الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حكم الرهبنة في الإسلام من حيث الفقر
ثانيًا: الفقر كأساس للرهبنة في ميزان الدين والعقل، جعل الفكر البوذي والنصراني الفقر أساسًا وشرطًا جوهريًّا للانخراط في الرهبنة، كما أشرنا إلى ذلك أثناء الكلام على أسس الرهبنة، وكان هذا الاتجاه ردَّ فعل للتطرف المادي للبرهمية واليهودية، فجاء الفكر البوذي ليرد على التطرف البرهمي، فنادى بالفقر وعدم التملك، والنظرة التشاؤمية للحياة، وجاء الفكر النصراني ليردَّ على التطرف المادي الجشع لليهود، فنادى بأن مرور جَمَل في ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله.
فبينما نجد هذا الغلو نرى عظمة الإسلام الذي يحتم على الإنسان أن يعمر الحياة في ظل المنهج الإلهي القائم على استخلافه في الأرض، والمرتكز على الوسطية؛ لذا أنكر المادية المفرطة فقال:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} (الإسراء: 18)، بين للمادين والذين نظروا للحياة الدنيا واطمأنوا بها: أن الدنيا لا تستحق أن يلهث الإنسان وراءها فقال: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (يونس: 24)، كما قال تعالى أيضًا:{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} (الكهف: 45)، وقال جل وعلا: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ
الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} (آل عمران: 14).
ولم يكتفِ الإسلام بذلك، بل قص علينا العديد من مواقف الماديين وكيف كانت عاقبتهم الوخيمة، مثل: النمود، وفرعون، وقارون، وقصة سبأ صاحب الجنتين، وغيرهم كثير، كيف جنى عليهم ترفهم وماديتهم، وفي هذا الإطار جاءت هذه الحقيقة لكبح جماح الغنى المطغي والمادية في أعتى صورها فقال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} (فاطر: 15 - 17).
وبجانب الإنكار على المادية الجامحة، ولئلا تتحير البشرية وتتخبط في ظلمات الإفراط والتفريط أو الغلو والتقصير، أنكر الإسلام أيضًا وبنفس القوة على الروحية الجارفة؛ لأنها تبديد للطاقات البناءة، وتخريب للحياة، وكفر بنعم الله، وفي هذا الإطار جاءت نصوص كثيرة نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر قوله تعالى:{وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد: 27)، قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (المائدة: 87)، وما ذلك إلا لأن الإنسان جبل على حب المال {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} (الفجر: 20).
فالوسطية هي التي تعصم الإنسان من الوقوع بين فكَّي الفقر المنسي أو الغنى المطغي، وهذا ما ركز عليه الإسلام حيث قال سبحانه:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الجمعة: 9، 10)، هذا لأن الإسلام لا يخاصم
الغنى بل يعده فضل الله على عباده، ولا يخاصم الجمال والزينة، بل يستحبها للناس ويؤثرها للمؤمنين خاصة؛ لأن المؤمن يُقبل على الدنيا ليأخذ منها زاده المادي ويقبل على الدين ليأخذ منه زاده الروحي، يحرص على إيمانه بربه أبدًا، ويحرص كذلك على نصيبه من الحق الكريم من دنيا الناس، وما ذلك إلا لأن المال دعامة الاقتصاد وبه تكون التنمية، وعليه تدور النظم والسياسات الاقتصادية في العام، فالإسلام يعترف به وبحرية التملك ما دام من حلال، وينفق في حلال بوسطية حيث يقول سبحانه:{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (الفرقان: 67)، وقال تعالى:{وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} (الإسراء: 29).
وفي هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم نرى هذا الدعاء الجميل العظيم: ((اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر)). ومن أدعية القرآن الجامعة: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (البقرة: 201)، يرددها المؤمن لينال خيري الدنيا والآخرة.
وبالتالي، فالدعوة إلى عدم التملك والفقر كأساس للتعبد والانقطاع إلى الله يتنافى مع الواقع الديني على مر العصور؛ حيث يؤدي إلى تعطيل القوى، وعدم الأخذ بطرف الغنى الحلال، مع أن سيدنا آدم مأمور أن يسلكها فقد جاء في سفر التكوين:"بعرق وجهك تأكل خبزًا حتى تعود إلى الأرض التي أُخذت منها" سفر التكوين الإصحاح الثالث الفقرة التاسعة عشرة.
فهي دعوى للحصول على لقمة العيش بعرق الجبين، وتحصيل المال من وجه حلال؛ هربًا من الفقر، وفي سفر الأمثال نهيٌ عن الكسل لعدم الوقع في دائرة الفقر حيث يقول السفر:"اذهب إلى النملة أيها الكسلان، تأمل طرقها وكن حكيمًا، التي ليس لها قائد أو عريف أو متسلط، وتعد في الصيف طعامها، وتجمع في الحصاد أكلها، إلى متى تنام أيها الكسلان؟! ".
والنصارى يؤمنون بالعهد القديم، ويعتبرونه مصدرًا للتشريع؛ لأن المسيح ما جاء لينقض الناموس، وموسى عليه السلام الذي يؤمن به النصارى عمل أجيرًا، واستناد النصارى على قول الإنجيل ناسبًا ذلك للمسيح:"إذا أردت أن تكون كاملًا بِعْ ما تملك وتعالَ اتبعني"، فعلى فرض صحة نسبتها للمسيح فهي حالة خاصة لعلاج هذا النوع الذي استشرى فيه داء حب المال وطغيانه.
ومثلها قول متَّى في إنجيله عن المسيح: "لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض، حيث يفسد السوس والصدأ، وحيث ينقب السارقون ويسرقون، بل اكنزوا لكم كنوزًا في السماء، حيث لا يفسد سوس ولا صدأ، وحيث لا ينقب سارقون ويسرقون؛ لأنه حيث يكون كنزك يكون قلبك"، متَّى، الإصاح السادس، الفقرة التاسعة عشر إلى الثانية والعشرين.
فيراد بمثل هذه النصوص وغيرها كبح جماح طغيان المال، وذلك له نظير في الإسلام مثل قوله تعالى:{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} (الكهف: 46)، فلا يُفهم من ذلك الدعوة إلى الرهبنة والفقر، والعزوف عن الدنيا أو المال؛ حيث إن الله تعالى قد سمى المال خيرًا في مواضع من كتابه العزيز حيث قال سبحانه وتعالى:{إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} (البقرة: 180) وأراد به المال، وقال:{وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} (الكهف: 82)، وقال ممتنًّا
على عباده: {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} (نوح: 12)، وقال سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم:((نعم المال الصالح للرجل الصالح)).
وحذر من الفقر وقال: ((كاد الفقر أن يكون كفرًا))، وهو ثناء على المال شريطة ألا ينشغل الإنسان به عن ربه، كما قال عز وجل:{قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (التوبة: 24)، وسيدنا سليمان -وهم يؤمنون به- طلب الملك والمال، وحازه ولم يشغله عن ربه {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} (ص: 35)، سيدنا يوسف عليه السلام قال:{قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} (يوسف: 55).
أما الرهبان فقد خالفوا الفطرة والعقل والنقل، وغالطوا أنفسهم حيث قال الحق:{وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} (الفجر: 20). نتيجة هذه المصادمة وذلك الانحراف تحولوا إلى آكلين أموال الناس بالباطل، اتخذوها وسيلة تُدرُّ عليهم المال الوفير، وقد صور الحق تبارك وتعالى ذلك فقال عنهم:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (التوبة: 34)، وقد انحطت أخلاقهم واستحوذ عليهم الجشع وحب والمال، ومن ثم تحولت الكنيسة والرهبان إلى الطرف الناتج عن كثرة المال، وفاض ثراء المجتمع المتزايد على مر الزمن على الأديرة، وكان السخاء الشعبي مصدرًا لما ينغمس فيه الرهبان
أحيانًا من ترف، فإن ما قام به الرهبان من إصلاح اقتصادي لأوربا في العصور الوسطى ليشهدوا بأنهم كانوا ولا يزالون بوجه عام مُلاكًا وزراعًا أذكياء.
وهكذا انصرف ذكاؤهم وتفكيرهم إلى المال وطرق جمعه، حتى ولو بالإلحاف في السؤال كما يقول ول ديورانت: "كان بعض الرهبان يغادرون الأديرة باختيارهم، ويضايقون الناس بإلحافهم في السؤال، ولا يتقيدون بقيود الأديرة، وأصبح رؤساء الأديرة المنكبون على مباهج الدنيا، السمان الأغنياء الأقوياء؛ هدفًا لسخرية الشعب وتشهير الأدباء، ومن الأديرة ما اشتهر بطعامه الشهي وخمره، وفسدت أخلاقهم لزيادة ثرائهم كرد فعل للحرام الذي تكلفوه. ومن ثم فالرهبنة قائمة على العنت والمشقة وتكليف النفس البشرية فوق طاقاتها، والغلو في تهذيبها إلى حد التضييق والتعذيب، هذا التفريط الذي أعقبه إفراط.
أما في الإسلام فمن منهجه: ((اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا))، يوازن الإنسان بين الدنيا والآخرة، فيبيح حرية التملك، وتحقيق العزة الاقتصادية، ويحارب الفقر، وفي ذات الوقت يأمر بالزكاة والزهد في المال، بمعنى عدم الإلحاح في طلب متع الدنيا، وحصر الهدف في الحصول عليها لذاتها، وكأنها غايات لا وسائل، والإسلام بدعوته للزهد يحول دون المادية وطغيانها افتنان القلب بها؛ لتحقيق الكرامة والثقة بالله، دون أن يحرم الاستمتاع بمتع الدنيا الحلال، يقول تعالى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (الأعراف: 32).
هذا هو معنى الزهد في الإسلام، ليؤكد التوازن، والفكر الزهدي في الإسلام غير الرهبنة، إن الرهبانية شيء خاص للقائلين بها، وأما الإسلام ففيه التوازن الذي حرمه الفكر