الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكان "أنندا" من أنصار المرأة، وكان ابن عم بوذا وصفيه، فما زال يلح على بوذا حتى قبل ضم النساء إلى جماعته، وأتباعه، على أنه على الرغم من ذلك كان يرى في هذا خطر على المجتمع البوذي، وقد قال لـ"أنندا" مرة: لو لم نضم المرأة لدام النظام الخالص طويلًا، أما الآن بعد دخول المرأة بيننا فلا أراه يدوم طويلًا.
وقد أُثِرَ عن بوذا قوله: للنظام من بعدي أن يغير من سننه ما يراه مضرًّا لمقاصده وحياته، ويرى العلامة "رادها كريشنان": أن بوذا عنى بهذه الجملة لأتباعه طرد النساء إذا رأوا منهن خطرًا على الدعوة.
لمحة تاريخية عن البوذية وانتشارها، والكتب المقدسة لديهم
هذا؛ ونذكر لمحة تاريخية عن البوذية، والكلام عن تاريخ البوذية يشمل اتجاهين أحدهما دراسة البوذية من ناحية تطورها الفكري والفلسفي والثاني دراسة البوذية من ناحية انتشارها، وما صادفته من انكماش وانبساط، وعوامل ذلك، وفيما يلي حديثنا عن كل من هذين الاتجاهين:
أ- تطور البوذية الفكري والفلسفي:
صورنا فيما سبق البوذية في حياة مؤسسها فشهدنها نظاما أخلاقيا واتجاهًا تربويًّا، ولكنها أخذت تتطور من قرن إلى قرن، فدخلتها مسائل عن الإلهيات والكون كان بوذا قد نهى عنها، وحذر منها مريديه، ولكنهم بعده بحثوا فيها، وأدرجوها في التعليم نفسه، فأصبحت البوذية مذهبًا فكريًّا ومباحث عقلية، وبعدت البوذية الجديدة بذلك عن القديمة.
لقد كانت البوذية القديمة تزكية وتربية، فأصبحت البوذية الحديثة فكرًا وفلسفة، وقد قسمها العلماء حسب الطابع العام إلى البوذية القديمة والبوذية الجديدة،
فالبوذية القديمة صبغتها أخلاقية، وميزتها سذاجة المنطق، وإثارة العاطفة، وطابعها الحض على الخضوع، لقوانين النظام والاهتمام بهدي شارعها، وكأنها هي التي دعا إليها بوذا نفسه، وأتبعها مريدوه وأتباعه الملازمون له.
أما البوذية الجديدة فهي عبارة عن تعاليم بوذا مختلطة بآراءَ دقيقةٍ في الكون، وأفكار مجردة عن الحياة، والنجاة مؤسسة على نظريات فلسفية وقياسات عقلية قد سمحت بها قرائح المتأخرين من الشراح، والزعماء والغالب عليها صبغة الفلسفة، وقد ارتبط التغير الفلسفي البوذي بانتشار البوذية، ودخولها أقطار كثيرة؛ فإن أتباعها هنا، وهناك أكثروا فيها القياس والتأويل حسب عقولهم، وثقافاتهم حتى بعدت عن أصلها الساذج البسيط وسنسوق فيما يلي اتجاه الفرق الفلسفية الجديدة، ويلاحظ أن أكثرها أتخذ الاعتراف بالإله أساسًا لفلسفته.
فرقة تقول بوحدانية الله، وأنه أوجد أولًا عددًا محدودًا من الأرواح، ثم ترك الإنشاء، والتعمير مكتفيًا بما وضعه في العالم من قوانين، كالبذور تسير سيرها الطبيعي بلا نهاية، وهذه الأرواح هي التي تخلق الخير والشر، فرقة ترى أنه أودع هذه الأرواح التي أرسلها للعالم قوى تستطيع منها: أن تعرف الخير من الشر من أجل ذلك لا يرسل الله رسلًا اكتفاء بذلك.
وفرقة ترى: أن الله يفرغ الكمالات الإنسانية في كل زمنٍ على إنسان يتجرد لعبادته ويبتعد عن إرضاء الشهوات الحيوانية وهذا الإنسان المختار يحل محل الإله في إظهار الرضا عن بعض الناس، أو الغضب عليهم تبعا لما يأتونه من الأعمال، ويعرفه الناس، ويلتفون حوله، وتبالغ فرقة أخرى في تعبير المعنى السابق. تقول: إن الله يحل في أية صورة يختارها من صور أفراد الإنسان حلول تطهير، وتكميل لا حلول استقرار، كاللام في البلاد التبت.
وتتكلم كل الفرق عن التناسخ وارتباطه بالكرما، ولكن بعض الفرق ترى تناسخ النوع الإنساني مقصور عليه، والتناسخ الحيواني مقصور عليه، فلا تنتقل روح من إنسان إلى حيوان، ولا العكس، وتزيد فرقة أخرى في تضييق دائرة التناسخ، فترى أن روح العالم تنتقل إلى صانع وهكذا.
ب- انتشار البوذية:
انتشرت البوذية في عهد بوذا انتشارًا واسعًا بين الطبقات العليا، والطبقات الدنيا.
أما طبقة الملوك والجنود: فقد دخلت البوذية تخلصا من سلطان البراهمة الذين أثاروا سخط جميع الطبقات الأخرى باستبدادهم وتعسفهم، أما الطبقات الدنيا: فقد دفعت بنفسها إلى البوذية؛ لتتخلص مما عانته في رحاب الهندوسية من اضطهاد واحتقار، ولكن البوذية بدأت تنكمش بعد بوذا.
وقد سبق أن ذكرنا: أن من أهم أسباب انكماشها أنها لم تعنى بالكلام عن الإله بعبارة أخرى تركت فراغًا كبيرًا في نفوس أتباعها، وبمرور الزمن ملأ أتباعها هذا الفراغ بآلهة الهندوس، أو بعابدة بوذا نفسه، أو واتخاذه إلهًا، ويتصل بهذا أيضًا أن بوذا لم يبنِ معابد، ولم يأمر أتباعه بممارسة أي لونٍ من ألوان العبادة؛ بسبب هذا لجأ أتباع بوذا إلى معابد الهندوس فوضعوا فيها تمثال بوذا. وأصبح كل ما زاد هو إله جديد أضيف إلى آلهة الهندوس المتعددة.
والعقل الهندي يرحب بالمزيد من الآلهة، وهكذا أخذت البوذية تتلاشى في الهندوسية، وأخذت الهندوسية تمتصها، وتمتص أتباعها يومًا بعد يوم وكان سبب ضعف البوذية في الهند -بالإضافة إلى ما سبق-: أن البوذية اهتمت بإصلاح الباطل، أي: إصلاح الأخلاق، فحاربت الشهوة، والغور والكبرياء، وألزمت بالشعب
الثماني من رأي سليم، وشعور صائب، وسلوك حسن إلى آخره. ولكن الهندوسية قنعت بأشياء ظاهرية كالغسل في الأنهار المقدسة، والأخذ بالطقوس، والقرابين، ومعالجة الظاهر، ومعالجة الظاهر أيسر وأسهل من معالجة الأمور الباطنية؛ ولهذا تخلى البوذيون يومًا بعد يوم عن صراعهم مع نفوسهم، واكتفوا بقربان يقدمونه، أو مظهر يظهرون به.
كما ترى الهندوسية مما ساعد على ذلك تأصل نظام الطبقات الذي رفضته البوذية، واحتواء الهندوسية على تقاليد القوم وعاداتهم مما جرهم إليها يوما بعد يوم.
هذا ما آلت إليه حال البوذية في منتصف القرن الثالث قبل الميلاد، ففي داخل الهند كانت البوذية تضعف، وتنكمش، ولم تكن البوذية قد عرفت بعد طريقها خارج الهند، وجاء الملك العظيم أسوكا، والبوذية على وشك أن تنهار، فاعتنقها، وبعث فيها الحياة مرة أخرى، ودفع بها إلى الخارج والمؤرخون يعدونه للبوذية شبيهًا بالقديس بولس القسطنطين الأكبر بالنسبة للمسيحية. فتعالى بنا نقص طرفًا من حديث هذا الملك العظيم أعني عندهم.
أسوكا وانتشار البوذية:
كان الإسكندر المقدوني قد استولى على السند في زحفه نحو الشرق ولكنه لم يتقدم نحو نهر كينج، ولم يسيطر على باقي الهند؛ لأن المقدونيين رفضوا أن يسيروا معه في هذا العالم المجهول، وألَّفَ المقدونيون مملكةً صغيرة في هذا الركن من الهند في سنة ثلاثمائة وواحد وعشرين قبل الميلاد تمكن الأمير "شاندرا غوبتا" الذي ينحدر لأسرة موريا أن يجمع حوله قبائل عديدة من منطقة التلال، وأن يستولي على المملكة الإغريقية بالإنجاب، ويزيل عن الهند آثار الحكم الإغريقي وجاء ابنه بعده فبسط رقعة مملكته، فلما جاء حفيده أسوكا، وجد نفسه حاكمًا
على الأقاليم الممتدة من أفغانستان إلى مدراس، وصار أسوكا من ستة مائتين وأربع وستين إلى مائتين وسبع وثلاثين قبل الميلاد في مطلع حياته سيرة أبيه وجده في محاولة التوسع عن طريق الحرب، وبينما كان أسوكا في قمة انتصاراته الحربية أحس باشمئزاز من هول الحروب وقسوتها، فتخلى عن الحرب، وكره النصر عن طريقها، وزهدت نفسه فيها تمام، وتبنَّى مذهب البوذية.
ثم أعلن أن فتوحه ستكون منذ ذلك الحين في ميادين الدين وروي الأساطير أن هذا التحول كان بسبب ما ناله من حيرة وبسبب تأنيب ضميره لقتله إخوته، وعددهم تسعة وعشرون، أو حرقه زوجاته، وجواريه وكن خمسمائة، ودام حكم أسوكا ثمانية وعشرين عامًا تعتبر أزهى فترة في تاريخ البشرية المضطرب؛ فقد قام في الهند بحركة عظيمة للخير والثراء حفر الآبار وزرع الأشجار، وأسس المستشفيات، والحدائق العامة والبساتين التي تربى فيها الأعشاب الطبية.
واهتم بأهالي الهند الأصليين، واتخذ العدة لتعليم النساء، وخصص هبات الخيرية هائلة لهيئات التعليم البوذية، واتجه أسوكا إلى خارج الهند، فأرسل البعوث الدينية إلى كشمير، وسيلان، والإمبراطورية اليونانية، وجبال هيمالايا، وفارس والإسكندرية، وهكذا انتقلت البوذية من مذهب ضمن المذاهب الدينية الهندية إلى دين عالمي، وسرعان ما لبى أهل سيلان دعوة أسوكا، فاعتنقوا الدين الجديد.
ولعل مما سبب ذلك ما كان بين حاكمها، وبين أسوكا من روابط الصداقة
ويروى أن أهل الجزيرة أرسلوا بعثة إلى الهند لتعلم البوذية، وأن أسوكا أرسل مع إحدى بعثاته إلى سيلان فسيلة لشجرة المعرفة التي نال بوذا تحت ظلالها المعرفة، والبصيرة، وغرست هذه الفسيلة، ففي سيلان وبمرور الزمن أصبحت دوحة عظيمة، ولا تزال باقية إلى الآن، وهي أقدم شجرة على الأرض، وأقام أسوكا المسلات في عدة أمكنة حيث دون عليها تعاليم البوذية، وأنذر من يميلون للعصيان، ووعد البررة بالهبات والخيرات، وتنازل أسوكا عن ممتلكاته، ولم يستبقِ إلا ثمانية أشياء ضئيلة هي أرضية ثلاثة صفراء، ونطاق يشدها به، وإبرة لترقيع الأرضيات ومجموعة خيوط للترقيع، وموسى لحلق شعره، وغربال لتصفية الماء قبل شربه حتى لا يبلع نفسًا.
وندب أسوكا رجالًا يتجولون في البلاد يرغبون الناس في النسك والورع ويعلمونهم مكارم الأخلاق، وحثهم أن يكونوا قدوة للناس ليسهل على الناس الاقتداء بهم فيجارونه في سيرتهم الرشيدة، وصبرهم على الشدائد، وعهد إليهم كذلك النظر في الأعمال الخيرية، وإدارة شئونها ليزيد نفعها، وخولهم بعض السلطة؛ فكان لهم مطلق سراح المسجونين إذا اقتنعوا ببراءتهم.
وكانوا يراقبون الناس ليتحققوا أنهم يلتزمون سبل السلام، ويحترمون القانون، ويراعون حق الفقراء والأكابر، ومات أسوكا، وقد انتشرت البوذية في الهند، وفي البلاد المجاورة لها، ولكن البوذية في الهند عادت بعد قليل تصارع الهندوسية، كما فعلت من قبل، ولم تستطع البوذية أن تثبت في هذا الصراع؛ فالهندوسية كانت أثبت، وأكثر صلة باتجاهات السكان وميولهم، فاضمحلت البوذية أمامها، وأخذت تنحدر حتى انحصرت على الهند تقريبا.
أما في البلاد المجاورة فإن البوذية سارت بنجاح، وانسابت في اتجاهات متعددة في شرقي أسيا حتى أصبح أتباعها حوالي خمسمائة مليون نسمة ينتشرون في بورما، وتايلاند، والصين، واليابان، وإندونيسيا، ونيبال والتبت وسيلان.
والبوذية القديمة: أي: العميقة الصلة ببوذية بوذا، والتي يتجلى فيها الطابع الأخلاقي والتربوي تسمى المذهب الجنوبي، وهي تنتشر في بورما وتايلاند وسيلان وكتبها المقدسة مكتوبة باللغة البالية وهي لغة هندية قديمة.
أما البوذية الجديدة فهي التي اختلطت بالآراء والنظريات الفلسفية وتسمى المذهب الشمالي وتنتشر في الصين، واليابان، والتبت ونيبال وإندونيسيا، وكتبها المقدسة مكتوبة باللغة "السنكسريتية" وأتباعها أكثر من أتباع المذهب الجنوبي، والبوذية في الصين بوجه خاص لها طابع يجعلها بعيدة عن البوذية الحقيقية، فقد سبقها الصينيون بثقافتهم وحياتهم، فجعلوا آلهتها ثلاثة وثلاثين على نحو ما كانوا يعملون قبل البوذية، وأقاموا لها المعابد الجذابة التي تزينها الفنون الجميلة.
ومما سبب إقبال الصينيون على البوذية أنها دخلت بلادهم بعد أن أصبح بوذا إلهًا، وأصبح تمثاله وثنًا يُعْبَد، تقدم له القرابين، وتقام له الصلوات، لقد كان لهم مع آلهتهم الأولى مظاهر للتقديس، ليست بعيدة عن هذه المظاهر؛ مما سبب إقبالهم على البوذية، كذلك أنه دين إنقاذ، وطهر يمنح ب"النيرفانا" اللذة، والسعادة في الحياة، وبعد الموت، ويحث على الرحمة ويغري بالخير، ويقضي على الشهوات الظالمة، ويبعد الشرور.
مراحل انتشار البوذية:
ولنسر خطوة خطوة مع التاريخ نسجل انتشار البوذية الذي سبق أن أشرنا إليه معتمدين على مرجع هام خاص لهذه الدراسة.
إن التاريخ الإجمالي للبوذية يقرر أن هذه الديانة واصلت سيرها طوال خمسة وعشرين قرنًا، وفي خلال هذه الفترة الطويلة تطورت البوذية سواء من ناحية العقيدة، أو التطبيق أو الأدب، أو المؤسسات المرتبطة بها كالمعابد والمعاهد، وقد
اقتحمت البوذية حوالي ثلاثين قطرًا في أسيا وكان تأثيرها عظيمًا في آداب هذه الأقطار، وفي اتجاهاتهم الدينية، ومنذ القرن التاسع عشر اتصل الفكر البوذي ببعض دول أوروبا؛ فأصبح للفكر البوذي أثره في الفلسفة الغربية، والأدب الأوروبي، والموسيقى وغيرها من فنون ثقافية ذلك مجمل القول نحو تمدد البوذية، وانتشارها، ولكن إعطاء تفاصيل عن هذا الانتشار يكاد يكون أمرًا متعذرًا لقلة المادة الدقيقة عنها.
ومن الممكن على كل حال لو قسمنا عمر البوذية إلى خمس مراحل كل مرحلة خمس قرون لنعطي أبرز التطورات عن البوذية في كل من هذه المراحل شهدت الفترة الأولى من مطلع البوذية حتى القرن الأول الميلادي تحولًا كبيرًا في العقيدة البوذية فيما يتصل ببوذا فقد كان في أول هذه الفترة يعد معلمًا، ورجلًا عظيمًا، ورائدًا عالميًّا، ثم أصبح مع مرور السنين رجلًا مقدسًا فمعبودًا فإلهًا، ولم يكن ذلك التطور الواسع باتفاق الجميع، ولذلك عقدت عدة مؤتمرات للتوفيق؛ ولكنها لم تستطع تقنع الجماهير لترك مكان الإله شاغرًا كما أراده بوذا أن يكون فظل الخلاف قائمًا.
وفي خلال هذه الفترة ظهر الإمبراطور أسوكا الذي دفع بالبوذية خارج حدود الهند كما سبق القول، وبدأت البوذية تبني المعابد، وتضع فيها الآلهة، كما بدأت تقيم الجمعيات التي ترعى الحياة الاجتماعية، وتشرف على شئون الدين، وبخاصة في الهند، وسيلان.
وفي الفترة الثانية أي: من القرن الأول حتى القرن الخامس الميلادي أخذت البوذية تنتشر تجاه الشرق إلى بنغال تجاه الجنوب الشرقي إلى كمبوديا، وفيتنام، تجاه الشمال الغربي إلى كشمير. في القرن الثالث اتخذت طريقها تجاه الشرق إلى الصين
أواسط أسيا، وكان دخولها إلى الصين بطريق البحر أيضًا، ومن الصين اتجهت إلى الشمال الشرقي ودخلت كوريا، وكان لنشاط الحجاج الصينيين الذين زاروا الهند وسيلان وجاوا بين سنة ثلاثمائة وتسع وتسعين، وسنة أربعمائة وأربعة عشر ميلادية أثر كبير في نشر البوذية في هذه البقعة.
كانت البوذية في هذه البقاع تتعاون تعاونًا كاملًا مع النظام الملكي الذي كان مسيطرا خلال هذه القرون على هذه الأقطار، وبواسطة الارتباط بين الدين والسياسة انتشرت البوذية، وكثر تابعوها، وشهدت هذه المدة تقدما واضحا في الثقافة البوذية التي أخذت تقيم المعاهد، وتنشر تراثها على أتباعها.
وفي المدة التالية أي: من القرن السادس إلى العاشر الميلادي استمرت البوذية في التقدم، والانتشار، وبخاصة من كوريا والصين إلى اليابان، ومن الهند إلى نيبال، ثم إلى التبت، وزادت مواكب الحجاج في هذه الفترة، وكثر نشاطهم، وتنقلهم إلى البلاد التي دخلتها البوذية.
يلاحظ في هذه الفترة أن الارتباط بين القصور الملكية الحاكمة وبين البوذية لم يكن دائمًا وطيدًا، وكان انتشار البوذية، أو تقلصها يتوقف على قوة الارتباط وضعفه، وتعد هذه الفترة من أزهى فترات البوذية من الناحية الثقافية، فقد اتضح تأثير البوذية على الآداب، والفنون في جميع البلدان التي دخلتها.
وفي المدة التالية أي من القرن الحادي عشر إلى الخامس عشر ضعفت البوذية واختفى كثير من آثارها؛ وذلك لعودة النشاط الهندوسي في الهند ولظهر والإسلام في الهند وفي سواها من الأقطار التي كانت تتربع فيهلا البوذية، ولكن البوذية اتجهت بنشاطها في هذه الفترة فارة من الإسلام تجاه لاوس، ومنغوليا، وسيام، وبورما، وكان النشاط الثقافي البوذي عظيم الأثر خلال هذه الفترة في بورما، وكمبوديا، وسيلان، واليابان.
أما الفترة الأخيرة: أي: من القرن السادس عشر إلى القرن العشرين فتعتبر فترة دقيقة في تاريخ البوذية؛ إذ وقفت البوذية وجهًا لوجه أمام تحدي الفكر الغربي الذي حملة الاستعمار إلى تلك البقاع، فقد أدخل الاستعمار الغربي إلى هذه البلاد اتجاهاته الفكرية، وإصلاحاته التربوية وفلسفاته في مختلف الشئون، لم تجد البوذية بُدًّا من أن تتعاون طوائفها المختلفة لتقف في وجه هذا الزحف الفكري، وهكذا التقت الفرق البوذية أو قربت بعضها من بعض لتقوى على النضال في معركتها مع المسيحية الغربية، والفلسفات الأوروبية.
وقد تبنت البوذية كثيرًا من الاتجاهات الغربية، كما تشربت المسيحية بعض الأفكار البوذية، وتبدلت المطبوعات بين المشرفين على هاتين الفلسفتين، وتطور التعليم في المعابد، فاقترب من كليات الغرب والجامعات، وتم التعاون في الخدمات الاجتماعية بين البوذيين والغربيين وفي نهاية هذه الفترة اصطدمت البوذية بالشيوعية، وأصبح الحكم في كثير من الأقطار التي تنتشر بها البوذية في أيدي حكومات شيوعية، ولم يتضح بعد مصير البوذية في ظل الظروف الجديدة.
وأخيرًا الكتب المقدسة لدى البوذية:
يجدر بنا عند الكلام عن الكتب البوذية المقدسة أن نقرر أن البوذيين لا يدعون أنها منزلة، وإنما ينسبونها إلى بوذا، وهي عندهم بمثابة كتب الحديث عند المسلمين، وقد حفظ أتباع بوذا عنه أحاديثه وخطبه، وأمثاله ولكن بعد وفاة بوذا ظهر الخلاف بين أتباعه، كما ظهر الاختلاق لبعض أحاديث، ونسبتها إليه، فعقد أتباعه مجلسًا كبيرًا في "رجا جرها" سنة أربعمائة وثلاث وثمانين قبل الميلاد؛ ليزيلوا أسباب الخلاف وليقربوا، أي: ليوحدوا الأتباع عن طريق تحديد ما قاله بوذا وأتباعه.
ولما احتشد القوم سألوا "كاسي أبا" أعلم مريدي بوذا أن يقرأ عليه آراء المبارك عما وراء الطبيعة فقرأها عليهم، فتلقوها، ورووها عنه، وسألوا "أوبالي"، وكان من أسن المريدين الأحياء أن يتلوا عليهم شريعة النظام فقرأها عليهم فتلقوها عنه، ثم سألوا "أنندا" أحب المريدين عند بوذا أن يلقي عليهم ما سمعه من بوذا من حكايات، وأمثال، ومواعظ؛ ففعل وتلقوها وروها عنه.
وظلت هذه الروايات محفوظة في الصدور يتلقاها جيل عن جيل حتى عهد الملك أسوكا مائتين اثنين وأربعين قبل الميلاد وفي ذلك الحين كان قد ظهر فيها شيء من التحريف والاختلاق في الرواية فخاف الزعماء الشيوخ على ضياع هذا التراث فاجتمعوا، واستقر رأيهم على كتابة هذه المجموعات الثلاث فكتبوها، ويظهر أنهم وضعوا كل مجموعة في سلة خاصة ليعلقوها بعيدًا عن الضرر، ومبالغة في تخليصها؛ ولذلك سميت هذه المجموعات بالسلال الثلاث، أو "البتيكات"، وتحوي السلة الأولى العقائد؛ لذلك سميت سلة العقائد، وتحوي السلة الثانية الشريعة؛ ولذلك سميت سلة الشريعة، وتحوي السلة الثالثة الحكايات؛ ولذلك سميت سلة الحكايات.
وهذه السلال الثلاث يقال لها: القانون البالي، وهي تشمل البوذية القديمة بدون تحريف أو بتحريف قليل، وهي لهذا أهم الكتب المقدسة للبوذية، وسميت هذه الروايات القانون البالي نسبة إلى اللغة البالية التي دونت بها هذه الروايات، هذا والله أعلم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.