الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مرئية، ولا تخضع لإزالة لأنها غير ملموسة، ولا تخضع للحفظ لأنها لا تضبط، وهي غير متصلة بشيء مع هذا، هي ثابتة وطيدة لا إلى اندثار".
هذه المقاطع وغيرها مما هو من نوعها، لا يدرك أبعادها ومراميها الفلسفية إلا طبقة الكهنة، الذين بلغوا مرتبة الحكمة واكتسبوا نقاء الروح، الذي يسمح لهم بالتأمل والترقي، وربما كانت هذه الأقوال بعيدة المنال على الناس البسطاء، لكن القول بوحدة الوجود، وحلول الروح المطلق في الوجود الفردي، مدعاة للتفاؤل والأمل في الارتقاء، للعودة إلى الأصل إلى براهمة.
مسألة التقمص أو نظرية التناسخ
ومن ذلك كانت مسألة التقمص أو نظرية التناسخ، حيث توصل الفيلسوف الفرنسي "رينون"، بعد دراسة مستفيضة للديانة الهندية، إلى تعريف التقمص كالتالي:"هو سلسلة لا إلى انتهاء من تغيرات الحالات لدى الكاهن، على أن لكل حالة ظروفا خاصة بها، مما يخلق للكائن دائرة وجودات لا يجولها إلا مرة واحدة، وعلى أن الوجود الأرضي أو عامة الجسدي، ليس إلا حالة خاصة بين حالات أخرى لا عد لها".
وفي نظام الطبقات في الديانة الهندوسية: لا يتم الانتقال من طبقة إلى طبقة عليا أو إلى طبقة سفلى، وأن ذلك غير ممكن في حياة واحدة، بل يكون عند ولادة جديدة، أي: أن الثواب والعقاب عن حياة حاضرة، يكون في حياة لاحقة، من هنا كان الاعتقاد بتعدد الولادات أو التقمص.
ونشير هنا إلى أن نظرية التناسخ، كما تبلورت في العقيدة البرهمانية، ترتبط ارتباطا وثيقا بمسألة السلوك البشري، وتشكل حافزًا من حوافزه، كما أن هذه النظرية من مستلزمات
القول بوحدة الوجود، وحلول الروح الكلي براهمة في الكائنات، لذلك يختلط فيها التفاؤل والتشاؤم في نغم واحد، إذ أن الأمل باتحاد الروح الفردية بالروح الكلية، يعطي للفعل قيمة ودفعة تفاؤلية، بمحاذاة هذا الأمل يتولد القلق من تعددية الولادات، خصوصًا بالنسبة للطبقات الشعبية الدنيا، لتبلغ مرتبة البراهمة، عندها يصبح الناتج للفعل والسلوك مؤجلًا إلى عدد لا نهاية له، من تكرار الولادة والدخول في متاهات الوجود الإنساني، المثقل بهم الانعتاق والتحرر من مأساة الحياة، بالذوبان في الروح الكلية حيث السعادة المطلقة، وبمقدار ما يكون القلق من دورات الولادات المتعاقبة، يكون الشعور بتناقض القول بالذات البرهمانية الحالة في كل الكائنات، والقول بالتقمص، وعندئذ يلزم تأكيد التوافق بين النظريتين، ليخرج الإنسان من دائرة تعددية الولادات في السعي الدائم، للتخلص من علائق المادة.
ونتوقف عند مسألة الثواب والعقاب، أو الجزاء على الأفعال، لارتباطها ارتباطًا مباشرًا بمسألة التقمص:
وقانون الجزاء باللغة السنسكريتية يسمى كارما، إن السلوك وهو مجموع الأفعال التي يقوم بها الفرد، يؤثر على الآخرين وينعكس على حياته خيرًا أو شرًّا، ولهذا وجب تطبيق قانون الجزاء عليه، ولا مفر لأحد من البشرية، من أن ينال جزاءه على أفعاله، إذ ليس في الكون مكان لا الجبال ولا السماوات ولا البحار ولا الجنات، يفر إليه المرء من جزاء أعماله حسنة كانت أم سيئة، طبقًا لنظام العدل والكون بما فيه، خاضع لنظام عادل صارم، والعدل يقضي بالجزاء على كل عمل يقوم به الإنسان.
وهذا يُحَتّم إحصاء الحسنات والسيئات في أعمال البشر، لينال كل واحد جزاءه، لكن واقع الحياة يكشف أن الجزاء قد لا يحصل، ويموت الظالم دون أن ينال العقاب الذي يستحقه، والمُحسن يُقضى دون أن ينال الثواب المناسب على أعماله، والحل هو عندهم القول بالتناسخ والقول بعودة الروح، في جسد جديد وحياة جديدة وفي رتبة أعلى أو أدنى، من التي كان فيها في الحياة السابقة، والفرد بما هو فرد هو المسئول عن مصيره، أو مصيرها إذا كانت أنثى في حياتها اللاحقة، تبعا للسلوك الأخلاقي الذي يختاره.
ونظرية التقمص تبطن فكرة الارتقاء والانعتاق، من عالم المادة والشقاء، إلى عالم الآلهة، واتحاد الروح "آتما" الفردية مع براهمة، الموجود المطلق الذي لا يقاس به أي شيء من موجودات العالم، وعملية التوحد والحلول في المطلق، تحتاج إلى حالات مديدة وصارمة الزهد والتنسك والأعمال الصالحة، والترفع عن علائق المادة بأنواعها المختلفة.
ومن التقمص إلى الزهد:
فكرة الزهد وتطبيقاته العملية السلوكية، خضعت للتطور كغيرها من الأفكار والاعتقادات الهندوسية، إذ تخبر أسفار الفيدا عن أشخاص صامتين، يرسلون شعرهم ولا يحلقون ذقونهم طوال حياتهم، وتتوقف اهتماماته على التركيز والتأمل الداخليين، بهدف بلوغ حالة الرؤية المميزة للحقيقة، التي يحصل الناسك منها عند بلوغها السعادة المطلقة، التي ليس بعدها سعادة، والذي ورد في أسفار الفيدا عن هؤلاء الأشخاص، هو في الحقيقة أخبار عن الناسك الباحث عن الفنوس، "الفنوس" كنسس الذي سوف تتضح صورته أكثر في العصور
التالية، وبالتحديد في عصر "اليوجونشاد"، في العصور اللاحقة لعصر الريجفيدا، هو الكتاب الذي يخبر عن بدايات التفكير الديني الهندوسي، وتزايد الحديث عن الناسك المتجول المعلم أو الشارمان، ومصطلح الشارمان يطال مؤسسي الديانة الجينية والبوذية المنبثقين من الهندوسية.
النسك هو أعلى المراتب الدينية في العقيدة الهندوسية، وغاية الناسك الزاهد هي الانعتاق والخلاص من شرك الرغبات والشهوات، والحاجات المادية الرخيصة والدنيئة، وحياة الناسك سعي دائم وعراك مستمر، تهدف إلى بلوغ السكينة والاستقرار، استعدادا للذوبان في المطلق.
البؤس والقضاء على الشهوات والرغبات، ولبس الثياب البالية وتعذيب النفس والتسول، هي العناوين الرئيسة لسلوك الراهب الهندوسي المنصرف إلى العبادة، وبها يتحدد نظامهم الحياتي، وقد حددت أربعة مراحل لا بد للناسك البرهمي من المرور بها، ومدة كل واحدة خمس وعشرون سنة، على أساس أن متوسط العمر عندهم هو مائة سنة.
أما الدور الأول: فهو دور التربية والتنشئة الروحية والعقلية والجسدية، إنها مرحة التحضير للمرحلة الثانية الحاسمة، والمحدد لبقاء استمرار المريد الهندوسي.
الدور الثاني: يتم فيه بناء أسرة متكاملة، فيكون للمريد زوجة أبناء، وفي هذا الدور ينصرف البرهمي، إلى العناية بأسرته حسب التعاليم الدينية ويقيم شعائرها الصارمة.
في الدور الثالث: ينتقل الزوج والزوجة من العلائق العائلية، للانصراف إلى الخدمة الاجتماعية والاهتمامات العامة، دون أن يكون لهما أي غاية شخصية أو منفعة مادية أو طموحات فردية.
ويتوج الدور الرابع المراحل السابقة، إذ يتحول البرهمي من الأمور الشخصية والأسرية أو العائلية، والاجتماعية العامة، إلى ترك أمور الدنيا ومشاغلها، وينصرف إلى الرياضة الروحية، وإعداد نفسه للذوبان بالروح المطلق أو براهمة.
إن الأدوار أو المراحل التي أشار إليها "البروفيسور أترية"، حول الحياة الروحية والاجتماعية للبراهمي، تكشف عن أحوال الترقي التي يمر بها البراهمي، من خلال الذوبان الكلي في شئون كل مرحلة من مراحل العمر، في المرحلة الأولى اهتمام صريح بشئون الذات الشخصية، من حيث هي بنية وحواس وقوى، وقوى جسدية وعقلية في علاقتها مع العالم المادي الخارجي، مما يتيح الفرصة للكائن أن يحقق وجوده الكامل، كفرد وكشخص أو الأنا الفردية، في بعدها الوجودي المعاش أو الحاضر، وغايتها حفظ الكائن وسلامته الشخصية، ثم المرحلة الثانية مرحلة بناء الأسرة، فهي إعداد الكائن في استمراره من خلال ذريته وتقديسه، وإقامة الطقوس عن روحه بعد الممات وتقديم القرابين.
وبعد مرحلتي تثبيت الوجود وحفظه، وتأكيد الديمومة والاستمرار في الذرية، وكلاهما المرحلة الأولى والثانية، تكشفان عن البعد الذاتي أو طغيان الأنا الفردية، في حين أن المرحلة الثالثة، تبرز الأنا في سعيها للذوبان في الكائن الاجتماعي، بعد الاطمئنان والشعور بالتوازن الداخلي في المرحلتين السابقتين.
تأتي المرحلة الرابعة حيث يتحقق للأنا الفردية والاجتماعية، إمكانية الذوبان والاتحاد في براهمة الكائن المطلق أو الوجود المطلق، وهكذا تكون المراحل أو الدورات درجات للترقي،
وترقي الكائن البشري المخلوق، يكمن في حركة العودة إلى الكائن المطلق الخالق والموجد.
إن التأمل يشكل حلقة أساسية من حلقات الترقي البشري، لكن السلوك لا يقل أهمية في الإعداد لعملية الذوبان في اللامتناهي والمطلق، لذلك حددت العقيدة الهندوسية، شروط السلوك الصحيح لبلوغ الغاية المنشودة، وقهر الذات التغلب على شهواتها، من أهم الأمور التي شرططها العقيدة، وعملية قهر الذات تكون بالزهد، وهو على درجات تتناسب والمراحل الأربعة، التي يمر بها الكائن البشري.
ومما جاء في شريعة "منو" وفي كتاب "يوغا وأسستج"، حول قواعد الزهد وغاية الحياة: "إن الجسد لا خير فيه، إنه محل للعاهات، ووعاء لسائر الآلام وهو سائر إلى الانحلال، تتصف الطفولة بالعجز والضعف، وعدم القدرة على الكلام والتجرد من العلم، ليس الشباب إلا كومضة برق تخطف أبصارنا، ثم لا تلبث أن تختفي، مفسحة الطريق للشيخوخة وقساوة متاعبها، ما الحياة إلا كنور السراج الموضوع في الخلاء، تلعب به الريح من كل جهة، وما بهاء الأشياء كلها إلا كومضة برق، تنير لحظة ثم تختفي ولا تعود مرة ثانية، الرغبة فينا متأرجحة دائمًا وقلقة كالقرد، والنفس لا تشبع أبدًا ولا تقنع بما ملكت اليد، ولا تزال متطلعة إلى ما لم تملكه، وكلما أشبعتها زاد جوعها وطلبت المزيد، وعظم طموحها لذلك، اجعل طعامك مما تنبته الأرض وتثمره الأشجار، ولا تقطف الثمر بنفسك، بل كل منه ما سقط من الشجرة من ذاته.
وعليك أن تصوم يما وتفطر يوما، وابتعد عن أكل اللحم وشرب الخمر، عود نفسك على تقلبات الطقس، وتعرض للشمس المحرقة، واجه المطر الشديد في
موسمه، واترك رطوبة المطر تتسرب إلى معطفك ولا تتذمر، لا تفكر بالراحة البدنية، تجنب سائر الملذات اجعل الأرض فراشك، ولا تجعل خاطرك يرتاح إلى مكان أو موطن، إذا مشيت كن حذرا، حتى لا تدوس شعرة أو عظمة أو حشرة، وإذا شربت فاشرب بحذر، كي لا تبلتع بعوضة متناهية الصغر.
لا تفرح لموجود ولا تحزن لمفقود، إن الذي تخلى عن كل ما في يده، أفضل من الذي حصل على كل شيء وتشبث به، إن الذي يتغلب على نفسه، يكون قد تغلب على حواسه التي تقوده إلى الشر؛ لأن النفس أمارة بالسوء، ولا تشبع أبدا وتطلب المزيد بصورة دائمة، عندما تسعى في طلب العلم، اترك طيبات الدنيا، فلا تأكل الحلوى وتجنب النساء، ولا تأكل اللحم، ولا تدلك جسدك بما له رائحة طيبة، ولا تكتحل ولا تلبس الحذاء، ولا تظلل نفسك بشمسية، ولا تسعى إلى رزقك وطعامك بغير التسول.
عند بلوغك سن الشيخوخة، عليك أن تتخلى عن الحياة العائلية والاجتماعية، والإقامة في الغابة، وتترك شعر رأسك ولحيتك من غير قص، وعليك ألا تقلم أظافرك، أما السعادة فلا سبيل لها في هذا العالم، إذ كل نفس فيه ذائقة الموت، كل شيء في هذا العالم يسير إلى الزوال والفناء، ومسرات هذا العالم خادعة وكاذبة، والأفراح القليلة لا تعادل الأحزان الكثيرة، وإن كنا أحرارًا فإننا في الحقيقة نعمل كالعبيد المقهورين، ما قيمة الجسد والأفراح والثروة والجاه والملك، ما دام الموت قدرنا المحتم عاجلًا أم آجلًا، والموت قدر كل الأشياء بلا استثناء".
هذا؛ وقد جاء في كلام "كريشنا": إن الذي تغلب على أهواءه النفسية، وملك حواسه كلها، فلا يخاف شيء ولا يطمع في شيء ولا يحب أحدًا، فهو الذي نال
العقل وجمعه، إن الحواس تتبع ميولها، فعلى المرء أن يجذب إلى قبضته حواسه من مشتهياتها، كما تجذب السلحفاة أطرافها إلى بعضها، أجل إن النفس لطاغية جامحة، إلا أنه يجب السعي لضبطها وتحويلها إلى الله، فالذي لا علاقة له بشيء ولا يخاف شيئًا ولا يطمع في شيء، وحواسه تحت أمره، فهو مطمئن حقا، وإن كان يقوم بأعمال الحياة الدنيا كغيره من الناس. أما العمل الحقيقي هو التحرر من سلطة النفس، فمن تحرر منها، فقد فاز بالطمأنينة الحقيقية واهتدى إلى الله وفاز بالنجاة".
سأل أريجنا إن كانت النجاة لا سبيل إليها، إلا بالتغلب على الحواس وقهر النفس، فلماذا نهتم بأمور الناس؟، فأجاب كريشنا: "إن الذي يتجرد من الدنيا بترك واجبه، لا يصل إلى الكمال أبدًا، والأعمال التي تأثر الإنسان، هي التي يقوم بها لإرضاء نفسه، لا لأجل المصلحة العامة، فعلى المرء أن يجعل سائر أعماله، خالية منزهة من أهواء النفس، وما عاشت هذه الدنيا، إلا بمثل هذه الأعمال النبيلة المنزهة، والذي يطبخ الطعام ليأكله وحده لأثم، وإذا أكل فلا يأكل إلا إثمه، والذي لا يهتم بمصلحة غيره فهو سارق، والذي يحيا لإرضاء حواسه، فحياته كلها إثم، ليس لأحد أن يسخر غيره لإشباع ميوله، وإنما الطريق إلى الله، أن تكون الأعمال خالصة له ولنفع خلقه.
فاعلم أن أشد أعداء الإنسان اثنتان الشهوة والغضب، فهما اللذان يدفعانه إلى الذنوب، وكما يغطي الدخان النار ويكدر الغبار صفاء المرآة، كذلك الشهوة والغضب يغطيان عقل الإنسان، فعلى الإنسان أن يقتل هذين العدوين، لا شيء يطهر الإنسان أكثر من هذا العرفان، والعَارِفُ يُدرِكُ بالتدريج أن الله معه وفيه، وأكبر ما يحتاج إليه الإنسان في سلوكه إلى الكمال، هو الإيمان وقهر النفس".
سأل أريجنا مرة أخرى: ما الأفضل للإنسان، التجرد من الدنيا ومراقبة النفس، أو تطهير النفس مع التعلق بأمور الدنيا؟، أجاب كريشنا: "إن الذين يفرقون بين الطريقتين أطفال لا يعقلون، أما العالم العاقل فلا يفرق بينهما، والإنسان يصل إلى الكمال بأي طريق سلكه، إن قام بشروطه حق القيام، والذي يرى الطريقين سبيلا إلى المقصود فهو المصيب، والناسك الحق هو الذي لا يبغض أحدًا، ولا يشتهي شيئًا، ولا يرى غير الله شيئًا، إنه يجري وراء واجبه دائما، قد طهر قلبه وتغلب على حواسه، فالنفس في قبضة يده، لا تنازعه ولا تحيد به عن الصواب، وهو يرى جميع الأرواح كروحه ولا يفرق بينها، ولا يقصد بعمله إلا وجهه تعالى وحده.
والذي يقوم بواجبه كما قلت، يبزغ نور العرفان في داخله كما تبزغ الشمس في السماء، فيرى ربه بعين قلبه، ويسعد بالنجاة بعد أن تذهب ذنوبه، وتحل محلها الحسنات، واللذائذ الحسية عاقبتها الحزن والألم، فلا يجري العاقل وراءها، والذي ملك حواسه ونفسه في هذه الحياة، فهو الناسك حقّا، وهو الذي فاز بنعمة راحة البال، إنه يجد الطمأنينة والراحة والنور في روحه، ويصل إلى النجاة بفنائه في الخالق، ولا يسعد بهذا إلا من نسي نفسه وقهر هواه، ولا يزال في عمل مستمر لمصلحة الناس عامة.
وليس الناسك من يتشبث بظواهر النسك وحدها، فلا يمس النار ويفعل هذا ولا يفعل ذلك كالمتنطعين، إنما النسك كيفية قلبية لا هيئة خارجية، فالذي لا يبالي بالعواقب في أداء واجبه، فهو الناسك الصادق، والذي يتخلى عن واجباته في الدنيا، فهو ليس من النسك في شيء، ليس للإنسان صديق إلا نفسه، وليس له عدو إلا نفسه، ومن تغلب على نفسه فهو صديق نفسه، ومن قهرته نفسه فهو عدو نفسه، فمن غلب نفسه فأصبح لا يبالي، بالحر والبرد، بالراحة والألم، بالسراء والضراء، فهو صاحب الروح
الأكبر، ومن يرى الصديق والعدو والقريب البعيد والسعيد والشقي، بعين واحدة فهو المهتدي.
ليست النجاة للذين افتتنوا بالدنيا، ولا للذين هجروا الدنيا فارين من واجباتهم، بل هي للذين يلزمون الطريقة الوسطى، فلا يفرطون ولا يفرطون، في مآكلهم ومشربهم وملبسهم ومسكنهم، إنهم وسط في كل شيء، فيستريحون كما ينبغي وينصبون كما ينبغي، والناسك الحق هو الذي يرى، وجوده في وجود الآخرين ووجودهم في وجوده، وهو الذي لا يفرق بينهم وبينه، بل يدرك الله في الجميع ويدرك الجميع في الله، فمن كان هكذا فعلاقته بالله وثيقة لا انقطاع لها، فالذي يحمد الله في خلقه وينسى نفسه، فهو مع الله أينما كان وحيثما كان، ومن يرى سعادة الآخرين وشقائهم سعادته وشقائه، فهو حبيب الله حقًّا".
ثم سأل أريجنا: أليس قهر النفس الأمارة كما تقول من أصعب الأمور؟ أجاب كريشنا: "أجل يا عزيزي، إنه من أصعب الأمور، لا يكون قهر النفس، إلا بصدق النية والتمرين والرغبة عن لذائذ الدنيا، والذي حرم قوة الإرادة والعزيمة، فلا يتمكن من قهر نفسه ولا ينال النسك، والشرائع الظاهرية والطقوس الرسمية لا تنفعه شيئًا، إنّ مُجرد الرغبة في هذا السلوك، يغني المرء عن "الفيدا" وعن شرائع الفيدا، هذه الرغبة تجعله فوق كل هذا، ومن سعى مع هذه الرغبة سعيا صادقا، وإن قليلًا ينتفع به، وإن اضطرب قلبه ولم ينجح في النسك كل النجاح، لأن طريق التقدم الروحي ينفتح أمامه يسلكه إذا وطد عزمه.
والعارف الذي يعبد الله، يرى الكثرة في الوحدة والوحدة في الكثرة، وأينما يتجه بوجهه، يرى وجه الله الحي الذي لا يموت، والرب الذي به يكون كل شيء.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.