرهبانية، ولكن غير رهبانية البرهمية، وقد داوى الجينيون الميول والعواطف بإفنائها وواصلوا في ذلك إلى إخماد شعلة الحياة بأيديهم، وافتقدوا النجاة في وجود من غير فعلية، وسرور من غير انبعاث، ذلك موجز القول في عقائد الجينية، وسنعطي فيما يلي من دراسات بعض التفاصيل لعقائد الجينية.
الجينية والإله: سبق أن ذكرنا أن الجينية كانت نوع من المقاومة للهندوسية، وثورة على سلطان البراهمة، ومن هنا لم يعترف مهاوير بالآلهة، فالاعتراف بالآلهة قد يخلق من جديد طبقة براهمة أو كهنة يكونون سلطة بين الناس والآلهة.
وكرر أنه لا يوجد روح أكبر أو إله أعظم لهذا الكون، ومن هنا سمي هذا الدين دين إلحاد، واتجهت الدينية أن الاعتقاد بأن كل موجود إنسانًا كان أو حيوانًا أو نباتًا أو جمادًا يترك من جسم وروح، وبأن كل روح من هذه الأرواح خالدة مستقلة يجري عليها التناسخ التي اتفق فيه الجينية مع الهندوسية.
هذا هو أساس الفكر الجينية تجاه الإله، غير أن الجينية دين مسالم مبالغ كل المبالغة في البعد عن العنف، حتى إنه يكره قتل الهوام، والحشرات الصغيرة.
وعدم العنف عهد من العهود الأربعة التي وضعها بارسوناث، وهو جينى الثالث والعشرون، وبسبب هذه المسألة اعترف الجينيون بآلهة الهندوس فيما عدى الثالوث برهما، ووشنوا، وسيفا، وكانوا في بادئ الأمر -كما يظهر من كتبهم- يعترفون بالآلهة الهندوس للهندوس، ويحترمونها للمجاملة والمسالمة، ولكنهم عادوا فأجلوها لذاتها، وإن لم يصلوا في إجلالها إلى درجة الهندوس بطبيعة الحال، غير أن العقل البشري يميل إلى الاعتراف بإله، ويحتاج الإلحاد إلى أدلة أكثر من الأدلة التي يحتاجها إثبات الآلهة، ومن هنا وجد فراغ كبير في الجينية، بسبب عدم اعتراف مهاوير بإله يكمل به صورة الدين الذي دعا إليه، وكان من نتيجة ذلك أن اعتبره أتباعه إلهًا، بل عدوا الجيناوات الأربعة والعشرين آلهة لهم، ولعلهم بذلك كانوا متأثرين بالفكر الهندي الذي يميل في الأكثر إلى تعدد الآلهة.
والجينية تتفق مع الإسلام في جزء يسير تتعلق بروح الإنسان؛ ذلك هو خلود الروح خلودًا أبديًّا، وخضوعها للثواب أو العقاب لما يرتكبه صاحبها، وإن اختلف الإسلام مع الجينية في طريقة الثواب والعقاب.
وعدم الاعتراف بالإله استتبع عند الجينيين اتجاهات مهمة سلبية تتعلق بالعقائد، فهم لا يقولون بالصلاة ولا بتقديم القرابين، ولا يعترفون بالطبقات، ولا بما تدعيه الطبقة العليا في النظام الهندوسي وهي طبقة البراهمة من امتيازات ومزايا، ولكن خلق المسالمة الذي دفع الجينيين إلى الاعتراف بآلهة الهندوس -كما ذكرنا آنفًا- دعاهم هنا إلى الاعتراف بالبراهمة وأن من الواجب احترامهم المطلق، وليس معنى هذا وجود طبقة براهمة في الجينية؛ بل المقصود احترام براهمة الهندوس، كطائفة لهم مكانتها في الدين الهندوسي.
أما الطبقات في الجينية فلم تتعدََّ ما وضعه برسواناث من تقسيم الجينيين إلى خاصة وهم الرهبان، وعامة وهم من يؤيدون النظام من غير الرهبان، ولم تجعل الجينية للرهبان امتيازات كما فعلت الهندوسية، بل إن الجينية جعلت الرهبنة مشقة وتضحية وتكليفً ا.
من عقائد الجينية الكرما والتناسخ:
وقد سبق أن شرحنا الكرما والتناسخ عند الهندوس، وقد قلنا: إن أديان الهند تسير غالبًا في فلك الهندوسية، ومن هنا قالت الجينية بالكرما والتناسخ؛ ولكن الجينية لم تعتقد ما اعتقده الهندوس من أن الكرما أمر اعتباري يحقق قانون الجزاء الذي يُحمِّل الإنسان تبعة أعماله، ويجزيه عليه عن طريق تناسخ الأرواح، بل قالت الجينية: بأن الكرما كائن مادي يخالط الروح كأنه يمسك بتلابيبها أو يحيط بها كما تحيط الشرنقة بالفراشة، ولا سبيل لتحرير الروح
من رقة هذا الكائن إلا شدة التقشف والحرمان من الملذات في كل مرحلة من مراحل الحياة، فهذه وحدها هي وسيلة تحرير الروح، وحياتها حياة أبدية حرة، وفي ذلك تقول النصوص الجينية المقدسة: كما تتحد الحرارة بالحديد، وكما يمتزج الماء باللبن، كذلك يتحد الكرما بالروح؛ وبذلك تصير الروح أسيرة في يد الكرما.
وللوصول إلى تخليص الروح من الكرما يظل الإنسان يولد ويموت حتى تطهر نفسه وتنتهي رغباته، وإذ ذاك تقف دائرة عمله، ومعها حياته المادية فيبقى روحًا خالدًا في نعيم خالد، وخلود الروح في النعيم بعد تخلصها من المادة يسمى عند الجينيين النجاة، وهو ما يُعادل الانطلاق في الهندوسية، والنرفانا في البوذية.
الحسنة والسيئة في الديانة الجينية:
الحسنة عند الجينيين هي فعل الخيرات، كإطعام المساكين ومساعدة المحتاجين، وبخاصة فيما تصل بالرهبان الجينيين، وقسم الجينيون الحسنات تسعة أقسام، وذكروا أن الحسنات تجزى باثنين وأربعين طريقًا، منها ما هو في حياة الإنسان الحالية: كالبركة والغنى والصحة، ومنها ما هو في حياة القادمة.
وأما السيئة: فهي ارتكاب الأعمال الخبيثة والفواحش، وقسموها ثمانية عشر نوعًا: منها الكذب والسرقة، والفسق، والفجور، والخيانة، والجشع، وما إلى ذلك، وأشد أنواع الجنايات وأفظعها لدى الجينيين هو الاعتداء على الحياة والعنف والتشدد.
ووضعوا كفارات خاصة لكل نوع من السيئات، منها الفقر والتناسخ في أشخاص تعساء، أو في قوالب الحيوانات والجمادات.
وتختلف الحسنات والسيئات باختلاف طبقتي الجينية اللتين سبق أن تحدثنا عنهما، وهما طبقتا الخاصة والعامة على ما يشبه في الفكر الإسلامي الأثر القائل: حسنات الأبرار سيئات المقربين.
فما يجوز للعامة لا يجوز صدوره من الخاصة، ويطلب من العامة الخلق الحسن، وعمل الحسنات، ويكافئون عليها بما يضمن حياة أو حيوات طيبة، أما النجاة فالسبيل إليها شاق عسير، وهي من خصائص الخاصة.
النجاة وسبل الوصول إليها: النجاة هي غاية الكون، وهي التطهر من أوساخ العواطف والشهوات الحيوانية، والتخلص من قيود الحياة، ومن تكرار المولد والموت، وهي التمسك بالخير، والتخلي عن ارتكاب الشر، والنجاة طور من الوجود، يختلف عن أطوار الحياة الدنيا الفانية، وهي الفوز بالسرور الخالد الذي لا يشوبه ألم ولا حزن ولا هم، ولا تكون للأرواح الناجية مطامع خاصة ولا أهداف تستميلها، والشخص الناجي ليس بذي جسم مادي، وليس بطويل ولا قصير، ولا لون له، يحيط بكل شيء، مطلق من جميع القيود، يكون دائمًا في سرور وطمأنينة واستقرار ونعيم مقيم، مكانه فوق الخلاء الكوني، وليس للنجاة نهاية، فهي أبدية سرمدية ولا تحصل النجاة إلا بعد عبور المرحلة البشرية بما فيها من عوائق ومتاعب، ولا نجاة بالمعنى الحقيقي إلا للبشر كما قال مهاوير في وصفه للحياة والنجاة، ولا توصف النجاة بوصف نعلمه، ولا بحال نعقله.
والسبيل إلى النجاة شاق عسير كما قلنا من قبل، ولا يطمع فيها إلا الخاصة من الرهبان، وللوصول للنجاة يتحتم على الناسك ألا يوقع أذى بإنسان أو حيوان، وعليه أن يدرك أن احترام الحياة أقدس ما عني به مهاوير، وعلى هذا يحرم عليه قتل
الحيوان، وبالتالي أكل اللحوم، ولعل لهذا صلة بصوم المسيحيين عما فيه روح، فأغلب الظن أن صوم المسيحيين على هذا الوجه انحدر لهم من الفكر الجيني، ويبالغ الرهبان في الحيطة والحفاظ على ما فيه روح فيمسك بعضهم بمكنسة ينظف بها طريقه أو مجلسه؛ خشية أن يطأ حشرة فيها روح فيؤذيها أو يقلتها، ويضع بعضهم غشاء على وجهه يتنفس خلاله حتى لا يستنشق أي كائن حي وهو يلتقط أنفاسه.
ولا بد للنجاة كذلك من قهر جميع المشاعر والعواطف والحاجات، ومؤدى هذا أن لا يحس الراهب بحب أو كره، ولا بسرور أو حزن، ولا بحر أو برد، ولا بخوف أو حياء، ولا بجوع أو عطش، ولا بخير أو شر، والجيني بذلك يصل إلى حالة من الجمود والخمود والذهول، فلا يشعر بما حوله، ودليل ذلك أن يتعرى فلا يحس بحياء، وينتف شعره فلا يتألم، لأنه لو أحس بما في الحياة من خير وشر أو نظم متفق عليها، فمعنى هذا أنه لا يزال متعلقًا بها، خاضعًا لمقاييسها، وهذا يبعده عن النجاة.
ولما كان أبرز ما في هذا التنظيم هو العري والجوع حتى الموت؛ سميت الجينية دين العري، ودين الانتحار.
العري والانتحار في الجينية: وعلى فكرة العري يقول أحد علماء الجينية في محاضرة له عنها: يعيش الرهبان الجينيون عراة؛ لأن الجينية تقول: ما دام المرء يرى في العري ما نراه نحن فإنه لا ينال النجاة؛ فليس لأحد أن ينال نجاة ما دام يتذكر العار، فعلى المرء أن ينسى ذلك بتاتًا ليتمكن من اجتياز بحر الحياة الزاخر، فطالما تذكر الإنسان أنه يوجد خير أو شر، حسن أو قبح، فمعناه أنه لا يزال متعلقًا بالدنيا وبما فيها، فلا يفوز بمشكا -أي: النجاة-.
ويبين هذا خير بيان الحكاية المعروفة عن طرد آدم وحواء من الجنة، فقد كانا يعيشان فيها عاريين بطهر كامل لا يعرفان همًّا ولا غمًّا، خيرًا ولا شرًّا، حتى أراد عدوهما الشيطان أن يحرمهما مما كانا فيه من البهجة والسرور والسعادة، فحملهما على أن يأكلا من شجرة العلم بالخير والشر، فأُخرجا من الجنة، فالذي حرمهما من الجنة هو علمهما بالخير والشر وبأنهما عاريان، هذا هو رأي الجينيين ونحن نرى أن خروجهما كان لعصيان آدم لأمر ربه {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} (طه: 121)، كما كان قدرًا مسبقًا بأن ينزل آدم إلى الأرض ليكون خليفة فيها، وما حياته في الجنة إلا فترة تشريف أو تكليف.
ويرى الجينيون أن الشعور بالحياء يتضمن تصور الإثم، وعلى العكس من ذلك فعدم الشعور بالحياء معناه عدم تصور الإثم، وذلك زيادة في النقاء، فعلى كل ناسك يريد أن يحيى حياة بريئة من الإثم أن يعيش عاريًا، ويتخذ من الهواء والسماء لباسًا له.
أما الانتحار فقد كان نتيجة للتخلي عن كل عمل، وترك كل ما يغذي الجسم؛ لعدم الإحساس بالجوع، ولقطع الروابط بالحياة، وللتدليل على أن الراهب أو الراهبة لم يبق له اهتمام بهذا الجسد الفاني، فهو يجيعه، وينتف شعره، ويعرضه لظواهر الطبيعة القاسية حتى الموت.
وقد انتشر الانتحار بالجوع بين رهبان الجينيين قديمًا، ويعتبر الانتحار غاية أو جائزة لا تُتاح إلا لخاصة الرهبان الذين اتبعوا النظام الجيني.
وإتاحة الفرصة للانتحار معناها قطع الأعمال التي هي مظنة إلحاق الضرر بأي كائن ذي روح، ولا يكون ذلك إلا بعد قضاء اثني عشر عامًا، أو ثلاثة عشر عامًا داخل الناموس الصارم المرسوم للرهبان الجينيين، أليس تناقضًا عجيبًا أن
يحرص الجينيون بالغ الحرص على الحياة لكل حشرة وكل دابة، ثم يجعلون انتحار الرهبان جوعًا قربة من القربات مهما قيل من الأسباب، فإني أراه إيذاءً للإنسان وقضاء على حياته، مع أن الجينية لا تُلحق الأذى بأحد ولا تقر القضاء على الحياة، ويظل تساؤلنا هذا قائمًا، مع تذكرنا أنهم يعملون ذلك رغبة في الخلود أو النجاة أو نتيجة للخمود والجمود.
ولنعد للعامة من الجينيين هؤلاء لا يلزمهم أن يقوموا بكل هذه المناسك والسبل، ولكن عليهم أن يقوموا ببعضها في حدود طاقتهم، فعليهم ألا يوقعوا الأذى بإنسان أو حيوان، وعليهم ألا يقتلوا النفس وألا يأكلوا اللحم، وأن يقهروا رغباتهم؛ ولكن ليست لا إلى درجة الجمود والخمود والذبول التي يتبعها الرهبان.
فلسفة الجينية من كتبهم المقدسة: المصادر المقدمة لدى الجينيين هي خطب مهاوير ووصاياه، ثم الخطب والوصايا المنسوبة للمريدين والعرفاء والرهبان والنساك الجينيين، وقد انتقل هذا التراث المقدس من جيل إلى جيل، عن طريق المشافهة ثم خيف ضياع هذا التراث أو ضياع بعضه أو اختلاطه بغيره، فاتجهت النية إلى جمعه وكتابته، واجتمع لذلك زعماء الجينية في القرن الرابع قبل الميلاد في مدينة بطلي بترا، وتدارسوا هذا الأمر وجمع بعض هذا التراث في عدة أسفار؛ ولكنهم اختلفوا بعضهم على بعض في بعض المصادر، كما لم ينجحوا في جمع الناس حول ما اتفقوا عليه؛ ولذلك تأجلت كتابة القانون الجيني حتى سنة سبع وخمسين ميلاديا، فدونوا آنذاك ما استطاعوا الحصول عليه بعد أن فُقد كثير من هذا التراث بوافاة الحفاظ والعارفين.
وفي القرن الخامس الميلادي عقدوا مجلسًا آخر بمدينة ولابهي حيث تقرر الرأي الأخير حول التراث الجيني المقدس. أما لغة هذا التراث فكانت اللغة المسماة أردها مجدا، فلما انتجهت النية إلى حفظه وتدوينه اختيرت اللغة السنسكريتية وكانت لغة أردها مجدا هي لغة هذا التراث قبل الميلاد، أما اللغة السنسكريتية فقد حلَّت محالها في القرون الميلادية الأولى. وسنختار من هذا التراث المقدس بعض نماذج تشرح لنا أهم اتهجاهات الفلسفة الجينية.
اليواقيت الثلاثة: يقول الجينيون: إن الحياة الدنيا تعاسة مستمرة وشقاء متصل، نعيمها زائل، والعيش فيها باطل، نطمح فيها إلى الخير فننال شرًّا، ونبتغي السعادة فتصيبنا الشقاوة حتى نموت. ولم تنتهِ حسراتنا ثم نحيا حياة قد كسبتها أيدينا، خيرها تهلكة فكيف بشرها؟!
وتدوم عجلة الموت والحياة، فيا لنا من خاسرين، ولا دواء إلا بأن ننزع، ونزهد في الحياة وترفها، ولكن هناك شيئًا يجعلنا نتمسك بالحياة، ويزين لنا باطلها، ما هو؟ إنه الغواية التي تخلق العقائد الفاسدة والأخلاق السيئة، والجهل المشين، وهذه تكسو الروح بالظلام، ويتراكم الظلام فتعمى الروح وتسير على غير هدى، تحب الحياة وشهواتها، وتسير في طريق الضلال، وتظل الروح على هذا الوضع بين الموت والولادة حتى ينبثق النور، إما من أعماق الروح بطريق الصدفة أو الإلهام، وإما بقيادة العرفاء والمبشرين وهدايتهم، وليس هذا النور إلا السبيل المثلث، أو اليواقيت الثلاثة التي من اتبعها وصل إلى بر السلامة.
وهذه اليواقيت هي:
1 -
الياقوتة الأولى: الاعتقاد الصحيح، وهو رأس النجاة، ويقصدون به الاعتقاد بالقادة الجينيين الأربعة والعشرين، فإن ذلك هو المنهج المعبد، والصراط السوي، ولا يكون الاعتقاد الصحيح إلا إذا تخلصت النفس من أدران الذنوب اللاصقة بها، والتي تحول دون وصول الروح إلى هذا الاعتقاد.
2 -
الياقوتة الثانية: العلم الصحيح، ويُقصد به معرفة الكون، من ناحيته المادية والروحية، والتفريق بين هذه وتلك، وتختلف درجة المعرفة باختلاف درجة البصيرة وصفاء الروح، ويستطيع الشخص الذي يفصل أثر المادة عن قوته الروحية وإشراقها، أن يرى الكون في صورته الحقيقية، وتتكشف لديه الحقائق، وترتفع عنه الحُجب الكثيفة فيميز الحق من الباطل، والظن من اليقين، ولا تشتبه عليه الأمور، ولا يكون العلم الصحيح إلا بعد الاعتقاد الصحيح.
3 -
الياقوتة الثالثة: الخلق الصحيح، ويُقصد به التخلق بالأخلاق الجينية من التحلي بالحسنات، والتخلي عن السيئات، وعدم القتل، وعدم الكذب، وعدم السرقة، والتمسك بالعفة، والزهد في الملكية. واليواقيت الثلاثة مرتبطة بعضها ببعض، وإذا اكتملت في إنسان فإنه يجد لذة لا تعدلها لذة، وسعادة ليس مثلها سعادة.
المبادئ الأساسية لطهارة الروح:
وضع الجينيون سبعة أصول رئيسة لتطهير الروح، وتعتبر هذه الأصول أمهات المبادئ الجينية، وهي:
1 -
أخذ العهود والمواثيق مع القادة والرهبان، بأن يتمسك المريد بالخلق الحميد، ويقلع على الخلق السيئ.
2 -
الثاني: التقوى، وهي المحافظة على الورع، والاحتياط في الأقوال والأعمال، وفي جميع الحركات والسكنات، وتجنب الأذى والضرر لأي كائن حي، مهما كان حقيرًا.
3 -
الثالث: التقليل من الحركات البدنية ومن الكلام، ومن التفكير في الأمور الدنيوية الجسمانية، حتى لا تضيع الأوقات والأنفاس الثمينة في صغار الأمور.
4 -
الرابع: التحلي بعشر خصال، هي أمهات الفضائل، ووسائل الكمال، وهي: العفو، والصدق، والاستقامة، والتواضع، والنظافة، وضبط النفس، والتقشف الظاهري والباطني، والزهد، واعتزال النساء، والإيثار.
5 -
التفكير في الحقائق الأساسية عن الكون وعن النفس، وبعض أمور الكون، وأمور النفس، يتوصل لها بالحواس الخمسة المادية، وبعضها لا يتوصل إليها، إلا بمنظار الذهن، ومن هنا لزم استعمال الحواس المادية واستعمال الفكر كذلك.
6 -
السيطرة على متاعب الحياة وهمومها التي تنشأ من الأعراض الجسمانية أو المادية كمشاعر الجوع والعطش والبرودة والحرارة، وسائر أنواع الشهوات المادية، وعليه أن يضرب حصنًا متينًا حوله للتخلص من هذه الأعراض والحواس والتأثر بها.
7 -
القناعة الكاملة، والطمأنينة والخلق الحسن، والطهارة الظاهرية والباطنية.
وتدعي الجينية أن هذه المبادئ تطلق الإنسان من الوثاق الذي يشده بالحياة، ويسلب عنه الراحلة الذهنية والطمأنينة القلبية، وإذا اتصف أحد بهذه الصفات السبع فإنها تُخرجه من الظلمات التي تحيط به بسبب هموم الدنيا، ومشاكلها العديدة حتى تصير روحه حرة طليقة تنساب في سماء المعرفة والنور العلوي،
وتحيط بالعلوم الربانية والكشف الباطني فتكون في سرور دائم ولذة معنوية مطلقة، وهذه الطريقة الجينية للنجاة.
درجات العلم في الفلسفة الجينية: تقسم الفلسفة الجينية العلم خمسة أقسام حسب مصادره، وتكثر الفلسفة الجينية من التفريعات لكل قسم، ولنكتفي هنا بإيراد الأقسام الخمسة الرئيسة:
1 -
الإدراك بطريق الحواس، أو بطريق الذهن، ويشتمل هذا الإدراك على طريق القياس والاستقراء المبنيين على المشاهدة كما يشتمل على الفهم والحفظ والإحساس، ويستلزم هذا العلم حضور الأشياء المعلومة للحواس أولًا حتى يتم إدراكها.
2 -
الثاني: العلم عن طريق الوثائق المقدسة، ويعرف هذا القسم بالعلم غير المباشر لتوسط المستندات والوثائق، بين من يعلم، وما يُعْلم، وتدعي الجينية أن كتبهم المقدسة لم تغادر صغيرة ولا كبيرة.
3 -
الثالث: العلم بالوجدان المحدود، وهو إدراك ذي الصورة من الأشياء الموجودة بطريق الروح، فالمدرك هنا موجود بل يمكن أن يرى، ولكن لبعده مثلًا لا تراه العين، وتراه الروح في هذه المرحلة من مراحل العلم، وللوصول إلى هذه المرحلة لا بد من تطهير الروح من الأدران والأوساخ، والسمو بها عن الوساوس والأوهام.
4 -
الرابع: العلم بالوجدان المحيط، وهو إدراك بطريق الروح لما ليست له صورة الآن، فهو إدراك يتخطى مسافات الأزمنة والأمكنة، يعلم ما في السماء وما في
الأرض من ظاهر وباطن، وما كان فيهما، وهي مرحلة أعلى طبعًا من سابقتها وتستلزم مزيدًا من الطهر والصفاء.
5 -
الخامس: العلم بمخبآت الضمائر والتصورات في السرائر، فهو علم بما لم يوجد إلا من حيث أنه خاطر في الذهن، وهو أرقى درجات العلم، ولا يتم إلا للذين هجروا الأهل والوطن، وطهروا أنفسهم بالرياضة الشاقة.
هذه المعلومات مستقاة من مراجع متعددة بعد جهد واسع في التنقيح والتنظيم، وأهمها دراسات الأستاذ مولانا محمد عبد السلام الرمبوري عن فلسفة الهند القديمة، والأستاذ محي الدين الألوائي، عن الفلسفة الجينية، ودراسات أخرى نقلًا عن أديان الهند الكبرى (الهندوسية - الجينية - البوذية) للدكتور أحمد شلبي.
3 -
وفي الأخير ونحن نتحدث عن الجينية كما بينا بفضل الله تعالى التأسيس والنشأة وأهم العقائد والفلسفة، نذكر لمحة تاريخية عن الجينية.
كانت الجينية فرقة واحدة طيلة حياة مهاوير، ولم يحدث بها إلا خلافات غير عميقة الجذور سرعان ما كانت تلتأم، وبعد وفاة مهاوير حدث انقسام خطير شطر الجينية إلى فرقتين تسمى إحداهما: ديجا مبرا أي: أصحاب الزي السماوي، أي: الذين اتخذوا السماء كساء لهم، والمقصود بهم هم العراة، والثانية: تسمى سويترا مبرا، أي: أصحاب الزي الأبيض، وعن هاتين الفرقتين حدثت فرق أخرى كثيرة غير مهمة، ويلاحظ أن تعدد الفرق لم يمس الفلسفة الأصيلة للجينية أو العقائد الرئيسة التي سبق أن تحدثنا عنها، وإنما اتصل بأمور ونقاط غير مهمة، وتحدث عن تفاصيل الأساطير وممارسة التقشف، ففرقة ديجا مبرا ترى أن مهاوير حملت به أمه تراسالا من بادئ الأمر لا أنه استل جنينًا من رحم دوناندا البرهمية ثم ألقي به في رحم تراسالا كما تعتقد فرقة سويتا نبرا.
وتنفي فرقة ديجا مبرا عن مهاوير ما تراه غير لائق به، فتقول: إنه لم يتزوج قط، وإنه هجر البيت والدنيا منذ مطلع حياته غير مبال بعواطف والديه، ويعتقدون أن العرفاء الكاملين لا يقتاتون بشيء ويقولون: إن من يملك شيئًا من متع الدنيا ولو كان ثوبًا واحدًا يستر به عورته لا ينجو، ويرون أن النساء لا حظ
لهن في النجاة ما دمن في قوالب النساء، أي: إلا إذا دخلت أرواحن في قوالب أخرى في حياة من الحيوات المتكررة، ويعتقدون أن التراث الديني المقدس للجينية قد ضاع كله، وأما ما تتلوه فرقة سيتا مبرا فموضوع ومختلق.
أما فرقة سويتا مبرا ففرقة معتدلة ترى أن مهاوير وإن كان ميالًا من وقت أن بدأ شعوره إلى هجر الدنيا وقطع العلائق إلا أنه لم يفعل ذلك في حيات والديه احترامًا لإحساسهما، ويروون عنه قوله في ذلك: ولا يليق بي وأنا الابن البار أن أنتف شعري وأقبل على حياة التقشف والحرمان، تاركًا البيت والأسرة احترامًا لعواطف والدي، وهم يبيحون الطعام للعرفاء، ويرون إمكان النجاة للنساء.
وهناك افتراق حدث للجينيين بسبب مجاعة شديدة نزلت بموطنها الذي كانوا يتجمعون فيه في بلاد مكدا، فلجأ عدد كبير منهم إلى الهجرة؛ طلبًا للعيش، وتخفيفًا للعبء عن سكان المنطقة، وذهب هؤلاء إلى الجنوب بزعامة بدرا باهو، وأقام الآخرون تحت رقابة أستولا بدرا.
وقد سبق أن ذكرنا أن الجينية فرقتان: خاصة وهم الرهبان المنقطعون للتبتل، وعامة وهم الذين يؤيدون النظام الجيني، ويساعدون الرهبان ماديًّا، ويباشرون حياة العمل، مع تخلقهم ما استطاعوا بأخلاق الفكر الجيني، وقد كان لهؤلاء وألئك نصيب في تاريخ الجينية.
ومن أهم ما قالت به الجينية مما حبب هذا الدين للحكام والملوك، أن الجينية مع أنها لم توقع أذى بذي روح توجب أن يطيع الشعب حاكمه، وتقضي بذبح من يعصي الملك أو يتمرد عليه؛ ولعل هذا هو الذي جعل الملوك، والرجاوات يُقبلون على الجينية يعتنقونها ويؤيدونها سواء في وادي الأندوس أو في الدكن.
وفي ابتداء العصور الوسطى حصلت الجينية رعاية من كثير من السلاطين، وأصبح للرهبان الجينيين نفوذ كبير في بلاط كثير من الملوك والحكام، لا سيما في بلاط الملك سيدراج، والملك كمار بلا، وبعد سقوط إمبراطورية ليجا نكر بقي في الجنوب حكام صغار من الجينيين إلى أن ظهرت سلطة الإنجليز، وفي عهد الحكم الإسلامي نالوا كذلك الاحترام والتقدير، واستخدمهم الملوك المسلمون في
بلاطهم وفي كثير من الأعمال، وجاء الإمبراطور الشهير أكبر سنة 1556 إلى 1605 ميلادية الذي أدار ظهره للإسلام، واتجه إلى خلق دين جديد مزيج من جميع الأديان، وبخاصة أديان الهند الأصلية، فاحتضن الجينية وخلع على المعلم الجيني هيرا وجيا لقب معلم الدنيا، ومنع ذبح الحيوانات، أيام أعياد الجينيين في المناطق التي يوجد بها أتباع لهذه الطائفة.
والجينيون من طبقة العامة أي: الطبقة التي تباشر الأعمال وتساعد الرهبان، يكثر أن يُعرضوا عن الزراعة؛ خوفًا مما تستلزمه من قتل بعض الديدان وإلحاق الضرر بما فيه روح، ويتجه هؤلاء غالبًا إلى التجارة وإقراض النقود وأعمال البنوك، مما يقل فيه الاعتداء على ذوي الأرواح، وقد ضمنت لهم هذه الأعمال نصيبًا كبيرًا من الثراء والرقي الاقتصادي حتى أصبح معظمهم من أغنى الأغنياء، وأنجح الناس في التجارة والمعاملات المالية، وقد مكنهم ثراؤهم من أن يلعبوا دورًا هامًّا في خدمة الثقافة الهندية والتراث العلمي والفني على العموم.
وللجينييين أيادٍ واضح بصفة خاصة في خدمة فن المعمار، فقد برعوا في النحت وإقامة التماثيل، وتشييد العمائر والمعابد ببراعة فائقة.
وقد نحتوا الكهف العظيم المسمى هاتي كنبا في منطقة أوريسا في القرن الثاني قبل المسيح، والكهوف الجينية كثيرة ومنتشرة في مختلف أنحاء الهند، والجينيون مولعون بتعمير المعابد، والمعبد ضروري للمجتمع الجيني كما أن تعميره فرض ديني لديهم.
وعن معابد الجينيين يقول غستاف لوبون: ولا تجد ديانة تعتد بالمعابد اعتداد الجينية، ولا تجد ديانة شادت من المعابد الكبيرة الفخمة أعظم مما شادته الجينية، فالحق أن معابد الجينية في كهجورا وجبل آبوا هي عجائب فن البناء في الهند،
والحق أنه يخيل إلى الناظر في أروقتها شبه المظلمة، اهتزاز قوم من الخلائق الغريبة المنقوشة على الحجر يشعون حياة ويكتنفون أحد الجيناوات البادي هادئًا رزينًا متربعًا في جلوسه على العموم، وهو في حالة عرض كامل.
ويبلغ تعداد الجينيين إلى نهايات القرن العشرين حوالي المليون، وكلهم في الهند، فالجينية كالهندوسية لم تخرج من الهند، ومستواهم الاجتماعي والثقافي راقٍ في الغالب، وعنايتهم بالثقافة لا تقل عن عنايتهم بالمال والفنون، فتلك لمحة تاريخية عن الجينية من بدايتها إلى نهايتها وما آلت إليه.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله، وصحبه أجمعين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.